Египетские и западные переводы
تراجم مصرية وغربية
Жанры
وناء شلي بهذه الوحدة وثقل عليه حملها وأنهكه إلى جانبها هذا العيش الضنك الذي لم يتعود في نعومة أظفاره، فانهدت قواه واندس المرض إلى صدره وأظلمت الدنيا في عينيه ورأى شبح الموت مقبلا يبتلعه، كم كان من قبل سعيدا مع هاريت! وكم كان سعيدا بحديث صديقاته والمعجبات بنبله وجماله وذكائه وسمو روحه! ثم كم كانت السعادة تفيض عنه منبعثة إليه من قلب الرفيقة الجميلة العطوف ماري! وهذا هو يرى نفسه معها منفردا يتحاشاه الناس ويفرون منه فرارا ثم لا يكون له عنهم من بديل إلا مرض قاتل. يا لليأس! أيتها الآلهة، آلهة الخير والنعمة والسعادة، أحق أنك جميعا قد تخليت عن هذا الرجل لغير شيء إلا أنه صديق الفضيلة المخلص ونصير الحرية الصادق! أوحق أنك حكمت عليه بالموت لأن جمعية النفاق والوهم والباطل قد ابتعدت عنه، خشية أن يفضح نوره ما في ظلماتها من رجس وشقاء وجريمة؟! ليكن، فهذه ماري ما تزال تحنو عليه وتبعث إليه من دفء قلبها المملوء حبا ما يستبقي خيط الرجاء معلقا فوق هاوية اليأس.
لكن خيط الرجاء هذا لم يمنعه من أن يرى الهاوية وكل ما حوته، بل لم يمنعه من أن يحدق فيها ببصره ويستمد من مناظرها المؤسية إلهاما ساميا أوحى إليه أولى قصائده الوجدانية الكبرى: «الاستور أو روح الوحدة»، وبطل هذه القصيدة شاعر شاب طوف في الآفاق وجاب أقطار العالم أن رأى الوسط الذي يعيش فيه والجو المحيط به لا مهبط فيه لوحي الهدى ولا مبعث لسمو الإلهام، «وأدت به خطاه طائعة مسبح أفكاره السامية إلى زيارة ما خلفت الأيام الخالية من خرائب الآثار، فزار أثينا وصور وبعلبك والبطيح الذي كان مقاما لبيت المقدس وأبراج بابل المهدمة والأهرام الخالدة ومنفيس وطيبة، وكل ما تخفيه تلال الحبشة السوداء الصحراوية من عجائب النقوش على المسلات والمقابر وآباء الهول المحطمة، وهناك خلال المعابد الخربة حيث تقوم العمد والصور العجيبة لما هو أعظم من الإنسان، وحيث ترقب شياطين الرخام أسرار نيران الزوال، وحيث يعلق السلف أفكارهم الصامتة على صمت الجدران المشتملة إياه هناك، أمهل الخطا مستذكرا العالم في صباه محدقا طوال النهار المحرق بهذه الصور الصامتة، وما كان القمر إذ يملأ الصالات العجيبة بظلاله المتموجة ليقفه دون متابعة استذكاره، بل ظل يحدق ويحدق حتى أضاء خلاء عقله نور كأنما هو الإلهام القوي جعله يرى من خفايا الزمن يوم ولد ما يهز النفس»، وهناك جاءت له صبية من بنات العرب بطعامه فكبلها غراما، لكنه ما لبث أن عاود تسياره خلال بلاد العرب والعجم والهند، جوابا ربوع الأرض وأقطارها باحثا عن الحقيقة، حتى إذا كان يوما مستلقيا خلال غابة تظله رأى في أثناء نومه «صبية مبرقعة تجلس إلى جانبه وتتحدث في أنغام مهوبة خفيضة بصوت كأنه صوت روحه حين يستمع إليه في هدأة تفكيره، وكانت المعرفة والحق والفضيلة مدار حديثها، كذلك كانت الآمال الكبرى في الحرية المقدسة وما إلى هذه الآمال من أفكار هي أعز الأفكار عليه، ثم كان الشعر أن كان هو شاعرا»، وتجلت الصبية له في خلال هذه الآمال والأفكار والمنى فإذا جمال شخصها عدل جمال نفسها، واندفع محاولا ضمها