Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
واختصارا، فإن حد «العقل» هو أن ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، من ظاهر إلى خفي خبيء، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماض ذهب وانقضى ولم يعد مرئيا مشهودا. ومن ثم كان العقل هو الذي يتعقب الحدث إلى أسبابه، أو إلى نتائجه، في الحالة الأولى يكر راجعا من الحدث الظاهر إلى علة حدوثه وقد اختفت، وفي الحالة الثانية يتشوف المستقبل قبل حدوثه، مرتكزا في ذلك على الحدث الماثل في لحظته الراهنة، وأما أن نرى الشيء وقد انكشف وتجلى، فلا عقل في ذاك، بل لا فرق فيه بين عاقل ومخبول. ويحلو لي أن أستشهد بالجاحظ مرة أخرى، في قوله عن الحكيم إنه من يحسن الخطو إلى الهدف الذي يبتغيه، «ويبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون» (رسالة المعاش والمعاد). •••
بهذا التعريف الذي يحدد «العقل» قلنا إن العربي القديم قد تميز به كلما تأمل أو نظر. ومن شأن هذه الوقفة العقلية أن ترد الأشتات إلى وحدة تضمها ضمة المبدأ الواحد لنتائجه المتفرعة، أو العلة الواحدة لسلسلة معلولاتها. إنه - وقد رأى العالم كثرة كثيرة من كائنات - لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الموحد، وحين رأى اللغة تجري على قواعد، أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها، ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على فقه يجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» - وما «فهم» بشيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره - فوقف من العالم، ومن حياته وقفة بصيرة واعية، وهكذا ينبغي أن تكون وقفة العربي المعاصر من عالمه ومن حياته، إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه، وصلا حيا نابضا خصبا ولودا. •••
رسم أرسطو طريق العقل في سيره المحكم، حين صنف رسائله المنطقية، وألف ما سمي بالأورجانون، فمن ذا الذي يلقط الخيط من بعده إذا لم يلقطه العرب الأقدمون؟ فقد كان أرسطو حين يحلل مراحل الفكر المسدد لقومه اليونان، كأنما يوجه تحليلاته تلك إلى المفكر العربي من بعده، ليجعلها هذا المفكر لا مجرد هداية يهتدي بها، بل ليجعلها من أهم علامات المثقف في عصره - وعلامات المثقفين تختلف باختلاف العصور - فلا ثقافة لمثقف إلا أن يتقن - فيما يتقنه - طرائق الاستدلال المنطقي السليم، ولئن نعت أرسطو بأنه المعلم الأول لمنطقه، فقد نعت الفارابي بأنه المعلم الثاني لتقديمه ذلك المنطق إلى العرب.
لماذا لم تستجب الهند - مثلا - للمنطق الأرسطي استجابة العرب؟ قل في الجواب ما شئت، لكن جزءا من الجواب عندي هو أن وقفة العربي من الأمور طابعها العقل، ولو لم يسبقها أرسطو بمنطق يسدد خطاها لكان حتما على العرب أنفسهم أن يستخلصوا لأنفسهم تلك الخطى. •••
وأكاد أسمعك تسألني: أليس «العقل» بخطواته الاستدلالية تلك التي رسم أرسطو بعضها، وبقي على المحدثين أن يرسموا بعضها الآخر؟ أليس هذا «العقل» طابع الإنسان من حيث هو إنسان؟ هل تفيدنا شيئا إذا ميزت العربي أو غير العربي بما هو صفة للإنسانية كلها؟ فأجيبك بان للإدراك وسائل أخرى غير العقل، منها الإدراك بالحدس (أي بالبصيرة) إدراكا مباشرا لا نحتاج فيه إلى مقدمات وبراهين، ثم تأتي الشعوب المختلفة بثقافاتها المتباينة، كما تأتي العصور المتعاقبة المتميز بعضها من بعض بالروح التي تسودها، فيكون لكل شعب، أو لكل عصر، ما يجعل له الأولوية من تلك الوسائل الإدراكية، فمنها ما يعول على تجربة الحواس قبل تأملات العقل ولمعات البصيرة - كالشعب الإنجليزي كما نراه في فلاسفته - ومنها ما يعول على استدلالات العقل القائمة على مقدمات مفروضة أو مشهودة - والعرب من هؤلاء فيما أزعم - ومنها ما يجعل الأولوية للإدراك الحدسي، قبل الحواس وقبل العقل، كالذي نراه في ثقافات الشرق الأقصى، بل كالذي نراه عند المتصوفة جميعا، في كل عصر وفي كل شعب، غاية ما هناك أن هذه النزعة الصوفية الحدسية قد تكثر حتى تسود في شعب أو قد تقل حتى يغض عنها البصر في شعب آخر. •••
ولماذا أذهب بعيدا، وقد نرى الرجل الواحد - إذا اشتد به الوعي - مترددا متحيرا بين هذه الأدوات الإدراكية الثلاث، بأيها يأخذ إذا ما جد الجد وحزب الأمر؟ فهذا هو إمامنا الغزالي يصف لنا مثل هذا التردد أدق وصف وأروعه - في كتابه «المنقذ من الضلال» - وقد انبهمت معالم الطريق أمامه، ويحكي حكايته وكأنما هو في حوار مع تلك الأدوات الإدراكية، تناقشه ويناقشها، «فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ...» ... «فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات، فلعله لا ثقة بالعقليات ... فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ... ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم - إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم - أحوالا لا توافق المعقولات.»
