376
لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَيْتَ الْأَبْيَضَ، بَيْتَ كِسْرَى وَآلِ كِسْرَى فَيَسْتَخْرِجُونَ كَنْزَهُ، إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ (^١)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطوف بصدقته، فلا يجد من يقبلها منه" (^٢).
وقال: "إنكم تلقون بعدي اختلافًا وفتنة"، فمر عثمان بن عفان ﵁ فقال ﵊: " يقتل فيها هذا يومئذ مظلومًا، هذا يومئذ ومن اتبعه على الهدى، عليكم بالأمين وأصحابه" وهو يشير إلى عثمان بذلك. وقال لعثمان لما كلمه وضرب منكبه: (يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه حتى تلقاني) يقول ذلك ثلاث مرات (^٣).
وقال لنسائه وفيهن عائشة ﵅: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟) (^٤).
وقال: الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ، سَلَامَةُ الرَّجُلِ فِي الْفِتْنَةِ أَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، ويح عمار، تقتله الفئة الباغية (^٥).

(^١) قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغيره من الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ كِسْرَى بِالْعِرَاقِ، وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ ﷺ فَعَلَّمَنَا ﷺ بِانْقِطَاعِ مُلْكِهِمَا فِي هَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ.
(^٢) وقد وقعت هذه الأمور، فقال عدي: "فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز". ففي خلافة عمر بن الخطاب ﵁ تم فتح بلاد فارس (إيران). وقد سمح للمرتدين التائبين بالاشتراك بالفتوح في زمن خلافته بعد ثباتهم على الدين وحسن إسلامهم. واتجه عمرو بن العاص ﵁ إلى بيت المقدس فحاصرها، واشترط سفرونيوس بطريق المدينة أن يتولى الصلح الخليفة عمر ﵁ بنفسه ليكون أوكد، فقدم عمر بنفسه إلى الجابية وكتب كتاب الصلح للقدس، وسلمت مفاتيحها إليه. ثم تم فتح مصر التي كانت مصدر تموين القسطنطينية عاصمة الروم. وساعد القبط المسلمين بإصلاح الطرق وإقامة الجسور وإمدادهم بالمؤونة، وكان اضطهاد البيزنطيين لهم دينيًا وإجحافهم لهم بالضرائب، وصورة الحرية الدينية التي أتاحها المسلمون لنصارى الشام جعلتهم يرحبون بالمسلمين.
وقد غلبت الدولة الإسلامية في عهده الفرس والروم وحررت الهلال الخصيب ومصر، ومصرت الكوفة والبصرة والفسطاط، ومازالت في صعود وامتداد. حتى اغتاله أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر ليلة الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ٢٣ للهجرة، بعد خلافة دامت عشر سنين وستة أشهر، وكان عمره ثلاثًا وستين سنة.
وفي عهد عمر بن عبدالعزيز ﵀ عمّ الخير أرجاء بلاد المسلمين حتى أنهم لم يجدوا من يقبل الصدقة.
(^٣) في خلافة عثمان ﵁ اتسعت الفتوح واهتم المسلمون ببناء الاسطول البحري مستفيدين من خبرة سكان الاسكندرية، وتمكن الأسطول الاسلامي من إحراز نصر على أسطول الروم في موقعة ذات الصواري في البحر المتوسط على مقربة من الاسكندرية سنة (٣٤) هـ وقد استولى المسلمون على بعض سفن الروم فأضافوها إلى أسطولهم. وتوجه عقبة بن نافع الفهري إلى بلاد النوبة السودان لكنه لم يتمكن من التوغل فيها، ثم صالحهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وتبادل معهم الهدايا.
وتعتبر فتنة مقتل الخليفة عثمان ﵁ من أخطر الأحداث التي مرَّت بها الدولة الاسلامية في عصر الخلافة الراشدة، وأصلها أن ابن سبأ يهودي من صنعاء ادعى الإسلام في خلافة عثمان، وقام ببثِّ الدعاية ضده في الحجاز والعراق والشام ومصر وكان الولاة إذا أحسوا به طردوه إلى بلد آخر. فتبادل أشياعه الرسائل التي يوضحون فيها تذمرهم وشكاواهم من عمال عثمان، وكانت هذه الرسائل تقرأ في الأمصار المختلفة، فتثير الفتن، وينشأ عند العامة تصور للسوء والفوضى والظلم الذي انحدرت إليه الدولة!! وكان ابن سبأ وراء الوفود المصرية والعراقية التي قدمت المدينة وحاصرت دار عثمان وقتلته.
