تقديم‏

القسم الأول‏

1 - سؤال مطروح‏

2 - عقبات على الطريق‏

3 - ثقافة في تراثنا لا نعيشها‏

4 - غربة الروح بين أهلها‏

5 - صراع ثقافي قديم‏

القسم الثاني‏

6 - ضرورة التحول‏

7 - ثورة في اللغة‏

8 - فلسفة عربية مقترحة‏

9 - قيم باقية من تراثنا‏

10 - شيء عن الإنسان‏

تقديم‏

القسم الأول‏

1 - سؤال مطروح‏

2 - عقبات على الطريق‏

3 - ثقافة في تراثنا لا نعيشها‏

4 - غربة الروح بين أهلها‏

5 - صراع ثقافي قديم‏

القسم الثاني‏

6 - ضرورة التحول‏

7 - ثورة في اللغة‏

8 - فلسفة عربية مقترحة‏

9 - قيم باقية من تراثنا‏

10 - شيء عن الإنسان‏

تجديد الفكر العربي

تجديد الفكر العربي

تأليف

زكي نجيب محمود

تقديم

لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي - قديم أو جديد - حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه؛ لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه. ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ. وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.

ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد؛ إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رصت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت ترص بالمئين، لكن لا، ليست هذه هي المشكلة وإنما المشكلة على الحقيقة هي كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا، فنقول: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟

استيقظ صاحبنا - كاتب هذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه، فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان، كأنه سائح مر بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له من خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل. هكذا أخذ صاحبنا - وما يزال - يعب صحائف التراث عبا سريعا، والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟

وفي هذا الكتاب محاولات للإجابة، ربما أصابت هنا وأخطأت هناك، فلعل القارئ أن يفيد بالصواب وأن يعفو عن الخطأ، لا سيما إذا وجده خطأ من شأنه أن يثير الحوار النافع، حتى ننتهي معا إلى ما يرضي ويريح.

زكي نجيب محمود

جامعة الكويت، في يونيو 1971

القسم الأول

الفصل الأول

سؤال مطروح

لست أذكر في حياتي الفكرية سؤالا قد ألح علي كما ألح علي سؤال طوال الأعوام الخمسة الأخيرة بصفة خاصة؛ فهو سؤال طرح نفسه على المفكر العربي منذ أوائل القرن الماضي، وظفر منه بإجابات تتفاوت إيجازا وإطنابا، وضوحا وغموضا، صوابا وخطأ، ومع ذلك فلم يكن بين تلك الإجابات التي امتدت خلال قرن ونصف قرن، إجابة نحس معها أنها هي التي تقطع الشك بيقين، والحيرة باهتداء. لا لم يظفر السؤال من المفكر العربي بعد بجواب يمكن أن يقال عنه إنه هو الجواب الذي يرسم أمام الناس طريق العمل؛ إذ ما يزال الناس أمامه في الحيرة نفسها التي كانوا يقفون بها أمامه عندما طرح نفسه عليهم لأول مرة في بدايات القرن الماضي، ولا يزال سبيل العمل ملتويا متشعبا يسمح بفرقة شديدة تشطرهم أشطرا متباينة الأهداف متباينة الوسائل، حتى ليتعذر علينا اليوم أن نقول عن الفكر العربي إنه قد أصبح ذا طابع يميزه.

وأما السؤال الذي أشرت إليه، والذي فرض نفسه علينا فرضا طوال أمد ليس بقريب، والذي أحسست بضغطه وإصراره خلال أعوامي الخمسة الأخيرة - أو قل خلال أعوام الستينيات من هذا القرن - فهو الذي يسأل عن طريق للفكر العربي المعاصر، يضمن له أن يكون عربيا حقا ومعاصرا حقا؛ إذ قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضا أو ما يشبه التناقض بين الحدين؛ لأنه إذا كان عربيا صميما، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالا لجديد - وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من قد غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرة هواء يتنفسونها - وأما إذا كان معاصرا صميما، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين.

نعم، قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضا أو ما يشبه التناقض؛ ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقا يجمع الطرفين في مركب واحد، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نار، فهل بين الطرفين مثل هذا التعارض حقا؟ أو أن ثمة طريقا يجمع بينهما؟ ذلك هو السؤال.

وإنه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يجيب في حرارة المؤمن بأنه لا تعارض بين أن يكون الرجل مترعا بالثقافة العربية القديمة، وبما ينبث فيها من قيم ومعايير وطرائق عيش وسلوك وأهداف ووسائل، وأن يكون في الوقت نفسه من أصحاب التخصص الدقيق العميق في ثقافة هذا العصر الذي نعيش فيه، بقيمه ومعاييره وأهدافه ووسائله. أقول: إنه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يقول هذا؛ لأنه ما أيسر على العربي أن يعيش على مستويين لا صلة بينهما، فالقول في ناحية والتطبيق في ناحية أخرى، وهذا في ذاته إرث ورثناه من ثقافة الأقدمين، فليس على العربي من بأس أن يشتعل حرارة إذ هو يتحرك في دنيا اللفظ كلاما أو كتابة، حتى إذا ما فرغ من لفظه انطلق إلى دنيا العمل على نحو مختلف أشد اختلاف. ليس على العربي من بأس في هذه النقلة من لفظ في ناحية وعمل في ناحية، بل إنه على الأرجح لا يتمهل لحظة واحدة ليسأل نفسه وهو مغمور في العمل: أيكون هذا العمل مسايرا لما كنت أقوله أم لا يكون؟ وما أكثر ما صادفنا بين الناس ناسا درسوا هذا الفرع أو ذاك من فروع العلم، كالفيزياء أو الكيمياء أو ما إليهما، ولا ينفكون يزهون أمام الآخرين بدراستهم العلمية التي لم يشبها شيء من أدب وشعر ونحو وصرف؛ فهذه كلها عندهم من علامات التخلف عن العصر وما يقتضيه. ثم يفاجئونك في جلساتهم الخاصة بقصص يروونها عن إيمان وتصديق، تقوم كلها على الخوارق والكرامات التي لا يجوز قبولها إلا إذا أجزنا تعطيل القوانين العلمية؛ فلهم أن يختاروا لأنفسهم أحد وجهين: فإما هم العلماء المعاصرون لروح العلم فيرفضون كل ما ينفي ذلك، وإما هم الوارثون لثقافة غير علمية فيقبلون هذا التذبذب بين أن يكون للطبيعة قوانينها وألا يكون ... لكنهم يحيون في عالمين وهم لا يشعرون، ويحسبون أنهم بهذه المجاورة بين الغرفتين، فآنا هم يسكنون في غرفة العلم المعاصر، وآنا آخر هم يسكنون في غرفة الخوارق والكرامات. أقول إنهم يحسبون أنهم بهذه المجاورة يكونون قد دمجوا الماضي في الحاضر ذلك الدمج العضوي الذي نعنيه حين نلتمس لأنفسنا طريقا يجمع بين التراث الثقافي والفكر المعاصر.

ولست بالطبع أعني أن كل ما ورثناه عن الأقدمين هو هذه الوقفة التي تؤمن بالخوارق والكرامات، ولكني ضربت ذلك مثلا سريعا؛ لأبين به كيف يسهل على العربي - حتى المثقف بالثقافة العلمية - أن يعيش في عالمين لا تربطهما الروابط العضوية، وهو لا يدري.

ولقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها - وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع - وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبا ونترك جانبا كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال. بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهلا كاد أن يكون تاما، والناس - كما قيل بحق - أعداء ما جهلوا.

ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية، فما دام عدونا الألد هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معا. وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص، يحفظ لنا سماتنا، ويرد عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه. لكنني حين أخذت أتعاطف مع هذه النظرة العربية الخالصة، كنت إزاءها بلا حول، فهذا مجال لم يكن لي فيه نصيب يذكر، فلا أنا قد أتيحت لي أيام الدرس فرصة كافية للإلمام بقسط موفور من تلك الثقافة العربية الخالصة - اللهم إلا النزر اليسير الذي كان يتلقاه التلميذ في المدارس المدنية - ولا أنا أستطيع أن أجد الفراغ لأتوفر على الدرس من جديد.

وأحمد الله أن أتاح لي آخر الأمر هذا الفراغ كما أتاح لي مكتبة عربية أقضي فيها بعض ساعات النهار. وها هنا نشأ السؤال مرة أخرى، يلح إلحاحا شديدا هذه المرة، نعم، لا بد من تركيبة عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربا ومعاصرين في آن، ولكن كيف؟ ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلف لنا الأقدمون؟ وهل في مستطاعنا أن نأخذ وأن ندع على هوانا؟ ثم ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وأمريكا كأنها الأعاصير العاتية؟ ثم هل في مستطاعنا أن نقف منها هذه الوقفة التي تنتقي وتختار، وبعد ذلك كيف ننسج الخيوط التي استللناها من قماشة التراث، مع الخيوط التي انتقيناها من قماشة الثقافة الأوروبية والأمريكية، كيف ننسج هذه الخيوط مع تلك في رقعة واحدة، لحمتها من هنا وسداها من هناك، فإذا هو نسيج عربي ومعاصر؟ •••

لقد تعاورني أثناء محاولاتي الفكرية أمل ويأس، فكثيرا ما كنت ألمح مخرجا يؤدي بنا إلى حيث نريد أن ننتهي إلى المزيج الثقافي الذي تكون فيه الأصالة وتكون فيه المسايرة للعصر الراهن، ثم سرعان ما يختفي هذا القبس العابر لينسد أمامي الطريق؛ ولذلك كثيرا ما وقعت في أقوال متناقضة نشرتها في لحظات متباعدة، فلا يبعد أن يجد قارئ مقالاتي والمستمع إلى محاضراتي العامة وإلى الندوات الفكرية التي شاركت فيها، آراء متعارضة لا يتسق بعضها مع بعض؛ وذلك لأنني كنت في كل لحظة صادقا مع نفسي، لكن هذه النفس التي كنت صادقا معها في تلك اللحظات المتفرقة، لم تكن دائما على رأي واحد ولا على شعور واحد؛ فمرة - كما قلت - كانت تظن أنها قد رأت قبسا من نور يعين على الخروج من المأزق إلى حيث نبتغي، ومرة أخرى كانت تنظر فإذا الطريق أمامها مسدود، وكنت أنا في كل مرة أطاوعها وأخلص لها. ففي المرة الأولى كنت أبشر بأن السبيل إلى ثقافة عربية معاصرة قد انفتحت أمامنا أبوابه ونوافذه، وأننا إذا فعلنا كذا وكذا، كانت لنا بذلك فلسفة عربية وأدب عربي وفن عربي وأخلاق عربية وسياسة عربية ونظرة عربية تميزنا ونعاصر بها الآخرين ممن يعيشون معنا في عالم واحد وتعترضهم معنا مشكلات واحدة. وفي المرة الثانية يأخذني اليأس فأكتب أو أتكلم لأقول ألا مخرج من الأزمة، وأننا بين طرفين متناقضين، ولا حل أمامنا إلا أن نبتر طرفا منهما بترا ليبقى لنا الطرف الآخر خالصا، فإما أن نتقوقع في ثقافة عربية ذهب أوانها، وإما أن ننضو عنا هذا الثوب العتيق في غير أسف، لنقد لأنفسنا ثوبا جديدا من القماش الجديد.