إليه والإمساك بها، لكنها تراجعت ثم ابتلعها ظلم النوم، ولم تجده محاولته إعادتها إلا أن أيقظته الهزة فإذا القمر ينحدر إلى المغيب وتباشير الضياء ترتفع خلال سجوف الليل، «إذا ضاعت هذه الصورة الجميلة، وضاعت إلى الأبد في تلك الصحراء الواسعة لا طرق فيها، صحراء النوم الكالح! أفيؤدي باب الموت الأسود إلى جنتك العجيبة أيها النوم؟» وينطلق الشاعر مفكرا في أثناء تطوافه مستذكرا صورة النوم الجميلة ملفيا جمالها في كل ما تخلع الطبيعة على الوجود من جمال، وفيما كان عند اليونان بصر بزورق لا مالك له فألقى بنفسه فيه ودفعه إلى لج الموج يتقاذفه رجاء أن يجد إلى الموت سبيله، وتدافع الموج والزورق حتى دفع به إلى جبال القوقاز في نهر تحيط به أحراش وغابات، وهو خلال ذلك كله ما يكاد ينجو من خطر حتى يفجأه خطر جديد يقرب له الأمل في النجاة بالموت والعود إلى صورته الجميلة التي أراه النوم إياها، وفي هذه السياحة يشدو شلي متغنيا ببهاء الطبيعة وحلو حديثها العذب إلى نفس بطله الشاعر المشوق للموت حتى يصل ببطله إلى غايته، وفي سياحة الزورق هذه بين موج البحر وفوق لجة النهر يصف شلي في النهر الذي أبدعه خياله ما نقل بصره إلى حسه من آثار حين عوده من سويسرا راكبا نهير الميز ونهر الرين وما على شواطئهما من بدائع الجمال، ويصف منابع التمس التي زارها بعد عوده إلى إنجلترا وحين هده المرض، ويصف تلك المناظر الساحرة التي تهز القلب والفؤاد، مناظر شواطئ التمس كانت وما تزال مثال جمال قل في الجمال نظيره.
قال شلي مقدما قصيدته هذه لقرائه: «والصورة ليست خالية من العظة لأبناء الحياة الحقيقيين، ذلك أن الشاعر في عزلته وانحصار خواطره في نفسه تثأر منه شياطين عاطفة قاهرة ما تزال تطارده وتخب به لتبلغ وإياه إلى الدمار السريع، على أن الذين لا يخدعهم خطأ سخي ولا يدفعهم ظمأ قدسي إلى شك المعرفة، ولا تضللهم خرافة باهرة، ولا يحبون شيئا على هذه الأرض ولا يتعلقون بأمل وراءها، ويقفون بمنأى عن التعاطف مع أبناء جنسهم، لا يسرون بأفراح الإنسان ولا يأسون لأحزانه؛ هؤلاء وأمثالهم يبوءون بلعنة عادلة، يذوون لأنه ما من أحد يشاطرهم الإحساس بطبيعتهم، فهم أموات الأحياء لا هم أصدقاء ولا عشاق ولا آباء ولا هم من أبناء الدنيا ولا المحسنين إلى بلادهم، وأخلق بالذين لا يحبون بني جنسهم أن تكون حياتهم عقيمة وأن يهيئوا لأرواحهم في كهولتهم قبرا موحشا.»
وإنك لترى كل تلك المعاني التي أوردتها المقدمة متجلية في أبهى صورها وأعظمها جلالا وروعة في هذه القصيدة التي لا تزيد على سبعمائة وعشرين بيتا، والتي تمثل حياة النفس لعباد الوحدة عشاق الطبيعة، مصورة في ألحان سماوية الموسيقى إلى حد يحملك معه على موج أنغامها حتى لينسيك فيها جمال الأنغام بديع الصور، ولينسيك إبداع الصور روائع التفكير، ولتنسيك روعة الفكرة جمال النغم، ثم تتزاوج الأنغام والصور والأفكار فيلد تزواجها صورة الشاعر الشاب شلي في وحدته المنقطعة وأمله المتهدم في الحياة ومواجهته الموت في رعدة تتغلب عليها قوة نفسه، وانتصاره بعد ذلك على الألم وعلى المرض وعلى الوحدة وعلى الموت بهذه القطعة الخالدة من موسيقى شعر الآلهة.