ومما أثاروه من القضايا الدينية قضية تدوين المصحف واعتماد النسخة المدونة وإحراق ما سواها من النسخ. وقد كان عثمان استشار واستفتى كبار الصحابة في جمع الناس على مصحف واحد، حتى لا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف. فقالوا: فنعم ما رأيت. وتم جمع القرآن في مصحف واحد بإشراف الصحابة وتأييدهم.
ومن المسائل التي أثيرت ضد عثمان ﵁ بعد مقتله وتبناها الخوارج عدم شهوده بدرًا وعدم ثباته يوم أحد وعدم اشتراكه في بيعة الرضوان، فقد سأل أحد الخوارج- قيل أنه العلاء بن عرار- عبد الله بن عمر ﵄ في المسجد الحرام بمكة عن مواقف عثمان هذه، فبَّين له ابن عمر ذلك معللًا بأن عدم شهود عثمان بدرًا كان بأمر النبي ﷺ لمرض زوجته رقية، وأنه وعده: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه"، وأما فراره مع الفارين يوم أحد فقد عفا الله عنهم جميعًا، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلأن النبي ﷺ أرسله من الحديبية إلي مكة رسولًا، ووقعت البيعة بسبب حجز قريش له، وضرب النبي ﷺ بيده وقال: "هذه لعثمان" وبذلك قطع ابن عمر على الخارجي سبيل التلبيس على الناس بأمور لا يعلمون حقيقتها.
وتكلم جماعة من " قراء أهل الكوفة " بكلام قبيح في مجلس سعيد بن العاص (أمير الكوفة من جهة عثمان) فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام أنه قد خرج إليك قراء من أهل الكوفة، فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم، واجتمع بهم، ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد، فأجاب متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله ﷺ والثناء عليه، والصلاة والتسليم، فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده، ونفاهم عن الشام لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه من نصرة الدين وقمع المفسدين، وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب. وكانوا يشتمون عثمان، وسعيد بن العاص، ثم تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان، " وكان جمهورهم من أهل الكوفة "، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل، وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة، وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول، وطلبوا منه أن يعزل عماله، ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدًا، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة، فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة. فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور. ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح، وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان، ويولي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له: الجرعة، وقد قال يومئذ الأشتر النخعي: "والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا"، وتواقف الناس بالجرعة، وأحجم سعيد عن قتالهم وصمموا على منعه، فرجع سعيد بن العاص إلى المدينة، وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري بذلك، فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعًا لعللهم.
ومما أثير ضد الخليفة أنه أتمَّ الصلاة بمنى أواخر خلافته خلافًا لسنة النبي ﷺ وعمل أبي بكر وعمر. وكان عثمان يتأول ذلك ويرى أن له حكم المقيم كذلك كانت عائشة ﵂ تتم الصلاة بمنى، بل إن عبد الله بن مسعود فعل ذلك وهو لا يراه صحيحًا - فقهيًا - لأنه لم يشأ أن يخالف فعل عثمان - وهو الخليفة الشرعي وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.
وورد في كلام لعائشة ﵂ مع الثائرين ما يحدد أهم الانتقادات التي وجهوها إلى سياسة عثمان ﵁، قالت: "اسمعوا نحدثكم عما جئتمونا له، إنكم عتبتم على عثمان في ثلاث خلال، في إمارة الفتى، وموضع الغمامة- تريد الحمى- وضربه بالسوط والعصا. حتى إذا مصتموه- تريد غسلتموه - موص الثوب بالصابون عددتم عليه الفقر الثلاث، حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، وان كان عثمان لأحصنهم فرجًا وأوصلهم للرحم".
وبعث عثمان إلى المعارضين علي بن أبي طالب ورجلًا معه فاصطلحوا على خمس: أن المنفي يُقلب، والمحروم يُعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويُستعمل ذو الأمانة والقوة. كتبوا ذلك في كتاب، وأن يرد ابن عامر على البصرة، وأبو موسي الأشعري على الكوفة.
وقد أثار وفد مصر عندما استقبلهم عثمان بالمدينة حمايته الحمى، فوضَّح لهم أن عمر حماه قبله لإبل الصدقة، وأنه زاد فيه لما زادت إبل الصدقة.
وكان الوفد المصري قد ناقش عثمان ﵁ في الأمور التي أخذوها عليه، ثم "أخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطًا، وأخذ عليهم إلا يشقُّوا عصًا ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين. فبينما هم بالطريق إذا راكب يتعرض لهم ويفارقهم، ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم.
قالوا: مالك؟
قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر.
ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامل مصر: أن يُصلِّبهم، أو يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم. فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليًا فقالوا: ألم تر إلى عدوِّ الله، كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحلَّ دمه فقم معنا إليه.
