Наша культура в противостоянии времени
ثقافتنا في مواجهة العصر
Жанры
وهذه الفردية الجماعية - إذا صح هذا التعبير - ما تزال توسع من حلقاتها، حتى لتراها توشك أن تجمع الإنسانية كلها في مجموعة واحدة، فأنا «مصري» أنتمي إلى بني وطني، ولكن هذا الوطن المصري يظل قلق الوجود ما لم يدخل في دائرة أعم كالوطن العربي الكبير، وبهذا أصبح مصريا عربيا، وسرعان ما ترى الدائرة العربية أن وجودها يتطلب انتماء أوسع، فلا عجب أن نشهد العالم متكتلا في أحلاف تجمع أجزاءه على أساس الأهداف المشتركة، والأمل هو أن يجيء اليوم الذي يشعر الناس فيه بإيمان صادق - لا بمجرد ترديد اللفظ على طرف اللسان - أن هذا الانتماء الضروري الحتمي لن تكتمل دائرته إلا إذا أصبحت الأرض وطنا واحدا يسكنه مواطنوه الذين هم بنو الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة بداية متعثرة نحو هذه الغاية القصوى، لكن الطريق قد يستقيم لها بعد حين. ذلك هو عصرنا، فإذا أحسست في نفسك نفورا من أن تدمج نفسك مع سواك في وحدة تربطكما معا في وجود واحد، كنت غريبا في عصرك بمقدار ما عندك من نفور.
لست أشك لحظة واحدة في أن أساسا عميقا لبناء الفكر القديم بشتى ظواهره قد تشقق بحيث أصبح البناء كله منهارا، أو على وشك الانهيار، ليحل محله أساس جديد يقام عليه بناء فكري آخر، فبعد أن كانت فكرة «الجوهر» - بمعناها الفلسفي - هي المحور الرئيسي للتفكير، ويقصد «بالجوهر» النواة التي تلتف حولها خيوط الظاهرة المعينة دون أن تتكشف هي لأي ضرب من ضروب الإدراك الحسي، وإنما يفرض وجودها لاستحالة تعليل الظواهر إلا بها؛ أقول بعد أن كانت فكرة «الجوهر» هي محور التفكير، رأينا اليوم أنه لم يعد لافتراض وجودهما ضرورة؛ إذ استطعنا أن نفسر الظواهر جميعا بغير حاجة إليها، كنا لا نتصور ظواهر الإنسان - مثلا - إلا معلقة على مشجب داخلي غير منظور، هو «الجوهر»، وهو الذي نطلق عليه اسم العقل أو النفس، أو ما له هذا المعنى من الأسماء، فأصبحنا اليوم نفهم هذه الظواهر على صورة أخرى، وهي أنها مجموعة متلاحقة من أحداث يرتبط بعضها ببعض بضروب من «العلاقات» حتى لنتوهم أنها قد أصبحت - لتماسكها - ذات هوية واحدة، على حين أنها في حقيقتها مجموعة أحداث يتكون منها قطعة من تاريخ، وعلى هذا الأساس نفسه نفهم اليوم كل شيء، فمثلا، ليست مدينة «القاهرة» شيئا محددا له ثبات ودوام، بل هي أفراد وأحداث تموج مع زيادة أو نقص، ويتصل بعضها ببعض على نحو يوحي بأن تلك المجموعة متماسكة في شيء واحد معين، على حين أن شأنها أقرب إلى خلية النحل، فيها مفردات وحركة، لكنها تتشكل في مجموعة ذات إطار تقريبي يحفظ لها نوعا من الهوية، وعلى هذا الغرار نفسه تستطيع أن تفهم الأشياء جميعا، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الفلكية، ومثل هذا الفهم الجديد ينتهي بنا إلى نتائج بعيدة المدى؛ لأن أهمية «الكيانات» المعينة - أشخاصا وأشياء وأمما وأوطانا وغيرها - ستنتقل إلى «العلاقات» التي تربط مجموعة من الأطراف، ومن ثم جاءت صورة «الفردية الجماعية»، التي أشرنا إليها، وجاءت أيضا فكرة التغير الذي لا يجعل أمرا واحدا يستقر على وضع واحد، إلا ريثما يتحول إلى وضع جديد.
