Египетские и западные переводы

Мухаммед Хусейн Хейкал d. 1375 AH
50

Египетские и западные переводы

تراجم مصرية وغربية

Жанры

ما أحسب فجيعة من الفجائع التي منيت بها الأمم كانت أشد وقعا على النفوس من فجيعة مصر في المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وما أحسب رجلا وجل خصومه كما وجل أصدقاؤه لفقده، كما اشترك أصدقاء هذا الفقيد العظيم وخصومه في وجلهم لرحلته رحلة الأبد، ثم ما أحسب العقل والعاطفة والحواس جميعا اهتزت بالحسرة وبالأسى اهتزازها لهذا الحادث الذي رج نفوس الناس رجا بل دكها دكا، ولن أنسى ما حييت تلك اللحظة الأسيفة التي عرفت فيها الخبر إثر الوفاة بسويعات حين دخلت إلى صالون السيدة المحترمة هدى هانم شعراوي بباريس، فألفيتها وألفيت الأستاذ الكبير هلباوي بك وألفيت زائريهما وكلهم باكو العين والفؤاد، وكلهم في شبه ذهول لما أصاب مصر في مصرع هذا الرجل الذي كانت تعتبره مصر كلها ملاذها إذا حزب الخطب وضلت بساسة مصر وساسة إنجلترا السبل، ثم لن أنسى ما حييت إسراع المصريين وأصدقاء مصر الأجانب إلى سكنه في باريس بشارع أناتل دلافرج

Anatole de la Forge

وليس منهم من يقف فزعه لوفاة رجل كان له بعد في الحياة سعة، بل كلهم أشد فزعا لمصر وما أصابها بفقد هذا الربان الذي اختاره القدر ليسير بدفة سفينتها حين الزعازع الهوجاء فينقذها من أدق المواقف، لن أنسى هذا، ولن أنسى صاحب الدولة عدلي باشا يكن في منزل الفقيد وفي مشهد جنازته بباريس وهو يتساءل عن الوفاة وكيف كانت في جزع دونه جزع الأخ لفقد أعز أخ له عليه، وهو يحاول حبس عبرته فتخونه كما تخون جميع الذين شهدوا صندوق جثمان الفقيد ينقل من عربة الجنازة إلى عربة السكة الحديدية، وكيف ينسى إنسان هذا وما أحاط بالفاجعة ولكل إنسان من هذه الفاجعة الأليمة نصيب لأنها فاجعة مصر وفاجعة السلام؟!

ويأبى القدر إلا أن يحيط هذه الفاجعة بما يزيدها هولا، إذ يختطف الرجل في بلاد نائية عن وطنه ويختطفه على عجل، كأن للقدر عند مصر ثأرا لا تهدأ ثائرته إلا إذا أشعرها ألما موجعا ينقض الضلوع بعضها على بعض؛ فلقد كان ثروت في صحته حين جاء إلى باريس من سان مورتز يوم الاثنين السابع عشر من شهر سبتمبر سنة 1928، أي قبل وفاته بخمسة أيام، فلما كان يوم الجمعة الحادي والعشرين من سبتمبر خرج في الصباح كعادته وعاد بعد الظهر بقليل يشكو ألما في الكتف وفي الظهر، واستدعى طبيب الحي ففحص الحالة ورأى أنها بسيطة لا تزيد على روماتزم يزول في زمن قصير، لكن الآلام تزايدت في أثناء الليل، فلما جاء محمد علي دولار بك في الصباح ليعود صديقه رأى معه ضرورة استدعاء أستاذ أخصائي أجابهم أنه سيكون هناك في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر؛ لأنه لا يستطيع ترك المستشفى الذي يعمل فيه قبل هذا الموعد، وحضر الأستاذ الطبيب في الموعد، فلما فحص المريض في سريره وخرج إلى قاعة الاستقبال خرج دولار بك في أثره يسأله رأيه، وكان رأيا مروعا، فالباشا اعترته ذبحة صدرية إن استطاع احتمالها ساعتين كان في نجاة حياته شيء من الأمل، لكن الطبيب في شك من استطاعة احتماله إياها وهو ما كاد يغادر غرفة الاستقبال إلى سلم الدار حتى إذا ثروت باشا قد شعر بالتنفس يضيق ثم يضيق ثم يضيق، فيؤلمه ذلك ويوجعه، ولكي تخفف من هذا الألم رفعت السيدة المحترمة زوجته إياه إلى صدرها، ثم لم تك إلا لحظة حتى شعر الباشا بشيء أنطقه في دهشة وعجب بلفظ «الله» وكانت هي آخر كلمة قالها، فإن شريانا متصلا بالقلب انفجر في هذه اللحظة أشعره الخطر حين لم يك إلى دفع الخطر سبيل ولا إلى اتقاء الكارثة التي تفجر لها فؤاد مصر وسيلة، ونودي بالطبيب فعاد فإذا به أمام جلال الموت وكان من برهة أمام رجل ألبسته الحياة وألبسها كل حلل الجلال.

وكأنما أراد القدر إذ كتب لوح أجل ثروت في باريس بعيدا عن بلاده وكتب على زوجه أن تكون في هذه الساعة العصيبة إلى جانبه، أن يحيط الفجيعة المفزعة بما يخفف من هول وقعها، فجمع بباريس في هذه الفترة جماعة من أخصاء ثروت وأصدقائه ومحبيه وعارفي فضله في خدمة بلاده، جمعهم ليكونوا إلى جانب جثمانه وليحاولوا عزاء زوجته وولده مصطفى المقيمين معه، وقام المصريون المقيمون في باريس وطائفة كبيرة من الفرنسيين وغير الفرنسيين في اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة وتشييع الرفات في سفرها لتستقر في ثرى الوطن بكل ما يجب لثروت من إكرام وإجلال.