قال: والله لا أقوم معكم.
قالوا: فلم كتبت إلينا؟
قال: والله ما كتبت إليكم كتابًا.
فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة.
فانطلقوا إلى عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا.
فقال: إنهما اثنتان، أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمليتُ ولا علمتُ. وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل ويُنقش الخاتم على الخاتم.
قالوا: قد أحل الله دمك، ونقضت العهد والميثاق وحصروه في القصر".
وكان عثمان ﵁ يترقب وقوع الفتنة، حيث أخبره النبي ﷺ بفتنة تقع له وأنه يستشهد فيها، وكان يخرج على المعارضين يحاججهم بالقرآن والسنة ويذكرهم بمواقفه في خدمة الاسلام والمسلمين: "إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في قيود فضعوهما".
"ولما حُصِر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن أُحُدًا حين انتفض قال رسول الله ﷺ: اثبت أُحُد، فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: نعم. قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال في جيش العسرة: من ينفق نفقة متقبلة؟ والناس مجهدون معسرون، فجهزت ذلك الجيش؟ قالوا: نعم. ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن، فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: نعم. وأشياء عدَّدها. فانتشد له رجال، وكان يخص بمناشدته الصحابة، ويلاحظ أن مخاطبته للثائرين كانت تُحدث أثرًا مؤقتًا حتى انتشر النهيُ عنه بينهم مرةً وجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين. وقام الأشتر فقال: لعله لقد مكر به وبكم. فوطئه الناس حتى لقي من الأذى والشدة. وأشرف عليهم مرة أخرى فوعظهم وذكرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة، وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة أول ما يسمعونها فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم، ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه.
واتخذ عثمان موقفًا واضحًا وحاسمًا بعدم المقاومة، وألزم به الصحابة، كما رفض عثمان ﵁ التنازل عن الخلافة، لأن النبي ﷺ قد أوصاه بقوله: "يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه حتى تلقاني ".
ولما قُتل ﵁ انتضح دمه على المصحف الذي كان يقرأ فيه فوق الآية (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).
(^٤) قال قيس بن أبي حازم البجلي: "لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلًا نبحت الكلاب. قالت: أي ماء هذا؟ قالوا ماء الحوأب. قالت: ما أظنني إلا أني راجعة. إن رسول الله ﷺ قال لنا: (كيف بإحداكنَّ تنبح عليها كلاب الحوأب؟!). فقال لها الزبير: ترجعين!! عسى الله ﷿ أن يصلح بك بين الناس". حيث كان طلحة والزبير وعائشة ﵃ قادة المطالبين بإنفاذ القصاص بقتلة عثمان مشترطين ذلك للدخول في طاعة علي الخليفة الجديد. وهذا النص يكشف عن أمور مهمة، منها ما هو من أعلام النبوة، حيِث أخبر الرسول ﷺ بأمر غيِبي فوقع كما أخبر، ومنها تردد عائشة ﵂ في المضي إلى البصرة، ومنها أن المعارضين كانوا يرغبون في الإصلاح بين الناس مع تصميمهم على إنفاذ القصاص بقتلة عثمان.
وكان علي بين تيارين قويين، فالمشاركون والمحرضون على قتل عثمان منهم حكيم بن جبلة العبدي زعيم الثوار البصريين، ومنهم عبد الرحمن بن عديس البلوي وكنانة بن بشر من زعماء الثوار المصريين، ومنهم مالك الأشتر النخعي من زعماء الثوار الكوفيين، ومنهم محمد بن أبي حذيفة الذي غلب على مصر، ومحمد بن أبي بكر، وكلهم لهم اختلاط بجيشه وتأثير على قبائلهم، وبعضهم ترك المدينة إلى الأمصار عقب بيعة علي، فلم يكن قادرًا على إنفاذ القصاص مع اختلاف الناس عليه.
وكان التيار الآخر ممثلًا بطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين، وكانوا يضغطون بقوة لإنفاذ القصاص بقتلة عثمان، ويرون أن عليًا قد تخلى عن القصاص. ولم يعذروه في سياسته التي تميل إلى إماتة الفتنة وتخطيها بتأخير إيقاع القصاص حتى يستتب له الأمر ويدخل في بيعته الناس جميعًا، وليتأكد من تحديد القتلة بأعيانهم، وقال: "والله لوددتُ أن بني أمية رضوا لنفلناهم خمسين رجلًا من بني هاشم يحلفون: ما قتلنا عثمان، ولا نعلم له قاتلًا". ولما مضت أربعة أشهر على بيعة علي دون أن ينفذ القصاص خرج طلحة والزبير إلى مكة ومنها جمعوا مؤيديهم الذين بلغ عددهم سبعمائة رجل وانطلقوا إلى البصرة مستهدفين القبض على القتلة من أهلها وإنفاذ القصاص فيها وقد بلغ عددهم عند وصولهم البصرة ثلاثة ألاف رجل، وذلك لالتحاق الناس بهم في الطريق إليها، وقد أنفق عبد الله بن عامر بن كريز ويعلى بن أمية أموالًا كثيرة في تجهيز هذا الجيش بمكة، حيث قدّم يعلى بن أمية وحده أربعمائة بعير. وكان معظم أهل البصرة يؤيدون إيقاع القصاص بالقتلة.
