Наша культура в противостоянии времени
ثقافتنا في مواجهة العصر
Жанры
ثم قارن هذه النظرة في تفسير فهمنا للأشياء بنظرة أخرى لا ترى من أي كائن إلا أحداثه التي تظهر، دون أن تضطر إلى افتراض حامل خفي يحمل تلك الأحداث الظاهرة، فهي نظرة لو سألت صاحبها: ما حقيقة هذا الفرد المعين من أفراد الناس، أو هذه الكرة التي يلعب بها طفلنا هناك؟ أجابك: حقيقة كل منهما سلسلة «الأحداث» التي وقعت، فاكتب لي تاريخا مفصلا لتلك الأحداث تكن لنا حقيقة الإنسان المعين أو الكرة المعينة أو ما شئت من كائنات؟ لكنك لن تطمئن لجوابه هذا، وستعاود سؤاله: إذا كان هذا الإنسان المعين لا يزيد على كونه خطا من أحداث تتابعت، فما الذي يجعل له «هوية» واحدة مستمرة منذ نشأته حتى هذه اللحظة؟ هنا يجيبك بأن «الهوية» الواحدة للكائن الواحد، ليست مرهونة بقيام عنصر مستقل، بل هي مرهونة بمجموعة «العلاقات» الرابطة لتلك الأحداث، فحتى لو وقع ما كاد يستحيل أن يقع، وهو أن يتشابه فردان في الأحداث التي تكون تاريخهما، فلن تكون الروابط بين تلك الأحداث واحدة في الحالتين، ومن ثم ينتج لنا «نمطان» أو تركيبتان مختلفتان، هما ما تميز بهما بين الفردين.
خلاصة القول : وجد الفلاسفة قبل عصرنا (فيما عدا استثناءات قليلة) أنه لا مندوحة لنا من «افتراض» جوهر ثابت لكل شيء، وكان ذلك منهم على أساس أنه بغير افتراض هذا الجانب الثابت لما أمكننا أن نفهم معنى للتغير، ولما استطعنا أن نسند إلى الأشياء صفات معينة، وأما فلاسفة عصرنا فمعظمهم على اتفاق بأن كيان الشيء - أي شيء - ليس في جوهر له مزعوم، إنما هو في تسلسل الأحداث التي تصنع تاريخه، مضافا إليها الطريقة الفريدة المتميزة التي ربطت بها تلك الأحداث، ولنلاحظ هنا أن افتراض «جوهر» للشيء، يتضمن أن ذلك الجوهر لا يتأثر بمر الزمن؛ فالروح - مثلا - هي الروح، سواء مرت عليها ساعة واحدة أو ألف ألف عام، والمربع هو المربع بالتعريف الواحد الذي يحدد فكرته، بغض النظر عن زمن يطول بالكون ملايين السنين، وأما أن تجعل حقيقة الشيء مساوية للأحداث التي صنعت تاريخه، فمعناه أن الزمن عنصر أساسي، لأن الأحداث إنما تحدث على فترة من الزمن، لا يكون الشيء المعين في أولها هو هو نفسه في آخرها، وهاتان الوقفتان تنعكسان - كما قدمنا - في تصور الإنسان للذرات الأولية؛ ما وصفها؟ فمع تصور الدوام والثبات كانت الذرة جسيما صلدا أصم لا ينقسم ولا يتفتت ولا خلاء فيه، ومع تصورنا لحقائق الأشياء على أنها تواريخ يمتد كل تاريخ منها ما امتدت سلسلة الأحداث التي تكون هذا الشيء أو ذاك، تكون الذرة - كما نعرفها الآن - كهارب دوارة في أفلاكها حول نواة، ويفصل الكهارب بعضها عن بعض وعن النواة خلاء، فما تنفك الذرة في حركة، يؤخذ منها بالإشعاع أو يضاف إليها.