هكذا تعاورني أمل ويأس؛ وذلك لأنني لم أقع على المفتاح الذي أفتح به الأبواب المغلقة، بل كثيرا ما شككت بأن يكون السؤال المطروح نفسه سؤالا غير مشروع، وأن علة الحيرة كلها والاضطراب كله، هي أننا نسأل سؤالا هو بطبيعته لا يحتمل الجواب؟ ماذا أنت قائل لمن يسألك: كيف السبيل إلى تربيع الدائرة أو إلى تثليث المربع؟ ألست عندئذ ترفض السؤال نفسه قبل أن تحاول الجواب عنه؟ إن الدائرة دائرة، والمربع مربع، بحيث يستحيل أن يندمج أحدهما في الآخر دمجا يجعل منهما شكلا يجمع شيئا من هذا وشيئا من ذاك. ويحدثنا المناطقة - والمعاصرون منهم بصفة خاصة - فيقولون إن السؤال لا يكون سؤالا مشروعا عند منطق العقل إلا إذا كان له جواب ممكن ولو بعد حين، فمن المشروع - مثلا - أن تسأل: متى يندمج سكان الأرض جميعا في أمة واحدة؟ ولك أن تحاول الإجابة وأنت على وعي بأن الوسائل عسيرة وبعيدة، لكنها ليست مما يستحيل عند العقل، لكنه ليس من المشروع أن تسأل: متى نستطيع أن نجعل الثلاثة عددا زوجيا؟ فها هنا نرفض السؤال قبل أن نحاول الجواب.

كانت - إذن - تأخذني الوساوس أحيانا، أنه ربما كانت علة الحيرة والاضطراب أمام السؤال الذي نطرحه عن طريقة الدمج التي تتيح لنا عجينة قوامها أصالة عربية وتجديد معاصر في آن معا، هي أن السؤال نفسه تنقصه عناصر السؤال المشروع بمعنى أنه يتطلب الجمع بين نقيضين لا يلتقيان.

وفجأة وجدت المفتاح الذي اهتدي به، ولقد وجدته في عبارة قرأتها نقلا عن هربرت ريد؛ إذ وجدته يقول:

إنني لعلى علم بأن هنالك شيئا اسمه «التراث»، ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعة من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة؟ فمثلا هنالك طريقة استخدمها السابقون في حزم الدريس، وأخرى استخدموها في نظم المقطوعات الشعرية (السوناتا) ونستطيع أن نعلم هذه الطريقة أو تلك لمن شاء أن يتعلم ... وإن الحالة التي يعانيها العالم اليوم لهي في رأيي كافية للدلالة على مدى ما تستطيعه الصورة الفكرية التقليدية - كنسية كانت أو أكاديمية - في حل مشكلاتنا، وهي الصور التي يطالبوننا اليوم بأن نحيطها بالتبجيل والتقديس لأنها هي التراث ...

أقول: إنني وجدت في هذه العبارة مفتاحا للموقف كله، فماذا عسانا أن نأخذ من تراث الأقدمين؟ الجواب هو: نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقا عمليا، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة، فكل طريقة للعمل اصطنعها الأقدمون وجاءت طريقة جديدة أنجح منها، كان لا بد من اطراح الطريقة القديمة ووضعها على رف الماضي الذي لا يعنى به إلا المؤرخون. بعبارة أخرى: إن الثقافة - ثقافة الأقدمين أو المعاصرين - هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا.

المدار هو العمل والتطبيق، المدار هو ما يعاش به، هو ما يستطاع سلكه في جسم الحياة كما يحياها الناس، أو كما ينبغي لهم أن يحيوها، فإذا ألفيت عند السلف طريقة تنفعني اليوم في بناء المنازل، أو في رصف الطرق، أو في إقامة الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، أو في طرائق التعبير باللفظ عما يريد الناس أن يعبروا عنه مما تعتمل به نفوسهم اليوم، كان ذلك هو التراث الذي تحييه، وأما ما يبقى فلا مندوحة له عن أن يظل راقدا في أجداثه، مجالا لمن شاء من المؤرخين.

على أنه ليس كل من يأخذه ابن اليوم من إنسان الأمس جائز القبول، حتى ولو كان أداة من أدوات الحياة العملية. فالفلاح المصري قد ورث عن جده القديم طريقته في حرث الأرض وريها، لكنه تراث ظهر له اليوم من آلات البخار والكهرباء ما ينسخه، فعندئذ لا يجوز لهذا الفلاح أن يحتج على أدوات عصره قائلا: لكن المحراث والشادوف والساقية هي تراثي من الآباء والأجداد، برغم أنه تراث عملي نافع في حدوده. والفلاحة المصرية قد ورثت عن جدتها القديمة طريقتها في تشييع موتاها، لكننا لا نتردد في رفض تراث كهذا، ونتمنى له الزوال السريع.

وإني لأعلم أن من القراء ممن سيأخذه العجب لهذه الأمثلة التي أسوقها تدليلا على التراث، متى يجوز بقاؤه ومتى لا يجوز، قائلا لنفسه: ليس هذا هو التراث الذي نعنيه حين نتحدث عن حياتنا الثقافية كيف ينبغي لها أن تكون، وماذا يجب أن تستمده من «التراث» وماذا يجب أن تهمله، فليس المحراث والشادوف وصرخات المرأة الحزينة المشيعة لفقيدها جزءا من «التراث» بهذا المعنى الذي نعنيه، إنما نعني في هذا الصدد شرع الدين ونظم الشعر وإرسال الحكمة، والشجاعة في القتال، وإكرام الضيف، وما إلى هذه الجوانب من حياة أسلافنا، وما قيل فيها وما روي بشأنها. لكنني أقول للمعترض بأنه لا فرق في الأساس والجوهر - ما دمت قد جعلت قاعدتي ما أستطيع أن أستمده من الأسلاف من طرائق العمل في الحياة اليومية الجارية - لا فرق بين أن يكون الذي أتعلمه من السابقين هو طريقة حرث الأرض أو طريقة نظم الشعر أو طريقة توزيع المواريث على مستحقيها أو طريقة التعاقد على زواج أو الاحتفال بمولود جديد أو إقامة الشعائر الملائمة للجنازات ودفن الموتى. كلها وسائل نعيش بها ونسلك على أساسها. فإذا فعلنا كنا بمثابة من أدخل تراث الماضين في صلب حياته الحاضرة، وإذا رفضنا كنا رافضين لهذا التراث أن يكون جزءا من هذه الحياة.

فإذا كان السؤال المطروح هو: كيف السبيل إلى دمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة، لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آن؟ كانت طريقة الإجابة السديدة هي أن أبحث عن طرائق السلوك التي يمكن نقلها عن الأسلاف العرب بحيث لا تتعارض مع طرائق السلوك التي استلزمها العلم المعاصر والمشكلات المعاصرة.

الفصل الثاني

عقبات على الطريق

مهما يكن المصدر الأول الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة والعلم، ثم يعود فيبني على تلك المبادئ سائر أحكامه وأفكاره ومعتقداته ومذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيا من السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لمعات حدسية اهتدت بها البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان. أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة والعلم، قد يكون بابا من هذه الأبواب، ثم يسلط الإنسان على تلك «المبادئ» قوته الاستدلالية - وذلك هو «العقل» - ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن يستخرجه من أحكام وأفكار. ومهما يكن ذلك المصدر الأول - وقد اختلف الفلاسفة في أيها تكون له الصدارة - فهنالك شرط لا بد من الوفاء به؛ لكي تستقيم لنا المعرفة الصحيحة بعد ذلك، وهو أن يمحو الإنسان أخطاءه التي كان قد زل فيها قبل أن يستقي العلم من مصدره المختار، وأن يسد الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاوده من جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ إذ لا يجدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين يكون وعاء الباطل ما زال هنالك قائما إلى جواره، فالباطل - على مر الزمن - قمين أن يفسد الحق، كما تفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح، فإذا جاء الحق وظهر - بأية وسيلة من وسائله - وجب كذلك أن يزهق الباطل في اللحظة نفسها؛ فإقامة الصواب وتصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب والسلب يسيران معا، الأول يثبت ما يستحق الإثبات، والثاني يمحو ما لا بد أن يمحى.

وهذا بعينه هو ما حرص على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعا، على اختلاف أزمانهم وتباين مناهجهم؛ فهم - إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد - يجمعون على إزالة الباطل وطمس مصادره؛ لتتم لهم إقامة الحق وتفجير منابعه، فذلك هو سقراط، حين أراد أن يقيم للفكر السليم منهجا جديدا يقاوم به ما ظنه باطلا عند جماعة السفسطائيين - فقد كان هؤلاء السفسطائيون يشيعون في الناس رأيا بأن الإنسان الفرد هو مقياس الحق لنفسه، فما تراه أنت حقا فهو حق بالنسبة إليك، وما أراه أنا حقا فهو كذلك حق بالنسبة إلي. وواضح أن مبدأ كهذا من شأنه أن يجعل لكل فرد من الناس معياره الخاص فيما هو صواب أو خطأ، وفيما هو فضيلة أو رذيلة - فأراد سقراط أن يقيم منهجا عقليا قويما، تقاس به الأفكار والأحكام؛ ليضع أمام الناس جميعا قاعدة واحدة مشتركة، بحيث لا يبقى بعد ذلك احتكام إلى نزعة فردية أو هوى.

لكنه قبل أن يقيم هذا الميزان العقلي - أو قل إنه بالعملية نفسها التي أراد بها أن يقيم هذا الميزان - أخذ في الوقت نفسه ينكت صدور الناس وأفئدتهم لعله يقع فيها على مصادر الخطأ والضلال فيزيلها، بل ربما كان أشد اهتماما بأن يبين للناس أين يخطئون، منه بأن يظهر لهم وجه الصواب في المسألة المعينة التي يحدث أن تكون مطروحة للحوار بينه وبينهم، إنه لم يزعم لنفسه قط معرفة يقينية بشيء، حتى لقد قال عنه أرسطو بعد ذلك: كان سقراط يثير المشكلات ثم لا يقدم لها الحلول. ولم يكن سقراط غافلا عن حقيقة موقفه السلبي هذا، لكنه أيقن أن رسالته الحقيقية هي في تطهير العقول أولا، لعلها بعد ذلك تتهيأ للوصول إلى الحق.