(موقعة الجمل)
وقد وصل المعارضون إلى البصرة، وغلبوا عليها، وألقي القبض على الوالي، ثم أطلق سراحه ليلتحق بعلي. واتجه المعارضون إلى بيت المال ودار الرزق فاعترضهم حكيم بن جبلة العبدي أحد الثوار المشاركين في حصار الدار بالمدينة، ومعه سبعمائة من قومه وجرت معركة قُتل فيها حكيم بن جبلة وسبعون من قومه كانوا قد شاركوا في حصار دار عثمان ﵁ بالمدينة.
وسيطر المعارضون بقيادة الزبير بن العوام على البصرة، وقوي موقفهم باستيلائهم على بيت المال، وفيه الذهب والفضة.
وأدرك علي ﵁ خطورة الموقف، وما يمكن أن يجرَّ إليه الخلاف من تمزيق الدولة الإسلامية، فعزم على إعادة المعارضين إلى الطاعة، واستنفر أهل المدينة للخروج معه فاجتمع معه حوالي سبعمائة رجل، وتثاقل عنه عدد من كبار الصحابة إذ رأوا أنها أحداث فتنة ينبغي عدم الخوض فيها. وقد اختص النبي ﷺ بعضهم بالتحذير من المشاركة في الفتن الداخلية، فاعتذروا لعلي بذلك.
وقد حاول عبد الله بن سلام أن يثني عليًا عن عزمه على الخروج من المدينة إلى العراق، فقال رجال من حول علي: دعنا فلنقتله. فأجابهم: إن عبد الله بن سلام منا رجل صالح. كما حاول الحسن بن علي ثني أبيه عن الذهاب إلى العراق وهو يبكي لما أصاب المسلمين من الفرقة والاختلاف، لكن عليًا رفض ذلك، وأصر على إعادة المعارضين له إلى الطاعة محتجًا ببيعتهم له بالمدينة.
ثم إن أبا موسى الأشعري والي الكوفة لعلي التزم موقف اعتزال الفتنة وحذر الناس من المشاركة فيها، فعزل علي أبا موسى الأشعري عن الكوفة وولى عليها قرظة بن كعب.
ولم يتأثر عمار بن ياسر بملامة أبي موسى الأشعري وأبي مسعود الأنصاري له لتسرعه في الأمر، بل صعد يوم الجمعة إلى المنبر وخاطب الناس قائلا: "أما والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي". وهكذا شهد لعائشة ﵂ بالجنة، وبصَّر الناس بأن هذا امتحان لهم من الله.
وكانت المواجهة بين علي من ناحية والزبير وأصحابه من ناحية أخرى قرب قصر عبيد الله، وجرت محاولات لمنع القتال قام بها المعتزلون للقتال، وخرج كعب بن سور ناشرًا مصحفه، يُذكِّر هؤلاء، ويذكر هؤلاء، حتى أتاه سهم فقتله.
وكان الصحابي عمران بن الحصين أرسل إلى بني عدي رسولًا ينصحهم باعتزال الفريقين: "إني لكم ناصح، ويحلف بالله لأن يكون عبدًا حبشيًا مجدعًا يرعى أعنزًا في رأس جبل حتى يدركه الموت أحب إليه من أن يرمي في أحد من الفريقين بسهم أخطأ أو أصاب فأمسكوا". فأجابوا رسوله: "دعنا منك أيها الغلام، فإنا والله لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء أبدًا".
وكان الناس يحددون موقفهم من الصراع بسؤال كبار الصحابة أحيانًا، وقد تأتي الفتوى ضد مصلحة المفتي، فقد سأل مماليك بقبيلة ربيعة الزبير عن موقفهم: "مع من تكون العبيد؟ قال: مع مواليهم. قلنا: فإن موالينا مع علي. قال: فكأنما ألقمنا حجرًا".
