القول في العذاب
قال: وأَما التقرير بالعذاب فإِنها شهادة ما لقول المعذب، وفيه له تصديق ما، لأَنه يخاف إِن كذب أَن تعاد عليه العقوبة، ولما تخيل أَيضا أَن في الصدق النجاة من الشر الواقع به، إِلا أَنه صدق مُكره عليه. ولذلك (لا) يعسر إِدراك الأَشياء التي بها يمكن أَن يثبت الإِقرار الذي يكون تحت العذاب إِذا كان موافقا للمتكلم، وأَن يزيف إِذا كان موافقا للخصم. إِلا أَن تزييفه ونقضه هو حق في نفسه. فإِن المعذبين لمكان الإِكراه ليس يكون اعترافهم بالكاذب أَقل من اعترافهم بالصادق، بل قد يعترفون بالذي يطلب منهم لمكان النجاة من العذاب وإِن كان كاذبا. وأَيضا فإِنهم إِذا صبروا على العذاب ولم يقولوا الحق فقد يبادرون إِلى الكاذب ليظن به أَنه هو الصادق، ليستريحوا من العذاب بذلك سريعا. ولذلك ما ينبغي للحكام أَن لا يستعملوا هذا النوع من الاستدلال بل يعودون فيستعملون الدلالات الأُخر. فإِن كثيرًا من الناس لصحة أَبدانهم وعزة نفوسهم يصبرون على الأَذى صبرًا شديدًا فلا يعترفون بالصادق. وأَما الجبناءُ وأَهل الضعف فقد يقرون على أَنفسهم بالكاذب قبل أَن يروا الشدائد. ولذلك ليس في العذاب شيءٌ يوثق به. ولمكان هذا درأَ الشرع عندنا الحدود التي تتعلق بالإِقرارات التي تحت الإِكراه.
القول في الأَيمان
قال: وأَما الأَيمان فإِنها تستعمل لمكان أَربعة أَشياء، وذلك أَن الحالف إِما أَن يحلف ليعطى شيئا ويأْخذ شيئا، مثل ما يكون في البيوع. وأَما أَلا يعطى شيئا ولا يأْخذ شيئا. وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ. وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. وحلف الإِنسان ليعطى إِنما يكون لأَشياء أُخر ضارة به، أَعني إِن أَمسك ولم يعط. واليمين إِما أَن تكون من المدعى أَو المدعى عليه. وليس في اليمين شيءٌ من التصديق، إِذا علم أَن الحالف رجل فاجر. وإِذا لزمت اليمين أَحد الخصمين فنكل، فقد لزمته الحجة. لأَن المطالبة باليمين تَحد على الصدق. وإِذا عجز المتحدّى، فقد لزمته الحجة.
قال: ولما كان المطالب باليمين مترددًا بين مكروهين أَحدهما مما يناله من قبل اليمين - إِذا حلف كاذبا - وهو الاستهانة بالله وحرماته؛ والثاني المكروه الذي يناله من الأَخذ منه أَو الإِعطاء، فهو أَبدًا إِنما يفعل أَقل المكروهين ضررا عنده. فلذلك قد يصدق بعض الناس إِذا حلف، ويكذب بعضهم. وهذا أَحد ما يزيف به الاحتجاج بالأَيمان.
قال: وقد يُصدق الرجل الفاضل ويُرى أَنه لمحق، وإِن لم يحلف. لكن تصديقه ليس هو لمكان أَنه لم يحلف، ولكن لمكان فضيلته، ومن أَجل أَنه ليس ممن يحنث ولا يفجر بغير يمين، فضلا مع اليمين.
قال: وأَما التحدي باليمين فإِنه كثيرًا ما يكون من الرجل الفاسق نحو الثقة الأَمين، لأَن تحرج الثقة عن اليمين مما يوقع التصديق بقول الفاسق.
قال: وهذا هو مثل أَن يغلب المتهور المتوقي أَو يدعوه إِلى أَن يغلبه ويتحداه بذلك. فإِن المتوقي يتجنبه.
قال: ولكن ليس للثقة الأَمين، وإِن كان الأَمر هكذا، أَن يأْخذ بغير يمين، إِذا كان خصمه ليس يراه ثقة، بل ليس يأْخذ إِلا أَن يحلف.
قال: وبذلك كان يحكم فلان لرجل مشهور في الحكام عندهم. وكذلك هي السنة عندنا قال: والثقة الأَمين، إِذا اشتد عليه إِتيان اليمين عند الدعوى عليه، فإِن أَحب أَن يعطى ويكرم الله ولا يحلف، فقد يجب له أَلا ينكر الدعوى الكاذبة عندما يُعطِى ما طولب به. فإِنه إِن أَنكر وأَعطى، أَوهم أَن المدعى محق وأَنه إِنما أَعطى لمكان اليمين الفاجرة التي لزمته، ولذلك ليس ينبغي أَن يلجئ نفسه إِلى أَن يُطالب باليمين، لأَنه إِذا طولب باليمين فلم يحلف ظن به الكذب.
1 / 53