كان الإنسان البدائي يخاف كل شيء، يحدث له ضررا أو هلاكا كالسيول والأمطار الجارفة والضواري، وأخذ يتوسل لدفع شرها ويتوهم أنها تمثل ذوانا أو قل إنها أشخاص يجوز أن تقدم لها القرابين وأن يلتمس منها كف الأذى، ومن هنا نشأت العبادة والتدين؛ أي إنها انبعثت من رهبة الطبيعة وما فيها وتطورت إلى شعور بالارتياح والشكر حين ينجاب غضب الطبيعة وينتهي أذاها.
وليس ببعيد أن تكون هذه الأحداث موضوع رواية يتناقلها الناس جيلا بعد جيل محشوة بالمبالغات والأوهام، مما يتصوره عقل البدائي الساذج وبما يشهده في حلقات جماعته في دعائهم وشكرهم، وأن يكون من أثر هذا وضع الأناشيد والقصص والأشعار والموسيقى الهمجية الساذجة.
هذا ويسود المرويات الروح المنفصلة؛ أي استقلال الروح، وهي مركز الحياة عن الجسم كما هو المشاهد في القصص الخرافية القديمة، فهي في الواقع متضمنة علوم القدماء وخيالهم وأدبهم وفنهم. (4) الطب والسحر
السامي متفائل بطبعه، راغب في الحياة آخذ بأسبابها، رافض فكرة الفناء معتقد في الحياة الأخرى وفي الثواب والعقاب، فهو - لهذا - ساع لجعل الحياة سعيدة، ومعني بالصحة وسلامة البدن إلى حد عد هذا عقيدة دينية تطالبه بالطاعة لها. أما ما يحول دون ممارستها فعنده أن ذلك يرجع إلى الأرواح الشريرة، وكان عنده أن السحر وسيلة للعلاج.
وعند صاحب اللسان أن الطب هو السحر، الذي قال فيه ابن الأسلت:
ألا من مبلغ حسان عني
أسحر كان طبك أم جنون (5) رأي المؤلف
لقد أوردنا فيما تقدم آراء العلماء في السحر. وعندنا أن السحر يقوم على عنصرين: أولهما ما ينزل بأعصاب الإنسان البدائي والإنسان المتحضر نفسه من ضعف وفتور حيال قوارع الزمان وأحداثه. ولما كان في كل إنسان، مهما تكن منزلته من التحضر والعلم والرقي، ناحية من السذاجة؛ سذاجة الطفولة التي من أثرها التصديق أو الإيمان ببعض الأقوال، خاصة إذا ما ألقيت إليه على الصورة التي تستهوي النفس وتخلب اللب، وخاصة إذا ما وقع هذا حين ينزل به المكروه، ويعز العلاج ويتلمس المنكوب النجاة؛ كانت النفس الإنسانية متأهبة لتلقي ما يشعرها بقوة الشفاء من ناحية علوية أو خفية غير منظورة بعد أن باء العلاج المادي بالفشل، بل كانت هذه النفس متعطشة لهذا التلويح أو التلميح بالقوة المشار إليها «قوة السحر»، أوليس الإنسان هدفا لألوان الخداع والغش والغبن والاحتيال، حتى إذا لم يزعم المحتال لنفسه قوة سحرية؟
أما ثاني العنصرين فإنه يقوم على قوة شخصية الخاتل أو الساحر: زعامته في بني قومه، نفوذه الأدبي، ذلك أن نظراته نفاذة وأقواله مؤثرة في نفوسهم، سواء أكانت موجهة عن قصد التأثير والخداع أم عن غير تعمد ذلك. ومن أجل هذا اختلط على الإنسان البدائي ما تنطوي عليه زعامة الزعيم وعلم العالم وسحر الساحر ونسك الناسك وقداسة القديس بل ألوهية الإله، فقد كان هذا الإنسان يتصور هذه القوى متجمعة في إنسان أو جماد ما. وصحيح أن إنسان عصرنا الحاضر قد أصبح يفرق بين هذه القوى ويعرف الكثير عن مصادرها، غير أن النفس البشرية لا تزال تنتظر، إذ تمتحنها المحن، إلى قوة روحية خفية تنقذها من الخطر، وقد توفق النفس إلى هذه القوة الروحية الصالحة، وقد تخدع بسحر الساحر وتقع في أحبولة المخادع.
بل إننا نكاد نذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إنه قد يكون من مصلحة المنكوب اليائس من العلاج الطبيعي أو المادي، أن تقوى روحه المعنوية بشيء من الاستهواء والمخادعة، فلقد طابت نفوس يائسة على أثر زيارتها لضريح ولي واستماعها لدعاء جاهل، أو أقوال قارئ كف أو «عزائم» أو كاتب «تمائم» أو فاتح «رمل أو فنجان» أو المنوم مغناطيسيا أو بعد حفلة «زار».
Неизвестная страница