وقبل نشوب القتال بثلاثة أيام نصبت خيمة بين المعسكرين، التقى فيها علي وطلحة والزبير في محاولة لإيجاد حلَّ سلمي للموقف، كما أرسل علي عبدالله بن عباس إلى طلحة والزبير يسألهما: "هل أحدث ما يوجد السخط على خلافته، كحيفٍ في حكم، أو استئثار بفيء؟ أو في كذا؟ فقال الزبير: ولا في واحدة منها".
وقد أخفق الطرفان في التوصل إلى حلٍّ خلال الأيام الثلاثة، وعرض رجل على الزبير أن يغتال عليًا بعد التظاهر بالالتحاق به، فرفض الزبير ذاكرًا حديث: "لا يفتك مؤمن".
وفي اليوم الرابع حدث الالتحام بين الجيشين، وتؤكد رواية صحيحة أن جيش الزبير وطلحة هو الذي بدأ القتال، وأن عليًا أصدر أمره بالقتال بعد صلاة الظهر، واستمر القتال ساعات "فما غربت الشمس وحول الجمل عين تطرف ممن كان يذبُّ عنه". ويتضح الموقف المأساوي أكثر فأكثر، فيشك الزبير وهو القائد الأول بشرعية الموقف ويلاحظ عظم المصاب واختلاف الناس فينصرف عن الميدان دون أن يقاتل، ولحق به عمير بن جرموز وآخران إلى سفوان فاغتالوه. وهكذا انتهت حياة القائد الأول، وتبعه القائد الثاني طلحة بن عبيد الله فقد رماه مروان بن الحكم بسهم فقتله فدفن على شط الكلأ. وأثخنت الجراح عبد الله بن الزبير فأخذ من وسط القتلى وبه بضع وأربعون طعنة وضربة.
"وقد قتل بشر كثير حول عائشة يومئذ، سبعون كلهم قد جمع القرآن، ومن لم يجمع القرآن أكثر".
قال أبو رجاء عمران بن ملحان العطاردي: "لقد رأيت الجمل يومئذ كأنه قنفذ من النبل، ورجل آخذ بالخطام وهو يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل. . . ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أحلى عندنا من العسل. . . نبغي ابن عفان بأطراف الأسل
وكانت عائشة على جمل أحمر في هودج أحمر، وقد تكلمت في المربد لاعنةً قتلة عثمان، فلما سمع علي ذلك لعن قتلة عثمان. وكان مؤيدوها "يهتفون بقتلة عثمان" فلما نقل ذلك لعلي قال: "اللهم أحلل بقتلة عثمان خزيًا".
وارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين. . يقول الحارث بن سويد الكوفي: "لقد رأيتُنا يوم الجمل، وإن رماحنا ورماحهم لمتشاجرة، ولو شاءت الرجال لمشت عليه، يقولون: الله أكبر، سبحان الله، الله أكبر. وترتفع أصوات تؤكد سلامة موقف المقاتلين دينيًا "ليس فيها شك"- أي لا يشكون في شرعية قتالهم للطائفة الأخرى- و"ليتني لم أشهد"- موقف الندم للشعور بأنها فتنة والشك في شرعية القتال- و"ما سرني أني لم أشهد"- مؤكدًا على وضوح الرؤية الشرعية في القتال إلى جانب علي-". ويتساقط القتلى من الجانبين بلآلاف، وفقد جيش المعارضين قادته. . واشتد القتال حول جمل عائشة ﵂ فأمر عبد الله بن بديل بعقر الجمل لينتهي القتال، ثم نزل مع أخيها محمد بن أبي بكر الصديق فاحتملا الهودج حتى وضعاه بين يدي علي، فأمر به فأدخل في منزل- خباء- عبد الله بن بديل.
فلم ينشب أهل البصرة أن انهزموا، فصرخ صارخ لعلي: "لا يقتل مُدبر، ولا يدفف على جريح، ومن أغلق باب داره فهو آمن، ومن طرح السلاح آمن".
وأدرك الطرفان خسارتهم، وحلَّت مراجعة النفس محل الغضب، وفتَّت الندم قلوبهم، وذابت نفوسهم حسرة على ما حدث حيث التقى المسلمان بسيفيهما في فتنة داخلية اتضحت معالمها، ولم يتمكنوا من تجنبها، فمضوا لا يغالبون أقدارهم حتى انجلت عن صرعى من خيرة المسلمين من الطرفين، دون إنجاز لصالح دنياهم أو دينهم.
بل إن الألم والندم تملكا القادة خلال القتال، قال الحسن بن علي يصور الحالة النفسية لعلي ﵁: "لقد رأيته حين اشتد القتال يلوذُ بي ويقول: ياحسن لودِدتُ أني متُّ قبل هذا بعشرين حجة- أو سنة-".