ومضى الزمان بعصوره التي توسطت بين قديم وحديث، ونهضت أوروبا نهضتها المعروفة، التي كان من نتائجها هذا التقدم العلمي العجيب، الذي ننعم اليوم بثمراته ونشقى، أفتدري ماذا كان المفتاح الذي أداره الناس فإذا الأرض غير الأرض والسماء غير السماء؟ هو أن استبدلوا منهجا بمنهج، وفي المنهج العلمي الجديد كمن السر كله والقوة كلها. كان الناس قبل ذلك ينهجون في تفكيرهم نهجا لا يصلح إلا في نطاقه الخاص، وهو أن تكون هنالك تركيبة لغوية فاستخرج منها تركيبة أخرى؛ ولذلك كاد «العلم» كله إبان القرون الوسطى - في شرق الدنيا وغربها على السواء - ينحصر في استخراج النتائج من نصوص يضعونها بين أيديها، ثم يعملون فيها مشارط التحليل، وقد يكون النص وحيا أوحي به أو تراثا قديما هبط إليهم من السلف، لكن الطريقة واحدة في كلتا الحالتين، أما وقد أراد الناس أن يلفتوا وجوههم لفتة جديدة، يطالعون بها الكون الفسيح بأفلاكه وبحاره وسهوله وجباله، فلم يعد يجدي أن ننظر في نص مكتوب أمامنا لنحلله ونشرحه ونستخرج ما خفي من معانيه، أو قل إن هذا النظر المنكب على الصحائف لم يعد يكفي، وكان لا بد من طريق جديد يسلكه الباحثون ليكشفوا الحجب عن سر «الطبيعة» التي تبدي أمام النواظر «ظواهرها» وتخفي وراء الظواهر «قوانينها»، فكيف السبيل أمام الإنسان ليكشف الغطاء عن تلك القوانين؛ لأنه إذا ما فعل، أمسك باللجام وامتطى وسار، بل غاص وطار، وطوى الطبيعة كلها في قبضة يده.

كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلا منهما رجل: أما أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئا من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي وما وراءه. وأما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون، الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئا من الطبيعة الخارجية وما نشاهده في ظواهرها، ثم نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها ونكون على يقين من صوابها.

ولكن ليختلفا كيف شاءا في اتجاه السير ماذا يكون؟ أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نفوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ واقتلاع جذوره، حتى تبذر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.

فالرجلان معا يلتقيان في أن المعرفة الصحيحة كان ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن اعترضتها العوارض فسدت عليها الطريق؛ عوارض من أوهام الإنسان ونزواته وميوله وأهوائه ورغباته وشهواته وما قد يصيبه من تعصب وتسرع، ومن خضوع سهل لذوي الشهرة والنفوذ من أقدمين ومحدثين ومعاصرين. لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق ما دامت نفسه وما يجري فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر (هذا ديكارت)، وما دامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق الأمين (وهذا بيكون). لماذا يقع الإنسان في الخطأ، والباطن قائم أمام بصيرته والظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن تضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟ فلماذا تفعل، وما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟

لا بد أن تكون هنالك عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رءوسنا قد ملئت - على غير وعي منا - بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ ولهذا عني الرجلان - ديكارت وبيكون - أول ما عنيا بأن يدقا في الرءوس دقا عنيفا؛ لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد. •••

وعقيدتي هي أن في تراثنا العربي - إلى جانب عوامل القوة التي سنذكرها في حينها - عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وأنه لمن العبث أن يرجو العرب المعاصرون لأنفسهم نهوضا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه؛ إنه لا بناء إلا بعد أن نزيل الأنقاض ونمهد الأرض ونحفر للأساس القوي المكين.

وسأكتفي من هذه العوامل المعوقة بثلاثة:

الأول:

أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغير أداة التعريف) بحيث لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.

الثاني:

أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وما أعادوه ألف ألف مرة، لا أقول إنهم أعادوه بصور مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة تتكرر في مؤلفات كثيرة، فكلما مات مؤلف، لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق على مؤلفه اسما جديدا؛ فظن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء.

الثالث:

الإيمان بقدرة الإنسان، لا كل إنسان بل المقربون منهم، على تعطيل قوانين الطبيعة عن العمل كلما شاءوا، على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون - على صعيد الدولة - أن يعطلوا قوانين الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها.

وسأتناول كلا من هذه العوامل الثلاثة بشيء من التوضيح: (أ) احتكار الحاكم لحرية الرأي

إننا إذ نريد تحديد موقفنا من تراثنا، تحديدا يجعل الخلف موصولا بالسلف، دون أن تفوت هذه الصلة على الخلف أن يعيش في عصره ولعصره، فلست أرى مندوحة لنا عن وقفة من ذلك التراث، تميز بين ما نحييه ليحيا، وما نطمسه ليموت، صنع الوارث العاقل، الذي لا يخزن إرثه في الخزائن، ثم يطوف بتلك الخزائن المغلقة عابدا، بل تراه يستخدم الإرث بما يعود عليه بالثمرة والنماء، فليس إرثه في حد ذاته حياة، وإنما هو وسيلة حياة، فإما صلح وسيلة وأداة، وإما نحيناه عن الطريق غير آسفين.

وإن ذلك المعيار العاقل نفسه، ليحمل في طيه إشارة إلى أول ما ينبغي أن نتنكر له من تراثنا، وهو أن نحتكم إلى التقليد حيث يمكن تحكيم العقل. ألا إن في تراثنا ما يقيم للعقل قوائمه، فذلك - إذن - هو الجانب الجدير منا بأن نصل به حاضرنا بماضينا، لكن في تراثنا كذلك خطأ مضادا، أوشكت الغلبة أن تكون له في عصور الضعف، وهو الخلط الذي يركن إلى الأسهل الأيسر، فيستنيم للتقليد، فيمضي الزمن والمقلدون نائمون على مخادع الماضي الذي يقلدونه، أو - على الأصح - الماضي الذي يزعمون أنهم يقلدونه. وحقيقة الأمر هنا هي أنهم - مثل دون كيخوته - يقلدون الفرسان الأصائل بلبس الدروع، لكنهم يضعون الدروع على خواء لا فروسية فيه، فينهارون لأول نفخة ينفثها هواء. وهذا هو أبو العلاء المعري ينظر إلى عصره - وعصره من عصور الضعف السياسي والتفكك - فيقول في وصف ما يرى: «وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير.» ثم يستأنف القول بعد بضع صفحات، ليقرر أن الطفل الناشئ يظل يعيد ما سمعه، حتى يثبت في نفسه كأنه الحق. «والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه، كنقل الخبر عن المخبر، لا يميزون الصدق من الكذب ... وإذا المجتهد نكب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد، وإذا المعقول جعل هاديا، نقع بريه صاديا ، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل؟ ... هيهات!» «وربما لقينا من نظر في كتب الحكماء، وتبع بعض آثار القدماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور.»

فنحن إذ نثور على أتباع التقليد الغبي الأعمى، فإنما نثور على جانب من التراث بجانب آخر منه، فأبو العلاء الثائر على المقلدين، هو نفسه جزء من تراثنا، كما أن المقلدين جزء آخر، فأي سبيل لنا - نحن أبناء هذا العصر - يمكن أن تكون أوضح سبيلا وأهدى، من أن نقلب في الموروث؛ لنأخذ جزءه العاقل المبدع الخلاق، وننبذ جزءه الآخر الخامل البليد؟ نأخذ جزءه العاقل المبدع الخلاق، لا لنقف عند مضمونه وفحواه، نبدي ونعيد، بل لنستخلص منه الشكل؛ كي نملأ هذا الشكل بمضمون من عصرنا ومن حياتنا ومن خبراتنا. وإنما قصدت بالشكل هنا «القيمة» أو طريقة النظر وميزان الحكم، كمن يستعير من صاحبه منظارا مقربا أو مكبرا، لا لينظر به إلى المشهد نفسه الذي كان ينظر إليه صاحب المنظار، بل ليكون له هو مشهده الخاص وإدراكه المتميز الأصيل، برغم المشاركة مع الآخر في منظار واحد.

فإذا أخذنا عن الأسلاف منظار العقل، الذي استخدموه وهم أشداء أقوياء، انبثقت لنا على الفور أسس جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية بدل الأسس السائدة. والأسس الجديدة المرجوة هي أسس الحوار الحر الذي تتعادل فيه قامات الناس، وإن تفاوتوا بعد ذلك في سداد الرأي وقوة الحجة. وأما الأسس التي نريد لها الزوال، فهي تلك التي تجيء فيها الفكرة من عل، لتهبط كالقدر على رءوس الناس، وعندئذ يكون الصواب هو المعيار الذي تمليه تلك الفكرة «السامية»، ويكون الخطأ هو الجرأة على مناقشتها فضلا عن الجرأة على تجريحها والتمرد عليها.

الأصل في الفكر - إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم - هو أن يكون حوارا بين «لا» و«نعم» وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد. الله وحده هو الذي وسع كرسيه السموات والأرض، فاتسع علمه للحق كله، يعلمه علم اليقين، علما ليس فيه «إما ... وإما ...» أما علمنا نحن البشر، فأقصاه معرفة تحتمل البدائل، نرجح فيها بديلا على بديل، فما من فكرة إلا وتحتمل أن يكون نقيضها هو الصواب، وكل ما يسعنا - ونحن نفكر في مشكلة معروضة - هو أن نتقصى جميع الممكنات، ليقوم بينها حوار، يثبت أحدها ويقصي سائرها. وغالبا ما تتمثل هذه الممكنات الكثيرة في أفراد كثيرين، كل منهم يعرض حلا ممكنا على أنه هو الرأي الذي يراه، ومن الأخذ والرد خلال عملية الحوار، نقبل من الآراء المعروضة ما نقبله، ونرفض ما نرفضه؟ على أن القبول هنا يكون قبولا لما «نظن» أنه الصواب، ويكون الرفض رفضا لما «نظن» أنه الخطأ، وهذا الظن الذي هو سمة لا مندوحة عنه في فكر البشر، هو الذي يجعل الصواب المقبول صوابا يحتمل الخطأ، كما يجعل الخطأ المرفوض خطأ يحتمل الصواب. وبمثل هذه النظرة إلى «نعم» و«لا» يصبح نسبيا ما حسبناه بادئ الأمر مطلقا، ويصبح مبصرا ما كان بادئ الأمر مكفوف البصر، في مواقف القابلين والرافضين.

