Египетские и западные переводы
تراجم مصرية وغربية
Жанры
على أنه لم يقصر نشاطه في هذه الفترة من حياته على المناصب التي تولاها والتي أسرع به الزمن فيها إلى حد لم يعرفه غيره، ثم كان بثقافته وذكائه واقتداره مثلا عاليا للموظف الكفء القدير، بل لقد أسلس من نشاطه على أعمال عامة لا اتصال لها بالحكومة، بل كانت الحكومة تنظر إليها في كثير من الأحيان بشيء من الريبة والحذر، انتخب عضوا في إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية، وعضوا في إدارة الجامعة المصرية، وكان يومئذ ما يزال يشغل منصب النائب العام، وكانت له في الجامعة وفي الجمعية سلطة نافذة وإرادة قوية، ثم كان لنفوذه بعد أن علا في العالم السياسي نجمه ما زاد الهيئتين قوة واقتدارا على القيام بالأعمال الجليلة في البر وفي الثقافة مما أنشئتا من أجله.
وقد ظل اقتداره وظل نفوذه معروفا في الدوائر الخاصة بالقضاء وعند المسئولين عن شئون مصر العامة، حتى عين في منصب النائب العام، وكان المسئولون وكانت دائرة القضاء تقدر فيه إلى جانب فضله حرصه على تنشئة من يتوسم فيهم الكفاية والمقدرة من الشبان وممن يطمع في أن يقوموا لبلادهم بمثل الدور الذي قام به هو لبلاده، فلما كان صاحب الدعوى العمومية أتاح له حادث خطير أن يتصل بالجمهور اتصالا مباشرا، فقد اعتدى إبراهيم ناصف الورداني على حياة المرحوم بطرس باشا غالي في سنة 1910 بأن أطلق عليه الرصاص ساعة خروجه مع ثروت باشا النائب العام من وزارة الحقانية وتولى ثروت بنفسه تحقيق هذا الاعتداء والمرافعة في الدعوى، هنالك اطلع الجمهور منه على اقتدار خاص، وهنالك بدأ الجانب السياسي من حياة الرجل تظهر نواته وتكاد تتحدد سياسته، فالعبارة التي ننقلها من تلك المرافعة تلخص إلى حد كبير ما جرى عليه ثروت كوزير وكرجل سياسي بقية حياته، قال:
نحن أول من يجل الاشتغال بالمسائل العامة ويرى أن السعي بالطرق المشروعة فيما ترقى به البلاد وأهلها من فروض العين على المصري، وأن كل مصري مطالب بتضحية شيء من وقته وماله وهمته في خدمة بلاده، نحن أول من يرحب بتنمية الوطنية ورياضة النفوس على احتمال أشق المشقات في إعلاء اسم مصر وزيادة شرفها ورفعتها، كذلك نرى أن من مرقيات الأمم الدارجة في رقيها النظر في أعمال القابضين على أزمة الأمور فيها ونقدها، ولكنا لا نسلم بحال من الأحوال أن يتطلع إلى مقام ناقد الحكام إلا رجل جمع إلى العلم الغزير والحكمة البالغة الاتزان في القول والفعل حتى يقدر الأعمال قدرها وينظر في الأمور بفكر صحيح، فلا يتعدى حد المشروعية وإلا انقلبت الخدمة وبالا وإرادة الخير شرا.
هذه العبارة من مرافعة ثروت تنم من حياته السياسية المستقبلة عن جانبين: الأول تقديره السعي لتقدم البلاد واستقلالها على أنه فرض من فروض العين على كل مصري، والثاني أن يكون ذلك السعي بالطرق المشروعة لا بالفوضى ولا بالاعتداء، ولئن كان هذا التعبير - بالطرق المشروعة - هو الذي اتخذته مصر من بعد شعارا لها في المطالبة بحقوق كان ثروت بطل تحقيق النصيب الأوفى منها؛ فإن هذا التعبير بالذات قد جعل ثروت كنائب عام يقف من كثرة شباب مصر يومئذ موقف الريبة، فالشاب - وإن قدر بعقله ما للحق في ذاته من قوة تتغلب على كل قوة سواها - متعجل يريد أن يرى الحق في قبضة يده أو هو يصفق وإن في أطواء قلبه لمن يعتدي على من يحسبه الحائل دون هذا الحق؛ لذلك كان الورداني موضع عطف الكثيرين من الشباب وإن لم يكن موضع عطف الذين يقدرون الأشياء بنتائجها من المسئولين، ولذلك كان ثروت بمرافعته موضع إعجاب المسئولين وتقديرهم وموضع حنق الشباب عليه مع إعجابهم بمقدرته كالمسئولين سواء بسواء.