ولما رأى علي محمد بن طلحة بن عبيد الله قتيلًا قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا" ثم قعد كئيبًا حزينًا.
وقد زاره عمران بن طلحة بن عبيد الله بعد سنين فرحب به علي قائلًا: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (إخوانًا على سررٍ متقابلين).
وأعاد إليه أراضيه قائلًا: "أما إنا لم نقبض أرضكم هذه السنين ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس". وكثيرًا ماردَّدَّ هذه الآية وأظهر محبته لطلحة والزبير رغم اختلافهما معه.
وأما الابن الثالث لطلحة فقد بايع عليًا بعد الجمل مباشرة ورجع إلى أهله وماله، واطمأن المعارضون فدخلوا إلى علي وبايعوه. وهكذا كان علي بارًا بأخيه الذي خاصمه وقاتله متأولًا.
وأما نظرته للزبير بن العوام فقد عقب على مقتله بقوله: "بشر قاتل ابن صفية بالنار".
ولم تكن الحسرة على ما حدث تخص بعلي ﵁، فهذه عائشة ﵂ تقول: "وددت أني كنت غصنًا رطبًا ولم أسر مسيري هذا". وتقول:"وددت أني كنت قد ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام، وأني لم أسر مسيري مع ابن الزبير"، وتقول: إنه كان قدرًا.
وكانت تترحم على قتلى الطرفين إذا ذُكروا، وقد ترحمت على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وزيد بن صوحان، والأخير كان في صفِّ علي، فقال خالد بن الواشمة: يرحمك الله تترحمين عليهم وقد قتل بعضهم بعضا والله لا يجمعهم الله في الجنة أبدًا!! قالت: أَوَلا تدري أن رحمة الله واسعة وهو على كل شيء قدير. فقال خالد: فكانت أفضل مني.
وسئل علي ﵁ عن أهل الجمل فقال: "إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم وقد فاؤا وقد قبلنا منهم".
وقال عمار لعلي يوم الجمل: ما ترى في سبي الذرية؟ فقال: إنما قاتَلْنا من قاتَلَنا- أي أنه استجاز القتال دفاعًا عن النفس لأن خصومه شرعوا في قتاله- قال عمار: لو قلت غير هذا لخالفناك".
وتتضافر روايات تؤكد أن النبي ﷺ أخبر عليًا بما سيكون بينه وبين عائشة وأوصاه بها خيرًا، فكانت أحداث الفتنة من أعلام النبوة التي تحققت في جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
(^٥) أصاب المسلمون بلاء عظيم بسبب مقتل الخليفة عثمان ﵁، إذ كان المسلمون قد مرُّوا بانتقال السلطة سلمًا بعد وفاة النبي ﷺ وبعد وفاة الصديق ﵁، لكنهم الآن أمام تجربة جديدة تمثلت باستخدام العنف في تغيير السلطة ونجم عن ذلك مقتل الخليفة، وبقاء المنصب شاغرًا.
ثم إن جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار بايعوا عليًا، وتبعهم الناس، وكانت بيعة علي بعد سبعة أيام من مقتل عثمان. وبقيت جماعات تطالب بالقصاص من قتلة عثمان.
وكانت أخطر قضية تواجه الخليفة الجديد هي مقاضاة قتلة عثمان وإنفاذ القصاص فيهم، وكان ابن عباس قد نبَّه عليًا إلى خطورة الموقف قبل توليه الخلافة بقوله لعلي ﵄: "إن الناس سيلزموك دم عثمان". فقد كانت المأساة الدامية تملأ النفوس بالحزن والندم على عدم بذل الوسع في الذود عن الخليفة وإن كان ذلك يعني عدم التقيد بأوامر عثمان بالكفِّ عن القتال.
وكانت هذه الأحداث سببًا لمعركة صِفِّين بين جيش علي وجيش معاوية، حيث رأى معاوية أنه ولي دم عثمان، لأنه صار رأس بني أمية مكانةً، والأحاديث النبوية تدل على أن عثمان يُقتل مظلومًا، بل تذكر أن النبي ﷺ أوصاه بأن لا يخلع نفسه من الخلافة، ووصف الثائرين عليه بالمنافقين. وشهد الصحابي كعب بن مرة البهزي أمام معسكر معاوية بأن النبي ﷺ قال عن عثمان بن عفان: "لتخرجنّ فتنة من تحت قدمي هذا- أو من بين رجلي هذا-، هذا ومن اتبعه يومئذ على الهدى"، واذا كان المدافعون عن عثمان كانوا على الهدى خلافًا للثائرين عليه الذين سيكونون أصحاب ضلالة، فإن الموقف في نظر معسكر معاوية ينسحب عليهم ليصبحوا أصحاب الهدى ويصبح خصمهم على ضلالة وهكذا استحلوا القتال متأولين، ولم يتبين خطؤهم إلا بعد مقتل عمار بن ياسر في صفين ومقتل المخدَّج في النهروان.
