وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن المواضع لا يؤلف منها قياس في صناعة مخصوصة، إِذ ما يتصور منها هو عام لأَكثر من صناعة واحدة. وأما الأَنواع فهي التي تؤلف منها المقاييس التي تلتئم منها الصناعة التي تلك الأَنواع مخصوصة بها. لكن الأَنواع التي نحن عازمون في هذا الكتاب على ذكرها ليست هي مقدمات يقينية، لأَنه لو كان ذلك كذلك لكانت المقاييس الخطبية مقاييس يقينية ولم تكن مقاييس جدلية فضلا عن خطبية. والضمائر المعمولة في هذه الصناعة أكثر ذلك إِنما تؤلف من هذه الأَنواع ماكان منها خاصا بجنس جنس من أجناس الخطابة الثلاثة وماكان منها عاما للأَجناس الثلاثة التي تحدد بعد.
قال: وقد يجب إِن يفعل هاهنا في هذه الأَشياءِ مثل ما فعل في كتاب الجدل. فكما إِن ما ذكر هنالك من مواد الأُمور الجدلية قسمت إِلى مواضع وأنواع، كذلك يجب إِن تقسم هاهنا الأُمور التي تعمل منها الضمائر إِلى مواضع وأنواع. والأَنواع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل في صناعة صناعة.
والمواضع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل جزئياتها في صناعة صناعة. فيجب إِن يقال أولًا في الأَنواع، ثم من بعد ذلك في المواضع. وذلك بأن نبدأ أولًا فنحد أجناس الأَشياء الخاصة بهذه الصناعة، أعني أجناس موضوعات هذه الصناعةالخاصة بها. فإِذا حددناها، أخذنا حينئذ في تعديد اسطقساتها ومقدماتها على حدة.
وقد توجد أجناس الأَشياءِ التي تنظر فيها الخطابة من الأُمور الإِرادية ثلاثة، كما يوجد عدد أصناف السامعين للقول الخطبي ثلاثة. وذلك إِن الكلام مركب من ثلاثة: من قائل وهو الخطيب؛ ومن مقول فيه وهو الذي يعمل فيه القول؛ ومن الذين يوجه إِليهم القول وهم السامعون. والغاية بالقول إِنما هي متوجهة نحو هؤلاءِ السامعين. والسامعون لا محالة: إِما مناظر، وإِما حاكم، وإِما المقصود إِقناعه. والحاكم: أما إِن يكون حاكما في الأُمور المستقبلة، وهي النافعة والضارة، وإِما في الأُمور التي قد كانت. والأُمور التي قد كانت: منها ما توجد في الإِنسان باختياره، وتلك هي الفضائل والرذائل، ومنها ما توجد في الإِنسان بغير اختياره، بل من إِنسان آخر، وهو الجور والعدل. والحاكم في الأُمور المستقبلة هو الرئيس، والحاكم في الأُمور الكائنة هو الذي ينصبه الرئيس، مثل القاضي في مدننا هذه، وهي مدن الإِسلام. وأما المناظر فإِنما يناظر بقوة الملكة الخطبية. فإِذن أجناس القول للخطبي ثلاثة: مشوري ومشاجري وتثبيتي. فأما الضمير المشوري: فمنه إِذْن، ومنه منع؛ وذلك إِن كل من يشير إما على واحد من أهل المدينة بما يخصه، أو على جميع أهل المدينة بما يعمهم، فإِنما يشير أبدا بقول هو إذن أو منع. وأما القول المشاجري فهو أيضا صنفان: شكاية وتنصل من الشكاية. وأما القول التثبيتي فهو أيضا صنفان: إما مدح، وإما ذم. والزمان الخاص بالأَشياءِ التي يشار بها هو الزمان المستقبل، لأَنه إِنما يشير إِنسان على إِنسان بأشياءِ معدومة. والزمان الخاص بالأَشياءِ المشاجرية هو الزمان الماضي، لأَنه إنما يتشكى من الأَشياءِ التي قد وقعت. وإِن تشكى من أُمور تتوقع من المشتكى به، فإِنما تلك شكاية على طريق الإِشارة بالنافع في ذلك. وكذلك قد يعرض إِن تكون المشورة في الأَشياِء التي قد كانت، لكن من جهة ما يتوقع منها. فمتى كانت الشكوى في شىء واحد، لا من أجل غيره، فإِنما تكون أبدا في الشيءِ الذي قد وقع. وأما الأَشياءُ التثبيتية: فإِن أوْلَى الأَزمنة بها هو الزمان الحاضر، أعني القريب من الآن. فإِن الناس إِنما يمدحون ويذمون بالأَشياءِ الموجودة في حين المدح وحين الذم في الممدوح والمذموم. وربما مدح بعضهم على طريق الحيلة في استكثار فضائل الممدوح أو مذامّه بالأَشياءِ التي يتوقع حدوثها منه، أو يرجى حدوثها منه، فيخلطون مع المدح الإِشارة على الممدوح بفعل تلك الأَشياءِ.
1 / 12