ولم يحرك حنق الجمهور ولا متابعته الشباب في غضبة أي عصب من أعصاب ثروت؛ ذلك بأن جانبا ثالثا من جوانب حياته السياسية كان الاعتداد برأيه هو وبعقيدته لا برأي الجمهور وعقيدته فيه، فهو ما اطمأن ضميره ورضيت نفسه مقدم على عمله غير عابئ برأي الناس في إقدامه، وهو مقدم في جرأة عجيبة لا يسهل تصديقها إلا على الذين عرفوا قدر دماثة الخلق ووداعة الطبع وحب الخير والميل العظيم إلى البر والرحمة.
وحرك الحكم بالإعدام على قاتل بطرس غالي النفوس بشيء من مثل ما تحركت له على أثر الحكم في قضية دنشواي، وكان بطرس رئيسا لمحكمتها المخصوصة، تحركت النفوس ذاكرة دنشواي واتفاقية السودان، ملتهبة غيرة بما سمعت في الدعوى من مرافعات الدفاع عن الورداني مرافعات حارة تفيض تقديرا لوطنيته التي دفعته إلى جريمة ارتكبها مدفوعا بعوامل لا قبل له بمقاومتها، والحق أن هذا الحادث الذي عقب حكم دنشواي في سنة 1906 ثم صدور العفو عن المحكوم عليهم من الدنشوائيين في سنة 1908 ثم وفاة مصطفى كامل، الذي جاهد حتى استصدر العفو، بعد صدوره بشهر واحد - نقول إن هذا الحادث حرك النفوس في مصر إلى المزيد من السعي في المطالبة بحرية كان الشعور ما يفتأ متزايدا بأن الاحتلال الإنجليزي القابض على أزمة الأمور في مصر يحاول القضاء عليها قضاء أخيرا، وكان من أثر هذا الشعور الذي ازداد التهابا حين أحس بتخلي أوربا عنه بالاتفاق الودي الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة 1904 وبعجز الباب العالي الذي انهزم أمام إنجلترا في حادث طابه في سنة 1906، أن بدأت في البلاد حركة اعتماد على النفس وتقدير لما يجب من جهود المصريين لوطنهم بما جعل الحكومة المصرية التي تقوم لتستر الحكومة الفعلية - حكومة المستشارين الإنجليز - تحس بغضاضة على نفسها وحرج في مركزها، وكان ذلك شأن حكومة محمد سعيد باشا التي تولت مناصبها بعد وفاة بطرس، على أنها حرصت على أن تظهر في مظهر الحكومة الوطنية فيما كان يقع من مناقشات في مجلس الشورى، ثم ظهرت كذلك في مظهر الحكومة الوطنية حين استصدرت - بموافقة إنجلترا وعميدها في مصر لورد كتشنر الذي خلف سيرالدون غورست بعد وفاته - قانونا جديدا لنظام الحكومة المصرية، هو قانون الجمعية التشريعية.
وتمت الانتخابات لهذه الجمعية في أواخر سنة 1913، وبدأت عقد جلساتها منذ أوائل سنة 1914 بعدما انتخب فيها من أقوياء الحجة في مصر وذوي المكانة منها ما جعل الحكومة لا تستطيع متابعة طول مناقشة الجمعية إياها، فاستقالت وإن لم يكن من ثم نص في القانون النظامي بمسئوليتها أمام هذه الهيئة النيابية، وشكل حسين رشدي باشا الوزارة الجديدة واختار ثروت باشا وزيرا للحقانية فيها.
على أن الحرب العظمى لم تلبث أن أعلنت في أغسطس سنة 1914 فلم يكن بد من إرجاء عقد جلسات الجمعية التشريعية حتى انتهائها، ويذكر الذين عاشوا هذا الظرف الدقيق من حياة مصر والحكومة المصرية كم كان مركز مصر حرجا، وكم كان مركز الحكومة المصرية أشد حرجا، فمصر كانت ولاية عثمانية ممتازة تدين بالولاء لتركيا، وخديو مصر عباس حلمي الثاني كان غائبا عن مصر مقيما بالأستانة متهما في نظر الإنجليز بالتآمر مع تركيا ومع ألمانيا على إنجلترا وعلى الحلفاء، ورشدي باشا رئيس الحكومة والقائم مقام الخديو مدين هو وحكومته لتركيا وللخديو بالإخلاص والولاء، وإنجلترا صاحبة اليد العليا في مصر والجيوش الجرارة على أرضها تملك بكلمة أن تضمها إلى أملاكها من غير أن يستطيع الخديو أو تستطيع تركيا دفاعا عنها، وهيهات إذا ضمت مصر إلى أملاك إنجلترا أول الحرب أن يكون أمل في أن تخرج من هذا المركز بعد الحرب إذا انتهت هذه الحرب بانتصار إنجلترا وحلفائها، أو أن يكون أمل حتى في مركزها كولاية عثمانية ممتازة إذا انتهت الحرب بانكسار إنجلترا وانتصار الألمان عليها، فما عسى تصنع حكومة حسين رشدي في هذا المركز الدقيق؟!
