الفصل الثالث عشر
العقل والعلم والتعليم
المفترض أنه كان للإنسان البدائي منذ 40 ألف أو أكثر، عقل يفكر، والمظنون أن تفكيره كان ساذجا همجيا يماثل تفكير الطفل ونظرته إلى ما حوله، كما يشبه تفكير أفراد الأقوام الهمجية الذين لا يزالون إلى اليوم يعيشون على الفطرة في أفريقيا وآسيا وأستراليا وأمريكا، وكما يبدو مما خلفه لنا الأقدميون من الآثار والخرافات، ثم مما يفكر فيه ويتناقله الجهلاء في الأمم المتحضرة الآن. وليس ببعيد أن البدائيين كانوا جماعات صغيرة متناثرة، وأن أفراد الأسرة كانوا يخشون أباهم ويحترمون أمهم، وأن الأبوين كانا يغاران على أولادهما، وأن الأم كانت، إلى هذا، المستشار الطبيعي والحامي لهم، وأن الحياة الاجتماعية واجهت المرحلة التي كان فيها الآباء حريصين على استبقاء الأبناء في رعايتهم المتواصلة، في حين أن الأبناء كانوا يجاهدون للتخلص من هذه السيادة وللاستمتاع بشيء من الحرية والاستقلال مع ما كان يساورهم من الخوف من المخاطر وسيئات الوحدة. ولقد أبان عالم السلالات البشرية البريطاني «ز. ز. أتكينسون» في كتابه «القانون البدائي»، كيف أن الكثير من قواعد قانون الهمجيين كقبيلة «الطابو» يدل على إدراك عقلي لحاجات الحياة القبيلية المتطورة.
وعند بعض الباحثين أن الخوف الشديد من الأبوين نهارا كان يتراءى للصغار في أحلامهم ليلا، بل كان يلازمهم بعد موتهما؛ إذ كانوا يعتقدون أنهما لم يموتا بل إنهما قد انتقلا إلى أبدية كبيرة السلطان، ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأرواح والآلهة وتجسدهم في الأفراد، وفي أن الحيوان مماثل للإنسان روحا وتجسدا، وأن من الحيوان الصديق والعدو والإله، وأن للأشجار والنجوم والأنهار والبحار ما للإنسان والحيوان من الاحترام والتقديس، وحق الطاعة والعبادة والخوف والروح وعاطفة الحب والبغضاء. ولقد كان خيال الإنسان البدائي ينسج حول هذا كله من الأساطير والحكايات ما يتناقله الأبناء عن أمهم، بل إن أطفالنا اليوم لا يفتئون يخترعون القصص الغريبة حول الدمى والحيوان الأليف. وكان الإنسان البدائي، على نقيض «النيانديرتالي» الأبكم، يعرف بضعة الأسماء والكلمات ينطق بها في صورة ساذجة، ويكملها بالأصوات والإشارات. ولم يكن للبدائي علم يقوم على القاعدة المنطقية من استخلاص النتيجة من المقدمة. وكان أهم ما يشغله ويقلق باله أن لا يجد الوفير من الطعام وأن يصاب بالأمراض الفتاكة؛ فعند هذا يستصرخ البدائي إنسانا أو حيوانا أو جمادا؛ لكي يجود عليه بالطعام ويرفع عنه المقت والبلاء، كما أن البدائي كان يعتقد في المئات والألوف من وسائل الشعوذة والسحر والتفاؤل والتشاؤم، مما كان من أثره أن نشأت طبقة من المسنين في الجماعة، ينهضون بعبء رجل الدين وتفسير الأحلام والدعاء والصلاة والطب. ومن هنا استأثر هؤلاء بذلك العلم الساذج الهمجي الذي كان أصلا للعلم الحديث. (1) عقل الحيوان
عند بعض العلماء، ولا سيما أنصار مذهب التطور، أن للحيوان أو لبعض أنواعه عقلا يفكر بعض التفكير، وأن القوى العقلية الحيوانية تختلف عن القوى العقلية الإنسانية في الكم لا في الكيف والنوع. أما علماء المنطق فيغلب أنهم إما أن يعدوا العقل الحيواني يختلف عن العقل الإنساني في النوع لا في المقدار، وإما أنهم يذهبون إلى أنه ليس للحيوان عقل ما، وأن كل ما يبدو من الحيوان من معرفة ليس مرجعه ذكاء أو عقل، وإنما مرجعه الغريزة والتكرار الآلي.