لم تكن مصادفة أن أخذ سقراط يطوف في الأسواق محاورا، كلا ولا هي مصادفة أن ساق لنا أفلاطون فكرة في حوار، ولكنه كان في الحالتين أمرا مدبرا منهما مقصودا؛ ليكون أمام الناس من بعد، بمثابة الإعلان عن حرية الفكر كيف تكون، بل ليكون بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له عن طريق التاريخ (فما قد كان قبل تلك المرحلة إنما كان اعتقادات تؤمن بها القلوب، أو تطبيقات شهدت بنجاحها الممارسة والفعل). أقول إن أسلوب الحوار عند سقراط وأفلاطون، قد كان بمثابة الإعلان يعلنه الفكر ذاته في أول مرحلة له على طريق التاريخ، بأنه يريد لنفسه أن يكون سؤالا وجوابا، أخذا وعطاء، يريد لنفسه أن يكون حصيلة مداولة ومجادلة ومقاولة، تنصب على العقدة المعروضة للحل، إلى أن تنحل العقدة خيوطا خيوطا، وحتى تنفصل لحمة المشكلة عن سداها، وتتعرى هياكل الأفكار والمذاهب، عندئذ نبصر في جلاء أين في تلك الأنسجة مصادر الخطأ وأين فيها موارد الصواب، أين في بنيانها حكم العقل وأين نزوة الهوى؟ حتى إذا ما غربلنا الخليط، وأبعدنا الغلال عن الحصى، كان لنا عندئذ أن نضم الصواب إلى الصواب فتكتمل في أذهاننا صورة الحق الذي نسير به على صراط الهدى.

تلك هي طبيعة الفكر الحر؛ أن يكون حوارا متعادل الأطراف، لا يأمر فيه أحد أحدا، ولا يطيع فيه أحد أحدا، إلا بالحق، ليس فيه رجحان للموتى على الأحياء، ولا تفضيل لطائفة من الأحياء على طائفة. أما إذا انقلب الوضع وانعكس، فأصبح ما نسميه «فكرا» هو أن يأمر آمر ليصدع بأمره مطيع، واختصر الطريق الذي كان بين المتحاورين جيئة وذهابا، فبات طريقا في اتجاه واحد؛ أعني أن يكون جيئة ولا ذهاب، أن يكون هبوطا ولا صعود، أن يكون قولا من هناك وسمعا وطاعة من هنا، فعندئذ قل على حرية الفكر السلام. ومن يتوهم في نفسه الحرية يومئذ، يكن كالحجر الذي تحدث عنه سبينوزا في الكون الذي صوره محتوم السير؛ فنظام الكون المجبر يقتضي أن يلقى الحجر، وأن يتخذ المسار الفلاني، وأن يسقط عند النقطة الفلانية من الأرض، في اللحظة الفلانية من لحظات الزمن، لكن الحجر - في سيره المجبر المرسوم - إذا فرضنا أنه ذو وعي يعي ولسان ينطق، لسمعناه يقول إنه قد قرر لنفسه أن يسير حيث يسير، وأن يقع على الأرض حيث يقع. •••

أس البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، فإذا جلا لك صاحب السيف صارمه، وتلا عليك باطله، زاعما أنه هو وحده الصواب المحض والصدق الصراح، فماذا أنت صانع إلا أن تقول له «نعم» وأنت صاغر؟ ... هذه صورة رسمها أبو العلاء بقوله:

جلوا صارما، وتلوا باطلا

وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم

وهكذا كانت الحال في جزء من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت، فلقد يكون للأمير أو للوزير رأي، فيكون الويل عندئذ لمن خالف ... يجلس الأمير أو الوزير، ورأيه في رأسه، والسياف إلى جواره، ثم يمثل المخالف بين يديه، وفي مثوله هذا يكون الختام؛ وهل تظن أن صاحب السلطان عندئذ يقصر حكمه على المعلن المنطوق من فكر خصمه؟ لا، والله، فإنه ليكفيه أحيانا أن تكون الفكرة قد دارت في سريرة الخصم دون أن يعلنها أو ينطق بها. فانظر - مثلا - إلى موقف الخليفة المهدي من بشار:

دعا المهدي بشارا إلى حضرته، وأحضر معه النطع والسياف.

قال بشار للخليفة: علام تقتلني؟

أجاب المهدي: على قولك:

رب سر كتمته فكأني

أخرس، أو ثنى لساني عقل

ولو أني أظهرت للناس ديني

لم يكن لي في غير حبسي أكل

فقال بشار: قد كنت زنديقا، وقد تبت عن الزندقة.

أجابه المهدي: كيف وأنت القائل:

والشيخ لا يترك عاداته

حتى يوارى في ثرى رمسه

إذا ارعوى عاد إلى غيه

كذي الضنى عاد إلى نكسه

لكن غافله السياف، فإذا رأسه يهوي على النطع ... وقضي على الشاعر، لم ينفعه كتمان رأيه، ولم يشفع له أن أعلن توبته. وإنا لنسأل: ماذا لو كان على عقيدة تخالف عقيدة خليفة المسلمين؟ ألم يكن يكفي هذا الخليفة أن يقول لمن خالفه: «لكم دينكم ولي دين»؟

وانظر إلى قصة الحلاج المتصوف بعد بشار الشاعر؛ قال هذا المتصوف ما قاله عن مذهبه في الحلول، وناظره علي بن عيسى الوزير، وضاق به، فقال له آخر الأمر: تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها ... ما أحوجك إلى أدب!

لو اقتصر الوزير على المناظرة رأيا برأي ومذهبا بمذهب لما وجدنا في الأمر إلا ما يدعونا إلى الزهو بماضينا الفكري، أما هذه الخاتمة المنذرة التي ختم بها الوزير حديثه، وهي أن الحلاج في حاجة إلى وزير يؤدبه، فتلك هي الطامة؛ لأن السلطة عندئذ تختلط بالرأي. ولقد حدث بالفعل أن أمر السلطان بضرب الحلاج ألف سوط، وبقطع يديه، ثم بإحراقه بالنار.

كان ذلك - إذن - مصير شاعر اختلفت عقيدته، وكتم اختلافه في صدره ابتغاء التقية فما أفلح معه كتمانه، ومصير متصوف ذهب في تصوفه مذهبا لم يقبله أولو الأمر، فكان جزاؤه ما كان من ضرب بالسياط، وتقطيع لليدين، وإحراق بالنار. فانظر بعد ذلك إلى قصة أديب ناثر وحكيم لا نزال إلى يومنا هذا نقرأ له أدبه الساحر وحكمته النافذة، هو ابن المقفع.

كان بالبصرة عندما كان سفيان بن معاوية نائبا عن الخليفة فيها، وكان بين الرجلين - سفيان وابن المقفع - مناوشات ومغايظات، لم يخل بعضها من ظرف وفكاهة، كأن يكون سفيان كبير الأنف، فيتعمد ابن المقفع إذا ما دخل عليه أن يقول السلام عليكما، كأنما أنف الرجل لضخامته رجل آخر يصاحبه. وكأن يقول سفيان ذات يوم لابن المقفع - ردا على قول ابن المقفع عن نفسه إنه ما ندم قط على سكوت: صدقت، فالخرس لك خير من كلامك.

وهكذا أخذ الرجلان يتبادلان قوارص الكلمات، لكن مع هذا الفارق الكبير، وهو أن أحد الرجلين كان ذا سلطان، وأما الآخر فبضاعته أدب وفكر؛ فلبث صاحب النفوذ والجاه يدس لصاحبه عند الخليفة المنصور في بغداد، حتى ظفر منه بالإذن أن يقتل الأديب الحكيم، فهل يقتله كما يقتل المجرمون؟ لا، فللأدباء الحكماء ضروب أخرى من التعذيب؛ فقد أحمى سفيان لفريسته تنورا، وجعل يقطع من جسم ابن المقفع شريحة بعد شريحة - وهو حي - ويلقي بالشريحة في التنور، ليرى المسكين أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، قبل أن تحرق بقيته دفعة واحدة آخر الأمر.

على أن الخبر الخاص بما يسمونه محنة القرآن: أقديم هو أم حادث؟ كاف وحده لتصوير العلاقة بين صاحب القوة السياسية والأعزل منها، حين يقع بينهما اختلاف في الرأي، مهما تكن منزلة هذا الأعزل بين أهل العلم؛ فليأذن لي القارئ في إطالة الوقوف هنا لأقدم له صورة وافية بتفصيلاتها؛ ليفهم ما أعنيه حين أقول إن الجالس على دست الحكم، كان في الوقت نفسه هو صاحب الرأي الذي لا رأي سواه، فإما اتفقت معه فنجوت، وإما اختلفت فالويل لك ويلا لا تدري متى يبدأ ولا كيف ينتهي.

كان هنالك رأيان عن القرآن، من حيث الحداثة والقدم، يذهب أحدهما إلى أن القرآن لكونه كلام الله فلا يعقل ألا يكون أزليا مع أزلية الله، وإلا فهل جاء زمن كان الله فيه بغير كلامه - أي بغير علمه - إلى أن شاء فأنزله على رسوله؟ ويذهب الرأي الثاني إلى أن القرآن حادث، بمعنى أنه لم يوجد إلا وقت نزوله، وأما قبل ذلك فلم يكن.

وكان هنالك من الفقهاء والمتكلمين من يأخذون بالرأي الأول - ومنهم الإمام أحمد بن حنبل - وتصادف أن يكون الخليفة المأمون ممن يأخذون بالرأي الثاني، فهل يترك كل رجل وشأنه فيما يرى؟ لا، بل يأخذ الخليفة لنفسه حق التنكيل بمن لا يرى رأيه على النحو الذي سنصوره للقارئ، على أني إذ أقدم للقارئ هذه الصورة، فلست أعني أنني أناصر طرفا دون الآخر من طرفي النزاع، هذا واضح؛ إذ أقل ما يقال هنا هو أن المشكلة بأسرها لم تعد مشكلة لنا اليوم مما يستدعي التعصب لرأي دون رأي، وإنما أقدم هذه الصورة للقارئ ليرى فيها شيئين، ذكرت له أولهما، وهو أن صاحب الحكم في عرف أسلافنا كان هو نفسه صاحب الرأي، ويحق له أن يسحق كل رأي سواه. وأما الثاني فربما كان أبشع من ذلك وأفظع، وهو أننا - نحن أبناء هذا العصر - نقرأ أمثال هذه الأخبار في مراجعها، فنكاد نمر عليها كما لو كانت هي الحالة الطبيعية للأمور، فمن المألوف عند الكثرة الغالبة منا أن يقرأ القارئ منهم أخبار السلف، فيجد فيها أن الخليفة الفلاني أو الوزير الفلاني قد استدعى هذا الفقيه أو ذلك المحدث أو الشاعر، أو من شئت من رجال الفكر والأدب، واختلف معه فأمر بقتله أو بسجنه أو بضربه، أو اتفق معه فأمر بأن يخلع عليه كذا وأن يمنح كيت. أقول إنه من الطبيعي المألوف عند الكثرة الغالبة منا أن تقرأ أمثال هذه الأخبار، فلا تأخذ الدهشة أحدا، بل إن القارئ منا بعد أن تصادفه عشرات الأمثلة من هذا القبيل المتعسف، تراه يخرج من ذلك كله وهو ما يزال على إيمانه بوجوب إحيائنا للتراث، بغير تفرقة بين جيد ورديء.

