377
ظهور الخوارج وقتالهم
وتَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، الْخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ، سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ (^١).
وكان ﵊ عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، فقال: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» (^٢).
وروي (^٣) عنه ﵊ أنه قال: "قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات" (^٤).

(^١) أي: كقطعة لحم تترجرج وتضطرب.
وقد حصلت موقعة النهروان بين جيش علي ﵁ والخوارج، فقد كان عدد القراء الذين اعترضوا على التحكيم في صفين أربعة آلاف، وكان عروة بن حدير التميمي (وهو عروة بن أدية) يقول: "أتحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله". وهذه المقولة صارت شعار الحركة الخارجية ولذلك سموا بالمحكمة كما سموا بالخوارج لخروجهم على الخليفة الشرعي علي ﵁، كما سموا بالحرورية نسبة إلى قرية حروراء قرب الكوفة حيث انشقوا عن جيش علي العائد إلى الكوفة.
وهذا التطور الأخير جعل ابن عباس يستأذن عليًا في محاورتهم في إحدى اجتماعاتهم الضخمة في حروراء، موضحًا لهم أن التحكيم نص عليه القرآن وأن محو لقب أمير المؤمنين من نص وثيقة الهدنة له سابقة من السنة في حادثة الحديبية، وأن قتال علي لمخالفيه دون أن يستحل أموالهم وأعراضهم هو الحكم الشرعي الصحيح، فرجع منهم ألفان بعد أن تبين لهم الحق.
وحاول زعماءهم أن يثنوا عليًا عن إرسال أبي موسى الأشعري إلى التحكيم، وأن يقودهم لقتال أهل الشام، فأبى عليهم نقض العهد مع الشاميين: "فارقنا القوم فلا يجوز نقضه".
وأرادوا مبايعة أحد زعمائهم أميرًا، فلم يقبلها أحد منهم، ثم قبلها عبد الله بن وهب الراسبي، وبذلك نكثوا بيعتهم لعلي، وذلك في العاشر من شوال سنة (٣٧) هـ، ونقضوا مبدأ "الخلافة في قريش" فصار من مقولاتهم جواز خلافة غير القرشي.
وقد خرج عبد الله بن وهب الراسبي الأزدي بأتباعه إلى النهروان خفية، وفي هذه الفترة قتل الخوارج عبدالله بن خباب بن الأرت ومعه أم ولده، كما قتلوا آخرين، فقد صاروا يكفرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله. فسار إليهم علي ﵁ بجيشه في محرم عام (٣٨) هـ.
ونظرًا لأن مناطق نشاط الخوارج التي تعرضت لضياع الأمن وقطع الطرق ضمن مسؤولية علي ﵁، فقد طلب من الخوارج تسليم القتلة لإقامة الحد عليهم، فأجابوه: كلنا قتلناه. وبذلك استحل علي قتالهم، وبيَّن لجنده أجر مقاتلهم، معتمدًا على حديث: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". ثم قال علي معقبًا: "لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم ﷺ لاتكلوا عن العمل"، ثم ذكر لهم العلامات التي تنطبق على الخوارج مثل وجود المخدَّج فيهم "له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض. فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟! والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله".
وقد أرسل علي اليهم الرسل يدعونهم، فقتلوا رسوله، وعبروا إليه النهر، فأمر بقتالهم. يقول زيد بن وهب الجهني: "لما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء". واشتبك الجيشان في معركة خاطفة وغير متكافئة، انتهت بالإجهاز على الخوارج رغم ما أبدوه من جلد وشجاعة، فقد أفناهم جيش علي الكبير دون أن يصيبوا منه إلا بضعة عشر رجلًا. ولم يعش من جيش الخوارج إلا الجرحى ومن فرَّ وهم عدد يسير.
واهتم علي بالتفتيش عن المخدج ذي الثدية حتى وقف عليه، فكان شاهدا على صحة موقف علي، وآية على ضلال الخوارج.
وقد عامل علي ﵁ الخوارج معاملة البغاة، فلم يكفرهم، ومنع جنده من تعقيب فاريهم، والإجهاز على جريحهم، ولم يسبهم ولم يغنم أموالهم، ولما قيل له: "يا أمير المؤمنين أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. فقيل: منافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فمن هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم. وفي رواية: قوم بغوا علينا فنصرنا عليهم. وفي رواية: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا. وهكذا صرَّح بأنهم مؤمنون ليسوا كفارًا ولا منافقين. ونصح الأمة في التعامل معهم بقوله: "إن خالفوا إمامًا عادلًا فقاتلوهم، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالًا".
استشهاد أمير المؤمنين علي ﵁
وأمام الوهن والشقاق وضعف الطاعة في جيش علي لم يجد قوة تشد من أزره، وبيّنت خطبه الأخيرة مدى ما عاناه من الملل والألم إذ كان يقول: "اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، ومللتهم وملُوني فأرحني منهم وأرحهم مني، فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم ووضع يده على لحيته". فكانت هذه الإشارة بأن ثمة من يسعى لقتله، أول إعلان عما بلغه من محاولة عبد الرحمن بن ملجم المرادي قتله، وكان قد حذَّر من التآمر لقتله "جاء رجل من مراد إلى علي- وهو يصلي في المسجد- فقال: احترس فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك".