هذا هو رجل واحد يداول الأمر بينه وبين نفسه ليختار من وسائل الإدراك وسيلة يطمئن إليها (وقد اختار آخر الأمر وسيلة الحدس، أي وسيلة المتصوفة في الإدراك المباشر)، فأي غرابة إذا قلنا إن الشعوب أو العصور يتميز بعضها من بعض بسيادة وسيلة إدراكية على الوسيلتين الأخريين؟ إنه لا غرابة، ولقد تميزت الثقافة العربية القديمة - فيما أزعم - باختيارها لوسيلة العقل، برغم ما شهدته من متصوفة جاءوا كرد الفعل الذي يحدث شيئا من التوازن، أكثر مما جاءوا ليكونوا هم اللسان المعبر عن وقفة العربي ونظرته.
بل إني لأعتقد أن الشعب الذي يتميز بالنظرة العقلية، إذا ما رأيناه - في بعض رجاله، أو في بعض حالاته - لائذا بطراوة الوجدان ورخاوته، من ضغط العقل وقسوته (والإدراك الحدسي هو إدراك بالوجدان)، فإنما نرجح عندئذ أن قد أصابه شيء من الوهن والضعف، فالركون إلى حدس الوجدان كثيرا ما يغري عامة الناس دون القادة الأعلام، وهو يغري عامة الناس في عصور التدهور.
الركون إلى حدس الوجدان يعزى أكثر ما يعزى للنساء (عندما كن مرتكزات على الغريزة وحدها) والأطفال وصنوف من الحيوان، فهؤلاء جميعا لا يحسنون ربط الأسباب بمسبباتها؛ ولذلك يكثر منهم السلوك المفاجئ الطارئ غير المطرد وغير المتوقع، وأحيانا يكون هو السلوك المودي بصاحبه إلى تهلكة، ومع ذلك، فإذا ما غلبت روح الانهيار جماعة من الناس، كثر فيهم من يكاد يأخذ بلمحات الأطفال الحدسية، قبل أن يأخذ بنتائج العلماء العقلية، اعتقادا منهم أن الأولين إنما يدركون بالروح الشفافة الصافية، وأما الآخرون فيدركون بالعقل الرذل الثقيل. ومن هذا التشكك في قدرة العقل - في حالات الضعف والمرض والشيخوخة والهزيمة والجهل والفقر والسذاجة - تشيع الخرافة، ويشيع الإيمان بحدوث الخوارق المعجزة التي تقصر العقول العلمية المنطقية دون فهمها.
شهدنا هذه الحالة في فترة الظلام من تاريخنا الفكري - في الثلاثة القرون التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر - فكانت هي الحالة التي ركز عليها المصلحون ضرباتهم لتزول، وعلى رأس هؤلاء كان الإمام محمد عبده. وليس الأمر في ذلك بمقصور علينا، فكذلك حدث في الفكر الأوروبي أن ظهرت دعوات قوية إلى الركون إلى حدس الوجدان، قبل الأخذ بأحكام العقل، كما رأينا - مثلا - في برجسون وغيره، وما ذلك - في رأينا - إلا لخور أصاب الفكر الغربي، فاستجار من العقل بالوجدان، لعله يجد الطمأنينة في فترة سقوطه. •••
Неизвестная страница