فيروى أن الخليفة المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ليمتحن القضاة والمحدثين، وقد جاء في رسالته ما يقطع به أن القائلين بقدم القرآن - أي القائلين بغير المذهب الذي يعتقد هو أنه الصواب - ليسوا مجرد مخالفين له في الرأي والمذهب، بل لا بد أن يكونوا «من حشو الرعية، وسفلة العامة ... وأهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه ...» وغير ذلك من نعوت؛ مما يدل دلالة مسبقة بما يعتزم أن ينزله على مخالفيه من تعذيب وإيذاء. وحسبنا أنه قد جعل نفسه في قضية فكرية كهذه خصما وحكما.

بدأت المحاكمة، فأحضر إسحاق بن إبراهيم جماعة من الفقهاء والقضاة والمحدثين - وكان بينهم أحمد بن حنبل - وقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، ثم توجه إليهم بالأسئلة واحدا واحدا. وستلحظ في النماذج التي نقدمها فيما يلي، كيف ضعف فريق أمام الهول المنتظر؛ فاستسلموا قائلين إننا نأخذ بما يأمرنا أمير المؤمنين أن نأخذ به، وظل فريق مستمسكا برأيه، لكن حتى هذا الفريق الثاني، تعرض للامتحان يوما بعد يوم، وفي كل يوم كان يضعف منهم واحد فتفك عنه الأغلال، حتى لم يبق آخر الأمر في قيده إلا اثنان، هما أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح. وستلحظ كذلك في هذه النماذج التي نقدمها مقدار الحيطة والحذر في إجابات الفقهاء الذين خضعوا للمحنة، كأنهم آثمون في ساحة القضاء، أرادوا إخفاء معالم إثمهم بالحذر الشديد في ضبط الإجابة وإيجازها، حتى لا تفلت منه لقطة زائدة قد تودي به إلى التهلكة.

دار الامتحان مع بشر بن الوليد على الوجه التالي:

إسحاق :

ما تقول في القرآن؟

بشر :

أقول القرآن كلام الله.

إسحاق :

أمخلوق هو؟

بشر :

الله خالق كل شيء.

إسحاق :

ما القرآن بشيء؟

بشر :

هو شيء.

إسحاق :

فمخلوق هو؟

بشر :

ليس بخالق.

إسحاق :

أسألك أمخلوق هو؟

بشر :

ما أحسن غير ما قلت لك.

وجاء بعد ذلك امتحان علي بن أبي مقاتل، فكان الحوار كما يلي:

إسحاق :

ما تقول يا علي، القرآن مخلوق؟

علي :

القرآن كلام الله.

إسحاق :

أمخلوق هو؟

علي :

هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء، سمعنا وأطعنا.

ثم جاء امتحان أبي حسان الزيادي، على النحو الآتي:

إسحاق :

القرآن مخلوق هو ؟

الزيادي :

القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، إن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.

وبعده جاء دور ابن حنبل، فكان الحوار الآتي:

إسحاق :

ما تقول في القرآن؟

أحمد :

هو كلام الله.

إسحاق :

أمخلوق هو؟

أحمد :

هو كلام الله، لا أزيد عليها.

وهكذا مضى الامتحان، حتى إذا ما فرغ إسحاق بن إبراهيم من مهمته، كتب إلى المأمون بما أجاب به القوم رجلا رجلا. وبعد تسعة أيام، جاء رد المأمون وبه تعليقات على كل إجابة على حدة، فأعيد امتحانهم، فأجابوا جميعا هذه المرة أن القرآن مخلوق، إلا أربعة كان من بينهم أحمد بن حنبل.

فأمر إسحاق بهؤلاء الأربعة فشدوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجاب أحدهم إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الثلاثة الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد، عاودهم مرة أخرى، فأجاب أحدهم إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله.

وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما ولم يتراجعا، فشدا في الحديد، حتى يفرغ أمير المؤمنين فيقضي في أمرهما بما يشاء.

لكن المأمون جاءه الأجل قبل أن يقضي في أمر الرجلين وجاء المعتصم، فأحضر أحمد بن حنبل من سجنه ليلقاه، بعد أن زادوا في قيوده. ويروى عنه أنه قال في وصف رحلته إلى المعتصم مكبلا بالحديد: «لم أستطع أن أمشي بأغلال الحديد، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم ...»

ومضى ابن حنبل يروي قصته فقال: «... ثم دعيت، فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي - وعنده ابن أبي دؤاد - قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن؟ وهذا شيخ مكتهل؟!

فلما دنوت من المعتصم، وسلمت، قال إلى وزيره: أدنه.

فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس.

فجلست، وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين! إلام دعا ابن عمك رسول الله

صلى الله عليه وسلم ؟

قال المعتصم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.

قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك. ...

قلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.

قال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟

قلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ ...

قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال، مضل، مبتدع.» «وجرت مناظرات طويلة بين القضاة والفقهاء الحاضرين وبين ابن حنبل، يوما ويوما وثالثا، وكان ابن حنبل في كل مرة يسكتهم بقوة حجته، وقد كان الخليفة المعتصم يتلطف إلى ابن حنبل، ويعده بأحسن الجزاء لو أنه عدل عن إصراره.»

قال المعتصم: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي، وممن يطأ بساطي.

قلت: يا أمير المؤمنين! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله، حتى أجيبهم إليها.

قال إسحاق بن إبراهيم - نائب بغداد - الذي كان أجرى المحنة أولا: يا أمير المؤمنين! ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.

قال الخليفة: خذوه، واخلعوه، واسحبوه. «فجيء بحاملي السياط، وجردوه من ثوبه، وأوقفوه بين حاملي السياط.»

قلت: يا أمير المؤمنين! الله، الله! إن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، إلا بإحدى ثلاث ...» فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا؟ يا أمير المؤمنين! اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك.

لكن الأمير أصم أذنيه، وأمر به. ويصف لنا ابن حنبل المشهد فيقول: جيء بكرسي وأقاموني عليه، وقال لي واحد من حملة السياط أن خذ بيدك بأي الخشبتين ، فلم أفهم قوله ... فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك ... وقام المعتصم إلي، يدعوني إلى قولهم بخلق القرآن، فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم عاد إلي المعتصم، فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني، فلم أعقل ما قال من شدة الضرب. ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي ولم أحس بالضرب. وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي.

ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، ولما رجع إلى منزله، جاءه جراح فقطع لحما ميتا من جسده، وجعل يداويه، والنائب عن الخليفة يسأل عنه في كل وقت ... وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد بن حنبل ندما كثيرا.

هذه صورة حية، أطلنا الوقوف عندها؛ لأنها تنطق بما يجوز قبوله من تراثنا، وما لا يجوز.

فلئن كان أحمد بن حنبل يسمو في هذه الصورة سموا قلما ارتفع إلى منزلته إنسان من أهل الفكر؛ مما يشعرنا بالزهو أن كان لأسلافنا مثل هذا الوقوف عند الرأي والعقيدة، مهما كانت التضحية في سبيلهما، كأنما وضع الحق في إحدى كفتي الميزان ووضعت الدنيا بأسرها في الكفة الأخرى فرجحت كفة الحق ... أقول: لئن كان هذا المثال الرائع جزءا من الصورة يصيح بنا - نحن العرب المحدثين - أن نقتفي هذا الأثر، فإن في الصورة جزءا آخر، هو أيضا من «التراث»؛ هو الجزء الذي يصبح فيه حامل السوط هو وحده صاحب الحق، وأخشى أن أقول إنه هو أرجح الجانبين ثقلا في حياة السالفين. •••

لا، لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذي خطر كبير على سلطة الحاكم، وكيف يكون والحوار إنما يتم بين أنداد ذوي قامات متقاربة، وأوزان متكافئة؟ أما وساحتنا لا تعرف هذا التكافؤ ولا ذلك التقارب في الأوزان والقامات - اللهم إلا في المبادئ النظرية التي كادت لا تشهد العمل والتطبيق - وكل الذي تعرفه هو أن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من نخيل؛ ليحيط بها كلأ قصير، فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برءوسه، جذت رءوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام ... هذه كانت ساحة الفكر، وتلك هي كائناتها؛ فهي بطبعها ترفض أن يدور على أرضها حوار؛ إذ لا يكون حوار بين نخيل ونجيل ... وفيم العجب؟ ألسنا قوما على الفطرة؟ تلك إذن هي سنة الفطرة، فهل ترى - في البحر - حوار الأنداد قائما بين الحوت والبلم؟ أم هل ترى - في الفضاء - نقاش الأقران دائرا بين سباع الطير وبغاثها؟ وهل تجري مفاوضات في الغاب - إلا في الأساطير والحكايات - بين الليوث والغزلان؟ هل علمت بزلزال يتريث حتى ينصت إلى آراء الذين ستنهدم على رءوسهم السقوف والجدران؟ هل سمعت ببركان يتروى ليستشير الجيران قبل أن ينفث من جوفه الحمم على ديارهم؟ هل يبالي الرعد أن يجيء هزيمه عند الناس في موضع السخط أو في موضع الرضا؟ تلك هي فطرة الأحياء والأشياء وظواهر الطبيعة، ونحن قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر الأرض والسماء؟

بل إننا لنزيد على كل هذه الأحياء والأشياء والظواهر في الفطرية درجة، فقد ورد في «التراث» أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمر عليه، وتلك هي - كما ورد في العقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق والكراكي والنحل والحشرات ... هذه الطوائف كلها - من الناس إلى الحشرات - تأبى - كما يقول صاحب هذه العبارة - بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر في تلك الطوائف - ناسا كانوا أو حشرات - طوبى لهم؛ لأن للأمر والنهي - كما يقول الجاحظ - لذة أين منها لذة الحواس في طعام أو شراب، بل أين منها لذة الطرب بالصوت الجميل، أو لذة النشوة باللون المونق والملمس اللين؟ فسرورك - إذا كنت صاحب أمر ونهي - هو سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل فإذا الحجة «العقلية» قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنه لم يكن في الأمر إلا بصمة خاتم، وإنه ليس في بصمة الخاتم «عقل» ولا «حجة»، لا، لا تقل ذلك؛ لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى التي تسري في كيانك كله - من الرأس إلى القدم - إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي (اقرأ «الحيوان» للجاحظ، ج1، ص205) إنه إذا نزلت الأخبار والأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى «... فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم» («البداية والنهاية» لابن كثير، ج1، ص5).

