وأَما هاهنا فنرجع إِلى ما كنا بسبيله، فنقول: إِنه إِذا تبينت الأَسباب الفاعلة للجوْر، تبينت الأَسباب الغائية لواحد واحد منها. أَما الذين يجورون بالاتفاق فليس لهم غاية محدودة، ولذلك لا يكون جوْرهم دائما ولا أَكثريا ولا يكون عن ملكة وهيئة ثابتة. وهذا معلوم من قبل طبيعة ما بالاتفاق. وذلك أَن الاتفاق إِنما يكون سببا للأَشياءِ على الأَقل، على ما قيل في كتاب البرهان. وأَما الجور الذي يكون عن طبيعة الجائر وغريزته فهو عن هيئة ثابتة راسخة.
والأَفعال التي تصدر عن هذه الطبيعة هي أَبدًا بصفة واحدة، وذلك إِما دائما وإِما أَكثريا. وغايتها هي غاية الانفعالات الرديئة التي سيقال فيها فيما بعد. وأَما ما كان منه عن حالة خارجة عن الطبع مثل الجنون وغير ذلك من الآفات التي ليست تجرى مجرى الطبع فقد يظن أَنه منسوب إِلى الاتفاق، وليس ينسب إِلى شيءٍ بالذات. وأَما الأَفعال التي تكون عن الإِكراه، أَعني التي هي باختيار ولكن مبدؤها الإِكراه، فغايتها هي غاية الأَفعال الجائرة التي تكون باختيار؛ إِذ كان الإِكراه يعرض لجميع الأَفعال التي تفعل باختيار. وأَما الجور الذي يكون عن الروية والفكر فغايته: إِما الأَشياء التي يظن بها أَنها نافعة وهي الأَشياءُ التي ذكرت في باب المشورة، وذلك هو الشيء الذي يظن به أَنه خير إِما من جهة أَنه يظن به أَنه غاية نافعة أَو أَنه نافع في الغاية النافعة، وإِما الأَشياءُ اللذيذة.
ولذلك قد يفعل الفجار النافعة كثيرًا من أَجل اللذة.
وأَما الجور الذي يكون عن الغضب فغايته الأَخذ بالثأر. والأَخذ بالثأر هو شيء غير العقوبة، لأَن العقوبة إِنما تكون لمكان المعاقب وذلك إِما للأَصلح له أَو للأَصلح للمدينة، أَو لمكان الالتذاذ بنفس معاقبته. وهذه هي المعاقبة السبعية. وأَما الثأر فإِنما هو قصد مساواة الجناية التي جنى، أَعني أَن يجني عليه بمثل ما جنى. وهذه هي الغاية من الثأر التي يعرضها في نفسه الآخذ به. فأَما معرفة حد الغضب ما هو ومعرفة لواحقه فسيقال فيه بعد، وذلك عند ذكر الانفعالات. وأَما التي تكون بالخلق أَو بالعادة فإِنما تكون لمكان اللذة، وكذلك التي تكون عن الشهوة. ولذلك جميع الأَشياء التي يظن بها أَنها لذيذة فإِنما تفعل من قبل سبب واحد من هذه الأَسباب الأَربعة التي يفعل بها المرءُ من تلقاءِ نفسه، أَعني الروية والغضب والخلق والعادة والشهوة.
واللذات التي تكون عن الخلق والعادة قد تكون على وجوه شتى، أَعني أَن منها ما هو طبيعي، ومنها ما ليس هو طبيعيا، وإِنما يلتذ بها من قبل العادة. وبالجملة فجميع الذين يفعلون الجور من تلقاءِ أَنفسهم، فإِنما يفعلون ذلك إِما من قبل أَشياء هي في الحقيقة خيرات أَو يظن بها أَنها خيرات، وإِما من قبل أَشياء هي في الحقيقة لذيذات، أَو من قبل أَشياء يظن بها أَنها لذيذات. لأَن الذين يفعلون من تلقاءِ أَنفسهم إِنما يفعلون لمكان خير عاجل أَو آجل. ولذلك قد يفعلون لمكان شر ينالهم، إِذا اعتقدوا أَنهم ينالون به خيرًا أَعظم من الخير الذي يفقدون بحدوث الشر، أَو اعتقدوا أَنه يندفع عنهم بذلك شر عظيم أُو يكون اللاحق منه يسيرًا. ولذلك قد نختار أَيضا تعجيل المحزنات والمؤذيات، إِذا اعتقدنا أَننا ننال بها في الآجل خيرًا أَعظم أَو شرًا أَقل من الشر العظيم الذي يتوقع حدوثه إِن لم نفعل ذلك الشيءَ. ويستعمل هذا النحو من القصد في وجوه شتى. وإِذ قد تبين أَن الذي يشتاقه الجائر فهو إِما نافع وإِما لذيذ، فقد ينبغي أَن ننظر هاهنا في النافعات واللذيذات كم هي وأَي هي. لكن الأَشياء النافعة قد تقدم القول فيها في باب المشورة. والذي بقي أَن نفرد القول فيه هاهنا هو القول في اللذيذات. والقول فيها هاهنا وتوفية حدودها إِنما يكون بحسب الكافي في هذه الصناعة وهي الحدود المشهورة وإِن لم تكن حقيقية، فنقول الآن:
1 / 36