وزاد مركز تلك الحكومة دقة وحرجا أن الشعور العام في مصر كان ميالا إلى جانب ألمانيا آملا في فوزها طامعا في أن تحرر من نير إنجلترا، وكأنما تجددت يومئذ في نفوس المصريين الذين كانوا يعتمدون من قبل على فرنسا لتجلي لهم جنود إنجلترا عن أرضهم - آمال في الاعتماد على ألمانيا لتحقق لهم هذه الغاية، وكان هؤلاء المصريون الموالون لألمانيا بعواطفهم يدورون في الأندية والأماكن العامة وفي قطارات السكة الحديد وبيدهم خرائط الحرب مؤشرا عليها بمواقع القتال وبما كسب الألمان واندحر الحلفاء، ودعاية كهذه من شأنها أن تعد البلاد للثورة إذا لم تكن حكومتها مستعدة لقمع كل حركة من الحركات الطائشة فيها، لكن هذا الاستعداد من جانب حكومة رشدي باشا لم يكن له تأويل إلا الدفع بمصر إلى أحضان إنجلترا والخروج بذلك على ما كان معروفا يومئذ من ميول تركيا ميولا انتهت بخوضها غمار الحرب إلى جانب ألمانيا، فوقفت تلك الحكومة محاولة أن تصل إلى خير الوعود من إنجلترا بالنسبة لمصر يوم تنتهي الحرب لمصلحة الحلفاء، عاملة على أن يصيب مصر أقل ضير ممكن من جراء الحرب، نافضة يدها بعد ذلك من شئون الدفاع عن مصر بعدما أعلنت إنجلترا الأحكام العرفية فيها وأخذت هذه المهمة على عاتقها، منتظرة تطور الحوادث وما يمكن أن يجيء القدر به.
وأعلنت تركيا الحرب منضمة إلى ألمانيا، فألفت إنجلترا الفرصة سانحة لتغيير موقف مصر السياسي، وقد دار بخاطر أولي الأمر في لندن - على ما ذكر لورد جراي وزير الخارجية الإنجليزية في ذلك الحين - أن يعلنوا ضم مصر إلى أملاك التاج، لكن اعتراضات قامت في هذا الصدد: أولها وأقواها أن الحلفاء الذين تحارب إنجلترا وإياهم كتفا لكتف يؤولون هذا التصرف من جانبها بأنها أرادت أن تقرر لنفسها غنائم الحرب قبل أن تضع الحرب أوزارها وقبل أن تتفق وإياهم على شيء في هذا الصدد، ثم إن إعلان الضم ربما كان من شأنه أن يهيج الشعور في مصر إلى حد ربما كانت عواقبه غير مأمونة، على ذلك فكرت حكومة لندن في إعلان الحماية على مصر، وانتهت - بعد شيء من التردد - إلى اختيار السلطان حسين كامل سلطانا في القاهرة بدل ابن أخيه عباس الذي قررت إنجلترا أنه انضم انضماما ظاهرا إلى أعدائها، فلا يمكن أن يعتلي عرشا تحت حمايتها، ودارت محادثات طويلة في هذا الشأن بين الوكالة البريطانية والحكومة المصرية انتهت إلى قبول رشدي باشا وزملائه الأمر الواقع والبقاء في مناصبهم كوزراء تحت نظام الحماية آملين متى انتهت الحرب أن تجد إنجلترا في تصرفهم ما يجعلهم منها بمكان يستطيعون معه الوصول إلى خير نظام سياسي لبلاد ألقت المقادير على عواتقهم أعباء مصيرها في ظرف دقيق لم يكونوا يتوقعونه، وظلت حكومة رشدي باشا - وفيها ثروت باشا وزيرا للحقانية - حتى وضعت الحرب أوزارها وأعلنت الهدنة في 11 نوفمبر سنة 1918، قائمة بكل ما أخذت به نفسها من ولاء للحلفاء وحرص على مصالح مصر ورجاء في ألا يسوء مركزها بسبب ظروف احتملوها ولم تكن لهم يد فيها.
Неизвестная страница