هذه الانتقالة البعيدة من رؤية الدنيا على أنها «أشياء» و«كائنات» إلى رؤيتها على أنها «علاقات»، قد نقلت منطق الفكر نفسه من إقامة التدليل والبرهان على أساس الإدراك الكيفي للأنواع والأجناس، إلى إقامة ذلك التدليل والبرهان على أساس رياضي بحت؛ ما أخرج لنا ما يسمونه اليوم بالمنطق الرياضي، الذي جاء ليحل محل المنطق الأرسطي القديم، كان أرسطو - مثلا - يكفيه دقة في العبارة أن يقال: «كل إنسان فان»، كأنما «الإنسانية» و«الفناء» أمران ندركهما بالبصر المباشر، مع أن كل فكرة من هاتين الفكرتين قوامها مجموعة ضخمة من التفصيلات التي يتركب بعضها على بعض بعلاقات تخضع لدقة الحساب، وإلا لظل معناها مرنا غامضا يختلف فيه المدركون ، كل على حسب خبرته وثقافته، أما اليوم فدقة الإدراك العلمي تقتضينا ألا نقبل ألفاظا عائمة المعاني كهذه، بل نحللها إلى الذرات الفكرية الصغيرة البسيطة التي تدخل في تكوينها، ونصوغ هذه الذرات الفكرية في دالة رياضية تضبط لنا روابطها الداخلية التي بررت أن نعدها تصورا ذهنيا واحدا، وأن تحليلا كهذا قمين أن يغوص بنا في تشكيلات من رموز، يبدو للوهلة الأولى أنها عقدت علينا ما كان بسيطا، مع أنها في الحقيقة حولت لنا ما كان غامضا إلى صيغة رياضية دقيقة، والحق أنه تحول لا يسيغه من ألف قبول المعاني المبهمة، حتى لقد وجدت هذه النزعة الفلسفية التحليلية الجديدة معارضة أشد المعارضة، وسخرية أمر السخرية، عندما أدخلها إلى الفكر العربي لأول مرة العبد الفقير لله كاتب هذه السطور، وممن كانت المعارضة وكانت السخرية؟ من أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية أنفسهم، حتى لقد كتبوا يعارضون ويسخرون، والله وحده عليم بمقدار ما علموه من هذا الاتجاه الفلسفي المعاصر، وهل يكفي لإبداء الرأي فيه أو لا يكفي.
أما بعد، فلنعد إلى ما بدأنا به حديثنا: لقد عجب صاحبي الذي كنت أحدثه كيف أتشكك في مسايرتنا لروح عصرنا، ودنيانا قد امتلأت بعلوم العصر وأجهزته ومكناته، فأجبته بأن ذلك كله قشرة على السطح نقلناها، ولم تمس منا اللباب، وبينت له على مدار الحديث، بأمثلة كثيرة أوردتها، كيف يحدث غالبا ألا يكون عند الإنسان من الفكرة المعينة إلا اسمها، فيقبل الاسم ويظن أنه قد قبل كذلك معناه بكل أبعاده ولواحقه، حتى إذا ما تكشفت له تلك الأبعاد واللواحق أخذه الفزع والنفور.
وليس لأحد سلطان على أحد في أن يساير العصر أو أن يتنكر له، لكن الذي ليس من حقك ولا من حقي، هو أن تدعي الانتماء للعصر بفكره وثقافته عندما تكون في حقيقتك منطويا على ما يناقضه، فأحد أمرين: إما أن تعتد بما في دخيلة نفسك، فتمحو ما يبدو على ظاهرك، وإما أن تعتد بما هو ظاهر في لفظك، فتغير ما قد ترسب في طويتك من رواسب الماضي ، أما أن تعاصر زمانك بظواهر اللفظ وتعارضه بباطن الإيمان، فذلك موقف أقل ما يقال فيه إنه غموض في الرؤية، أو هو نفاق ثقافي لا ترضاه.
منطق جديد .. لفكر جديد
لم يكن تحليل الأشياء إلى «ذرات» تتألف منها، بالفكرة الجديدة التي جاء عصرنا ليستحدثها من العدم؛ إذ الفكرة قديمة قدم اليونان الأولين، فرأيناها عند ديمقريطس، ثم رأيناها عند نفر من فلاسفة العرب ومتكلميهم، ولبثت بعد ذلك قائمة تتردد ظهورا وخفاء. لكن الجديد فيما استحدثه عصرنا هو بناء الذرة كيف يكون، وإذا استطاع القارئ أن يتصور النقلة التي انتقلتها فكرة الذرة في عصرنا، استطاع بذلك أن يمسك بخيط رئيسي تتعلق به أوجه كثيرة من حياتنا العلمية والفكرية؛ مما ينتهي بنا إلى طابع عام يجعل من العصر الحاضر عصرا متميزا مما عداه، وإنه ليكفيه في هذا التصور أن يعلم أن «الذرة» الأولية بعد أن كانت - عند من جعلوها نهاية التحليل للوجود المادي - قطعة صماء لا ينفذ خلالها شيء؛ لأنها ملاء كلها ليس فيها خلاء بأي معنى من معانيه، وهي تستعصي على التجزئة بطبيعة الحال، وإلا لما كانت أولية بسيطة ينتهي عندها التحليل، أقول إن صورة الذرة - عند القائلين بها - بعد أن كانت على هذا النحو المصمت الصلب المليء، أصبحت عند عصرنا كيانا مخلخلا، يتشابه تكوينه مع تكوين المجموعة الشمسية - مثلا - فنوية أو نويات في مركزها، تدور حولها كهارب في أفلاك، إلى آخر تفصيلات هذه الصورة الجديدة للذرة، مما نستطيع مراجعته مبسطا في كثير جدا مما ينشر عن تبسيط العلم في الكتب والمجلات.