وفيما كان شلي في هذه الحال توفي جده السير بيش وآل إليه بالوصية إيراد سنوي يبلغ ستة آلاف من الجنيهات، ولو أنه لم يكن في شغل بتفكيره وبشعره، ولم يكن ينظر إلى مزيد المال على أنه جريمة تدفع إلى النقص وتزري بالفضيلة؛ لناصب أباه الخصومة حتى يصل إلى كل ما أوصى به جده، لكنه لم يرد الانقطاع لعرض الدنيا إذا وجد ما يسد حاجته ويكفيه شر دائنيه؛ لذلك قبل أن يرتب له أبوه من ذلك الميراث كله ألف جنيه في السنة تكفيه وتكفي ماري، وتكفي من يلوذون به من صحبه، وردت إليه هذه الطمأنينة المادية شيئا من سكينة النفس كان في أشد الحاجة إليه ليتغلب على مرضه، وتغلب بالفعل عليه، وبدأ في سماء المجد يتألق له نجم إن لم يكن ساطعا سطوع نجم بيرون، فقد كان موضع التقدير من بيرون نفسه، على أن الأقدار لم تكتب لنفسه طول سكينة يوما من الأيام، فقد بدأت ماري على جمال حكمتها ورجاحة عقلها تحس الغيرة لوجود جين معهما في البيت، وزاد لهيب هذه الغيرة ضراما حين حملت فلم تستطع ملازمة شلي مما جعل جين تصحبه في جولاته وتعود وإياه متوردة الخد فياضة القلب بما يبعثه شلي إلى كل ما يتصل به ومن يتصل به من جمال الوجود، وما عسى أن يصنع شلي بإزاء غيرة ماري إلا أن يطأطئ لإرادتها ويخضع لمشيئتها، وبخاصة أن جعلها الحمل في حال عصبية تثير معها كل مناقشة إياها لمشيئة تعلنها دموعا تذرف وأنات ألم تقطع النياط الحساسة لقلب محبها الصادق الإخلاص، والذي لا يرى مع ذلك في الحب معنى الأثرة الذي يذكي الغيرة، بل معنى التسامح التام والاشتراك مع كل من في الوجود في الإحساس والعاطفة، واضطرت جين لمغادرة المنزل وفي نفسها من الحب لشلي ما بغض ماري إليها ودفعها للتفكير في الانتقام لأنفتها الجريحة، ولم يعوزها طول بحث لتدبير الانتقام، فإذا كانت ماري تعتز بخليلها شلي وما له من نبل ومجد ومال فلتتخذ هي خليلا لها أعرق من شلي نبلا وأعظم مجدا وأكثر مالا، وليكن هذا الخليل لورد بيرون نفسه، ولم تلق في تحقيق غايتها عنتا؛ فلم يكن بيرون ينظر للحب نظرة شلي ولا كان يعبأ بالعفة ولا بطهر القلب، على أن ماري استراحت حين علمت بنجاح صاحبتها ولم يبق بعد عندها موضع للغيرة منها.
وظلت ماري في سكينتها حتى وضعت طفلا لثمانية أشهر من الحمل فلم تقدر له الحياة، ولم يطل بها الحزن عليه أن حملت مرة أخرى وأن وضعت غلاما أسمته باسم أبيها وليم، ولكنها برغم سعادتها بهذا الطفل الثاني وبرغم شعورها بكل ما في الأمومة من مزيد في الحياة، جعلت تحس وحدتهما وسط الجمعية الإنجليزية تزداد وطأتها ثقلا عليها وعلى برسي، وأكثر من الشعور بالوحدة كان شعور آخر يهيج غيرتها بمقدار ما يهيج آلام زوجها ويبعث إلى نفسه نوعا من لذع الضمير طالما حاول إخفات صوته، ثم ظل مع ذلك دائبا على تعذيبه، فقد أصبح هجره هاريت موضع حديث الناس وموضع لغو أصدقائه، وكان إجماعهم منعقدا على أن البائسة لم تأت إثما ولم تجن ذنبا، وإنما الذنب والإثم على شلي الذي هجرها وتبدل بها غيرها، وظن أن لم تبق له جريرة عندها ما دام قد ضمن لها ولأبنائها منه رزقها، وألح بالزوجين هذا الشعور فانتهيا إلى استحالة المقام بإنجلترا وضرورة هجرها إلى حيث لا يعلم قصتهما أحد، وإذ كانت هواجس ماري قد هدأت من ناحية جين وكانت هذه وحدها هي شريكة حبهما وصلتهما منذ نشأتهما، فقد سمعا إليها حين اقترحت عليهما السفر إلى سويسرا للمقام عند ضفاف الليمان على مقربة من جنيف، وزاد ماري اطمئنانا إلى اقتراح صاحبة سرها أن علمت أنما حملها عليه اعتزام بيرون أن يسافر إلى تلك الناحية فرارا من اتهام الجمعية الإنجليزية إياه بمعاشرة أخته أوجستا، فلن تعود بين جين وشلي إذا أية صلة ما دام بيرون سيقوم منها مقام شلي من ماري، وإذا فليسافر ثلاثتهم إلى ضاحية جنيف ولينتظروا هناك مقدم النبيل العظيم.
