ولا عجب! أليس في الناس اليوم من يحسب أن رموز الكون الكبير وأسراره إن هي إلا آلات لاختراع البواخر والطواحين وقنص الدراهم والدنانير؟ أليس منا من يزعم أنه ذلل نواميس الطبيعة وقبض على مقاليد الخليقة لأنه يدير للريح شراعه ويجر النور إلى أسلاكه؟! فما الفرق إذن بين هؤلاء الفلاسفة الأعلام وبين الزارع المصري الجاهل المسكين؟ الفرق بينهما أن هذا الزارع يصغر من قدر هيكل لا يجله لأنه لم يؤمن به، ولكنه يؤمن بهيكل آخر يجله ويخشع له، وأما هؤلاء الفلاسفة فيصغرون من قدر الكون وليس لهم كون آخر يجلونه ويخشعون بين يديه!
يقول العلم الحديث: «قد عرفت أسرار الحياة وكشفت حجب الغيب التي خنع لها الهمج الأغبياء.» فليسمع أولئك الأغبياء في قبورهم وليحذروا أن يضحكوا! العلم الحديث قد علم في مائة سنة أسرار الأبد والأزل! اسمعوا أيها الأغبياء في قبوركم وإياكم أن تضحكوا، بروتس يقول ذلك، وبروتس كما تعرفون رجل صادق مجيد.
ويقول العلماء: «لا تؤمنوا بعد اليوم بشيء، فقد عرفتم كيف كان القدماء يؤمنون بالباطل. أما كانوا يؤمنون بالأشجار والأنهار والقطط والثيران والخنافس؟!» فمتى يقول لنا العلماء: «لا تأكلوا بعد اليوم، فقد رأيتم كيف كان القدماء يأكل بعضهم بعضا، وكيف كانوا يزدردون اللحوم النيئة وأوراق الشجر الخضراء!» إنهم لن يقولوا ذلك لأن المعدة تعرفهم كيف يشعرون بها إذا تجاهلوها، ولكن أي شيء يجعل قلوبهم تشعر بنفسها إذا كانت لا تشعر؟
وليس المتدينون الساخرون بأديان القدماء بأقل حمقا وجهلا من الكافرين الساخرين بالأديان جمعاء؛ فإننا لنجد في بعض أديان الأقدمين حكمة نتفقدها في كثير من الأديان الحديثة فلا نجدها؛ لأن أديان الأقدمين نشأت قبل أن تصبح الأخلاق المتخيرة علما يدور على المباحث الذهنية والفلسفة الكلامية، فاستحبوا من الأخلاق والعادات ما هو مستحب بالفطرة، ولم يشغلوا أذهانهم بالتماس وجوه الخطأ فيما نبذوه من هذه الأخلاق والعادات. وأذكر أنني ذهبت مرة إلى هيكل «أنس الوجود» ومعي رجل تربى تربية دينية ولكنه يجهل حكمة دينه، فسأل عن صورة بطليموس وهو يجلد أعداءه، فلما أجبته قال: أما كان أولى بهياكل العبادة أن تنزه عن مثل هذه الصورة؟ قلت: ولم؟ أكنت تريده على أن يعبد ربا لا يرضيه أن ينتصر على أعدائه؟ إن مشيئة الوجود تقضي بأن تتغلب طائفة من الناس على طائفة، فأي عجب في أن يسر المتغلبون بغلبهم أو يشكروا عليه ربهم الذي يمثلون فيه تلك المشيئة؟ وإذا هم لم يشكروه في المعبد فأين يشكرونه؟ على أنه لا يتفق أن يعتقد الإنسان جد الاعتقاد أنه على الحق والصواب ثم يعتقد أن انتصاره على أعدائه ظلم لا يرضي ربه، فلا بد من إحدى اثنتين: إما عقيدة وعصبية، أو لا عقيدة ولا عصبية، والأمم الحية لا تتردد في الاختيار بين هاتين الحالتين، وهذا ما أردته بقولي:
لا تعبدن إذا أردت سيادة
ربا يعين الصيد والأنذالا •••
دار البطالسة الكرام جلالا
زالوا وهذا مجدهم ما زالا
هاتي امنحينا من خلودك نفحة
فنقول فيك من الخلود مقالا
Неизвестная страница