وعبثا تقول للناس، إذا قلت لهم إنه إذا كان الأمر لزيد وكان على عمرو أن يطيع، فالكرامة الإنسانية عندئذ تكون كلها لزيد؛ لأن الفكرة فكرته، والتبعة الخلقية واقعة على عاتقه، وأما عمرو في طاعته للأمر فهو الآلة الصماء، يضغط على أنفه فتتحرك منه الذراعان والساقان. إنه لا يختار لنفسه ما يصنعه؛ لأن ما يصنعه قد رسم له في لوح، لا أقول عنه إنه لوح محفوظ؛ إذ ما أكثر ما يكون لوح الأقدار عند أصحاب الأمر والنهي غير محفوظ، فتراهم يمحون في غدهم ما كانوا قد خطوه في أمسهم. وقد شاءت لنا الفطرة أن يستمتع كل بما كتب له، فزيد متعته في أن يأمر وينهى، وعمرو - كذلك - متعته في أن ينقاد ويطيع. ومن ذا لا يسره أن يكون كأنجم السماء، تدور في أفلاكها وهي لا تدري كيف تدور ولا لماذا تدور؟ من ذا لا يسره أن يكون كالشمس والقمر، يطلعان بميقات معلوم، ويغربان بميقات معلوم؟ •••

الفكرة عندنا ممزوجة بشخص صاحبها وكرامته، ارفضها ترفضه معها، واقبلها تقبله، إنها شبيهة بالكلب في قول الإنجليز حين يقولون: من أحبني أحب كلبي. أو هي قريبة من بعير المحب وناقة الحبيبة، في تصور الشاعر العربي القديم، الذي قال إنه هو وحبيبته يتبادلان الحب، فلم يلبث أن امتد هذا الحب المتبادل، أن امتد ليشمل ناقته وبعيرها: «وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري» ... أما أن تنزع الفكرة عن شخص قائلها لتوضع على «أرض» البحث - إذ البحث عندنا لا يفرش له «بساط» إلا في عالم الأمثال السائرة - فيدور عليها النقاش إيجابا وسلبا، وتصحيحا وتكميلا، دون أن يكون في شيء من ذلك كله ما يمس صاحب الفكرة في شخصه ولا في كرامته - حاكما كان صاحبها أو محكوما - فذلك ليس من طباعنا، ولا هو جزء من كياننا، فإذا ذكرنا أن هذه «الموضوعية» شرط أساسي أول لأية خطوة يخطوها السائر نحو حياة العلم، فلك أن تستنتج من ذلك ما ترى.

ولو كان هذا التوحيد بين الرجل و«بنات» أفكاره، مقصورا على رجال ليس في أيديهم حل لأمورنا ولا عقد، وليس «لبناتهم» المحصنات في حياتنا غواية، لقلنا للرجل الذي يوحد بين شخصه فكره: نعم ونعام عين، فاحضن بناتك بين ذراعيك حضنا ليجدن الدفء في أنفاسك والعطف من أعطافك، ولا شأن لنا بعد اليوم بك أو بهن. لكن الرجل وفكره وبنات فكره، قد يكون ممن له علينا أمر وسلطان، وعندئذ تكون الطامة الكبرى؛ لأننا إذا انتزعنا بناته من أحضانه لنجعلهن ملكا مشاعا للناقدين، ثار الرجل لكرامته، ولن يكون لنا في الأمر عندئذ خيار؛ لأن صاحب السلطان وقتئذ لن يقول لنا: أنا وبنات فكري وحدة واحدة، فإما اخترتمونا معا وإما نبذتمونا معا. لا، لن يقول لنا ذلك؛ لأنه لو قالها فربما اخترنا الثانية، لكنه سيضع قراره في شق واحد له صورة الأمر النافذ، فيقول: ها أنا ذا وأفكاري معا وحدة واحدة، وليس لكم في الموقف خيار. (ب) سلطان الماضي على الحاضر

سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يبدو غريبا أن يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع أنه لم يبق لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامتة، لا تمسك بيدها صارما تجلوه في وجوهنا فيفزعنا كما قد يفعل الأحياء من ذوي السلطان، لكن هذا هو الأمر الواقع، الذي في مستطاعنا أن نفسره، وليس في مستطاعنا أن ننكره.

إن فرنسيس بيكون حين أراد أن يعين ضروب الوهم التي تضلل الإنسان عن الفكر الصحيح، جعل بينها ضربا أطلق عليه اسم «أوهام المسرح» - ولقد كان بيكون أديبا فيلسوفا، أو فيلسوفا أديبا، يصوغ أفكاره في صور مجسدة شأن الشعراء في صياغة اللفظ - فهو هنا قد اختار صورة «المسرح» ليكثف بها ما يعنيه إذا ما زعم لنا أن للموتى تأثيرا قويا في نفوسنا، يكاد يلهينا عن حقائق الأمور بما يحدثه فينا من الإيهام. إن النظارة في المسرح يشهدون الممثلين في أثواب الملوك أو الصعاليك، وفي أدوار المحسنين الأبطال أو المسيئين الأنذال، فسرعان ما ينسون أنهم إنما يشهدون رجالا «يمثلون» الملوك أو الصعاليك، مع أنهم ليسوا بملوك ولا بصعاليك في حيواتهم الحقيقية الواقعة. إن المحسن البطل على المسرح قد يكون في حقيقته أبشع الأشرار خسة ونذاله، كما قد يكون المسيء النذل على المسرح في حقيقة حياته الرجل الطيب المحمود الخصال، لكن هؤلاء النظارة لا يلبثون إذا ما انطفأت الأنوار، وانزاح الستار، وبدأ الممثلون يدخلون أمامهم ويسلكون بما يسلكون وينطقون ما ينطقون، حتى ينسوا نسيانا تاما أنهم في مسرح وأن من أمامهم ليس هو الحقيقة الواقعة بالنسبة إلى أشخاص الممثلين في دنياهم الحقيقية الواقعة.

وهكذا قل في أمر الإنسان إذا ما وجد نفسه حيال فكرة أو عبارة قالها رجل قضى منذ زمن، لكنه ترك وراءه شهرة وسمعة تملأ النفوس بالرهبة، فقد يجد هذا الإنسان عندئذ أن من المتعذر جدا عليه النجاة من سحر هذه الرهبة، وأن أيسر السبل وآمنها من الزلل هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك ذو الشهرة والسمعة، وهيهات أن تجد من الناس من تبلغ به الجرأة أن يفض عن الصندوق المسحور ختمه السحري، ليفتحه فإذا هو من الداخل خواء أو ما يشبه الخواء. وما أكثر ما حكت لنا جداتنا قصصا عن حجرات مسحورة ملغزة، حين يقال لساكن قصر ورد ذكره في القصة إنه حر في استخدام الغرف جميعا إلا غرفة مغلقة محرمة عليه، فيتركها مؤمنا أنها لا بد مشتملة على ما تعجز قدراته دون مواجهته والتصرف فيه.

إن للزمن جلالا أيما جلال، فأين هو الذي يستطيع الوقوف أمام أطلال الماضي - وهي أطلال - هازئا ساخرا؟ أين هو الذي يستطيع أن يعبث بجثث الموتى كما يعبث بقطع من الصخر الجماد؟ إن أوغل الماديين في النزعة المادية لا يملك إلا أن يتأثر بجلال القدم، برغم علمه التام أن القدم ينبغي أن ينقص من قيمة الشيء لا أن يزيدها، لو كان الأمر كله أمر مادة ومنفعة؟ فانظر إليه كم يدفع في نسخة من كتاب قيم هلهلته الأيام، وكم يدفع في نسخة من هذا الكتاب نفسه وقد أخرجته المطابع صباح اليوم؟ إنه يدفع في النسخة الأولى أضعاف أضعاف ما يدفعه في النسخة الثانية؛ لأنه يتوهم أنه إنما يشتري بماله - بالإضافة إلى الكتاب - امتدادا زمنيا له عنده قيمة يعوض بها مدى حياته القصير.

ذلك كله واقع ولا سبيل إلى نكرانه، وإن الخروج عليه والتصدي له إنما يجيئان بعد مغالبة الإنسان لنفسه ولفطرته، وهذه المغالبة لأهواء النفوس وميول الفطرة هي ما نحن بحاجة إليه، حين يتبين أن تقويم القديم بأكثر من قيمته النفعية لا يقتصر على إشباعه لرغبة رومانسية في نفوسنا، بل يقف في سبيل سيرنا عقبة تحول دون التقدم نحو ما نريد أن نتقدم نحوه من تغيير للفكر وتبديل لأوضاع الحياة.

فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ، فعندئذ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات في العلم والمعرفة. لقد كان العامل الأول في النهضة الأوروبية هو تحول الناس من حالة الاكتفاء بما كتب الأقدمون، إلى كتاب الطبيعة المفتوح لكل من أراد منهم أن يقرأ علما جديدا؛ ذلك أن العصور المظلمة كلها، ومن بعدها العصور الوسطى كلها - وهذه وتلك قد امتدتا مع الناس نحو عشرة قرون وقعت بين القرنين الميلاديين الخامس والخامس عشر على وجه التقريب - أقول كانت تلك العصور تدير ثقافتها وفكرها على صحف مكتوبة - بعضها مقدس بحكم العقيدة الدينية وبعضها الآخر مكسو بالجلال والرهبة بحكم أنه تراث هبط إلى الناس من أسلافهم الميامين - ولم يكن على المفكر عندئذ إلا أن ينكب على تلك الصحائف انكبابا، حتى يحللها لفظا لفظا، ويكشف لنفسه عمن كمن وراء اللفظ؛ ولذلك لم يكن ذلك المفكر بحاجة إلى الخروج من الدير أو من الصومعة أو من الدار أو من المكتبة أو من الجامع، ما دامت هذه محتوية على ما يريد مطالعته من صحف - مقدسة أو غير مقدسة - ليستوعب مضموناتها، فإذا كان مفكرا من الطراز الممتاز، أضاف إلى هذا الاستيعاب «شرحا» جديدا لتلك المضمونات التي طالعها.

وأترك للقارئ أن يقدر لنفسه كم هي النسبة في تراثنا العربي للكتب التي تروي نقلا عن الآخرين: تارة تختار، وتارة تؤرخ، وطورا تصنف. فكأنما الطهاة الذين أعدوا الطعام قلة لا تتجاوز العشرة أو العشرين، ثم تكاثرت حول المائدة ألوف تتسقط الفتات المتناثر، كل يأخذ من هذا الفتات ما وسعت حفنتاه؟ وإني لألقي ببصري الآن إلى رفوف مكتبة عربية زاخرة: فهذا كتاب في طبقات الشعراء، وهذا في طبقات النحاة، وهذا في طبقات الأدباء، وهذا في طبقات الأطباء، وهذا في طبقات الحفاظ، وهذا في طبقات الفقهاء، وهذا في طبقات المفسرين، وهذا في طبقات الشافعية، أو في طبقات الحنابلة، وهلم جرا. وأترك تصنيف الطبقات لأنظر إلى ركن آخر، فإذا بالعين تقع على الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع، والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر.