ولكي نزيد المقارنة بين النظرتين وضوحا، نسوق لك الأمثلة؛ فقد كان الظن أن كل اسم من الأسماء الواردة في لغة الناس، إنما يدل - إذا دل - على مسمى معين ثابت بحكم التعريف القائم على طبيعة ذلك المسمى، أي القائم على «جوهره»، فإذا قلنا «إنسان» كانت الإشارة هنا إلى «حيوان ناطق»، أعني إلى كائن حي عاقل؛ لأن طبيعة الإنسان أو جوهره هو أنه حياة عاقلة ، لكن انظر معي إلى أسماء كهذه: «تجارة»، «مدينة»، «مسرحية»، «موسيقى»، ولنسأل أنفسنا: ماذا تسمى هذه الأسماء؟ هل هناك على أرض الواقع كيان معلوم القسمات محدود المعالم هو الذي أطلقنا عليه اسم «تجارة»؟ إن نظرة واحدة فاحصة تكفيك لتعلم أن ما هنالك هو مجموعة «علاقات» بين أفراد من الناس بعضهم مع بعض، فالذي أسميناه «تجارة» ليس «شيئا» ولكنه نمط من تفاعلات، كذلك قل في «المدينة» ولتكن هي مدينة القاهرة مثلا، إن ما جعلها كذلك هو مجموعة سكانها الذين يعيشون فيها، وهذه المجموعة تزيد وتنقص وتموت وتولد وتنشط وتتاجر، إنها كخلية النحل، يكون لها «شكل» عام، لكن المحتوى هو في حركة دائبة لا تستقر لحظة، وكذلك قل في «المسرحية» وفي «الموسيقى»، كلها أنساق من «علاقات» وأنماط من حركة وأطر من بناء، إنك لا تنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول إنها مسرحية، بل يكفيك أن تعلم أنها قد صبت في الإطار المعلوم الذي هو شكل المسرحية كما نعرفه أو كما نريده، ولقد يخيل إليك بعد هذه الأمثلة أن الكائنات صنفان: صنف له طبيعة «الأشياء» الثوابت ذات «الجوهر» المعلوم، وصنف آخر له طبيعة الهيكل البنائي، تحدده «العلاقات» الرابطة لأجزائه، لكن الجديد في وجهة النظر المعاصرة هو أن كل حقيقة في دنيا الواقع أو في عالم الفكر إنما تحددها طريقة بنائها، كما هي الحال بالنسبة إلى «الذرة» في التصور الحديث.
هاك مزيدا من أمثلة تبين أبعاد هذه الفكرة الخصبة الجديدة لتتمثلها في مختلف أبعادها؛ لأنها من الفكر المعاصر بمنزلة الركيزة التي يعتمد عليها البناء، إذا سئلت: ما الذي يجعل ملايين البشر نوعا واحدا؟ كان الجواب فيما مضى هو أنهم جميعا يتميزون بما يسمى عقلا، وأما الجواب الأصح فهو أنهم جميعا ذوو «بنية» واحدة، أو هم ذوو «تشريح» واحد؛ أي إن الطريقة التي تتصل بها الأعضاء بعضها ببعض ليكتمل بها بناء عضوي معين طريقة واحدة فيهم جميعا، كذلك قل في كل نوع حيواني على حدة، وكذلك قل في عالم الحيوان كله مأخوذا معا من حيث هو جنس واحد ، فالحيوان حيوان لطريقة تركيبه وأدائه لوظائفه، وهكذا الأمر في أنواع النبات، وفي النبات جملة، ما الذي يجعلنا نجمع الهملايا والألب والأنديز في اسم واحد هو «جبل»؟ إن ذلك ليس مرجعه نوع الصخور، بل مرجعه «البنية» التي على هيكلها العام قام الجبل .. تماما كما أصبحنا نحدد ذرة الهيدروجين أو ذرة الكربون بطريقة بنائها النوعي، ونحدد «الذرة» إجمالا - بغض النظر عن اختلاف أنواعها - بطريقة بنائها.
إن القطعة الموسيقية الواحدة قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت إجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها إنها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات؛ لأن البنية الصوتية واحدة، ثم انظر! إن هنالك هذه القطعة الموسيقية كما تقع في مسمعك، وهنالك أيضا هذه القطعة الموسيقية نفسها مرقومة على «النوتة»، وهي نفسها كذلك مسجلة على شريط أو على أحد أقراص الحاكي، صور مختلفة، لكننا برغم ذلك نخلع عليها كلها هوية واحدة؛ لما بينها من تشابه في طريقة البناء.
وقل الشيء نفسه في مسرحية تمثل على المسرح كمسرحية هاملت، ثم تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب، ويشاهدها آلاف المشاهدين، وتتعدد مرات تمثيلها بمجموعات مختلفة من الممثلين، وقد يلقطها شريط سينمائي لتعاد على الشاشة صورا متحركة، فما الذي يجعلك تقول على درجة تقرب من اليقين بأن الهوية واحدة برغم هذا التعدد والتنوع في الظهور؟ إنها البنية الواحدة.
