قال: والشجاعة والأَمن هما ضد الخوف، وهما يكونان مع تخيل أَو توهم لرجاءِ الخلاص الذي كأَنه بالقرب، وتوهم المخوفات إِما مفقودة أَلبتة وإِما بعيدة الوقوع. وتوهم الأُمور المشجعة أَنها منه بالقرب مما يشجع. وأَعني بالمشجعات العدة التي تلقى بها المخوفات الواردة. ثم أَن يتوهم أَيضا الردع والتنكير على الذي يخافه في الشيءِ الذي يخافه فيه مما يشجع. وكذلك أَن يتوهم أَن له أَعوانا كثيرة وقوما عظاما يمنعون أَن يُنال بشر. ومما يشجع الإِنسان ويؤمنه أَن يكون لا ظالما فيخاف المكافأَة على الظلم، ولا مظلوما فيخاف تكرر الظلم عليه. ومما يؤمنك من الإِنسان أَو من ناس بأَعيانهم أَلا يكون بينك وبينه نزاع ولا محاماة في شيء ألبتة وسواء ظن بك أَن لك قوة على المنازعة أَو ليس لك قوة. ومما يؤمن من الإِنسان الصداقة والإِحسان المتقدم عليه في الفعل أَو الانفعال، أَعني مثل إِعطائه المال أَو الرحمة عليه. ومما يؤمن من الإِنسان الذي يخاف منه أَن يكون ذلك الإِنسان يفعل أَفعال أَهل الفضل أَو أَهل الشرف ويحب أَن يذكر بها، أَو يفعل أَفعال الصنفين جميعا.
قال: فأَما الأَحوال التي إِذا كانت في الناس كانوا بها شجعاء فأَحدها أَن يكونوا يظنون أَنهم سيتلافون ويصلحون الشرور الواقعة بهم عند الإِقدام على ذلك الشيء الذي يخافون من فعله وقوع الشر بهم وأَنهم لا يأَلمون منه أَو لا يهلكون، أَعني من ذلك الشر الواقع بهم. ومنها أَن يكونوا قد أَشفوا مرارًا كثيرة على الشر العظيم وتخلصوا منه، فإِن هذا مما يشجعهم على الشر المخوف.
قال: وقد يوجد الناس غير خائفين من الشرور المتوقعة ولا مكترثين بها على جهتين: إِحداهما أَن يكونوا لم يجربوا ذلك الشيء المخوف، أَعني أَن يكونوا غير عالمين به. والجهة الثانية: أَن يكونوا مجربين له عالمين به، وذلك بيّن مما يعرض عند ارتجاج البحر وهوله للراكبين له. فإِن الذين لم يجربوا أَهوال البحر يوجدون شجعانا فيه لجهلهم بعواقبه، والذين لهم تجربة به يوجدون شجعانا أَيضا عليه لما اطرد لهم من السلامة فيه. ومما يؤمن من الشر المخوف أَن يكون غير مخوف عند شبيهه الإِنسان ونظيره، أَو عند من هو دونه، وإِن كان قد يظن أَنه قد يتخطى الشر الدون ويعتمد الأَرفع، ولذلك قيل:
إِن الرياح إِذا ما أَعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرَتَم.
لكن المطرد هو الأَول. والذين يظنون أَنهم أَفضل من الرؤساءِ المتسلطين عليهم فليس يخافون منهم. وكذلك الذين هم بالحقيقة أَفضل والذين يساوونهم في الفضل ليسوا بخائفين أَيضا لهم. وكذلك الذين يظنون أَنهم يفضلونهم في الأَشياءِ التي بها صح لهم التسلط والرياسة، مثل كثرة المال وشدة البدن ونصرة الإِخوان وأَهل البلد وعدة الحرب إِما كلها وإِما النفيسة الخطيرة منها عند تلك الأُمة. فإِن ذلك يختلف. ومما يشجع ويؤمن أَلا يوجد المرءُ ظالما لأَحد إِلا لعدوه ظلما يخيف به عدوه فقط. وبالجملة: فالصنف من الناس الذين يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الله آمنون. وكذلك الذين يكونون على حال جميلة فيما بينهم وبين الناس. وكذلك من كان عند الناس بهذه الحال ربما يتوسم فيه من العلامات الدالة على حسن الحال عند المعاملة. والذين تكون أَحوالهم جميلة عند أَصحاب الأَلسنة، أَعني المتسلطين بأَلسنتهم، كالخطباءِ والشعراءِ، وعند العقلاءِ فهم أَيضا غير خائفين، لأَنهم إِذا كانوا آمنين عند هؤلاءِ، فأَحرى أَن يكونوا آمنين عند غيرهم قال: والغضب أَيضا مما يشجع. ومما يشجع الإِنسان ويبعث غضبه أَن يكون مظلوما لا ظالما. والمظلوم إِنما يشجع لمكان الغضب، ولما يعتقد من أَن الله تعالى ناصرٌ للمظلومين. ومما يشجع على فعل الشيء أَن يظن الإِنسان أَنه لا يلقى عليه شرا، وإِن لقي، أَنه يقاومه ويتلافى إِفساده.
قال: فأَما المشجعات والمخوفات فقد قيل فيها بالكفاية.
القول في الحياءِ والخجل
1 / 67