ولما طعنه ابن ملجم في صلاة الفجر صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، لم يمت حتى أوصى بقاتله خيرًا: "إنه أسير فأحسنوا نُزُله وأكرموا مثواه، فإن بقيتُ قتلتُ أو عفوتُ، وإن متُ فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
(^٢) بعد اغتيال الخوارج أمير المؤمنين علي ﵁، تنازل ابنه الحسن بن علي ﵄ عن الخلافة لمعاوية ﵁، ليعيد الأمة إلى الجماعة بعد أن مرت بتجارب جديدة قاسية تركت آثارًا عميقة في مخيلة الجماعة لأجيالها المتلاحقة حتى الوقت الحاضر.
(^٣) رواه الإمام أحمد في مسنده ٦٤٨، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، وأورده الألباني في السلسلة الصَّحِيحَة: ١١٧١، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف، لكنه حسن إسناد الحديث الذي جاء في صحيح ابن حبان (٦٧٤٢) بلفظ:"أما إن أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه"، وأخرجه كذلك أبو يعلى (٣٤٠٢) وقال الشيخ حسين أسد: إسناده حسن.
(^٤) وكان معاوية بن أبي سفيان ﵁ قد دَعَا أَهْل الشَّامِ إِلَى الْبَيْعَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِابْنِهِ يَزِيدَ فَبَايَعُوهُ، فتولى بعده ابنه يزيد، والحسين ﵁ لم يبايع يزيد بن معاوية، بل سعى لتصحيح خطأ توريث الخلافة، ودافع عن الشورى ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار الأصلح لها، وخرج معه إلى مكة عبدالله بن الزبير وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام وبدأت رحلة الحسين لجمع الأنصار نحو تصحيح وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعًا في الحكم والسلطة لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته.
وقد نصح الصحابة الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة، ولم يكن ذلك لأنهم يرونه خارجًا على الإمام؛ بل خشية عليه من خذلان أهل الكوفة وكذبهم في نصرته لما عرفوه عنهم، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم. والصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكروا عليه، ولا أثّموه، لأنه مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به. يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك.
وقد ظن أن الناس يطيعونه وينصرونه في إصلاح الأمر وإعادة الشورى، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، ولقد تعنّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمرًا عظيمًا من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وحُقّ للحسين أن يرفض ذلك، لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله ﷺ على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين ﵁ ليس من هذا الصنف بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجبًا عليه. والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين ﵁. فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين أقدموا على قتل الحسين ﵁ بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح. وأحاديث النبي ﷺ التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه ﵁ لم يفارق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلًا في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث، بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلومًا.
وقضى الله ﷿ أن يكون مقتل قاتله عبيد الله بن زياد في نفس يوم عاشوراء بعد ست سنين من قتله للحسين، فقتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين.
وأما يَزِيدُ بْنَ مُعَاوِيَةَ فقد وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عفان ﵁ وَلَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ ﷺ وَلَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَا كَانَ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ مِنْ شُبَّانِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَا كَانَ كَافِرًا وَلَا زِنْدِيقًا؛ وَتَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَرِضًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَكَرَمٌ وَلَمْ يَكُنْ مُظْهِرًا لِلْفَوَاحِشِ كَمَا يَحْكِي عَنْهُ خُصُومُهُ.
وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: - أَحَدُهَا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ ﵁ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ ﵁ وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ ﵁ إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الْحُسَيْنِ ﵁ وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ. وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ؛ وَحَضَّ الشمر بن ذي الْجَوشَن عَلَى قَتْلِهِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ؛ فَاعْتَدَى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْحُسَيْنُ ﵁ أَنْ يَجِيءَ إلَى يَزِيدَ؛ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا؛ أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ. فَمَنَعُوهُ ﵁ إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ بِقِتَالِهِ - فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا - لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. ﵃ وَكَانَ قَتْلُهُ ﵁ مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَهُ: كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُمْ ﵃ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَكْرَمَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ: كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ. لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ. وَالِانْتِصَارُ لَهُ وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَصَارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى. وَأَمَّا خُصُومُهُ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرْيَةِ أَشْيَاءَ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَأَخْرَجُوا نُوَّابَهُ وَأَهْلَهُ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ جَيْشًا؛ وَأَمَرَهُ إذَا لَمْ يُطِيعُوهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالسَّيْفِ وَيُبِيحَهَا ثَلَاثًا، فَصَارَ عَسْكَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلَاثًا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيَفْتَضُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ. ثُمَّ أَرْسَلَ جَيْشًا إلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَحَاصَرُوا مَكَّةَ وَتُوُفِّيَ يَزِيدُ وَهُمْ مُحَاصِرُونَ مَكَّةَ وَهَذَا مِنْ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ الَّذِي فُعِلَ بِأَمْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ. لَا يُخَصُّ بِمَحَبَّةِ وَلَا يُلْعَنُ. فَيَزِيدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ. لَا يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةَ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَلَا يَسُبُّونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ لَعْنَةَ الْمُسْلِمِ الْمُعِينِ. وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِلْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ لَا سِيَّمَا إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ عَظِيمَةٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ﴿أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِية مَغْفُورٌ لَهُ﴾ وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ﵁.

1 / 417