إن الاعتماد على واحدية البنية في الحكم بواحدية الهوية لهو في صميم المنهج العلمي نفسه؛ فالعلماء يجرون التجارب في المعامل حتى إذا ما اتفقت تجربتان أو أكثر على نتيجة واحدة، كنا على اطمئنان معقول في قبولها؛ فما معنى «اتفاق» التجارب، أو «اتفاق» الشهادات عند مختلف المشاهدين؟ إن كل تجربة وحدة قائمة بذاتها، وكذلك كل مشاهدة يقوم بها مشاهد، لكن الذي يجمعها معا هو التشابه في البنية، فكأنما عديد التجارب المتشابهة قد اندمج بفضل هذه البنية الواحدة فأصبح تجربة واحدة، أو مشاهدة واحدة، إنهم ليقولون إن الموضوعية هي من أهم شروط النظرة العلمية، وما الموضوعية؟ هي أن ننظر إلى الأمر الواحد من زوايا مختلفة (أو بأعين عدة مشاهدين) فنجد أن البنية المرئية واحدة برغم اختلاف الزوايا التي ننظر منها.
إننا نقول عن خريطة جغرافية إنها صحيحة، إذا راجعناها على الواقع الذي تصوره فوجدنا الطرفين على بنية واحدة، أعني أن كل جانب من جوانب الواقع له ما يقابله على الخريطة، وتقول إن هذا الظل هو لتلك الشجرة إذا رأيت اتفاقا بينهما في البنية، برغم ما قد يكون بينهما بعد ذلك من اختلاف في الأبعاد المكانية وفي مادة المضمون الفعلي، وما أكثر ما تهتدي الشرطة إلى مجرم معين ارتكب عدة جرائم، بالأسلوب الذي يرونه مشتركا بينها! فالجرائم قد اختلفت وتعددت، لكن يوحد بينها أنها قامت كلها على بناء واحد، يقف المذيع أمام المذياع ويرسل موجات صوتية، تتحول إلى موجات كهرومغناطيسية، ثم تعود في الطرف الآخر إلى موجات صوتية كما كانت، والذي يجعلها - برغم هذه التحولات على الطريق - تثبت على صورة واحدة نسمعها في الطرف الآخر وكأننا نسمعها عند نطقها في الطرف الأول، هو أن البنية تظل واحدة من أول الطريق إلى آخره، بل لماذا لا نضرب المثل بأنفسنا إذا سمعنا محدثا يتحدث إلينا مباشرة، إنه يبعث موجات صوتية تنتقل على الهواء إلى الأذن، ثم تتحول في عصب السمع إلى حركة من نوع آخر، وتصل إلى المخ على أسلاك الجهاز العصبي، لكنها مع تحولاتها هذه تحتفظ ببنية واحدة هي التي تضمن أن يكون الصوت المسموع مطابقا للصوت المنطوق في الصورة وإن اختلفا في المادة، وهكذا وهكذا، أمثلة لا حصر لها من إدراكنا للأشياء من حولنا، ومن إدراكنا للأفكار العلمية وغير العلمية على السواء، كلها تؤكد أن اعتمادنا في معرفة دنيانا لم يعد على إدراكنا ل «جواهر» الأشياء، بل لطرائق بنائها وأدائها لوظائفها وفق ذلك البناء.
إلى هنا وقد أشرنا إلى لمحة من الوقفة العصرية في أحد جوانبها، وخلاصتها أن المعول في معرفتنا لحقائق الأشياء والمواقف، لم يعد على إدراكنا ل «جوهر» غيبي قائم فيها، بل المعول في ذلك إنما هو على إدراكنا لشكل بنائها، وبالتالي فهو على إدراكنا ل «العلاقات» المحددة لصورتها، وبقي أن نبين كيف أن هذا الفكر الجديد قد اقتضى منطقا جديدا.
لا بد لي بادئ ذي بدء أن أنبه القارئ إلى مجمل المعنى الذي يقصد إليه دارس الفلسفة بما يسمى «منطقا»؛ لأن هذه اللفظة كثيرا ما تستخدم في حياتنا الفكرية الجارية بمعان أخرى، ليست هي المعاني التي اصطلح عليها الدارسون، فباختصار شديد نقول إن المنطق هو استخراج للصور الشكلية التي نظن أن تفكيرنا العلمي يسير على نهجها، ولما كان هذا الفكر العلمي نفسه يتوقف إلى حد كبير على ما «نعتقد» أنه الواقع، كان المنطق كذلك - في صوره التي يتابع بها سير الفكر العلمي - متوقفا أيضا على ما «نعتقد» أنه حقيقة الواقع، كل ما هنالك من فرق بين «العلوم» المختلفة في موضوعات بحثها، وبين «منطقها»، هو أن للعلوم مادة معينة، كالضوء أو الصوت أو النبات أو الحيوان، وأما المنطق فهو يطرح من حسابه تلك المادة المعينة ليتابع «شكل» التفكير وكيف تتتابع خطواته، نتائج من مقدمات، لكن العلوم ومنطقها معا يرتبطان بأوثق الروابط مع ما «يعتقد» الإنسان - في العصر المعين - أنه طبيعة الوجود.
Неизвестная страница