ولو كان قارئنا ممن ألموا بشيء من الدراسة الفلسفية - قليل أو كثير - لأدرك من فوره أن أهم فارق يميز هاتين الصورتين للذرة إحداهما من الأخرى، هو أن الذرة في صورتها القديمة كانت «جوهرا» (بلغة الفلاسفة)، وأما في صورتها الجديدة فهي «تاريخ»، وبين هاتين الفكرتين يكمن الفرق العميق بين فكر قديم وفكر جديد .. لكن مهلا، فمن حق القارئ علينا شيء من الأناة، حتى يستوثق أولا مما نعنيه - في الفلسفة - بكلتا هاتين الفكرتين : «الجوهر» و«التاريخ».
أما فكرة «الجوهر» فلست أطمع في شرح مفصل للكثير من وجهات النظر التي اتخذها الفلاسفة حيالها، ولا عجب؛ فقد كانت هذه الفكرة من أهم ما شغل الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها، وحسبي أن أقول عن «الجوهر» هنا إنه هو - من أي كائن - ما يستحيل إزالته؛ لأنه بزواله يزول الكائن، أي إنه مهما تغير الكائن حجما وشكلا ولونا، ففيه عنصر ذو دوام، هو الذي يعطي الكائن هويته منذ لحظة وجوده وإلى لحظة فنائه، بل إنه بالنسبة لبعض الكائنات - كالإنسان - قد لا يكون «لجوهره» فناء حتى بعد أن يفنى منه الجسد بكل ظواهره وتغيراته، خذ فردا من الناس تعرفه، وانظر، تجده متغيرا أبدا لا يستقر على حالة واحدة لحظتين؛ فقد كان رضيعا ثم أخذ يتغير ناميا، حتى بلغ ما بلغ، لكنه مع هذا التغير الذي لم يجمد دقيقة واحدة، كانت له «هوية» واحدة، عرف بها وما يزال معروفا، فعلى أي أساس دامت له هذه الهوية الواحدة برغم ما تعرض له من تحول مستمر؟ لقد كان ذلك على أساس ما نزعمه لأنفسنا في تكوينه، وهو أن مجموعة الظواهر المتغيرة فيه ليست هي حقيقته كلها، وإنما حقيقته هي «جوهره» وهو الذي تطرأ عليه التغيرات، حتى لقد قيل إنه بغير افتراض ذلك الجوهر، لما أمكن أن يكون للتغير نفسه معنى؛ إذ ما الذي يتغير؟ ما الذي يستوعب الخبرات على مر الزمن؟ إنه ذلك الجوهر المفروض، يدوم ما دام الشيء، وليطرأ عليه بعد ذلك من التحولات ما يجيء ويذهب، ما يظهر ويختفي، لكنه يبقى شيئا «واحدا» بفضل جوهره ذاك.
على أن الأمر في هذا العالم لم يقتصر على أفراد الناس، بل يمتد حتى يصبح هو الطريقة التي لا طريقة للناس سواها في تصورهم للأشياء كائنة ما كانت، فهذه كرة يلعب بها على مرأى مني الآن طفل صغير، تجرى بدفعته، وتنط، وتنضغط وتنبسط بضغطات من أصابعه، فهل كانت هذه «الظواهر» البادية هي كل حقيقة الكرة؟ كلا؛ لأنها لما اختفت تحت قطع الأثاث، ظل الطفل يبحث عنها، فحتى هذا الطفل قد أوحت إليه فطرته أن وراء ظواهر الكرة المتغيرة، «كرة» يبحث عنها إذا لم تعد لها ظواهر بادية، ومعنى ذلك أن لها «دواما» في افتراضنا، ما دامت «الظواهر» متغيرة لا تدوم؛ إذن لا بد أن يكون الدوام خاصا بحقيقة خافية، وهي «الجوهر» الذي جعل لكرة الطفل «هوية» متصلة يميزها بها من سواها، بل إنه بغير افتراض هذا الجانب الثابت الدائم، لما استطعنا أن نتحدث عن شيء، ألا ترانا نقول - مثلا - إن الكرة مستديرة، والكرة بيضاء، والكرة متدحرجة أو ساكنة، إلخ إلخ؟ فانظر إلى مجموعة الجمل التي يقولها المتكلم عن «الكرة» تجدها عنده «موضوعا» يراكم عليه ما يراه لها من صفات، ومن ثم كان التركيب اللغوي نفسه لعباراتنا التي نقولها عن الأشياء شاهدا على أننا «نفرض» قيام «موضوع» معين، تتبدل عليه الصفات وهو ذو ثبات.
Неизвестная страница