هذا ويدرس علماء النفس والعقل الباطن من المدرسة الحديثة أمثال فرود وبونج ومكدوجال وبودوين، الأحلام والخواطر والجنون كما يدرسون العقل الإنساني والأساطير ومنشأ اللغات والأديان.
وعندهم أن العقل الإنساني قد جاز مراحل ثلاث، أولها مرحلة العقل الحيواني؛ ذلك أن الإنسان في بداية ظهوره على الأرض منذ ملايين السنين كان تفكيره مشربا بعقل الحيوان، فإذا أسلم الإنسان قياده لخواطره فهناك ينساب هذا العقل فيخيل له الأكلة الشهية أو المرأة الجميلة؛ لأن هاتين الشهوتين هما محور الحياة عنده، فتفكير المراهق يتجه إلى المرأة. وهذا يتسق مع ما نراه من إلحاح هذه الشهوة على الحيوان حين تتقاتل الذكور وتموت من أجلها. وإنما تخف هذه الشهوة حين يخرج الإنسان من طور المراهقة إلى الشباب وإلى الكهولة؛ وذلك لأن الإنسان منذ تكونه جنينا إلى أن يحمل إلى القبر يمثل في نفسه تلك الأطوار، التي مرت بالأحياء قاطبة من بدء ظهورها في العالم إلى الآن. فهو في باطن أمه حيوان رابض غائب الذهن أخرس منطرح كالسمك ثم لا هم له بعد أن يولد إلا الطعام. وهذا هو الشأن في تطور أنواع الحيوان كلها، فإنها قضت فترة طويلة وهي لا تعرف الحب، بل لا يزال بين الأسماك ما يلقي الذكر بذره في الماء كما يطرح النخل لقاحه للريح. ثم يظهر الحب والأسرة فيخرج الصبي من الشغف بالحلوى، والنهم للطعام إلى إحساس الحب للجنس الآخر.
ولكن إلحاح هذه الشهوة الجنسية يخف بالتقدم في السن. وكما أن الشاب خرج من طور الطفولة من حيث الطعام فلا يجعل للنهم من السلطة عليه مقدار ما للصحة، كذلك الكهل يخرج من غرام الشباب وإلحاح الغريزة الجنسية إلى تسليط العقل الحديث ومراعاة المصلحة العائلية.
هذا وقد أمضى الإنسان نصف مليون سنة على هذه الأرض بعد الحالة الحيوانية خلال ملايين السنين إلى المرحلة الثانية؛ أي الهمجية، فكان أبكم أو شبيها بالأبكم لا يحمل من الآلات إلا أجفاها، يعيش منعزلا لا يعرف الاجتماع، حظه من الثقافة قد لا يزيد على حظ طفل عمره ثلاث سنوات، يقتل خصمه من أجل جذر من اللفت، ويأكل العصفور أو الصرصور، ويقتل زوجته إذا رآها آثرت نفسها عليه في ثمرة فجة أو بضعة من لحم، ويخشى الظلام والوحوش وينتفض من تهافت ورقة جافة أو من رؤية ثعبان أو قنفذ.
فالخوف هو طابع الإنسان الهمجي، وهو ما ورثه الإنسان الحاضر عنه. والغيظ أو الحقد كلاهما يعمل في النفس عمل الخمر فتستيقظ كفاياتنا القديمة وتكبت كفاياتنا الجديدة. وقد تمر بنا ساعات نستذكر أو نردد فيها إهانة لحقتنا من أحد الناس، فنرى يدنا تنقبض ونحن لا ندري ثم يجري خيالنا بالعصا الغليظة ننزل بها على أم رأسه ضربا وخبطا، ونحن نصحب هذا الضرب باللعنات الدسمة ونشعر عندئذ بالراحة. والواقع أننا نستريح؛ لأننا نرضى بهذا الخيال، هذا الجد الهمجي القديم الذي يضمره كل منا في نفسه، والذي نكبته أحيانا في يقظتنا فيتغفل عقلنا الواعي ويبدو خواطر لذيذة أو أحلاما نرى فيها هذا الخصم مقهورا أو مقتولا. وقد مضى على هذا الإنسان نحو 7000 سنة، وهو يعيش مجتمعا له ثقافة الزراعة ولكنه لما يمح هذا العقل الهمجي القديم.
Неизвестная страница