اجترار من اجترار بعد اجترار. قلت لنفسي، وأنا أقلب النظر في منوعات من «التراث»: لماذا لا تفحص مجلدا أو مجلدين من هذه «الكواكب» و«الدرر» لترى ماذا كان يكتب «العلماء» الذين تؤرخ لهم هذه الكتب التي لا تكاد تقع تحت الحصر. وأخذت أستعرض ضروب المؤلفات وصنوف الأعمال التي جعلت من أصحابها «علماء» استحقوا أن تفرد لهم هذه التواريخ كلها، فلم أخرج إلا بما يؤيد فكرة عندي سابقة كنت حصلتها من انطباعات متناثرة على مر الزمن، وهي أنه - باستثناء أصول قليلة جدا فيها أصالة وابتكار - هنالك هذه الألوف من المجلدات التي لا تضيف حرفا واحدا جديدا، فهي شروح، وشروح للشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق. وإني لأستسمح القارئ في أن يصبر معي خمس دقائق، يقرأ فيها هذه القائمة من المؤلفات، التي نقلتها لتكون أمامنا نموذجا لنتاج حقبة زمنية في تاريخنا الفكري، ولن أذكر أسماء مؤلفيها - إذ ماذا يجدي في هذا اليباب المتجانس أن تسمى كثبان الرمل بأسماء تميزها كثيبا من كثيب؟ - لكنني سأضعها مجموعات مجموعات، كل مجموعة منها تنتمي إلى أحد «العلماء» البارزين في عصرهم:

الإسعاد بشرح الإرشاد، الدرر اللوامع بتحرير شرح جمع الجوامع، الفرائد في حل شرح العقائد، المسامرة في شرح المسايرة ...

حواش على تفسير البيضاوي، حواش على حاشية شرح التجريد، حواش على التلويح، شرح على آداب البحث.

شرح على جمع الجوامع، تعليق على الروضة، تعليق على المنهاج، الدر النظيم في أخبار موسى الكليم.

شرح الآجرومية، شرح الجزرية، شرح مقدمة الهداية في علم الرواية.

وهذا رجل خلده المؤرخون؛ لأنه «حفظ» الشاطبية، و«سرد» مرة النسب النبوي طردا وعكسا.

وهذا آخر خلدوه؛ لأنه قرأ القرآن على فلان، وقرأ الشاطبية والرائية على فلان، وقرأ شرح البهجة على فلان، وقرأ كتاب التبيان في آداب حملة القرآن لفلان، وقرأ السيرة النبوية على فلان، ومسند الإمام الشافعي على فلان، وصحيح مسلم على فلان، وصحيح البخاري ... و«تلقن» من فلان وفلان من المشايخ، و«أذنوا له بالتلقين».

وهذه الصفة الأخيرة مفتاح مفيد، لا أقول لذلك العصر وحده، بل هو مفتاح لعصرنا هذا «الحديث» بالدرجة نفسها، فالعلم كله عندنا «يلقن» للمتعلم فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح - مثلا - أستاذا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين».

ولقد عني القوم - وما نزال في إثرهم نعنى - بعمليتي «التلقن» و«التلقين» لأنها هي عندنا - سلفا وخلفا على حد سواء - التعلم والتعليم. (ج) تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات

وأما ثالث العوامل المقيدة لعقولنا عن الأصالة، المكبلة لأرجلنا عن السير، فهو ذلك الميل الشديد الذي نحسه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي نفر من أصحاب القلوب الورعة الطيبة، فيكفي أن يشاء الله لواحد من عباده أن يكون من «الصالحين» لينصرف «صلاحه» هذا - في أوهام الناس - لا إلى شق الترع وبناء الجسور ورصف الطرق وإقامة المصانع، بل لينصرف «صلاحه» نحو تعطيل أي قانون طبيعي شاء، فهو يأتي له بالفاكهة من هواء الغرفة، وليس من الضروري عنده أن تحتاج الفاكهة إلى تربة وماء وشمس وهواء، وهو يقرأ لك الطروس المطوية؛ لأن القراءة عنده ليست مشروطة ببصر ورؤية.

ولو اقتصر الأمر في هذا على سواد العامة لما أخذنا عجب؛ فالإنسان منذ خلق يمقت العقل ويتمنى أن تكون للقلب الغلبة والسيادة، لكن الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وأي علماء؟ علماء الكيمياء والفيزياء والنبات وطبقات الأرض، ومتى؟ في عصرنا هذا، وأين؟ في قلب الجامعات!

إنك في يومنا هذا ليأخذك العجب أشد العجب، إذا ما أتيح لك أن تجالس طائفة من رجال العلوم الطبيعية، لتستمع إلى ما يديرونه بينهم من أحاديث عن تصديق وإيمان، إذا ما فتح لهم موضوع الخوارق والكرامات، إنهم عندئذ يقبلون وهم في نشوة السعادة والرضا أن يحكى عن أصحاب الصلاح والطيبة والتقوى كل الخوارق التي تبطل أي قانون شئت من قوانين الطبيعة، كأن الله تعالى يرضيه أن تكون سنته في كونه لهوا وعبثا. إن هؤلاء العلماء وهم في معاملهم لا يقبلون إلا أن تكون قوانين العلم حاسمة صارمة، فما الذي يصيبهم إذا ما تركوا معاملهم وعادوا إلى منازلهم يسمرون؟ أيتركون عقولهم مع معاطفهم البيضاء في حجرات المعامل، ليعودوا إلى منازلهم وقد فرغت رءوسهم إلا من الخرافة وانعدام النقد وسرعة التصديق؟ أيثقل عليهم عبء العقل، فيلقون به آنا بعد آن ليستريحوا في ظل الخرافة الندي الطري الممتع اللذيذ؟

إنني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا - وخصوصا في عصور ضعفهم - بما أسمعه بأذني من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم، تأخذني الدهشة العميقة، وأتساءل: هل زاد هؤلاء الرجال الذين ظفروا في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية بأعلى الدرجات العلمية على أولئك الأسلاف السذج شيئا في درجة التصديق؟ هل زاد هؤلاء على أولئك شيئا إلا صفحات من علوم «حفظوها» ليلقنوها لطلابهم تلقينا لقاء الرواتب ينفقونها على مظاهر الحياة فيبدون للأعين وكأنهم اختلفوا عن سائر العامة العوام في نظرتهم اللاعلمية إلى تسلسل الأحداث؟

أسلافنا السذج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يحكى لهم من أن من ذوي النوايا الطيبة والقلوب المؤمنة من يطير في الهواء بلا أجنحة ومن يسير على الماء بلا حوامل، كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم من قدرة أصحاب الكرامات على أن يغرفوا من وعاء صغير على النار طعاما يكفي ألفا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم لتظلل رءوسهم إذا اشتد بهم الهجير من شمس الصيف الحارقة، كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم عن القوة السحرية لكلمات تكتب أو تقال فإذا العليل صحيح معافى، وإذا المهزوم المغلوب غالبا منتصرا، وإذا الرزق كثير والخير وفير بغير عناء العمل.

ليست الأحداث عندنا مرهونة بأسبابها الطبيعية إلا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، حتى إذا ما انصرف كل منا إلى حياته الخاصة في داره أو في المجتمع، أفسح صدره لكل خرافة على وجه الأرض، يقبلها راضيا مغتبطا مؤمنا مصدقا.

وإذا كان هذا شأن العلماء منا والدارسين، فماذا تتوقع لشأن سواد الناس أن يكون؟ وأي عجب بعد ذلك أن نعلق ما شئنا من نتائج على مجرد لفظ يكتبه كاتب في صحيفة أو كتاب، أو يخطب به خطيب في حفل مجتمع أو في إذاعة؟ إننا لنقول القول في مشكلاتنا فنحسب أن العلاج قد تم، وأن المشكلات قد انحلت؛ لأننا ذوو طبائع لا تربط بين الأحداث وأسبابها الطبيعية، إلا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، وهذا على أحسن الفروض.

الفرق بين «السحر» و«العلم» هو هذا بعينه، وليس أي شيء سواه، فالسحر والعلم كلاهما محاولة لرد الظواهر إلى عللها أو أسبابها، غير أن الساحر لا يقلقه أن يرد الظاهرة البادية للعين إلى علة غيبية ليس في وسع الإنسان أن يستحدثها أو أن يسيطر عليها، وأما العالم فهو لا يقر نفسا إلا إذا رد الظاهرة المحسوسة إلى علة محسوسة كذلك؛ ليمكن بعد ذلك أن نوجد هذه العلة المحسوسة فتتبعها الظاهرة إذا أردنا. الساحر والعالم يقفان معا إلى جانب مريض ليعملا على شفائه، فأما الساحر فيربط الظاهرة المرضية بالجن والعفاريت، وأما العالم فيربطها بجرثومة معينة، فبينما يصبح الطريق مفتوحا أمام العالم للبحث عن الوسيلة التي يقتل بها تلك الجرثومة ليزول المرض ترى الطريق مغلقا أمام الساحر؛ لأنه لا يدري كيف يغالب هؤلاء الجن والعفاريت لينزاحوا عن المريض فيزاح المرض؛ لذلك يلجأ إلى وسائل لا علاقة إطلاقا بينها وبين المرض وشفائه، كأن يدق الطبول أو يحرق البخور أو يكتب الأحجبة والتمائم.

فهل أقول: إننا في حياتنا الثقافية ما زلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية، وأننا لولا علم الغرب وعلماؤه، لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى.

الفصل الثالث

ثقافة في تراثنا لا نعيشها

حقائق العالم الواقع لا تجيء إلا مفردات وأفرادا، إنها لا تكون إلا أعيانا مجسدة، لكل منها تفصيلات تدخل في قوامه من صفات وعلاقات، لا تتكرر في سواه، فهذه الصخرة الملقاة على رمل الشاطئ، لها من شكلها وتركيبها وموقعها وزمن وجودها وأبعادها من البحر ومن التل ومن الصخرات الأخرى، ما يجعلها متفردة بوجودها وتاريخها دون كائنات الدنيا بأسرها.

إن هذا التمايز بين الأفراد يسير إدراكه في أفراد الإنسان؛ لأننا نحرص على أن يكون لكل فرد منهم اسمه الخاص؛ لما لهؤلاء الأفراد في حياتنا من مكانة ممتازة، فإذا ما أحللنا من أنفسنا بعض أفراد الحيوان أو بعض مفردات الأشياء مثل هذه المكانة أو ما يقرب منها، وجدتنا حريصين كذلك أن نميزها بأسماء تجعلها بارزة بسماتها بين أفراد نوعها، كما يفعل نفر من الناس لكلابهم أو لجيادهم أو لما ينتقونه من نوادر الأشياء كالتحف الأثرية وغيرها.