وقد وصف أبو العالية الرفاعي المعركة بقوله: "لما كان زمن علي ﵇ ومعاوية، وإني لشاب القتال أحب إليَّ من الطعام الطيب، تجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان لا يُرى طرفاهما، إذا كبَّر هؤلاء كبرَّ هؤلاء، وإذا هلَّل هؤلاء هلَّل هؤلاء. قال: فراجعتُ نفسي فقلت: أي الفريقين أنزلُهُ كافرًا، وأي الفريقين أنزله مؤمنًا؟ فما أمسيتُ حتى رجعت وتركتهم".
ولم ينفرد أبو العالية الرياحي بالتردد والشك ثم التوقف عن القتال، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يُصرح بحقيقة مشاعره وهو يقف إلى جوار أبيه بيده الراية ويتقدم في الجيش الشامي منزلة أو منزلتين: "مالي ولصفين!! مالي وقتال المسلمين!! لوددتُ أني مِتُّ قبله بعشر سنين أما والله على ذلك ما ضربتُ بسيف ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم". وعبد الله بن عمرو بن العاص عالم محدِّث، وتعتوره الشكوك- في صحة موقفه من الفتنة دون أن يحسم الأمر مع نفسه أولًا ثم في الميدان فقد أرغمه أبوه على الاشتراك مع الجيش الشامي مذكرًا إياه بحديث: "أطع أباك مادام حيًا" فاشترط أن يقف معهم ولا يقاتل، فهل نسي أن الطاعة بالمعروف؟. . . بالله كيف كانت حالة عامة الجند الإسلامي!! قاتل الله الفتن تدع الحليم حيرانا.
لم يكن الطرفان يكفران بعضهما، لكن بعض الجند المتحمس في جيش علي ﵁ كان يلعن ويكفر الشاميين، فلا يلقى من قادته إلا النهر والتوضيح "قال رجل يوم صفين: اللهم العن أهل الشام. فقال علي ﵁: لا تسب أهل الشام جمعًا غفيرًا، فإنَّ بها الأبدال، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال".
وقال زياد بن الحارث الصدائي- صحابي شاهد عيان-: "كنت إلى جنب عمار بن ياسر بصفين، وركبتي تمسُّ ركبته. فقال رجل: كفر أهل الشُام. فقال عمار: لا تقولوا ذلك، نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، فحقَّ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه".
ولم تكن بين الجيشين أحقاد، بل كان كل طرف ينافح عما يعتقده حقًا، فلا غرابة إذا قال شاهد عيان هو عبد الرحمن السلمي: "شهدنا صفين مع علي فكنا إذا توادعنا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء". ولا غرابة إذا ما صرح عبد الله بن عمرو بن العاص أمام معاوية، ورجلان يختصمان في قتل عمار بن ياسر كل واحد يزعم أنه قتله: "إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: تقتله الفئة الباغية" ويستغرب معاوية من هذا التصريح فيقول: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله ﷺ فقال: أطع أباك مادام حيًا ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل". وهكذا تتجلى الصراحة في الحق وتتخطى المعوقات من المجاملات والمواربات. . فقد كان الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص من أقوى الحجج على أن الحق مع علي وأن معاوية بغى عليه لكن معاوية تأول الحديث: "لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قُتل عمار وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عله وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو يرجع فزعًا حتى دخل على معاوية. فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قُتل عمار. فقال له معاوية: قُتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال له معاوية: دحضت في قولك أنحن قتلناه!؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه تحت رماحنا".
وقد أنقذ معاوية بتأويله للنص معنويات الجند الشامي، كما أنقذ معنويات قائده عمرو بن العاص الذي تبنى هذا التأويل بعد أن كان قد تملكته الرهبة، بل مضى يتأول حديثًا آخر كان يرويه: "إن قاتله وسالبه في النار. فقيل له: هو ذا أنت تقاتله؟ فقال: إنما قال قاتله وسالبه". أي أن النص مخصص بالقاتل الفعلي وحده وإذا نفع التأويل في إقناع الشاميين، فإن مقتل عمار أذكى حماسة العراقيين فقد بان لهم بمقتله أن عليًا محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة. ويبدو أن النصر لاح لهم بعد قتال شديد دام ثلاثة أيام بلياليها. وقد التزم كلُّ من الطرفين بأحكام قتال البغاة، قال أبو أمامة- ﵁: "شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ولا يطلبون مُوَلِّيًا ولا يسلبون قتيلًا".