ووصل الجوار ثم وصلت الصداقة ما بين بيرون وشلي، وزاد الصلة بينهما أن ظلت جين مقيمة عند شلي مترددة آناء الليل وأطراف النهار على بيرون، على أن أمتن ما قوى صلتهما كان الوسط الذي يعيشان فيه، وسط سويسرا الشعري البديع الذي يوحي إلى النفس والقلب والفؤاد ما يملؤها شعرا ويزيدها للجمال قدرا، وكان هذا الوسط، أول تعارفهما، في أجمل فصوله، فقد نزلا جنيف إبان بشائر الربيع في مختتم أبريل ومفتتح مايو حين تبدأ حياة الطبيعة يقظتها من سنة الشتاء، وحين تبدو أوراق الشجر في خضرتها الجديدة ما يزال لها كل صباها وكل ما للصبا من بهاء وروعة، وحين الثلوج ما تزال تغطي قمم الجبال وتكسو عوالي سفوحها كساء يتباين ضياؤه في أثناء النهار ويكسوه شفق المغيب كما يكسوه مطلع الشمس، من الأحمر القاني إلى الأحمر المتورد، بما يملأ خيال الشاعر بأجمل الصور، وحين تنعكس سفوح الجبال وقممها الرفيعة على سطح مياه البحيرات حين يكون هذا السطح هادئا، فإذا دفعت الريح الموج متلاطما فوقه رأيت السفوح وأشجارها والقمم وثلوجها تموج متلاطمة هي الأخرى، قوى هذا الوسط صلة الشاعرين أن وجدا فيه خير مسرح لخيالهما المتوقد، وإن شعرا في شغاف قلبيهما بحب له يزداد استعارا كلما ازدادا من هذا الجمال الساحر نهلا، وذلك فرق ما بين حب الطبيعة وحب المرأة، بل هو فرق ما بين حب المرأة وحب كل جمال غيرها في العالم، حب المرأة أناني أثر غايته الحيازة والملك والمذلة والاسترقاق، فكل شركة فيه تنتهي إلى الجريمة، عهرا كانت الجريمة أو غيرة، وتنتهي إلى القتل وما هو شر منه ، أما حب الجمال في غير المرأة فهو الحب الذي يفهمه شلي وينادي به ويدعو إلى الشركة فيه، هو تقديس الجمال في كل مظاهره والاشتراك في هذا التقديس ليزداد بالاشتراك سموا وجلالا، وكم كان لجمال سويسرا واشتراك شلي وبيرون في تقديسه من أثر في شعرهما، على أنه مع ذلك لم يقرب بين روحيهما؛ لأن كل واحد منهما كان يختلف عن الآخر في نظرته إلى الحياة تمام الاختلاف، فقد كان عقل شلي وقلبه وشخصه وكل وجوده شعرا خالصا، كان لا يعرف شهوات الإنسانية، ولا يخلط بنفسه وضيع عواطفها، وكان لذلك يرى جمال الكمال ملموسا محسوسا، وكان يصور كل ما يقع عليه حسه وكل ما يجيش بقلبه في أنغام من الشعر والنثر لا أثر لغير روح الجمال وعبادته فيها.
