فحدجته بنظرة إرادية، وقالت: الحق أني لا أنقطع عن التفكير في حياتنا.
عاتبها في باطنه على توانيها في امتلاكه والسيطرة عليه، وعلى هزائمها غير العادلة أمام عدوتها الطاغية. أنت مسئولة عما سيقع. قال: يسعدني أن أسمع ذلك، وأنا بدوري لا أنقطع عن التفكير. - هات ما عندك.
قال وهو يلعن نفسه وأكاذيبها: أفكر في أمرين؛ العمل والزواج. - هل اقتنعت نهائيا باقتراحي؟ - أجل، ولكن علي أن أتم مهمتي على أي وجه أولا، ثم أسافر للاتفاق مع أبي.
كره نفسه لحد الموت. وتمنى أن يمحق أكاذيبه دفعة واحدة وليكن ما يكون. وقال إنه لم يعرف هذا النوع من الألم المحير قبل ذلك. وبدافع كالاستغاثة قال: لنذهب إلى سينما هذا المساء.
في ظلمة السينما أخذ راحتها في يده. الظلمة دائما. ورفع يدها إلى فمه فلثمها في سعادة عجيبة. وتشمم منها عبيرا طيبا في سرحة طائرة. وقال إنه يستريح من الاحتراق والجريمة، أما العذاب الذي يخشى أن يعذبه في النصف الثاني من الليل فيطرده عن باله. وهمست إلهام متسائلة: أليس هذا ظلما بينا؟
ولم يكن يتابع الفيلم بحال، فهمس مداعبا: افتراقنا ساعة واحدة ظلم أفظع!
وتركز في الشاشة لأول مرة فرأى رجلا يضطهد فتاة، وسمع حوارا عنيفا، ولأنه لم يتابع القصة من أولها بدا له المنظر حركات وكلمات لا معنى لها. كما نشاهد أجزاء من حياة الناس منقطعة عن ملابساتها فنمر بها دون اكتراث، وأحيانا ضاحكين مما يستحق الرثاء. وكم يبدو بحثك عن أبيك من خلال الإعلان مضحكا ومغريا بالمزاح. وهل تجيء كريمة الليلة في ميعادها؟ أو يتعذب حتى الفجر؟ وكيف تنجلي هذه المتاعب كلها في البحث والحب؟ ولحظ إلهام في لحظات المناظر الشديدة الإضاءة فرأى استغراقها، فأحنقه ذلك، وأوقف مداعباته لراحتها، وأراد أن يسحب يده ولكنها شدت على أصابعه فشد على راحتها ممتنا. وغادرا السينما ليتلقيا ليلة باردة تحت سماء صافية تومض بها آلاف النجوم فأوصلها إلى محطة الباص، ومضى إلى بقالة الحرية بكلوت بك، فأكل بسطرمة وسردينا، وشرب نصف كونياك. ورجع إلى حجرته عند منتصف الليل فلبث في الظلام ينتظر. ولم يعد الغيب بأي أمل، واشتد الصمت خارج الحجرة كالصمم.
وتتابعت الدقائق في عذاب وحنق. لا، لم يعرف هذا الذل من قبل؛ ذل الرغبة الجائعة، ذل البحث الخائب ، ذل الخوف من الذل. ولحقت الليلة بسابقتها مسهدة ملعونة مصدعة. ورسم أن يوجد بالفندق في عصر اليوم التالي، فشهد نزول كريمة إلى مجلسها بجانب زوجها كما رآها أول مرة. تفشى عذاب الرغبة في كيانه فهاله أن تستأسره المرأة لهذا الحد. وتجنبت أن تنظر ناحيته وهو في ركن الاستراحة يتصيد. لا تعرف جنوني فهي لا تخشى عواقبه. ولما قامت لتصعد إلى شقتها التقت عيناهما لحظة عند استدارتها فرمته بنظرة محذرة ثم ذهبت. ما معنى هذا التحذير؟ العجوز لم تتغير معاملته لها، وهو في سن لا يملك معها قوة أعصاب لمداراة ما في نفسه. وفكر أن يلحق بها في الدور الثاني أو الثالث، ولكنه لمس سرعة صعودها كأنما حسبت حساب أفكاره، فأعادت التحذير بصورة أخرى. الأيام تمر والنقود تتناقص، وحكاية الأب أمست أسطورة سخيفة لا يركن إليها بحال. ولا غنى له عن هذه المرأة فهي حياته والأمل الباقي له في الحياة. وتكرر التسكع بالليل في كلوت بك والسكر والانتظار في الظلام ليلة، وليلة، وليلة. وهو راجع عند منتصف الليل قال محمد الساوي بصوت نعسان: سأل التليفون عنك عصر اليوم.
آه .. لم تعد أنباء التليفون تهز أعماقه، ولكن آه لو يخلف ظنه ويجيئه بالمعجزة في هذه اللحظة من اليأس والعذاب. قال الرجل: صوت امرأة. - بخصوص الإعلان؟ - كلا، سألت هل أنت موجود فقلت لها إنك لم تعد بعد، فأغلقت السكة!
إلهام؟ من شدة نكده لم يقابلها في اليومين الأخيرين. ولما خلع بدلته وأطفأ المصباح سمع نقرة على الباب. وثب وثبة مجنون وفتح. شد على ساعديها بقوة وهتف بغضب وشى رغم زمجرته بالراحة السعيدة!
Неизвестная страница