وقال أبو فاختة: "حدثني جار لي قال: أتيت عليًا بأسير يوم صفين، فقال لي: أرسله، لا أقتله صبرًا، إني أخاف الله رب العالمين، أفيك خير؟ بايع. وقال للذي جاء به: لك سلبه".
وسئل علي ﵁ عن قتلى يوم صفين فقال: "قتلانا وقتلاهم في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية". أي أنه يرى نفسه ومعاوية مسؤولين عما حدث وهما يحاسبان على ذلك.
ويصف شاهد عيان هو الصحابي سالم بن عبيد الأشجعي موقف علي ﵁ فيقول: "رأيت عليًا بعد صفين، وهو آخذ بيدي، ونحن نمشي في القتلى، فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل الشام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنَّا في أصحاب معاوية!؟ فقال علي: إنما الحساب عليَّ وعلى معاوية".
(قصة وثيقة التحكيم)
لما طحنت المعركة ألوفًا من الجانبين، وكلَّ الباقون من القتال، تفتق ذهن عمرو بن العاص عن فكرة التحكيم التي أنقذت الجيش الشامي من الهزيمة فأرسل معاوية رجلًا يحمل المصحف إلى علي ويقول له: بيننا وبينكم كتاب الله، فقال علي: إنا أولى بذلك بيننا كتاب الله. ويبدو أن معظم الجند العراقي جنحوا إلى التحكيم، لكن كثيرًا من القراء أنكروا عليه قبوله بالتحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل.
وقد انشق المحتجون من القراء واعتزلوا جيش علي محتجين بأنه محا اسمه من إمرة المؤمنين. وقد مثل أبو موسى الأشعري عليًا، ومثل عمرو بن العاص معاوية في اجتماع الحكمين بدومة الجندل، وحضر الاجتماع جمع من الصحابة فيهم عبد الله بن عمر. ورغم اعتزال ابن عمر الفتنة، إلا أنه كان يصرح بأن الحق مع علي فيقول: "ما آسى على شيء، كما آسى أني لم أقاتل مع علي ﵁".
ولعل من عوامل اختيار أبي موسى للتحكيم مهارته في القضاء وممارسته الطويلة في هذا الميدان في عهد النبوة وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
ولا يرجع فشل التحكيم إلى شخصية أبي موسى بل إلى صعوبة حل الخلاف وإصرار الطرفين على مواقفهما السابقة، وعدم حيازة المحكمين على قوة محايدة تنفذ القرار. ومما يوضح سلامة التحكيم وحياده نص الوثيقة التي أقرها، بما في ذلك التسامح في رفض عمرو بن العاص صيغة أول وثيقة التحكيم التي تشير إلى إمرة علي للمؤمنين، لأن الشاميين لم يبايعوه على ذلك.
ولا يبت نص وثيقة التحكيم في القضية بل يوضح الإطار العام الذي يحكم المباحثات ويوضح الهدف منها وهو الإصلاح بين الأمة وعدم ردها إلى الفرقة والحرب، ويحدد زمنًا لانتهائها، كما يحدد مكان التحكيم وأنه متوسط بين الكوفة والشام والحجاز، واشترطا رضا الطرفين عمن يحضر المباحثات، أما الشهود فيختار كل طرفٍ شهوده، وتلتزم الأمة بنصره قرارات التحكيم، كما يلتزم بذلك الشهود.
وقد بقيت هذه الوثيقة محفوظة حيث اطلع عليها أبو اسحق الشيباني ووصفها بقوله: "صحيفة صفراء عليها خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها، وهما ختما علي ومعاوية ونقشهما- محمد رسول الله-".
وقد اجتمع الحكمان في دومة الجندل ولم يتوصلا إلى اتفاق، وكان معاوية حاضرًا اجتماع الدومة، ولم يحضر علي، ولعل لتحركات الخوارج أثرًا في ذلك، فخطب معاوية في الناس قائلًا: "من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به ومن أبيه. قال ابن عمر: فحللتُ حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيتُ أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدماء، ويُحمل عني غير ذلك، فذكرتُ ما أعد الله في الجنان". فبقيت الأوضاع على حالها، عليّ خليفة المسلمين، ومعاوية أمير الشام ولم يبايَع معاوية ﵁ بالخلافة إلا بعد استشهاد علي ﵁ على يد الخوارج، وكانت بيعته في بيت المقدس في شهر رمضان سنة (٤٠) هـ، بعد وصول خبر استشهاد علي ﵁.

1 / 415