وإنك لتعجب حين رجوعك إلى ديوان شعره وإلى رسائله وكتبه إذ ترى كل سانحة من السوانح وكل منظر من المناظر وكل ما اتصل بشلي في يقظته وفي نومه، قد اكتسى ثوب الجمال، وإذ ترى هذا الجمال مصورا أنغاما قدسية يختلط عليك حين تقرؤها أشعر هي أم موسيقى أم رسم وتصوير! أما بيرون فكان شاعرا، ولكنه كان إنسانا له كل شهوات الإنسان قوية غالبة عليه متحكمة فيه، وكان يرى الجمال من خلال هذه الشهوات فيشدو به في شعره ساميا بهذه الشهوات نفسها إلى سماء الشعر ملبسا إياها شفوف الجمال، وكان بيرون مشغوفا بالمجد تتسلط عليه شهوته إلى حد أشفق معه عليه شلي كما أشفق عليه لضعف روحه ونزوله إلى مراتب الإنسانية الوضيعة برغم ما أنعمت به آلهة الشعر عليه من جمال في النفس وسمو في الفكر، وكم حاول أن ينزع به إلى غير ما تدفعه إليه شهواته، وأن يجذبه إلى ناحيته، ناسيا أن ليس في مقدور إنسان تحوير طبعه، ولم يتغير عليه بعدما افترقا، بل جعل يراسله طمعا في إنقاذه من براثن شهواته التي كانت في نفس الوقت مصدر كل وحيه وإلهامه.
وبرغم ما امتلأ به قلب شلي من جمال سويسرا فقد كان دائم الحنين إلى بلده، وكان حنينه قويا منذ أول مغادرته شواطئها وإن كانت هي التي ألجأته إلى هجرها والفرار منها، قال في خطاب بعث به إلى صديقه بيكوك يعبر عن تحنانه: «إنكم لتعيشون على شواطئ نهر مطمئن بين تلال خفيضة تغطي الغابات سفوحها، ثم إنكم لتعيشون في بلد حر لا يحول بينكم وبين ما تعملون قهر، وتطمئنون فيه إلى ما يقع في ملككم، وما بقيت هنالك ممالك وما بقيت اعتبارات الأثرة التي تنطوي فكرة المملكة عليها، فأنا واثق من أن إنجلترا أكثر الممالك حرية وتهذيبا، ولعلك كنت حكيما في اختيار طريق حياتك، على أني إن عدت واحتذيت مثالك فلن آسف على ما رأيت من ممالك أخرى، فلدينا - لا ريب - كثير من الخبيث والطيب، وكثير يزدرى وكثير يمكن السمو به نحو الكمال، لكن ذلك كله لا يعرفه ولا يحس به من لم يبرح حدود وطنه، وما دام الإنسان على ما هو عليه فإن التجربة التي جربها لن تدعوه لاحتقار الأمة التي ولد فيها، بل على العكس من ذلك، هو لن يقدر ما يربطه بوطنه من حب حتى يجعله الغياب عنه أشد شعورا بجماله، فشعراؤنا وفلاسفتنا وجبالنا وبحيراتنا، وقرانا ومزارعنا التي لا شبيه لها عند غيرنا؛ كل هذه روابط لن تنبت ولن تتحطم أو أصبح ولا إدراك عندي ولا حس لي.»
وربما فات شلي أن يذكر شيئا آخر يربطه بإنجلترا ولا يقل عن كل ما ذكر قوة، ذلك عصفوره هاريت وابنته يانت وابن هاريت المنسوب إليه وإن أنكر هو أبوته، فلقد كان كثير التفكير في أثناء وجوده على شواطئ ليمان في هاته التي ترك وإن كان يعلم أنها في طمأنينة مادية بما أجراه عليها من رزق وما يجريه أبوها عليها من رزق مثله، وكان يعلم من أخبارها أنها ساء سلوكها وانحدرت إلى مستوى يقرب من الدعارة، فكان يحس على نفسه في ذلك بعض التبعة، ويحاول إقناع نفسه بما يزحزح التبعة عنه، ولئن كانت هاريت قد أساءت إليه أفليست يانت ابنته ويجري في عروقها الدم الذي يجري في عروقه؟ لكنه لم يكن يستطيع الإسراع إلى مغادرة سويسرا وماري متعلقة بها جريحة القلب من سوء صنيع مواطنيها بصاحبها وبها؛ لذلك اقتنى - بالاشتراك مع بيرون - زورقا جعلا من رياضتهما عليه فوق لج الليمان مستوحى لإلهامهما، وكثيرا ما كانت تصحبهما ماري وجين، فتتغنى هذه الأخيرة بصوتها الحلو الرقيق توقع أنغامه على موجات هواء الجبال العذب الصافي ما يزيد الهواء والبحيرة والجبال جمالا وما يزيد إلهام الشاعرين روعة وقوة.
Неизвестная страница