وفي هذين اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة والتشييع إلى ثرى الوطن كنت تسمع من المصريين جميعا عبارة ملكت عليهم ألبابهم: من ذا يحل عقد المشاكل إذا انعقدت بعد ثروت؟! كنت تسمع هذه العبارة تصدر منهم جميعا على اختلاف نحلهم وأحزابهم، أولم يكن هو دائما الموئل الذي يلجأ إليه المصريون مهما علت أقدارهم، والذي يلجأ إليه الإنجليز حين يحزب الأمر ولا يكاد إنسان من الناس يرى له من طريق السلام فرجا ولا حلا؟! لذلك كان الكل ينظرون إليه كأنه الربان الذي ينقذ السفينة كلما ارتطمت على الصخر وخيف عليها أن تتحطم، فطبيعي أن يتساءل الكل عمن يحل عقد المشاكل إذا تعقدت بعد موته.

ولعل أحدا لم يذكر في وفاة ثروت مصاب زوجه وأبنائه فيه؛ لأن الناس نسوا في هذه الوفاة كل مصاب غير مصاب الوطن، مع هذا فمصاب بني ثروت ومصاب أصدقائه فيه كأب وكصديق فادح فاجع كمصاب الوطن سواء بسواء؛ فلقد كان أبر أب بأبنائه وأوفى صديق لأصدقائه، بل إن الذين عرفوه أبا ليذكرون كم كان بره عظيما وكم كان حنانه أعظم من بره، وكم كان صديقا لأبنائه بمقدار ما كان أبا لهم، وكم كان يجد في صداقتهم له ما يزيد في عواطف الأبوة والبنوة سموا ورقة، وإن الذين عرفوه صديقا ليعرفون له من الوفاء لهم ما قل أن يكون له في صديق مثال، ثم هو إلى جانب ذلك كان حصافة الرأي ونبل الشمائل والشهامة والذكاء صورت كلها رجلا. •••

ولد محمد عبد الخالق ثروت سنة 1873 وفي بيت جاه ونعمة، كان أبوه المغفور له إسماعيل عبد الخالق باشا ابن المرحوم عبد الخالق أفندي من أصل أناضولي، وكان من كبار الحكام في عهد محمد علي الكبير، وكانت أمه من بيت تركي هي الأخرى، وقد أرسل به أبوه إلى مدرسة عابدين وهو في الثامنة من عمره، ثم تابع دراسته في مدرسة النورمال حتى إذا نال شهادة الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الحقوق ثم كان أول الناجحين في إجازة الليسانس سنة 1893.

وكان ثروت الطالب - على ما ذكر الأستاذ لطفي بك السيد زميله في مدرسة الحقوق - شابا حسن الطلعة، تعلوه سيما الجد في غير عبوس، مترفعا في غير كبر، سهل الأخلاق دون فناء في الأغيار، وكان في ألمه وفرحه معتدلا محتفظا في كل حال بكرامته، نافذ الرأي في بيئته، ودودا من غير إلحاح، ومتحفظا من غير انقباض، محبب العشرة في رقته، وكان في جاذبيته وحلاوة حديثه متفوقا كما كان في ذكائه واجتهاده، نعم، فقد كان ذكيا حاد الذكاء مواتي البديهة كثير الاشتغال - فوق درس الحقوق - بمناحي الثقافة يلتمسها في الآداب الفرنسية والعربية، وأكثر ميله في هذا الباب إلى التاريخ على العموم والتراجم على الخصوص، ميل كبر معه حتى صار في السنين الأخيرة من حياته نوعا من الشغف، وكان لشغفه هذا مظهر عرفه عنه كل أصحابه وعرفه عنه باعة الكتب في مصر وفي باريس بنوع خاص، فقد كان كثير التردد عليهم والبحث في مخازنهم عن كتب قديمة نفدت طبعاتها، وكان لا يأبى أن ينفق في هذا البحث أياما متتالية حتى يقع على طلبته، فإذا وقع عليها أمعن فيها بحثا وتقليبا حتى يقف منها على غاية البحث الذي يدور بخاطره.

ولما نال إجازة الحقوق التحق موظفا بوزارة الحقانية سكرتيرا للمستشار القضائي بها، وكان المستشار القضائي يومئذ جون سكوت من أحسن من عرفت الحكومة المصرية مقدرة ونزاهة، وسرعان ما قدر مواهب ثروت حتى اختصه بكل ثقته وحتى وضع في يده كل نفوذه، ونفوذ المستشار الإنجليزي يومئذ كان أقوى من نفوذ الوزير المصري، بل كان نفوذ أي موظف إنجليزي أقوى من نفوذ أكبر كبير من ولاة الحكم في مصر؛ لذلك كان ما استولى عليه ثروت من نفوذ ومن ثقة بحيث طوع له أن يقوم في وزارة الحقانية مقام صاحب الأمر والنهي فيها وما يزال شابا لم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه، وعاونت هذه الحرية في السلطة ما وهب من مقدرة وذكاء، فلم يلبث إلا قليلا حتى تقدم في وظائف القضاء وحتى عين مستشارا بمحكمة الاستئناف ثم نقل مديرا لأسيوط ثم عاد إلى الحقانية نائبا عاما واختير وزيرا لها في سنة 1914.

Неизвестная страница