أما حين لا تكون لنا بهذه الكائنات علاقة خاصة حميمة، فإننا عندئذ نغض النظر عن خصائص أفرادها التي تميز كل فرد على حدة، ونكتفي بجمعها أنواعا أنواعا، فنهتم بما يميز النوع دون ما يخصص كل فرد من أفراده، وها هنا يتشابه البقر وتتشابه القطط بل ويتشابه الآدميون أنفسهم عند من يتخذ منهم موضوعا لبحث علمي، أو من يجعل منهم هدفا لقنابله أثناء القتال.

عندئذ يتجرد الأفراد من مميزاتهم التي تجعلهم أفرادا، ولا يبقى منهم إلا صورة ذهنية كلية كل فحواها مضمونات عامة تصدق على جميع الأفراد على السواء، بمقدار ما تكذب في تصويرها لفردية الأفراد، نعم إنه لا غنى لنا عن هذه الصور المجردة في عملية التفكير العقلي، شريطة أن يكون في مقدورنا دائما أن نرد كل صورة منها إلى الأفراد الذين يندرجون تحتها، لكننا قد نبلغ من التجريد درجة يتعذر معها أن تجد العلاقة واضحة بين الصورة المجردة وما ينضوي تحتها من مفردات مجسدة، كما يحدث في كثير من حالات الرياضة، وفي مثل هذه الحالة الموغلة في التجريد، يصبح وقوعنا في الخطأ أقرب إلينا من حبل الوريد.

وذلك لأن الفكرة المجردة قد ننظر إليها من زاوية فإذا هي مشتملة على كل شيء، وقد ننظر إليها من زاوية أخرى فإذا هي الفراغ والعدم. انظر إلى هيجل حين أراد أن يتأمل بالفكر المجرد سلسلة الحلقات المتتابعة على طريق الجدل (الديالكتيك)، تجده قد بدأ بفكرة «الوجود» المجرد، أي الوجود الخالص الذي لا يتحدد بأية كيفية تميزه وتعينه، فهو وجود يخلو من الحركة ومن اللون ومن الشكل ومن الحجم ومن كل صفة أخرى من شأنها أن تجعله وجودا موصوفا ذا سمات، لكنه إذا ما بلغ بتجريده للموجودات من صفاتها هذا الحد الذي يجعلها مجرد «وجود» صرف، فإنما يصبح هذا الوجود نفسه هو «العدم». وهكذا يزعم هيجل أن «الوجود» قد انبثق منه نقيضه وهو «العدم»، حتى إذا ما ضممنا الوجود والعدم معا، كان لنا هذه الكائنات التي نراها متسمة «بالصيرورة» والتغير؛ إذ الكائن المتغير موجود وغير موجود في آن معا.

والخطر أفدح الخطر هو أن نتناول في عملياتنا الفكرية مجردات، دون أن نكون على وعي بحالات تطبيقها على أرض الواقع، حين تكون هذه المجردات مزعوما لها أنها مشيرة إلى مدلولات في دنيا الواقع التاريخي، الذي يملأ حيزا من مكان معلوم ويشغل فترة في زمان محدود. إن النظرة من بعيد؛ النظرة التي تجرد الواقع من تفصيلاته مكتفية بحدوده الخارجية وملامحه البارزة، تيسير للنظر العقلي، لكنها في الوقت نفسه تفويت لنا عن رؤية الأجزاء؛ فالنظرة إلى الغابة من بعيد تعطيك صورة الغابة من الخارج، وتستر عنك أشجارها. لقد عبرت بالطائرة رقعة الصحراء ونظرت، فإذا كل الذي أراه بقعة فسيحة صفراء اصفرارا شاحبا، فقلت: كم هنالك يا ترى لو هبطت بنا الطائرة فوق هذه الرقعة الشاحبة المتجانسة! كم هنالك من كثبان وكهوف ومن زواحف وسلاحف ومن شتى صنوف الحياة التي تعج بها كل ذراع من هذه الصحراء؟ لكنها النظرة من بعيد وما تفوته على الإنسان.

أقول ذلك كله وفي ذهني معان كلية أريد التحدث عنها، كمعنى «الثقافة» ومعنى «التراث» حين أقول عن ثقافة معينة إننا لا نعيشها، أو حين أقول عن تراث إننا نريد أن نحييه لينسرب في حياتنا اليوم، فما أسهل أن نسوق ألفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر، ولكن ما أشد اختلاف الصورة حين ندنو بالأعين لنراها من قريب. إن الأخذ بفكرة وهي في صورتها المجردة، من شأنه دائما أن يميل بالإنسان إلى تعصب أعمى وأفق ضيق ونظر محدود؛ لأن الفكرة المجردة - كما قلنا - يمكن أن تشتمل على كل شيء، ويمكن ألا تشتمل على شيء؛ ومن هنا كان المناصر لها والمعارض لها كلاهما، يجدان فيها ما يشتهي كل منهما أن يجد من الشواهد والحجج، وإن هذه القابلية المرنة الفضفاضة لتضيق شيئا فشيئا كلما حشوت خلاء التجريد بصفات محددة تعينه. افرض - مثلا - أنك تتحدث عن «الفن» كفكرة مجردة، فعندئذ قد لا تجد إنسانا يعارضك فيما تقول عنه ، لكنك ما إن تضيف إلى هذا التجريد صفة تحدده، كأن تقول مثلا: إنه الفن التكعيبي الذي أردته بحديثي. فها هنا ينفض عنك أكثر من كانوا يوافقونك قبل هذه الإضافة، وربما لو أضفت صفة أخرى تحدد صنفا معينا من الفن التكعيبي لانفض عنك فريق آخر، وهلم جرا.

وهكذا قل في أشياء كثيرة جدا، فلو قلت «تراث» فيندر أن تجد من يوصي بأن يلقى «بالتراث» في البحر أو في النار، لكنك بعدئذ كلما حددت ما تعنيه أخذ الناس ينفضون من حولك فريقا فريقا، والعكس صحيح أحيانا، أعني أنك قد تجد المعارضة عند ذكرك لفكرة مجردة، حتى إذا ما أخذت تضيف إليها ما يعينها ويحددها أخذ الناس عندئذ يرون فيها ما لم يكونوا يرونه من قبل، فأيدوك جماعة بعد جماعة، كما نلاحظ عند كل دعوة جديدة، بما في ذلك الدعوات الدينية نفسها. لقد حدث أن ورد ذكر «الإسلام» - بهذا التعميم المجرد من تفصيلاته - ذات يوم حين كنت في مجموعة من أساتذة الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحسست في الوجوه شيئا من الرفض الصامت، وسرعان ما تهيأ الظرف ليطلب إلي أن أذكر شيئا من التفصيلات التي تحدد الأركان العامة لهذه العقيدة، وفعلت، فقال قائل منهم: إنه لو كان هذا هو الإسلام، أفنكون إذن مسلمين ونحن لا ندري؟ وتذكرت عندئذ ما قد لاحظه أحد أعلامنا - وربما كان الإمام محمد عبده - من أنك قد تجد في بعض البلاد الأوروبية «مسلمين» بغير «إسلام»، كما قد تجد في بعض البلاد العربية «إسلاما» بغير «مسلمين»، أي أن الإسلام مجموعة من القيم التي لا أحسب عاقلا على وجه الأرض يرفض شيئا منها، من حيث هي مثل عليا، سواء مكنتنا التربية والتنشئة من تمثلها ومن العيش على غرارها أم لم تمكنا من ذلك، وربما وجدت بين من يرفضون «الإسلام» كفكرة مجردة من يعيشون تلك المثل بالفعل، ووجدت بين من يعتنقون هذا الإسلام نفسه كفكرة مجردة، من لا يعيشون من قيمه شيئا.

فما هي الجوانب الهامة البارزة من تراثنا ، التي نعنيها، حين نقول : إننا لا نعيشها اليوم، وإنها ليست بذات صلة بمشكلاتنا المعاصرة، وإذن ينبغي أن تنحصر في جماعة الدارسين المتخصصين وحدهم، دون أن نفتح أمامها الأبواب لتنسرب في عقول الناشئة، أو في ثقافة المثقفين ثقافة عامة، وكأنما هي - ما دامت جزءا من تراثنا - فهي مصونة معصومة صالحة؟ •••

متى يعيش الإنسان ثقافته، ومتى يكون لها كيان مستقل بذاته قائم برأسه ولا شأن له بحياة الإنسان كما يحياها كل يوم؟ إن سؤالا ليفرض نفسه علينا قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد كثر طرح هذا السؤال، وتنوعت الإجابات، حتى أصبح موضوعا تمجه النفس؛ ولذلك فلست أنوي الوقوف عنده لا طويلا ولا قصيرا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما شاء؛ لأن ما سوف أرتبه على مفهومها، لا أظنه يتغير بتغير ذلك المفهوم، فلنفهم الثقافة على أنها طريقة العيش في شتى نواحيه، أو على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيره وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار، أو لنفهمها على مجموعة العلوم والمعارف وأحكام العرف والتقليد، أو لنقصرها على ما يتصل بالذوق وحده - دون العقل - من أدب وفن، فذلك كله لن يؤثر في الفرق بين أن تكون الثقافة - بأي معنى أخذتها - سارية في جسم الحياة العملية سريان الزيت في الزيتونة، كما يقال، وبين أن تجعلها موضوعا للدراسة العلمية النظرية التي لا تمس حياتك العملية في كثير أو قليل.

انظر إلى الفرق بين المتصوف الزاهد، وبين من يجعل التصوف والزهد موضوعا لدراسته، فالأول يعيش زهده وتصوفه، إنه قد لا يعي موقفه كما ينظر إليه المشاهدون، فهو بطبعه أو بإرادته يعصم نفسه من الرغبة ومن الشهوة ومن زخرف الدنيا، وهو بطبعه أو بإرادته يستبطن ذاته متأملا راجيا أن يبلغ به ذلك التأمل مبلغا يتمناه، هو أن يتحد مع «الحق» أو أن يقف من «الحق» موقف الشهود، ثم قد يفيق ذلك المتصوف من وجده ذاك وذهوله وتأمله، ليحلل خبراته التي كابدها، ما واتته اللغة في ذلك التحليل والوصف، ويجيء بعد ذلك دارس التصوف فيجد بين يديه ما كتبه المتصوفة فيجعل منه موضوعا للدراسة والبحث والمقارنة والحكم له أو عليه؛ فهذا الفرق بين الرجلين هو الفرق بين رجل يعيش ثقافته ورجل لا يعيشها، هو الفرق بين المشاهدة من ظاهر والمكابدة من باطن، كالعاشق يعيش حالة العشق لأنه يعانيها ويكابدها وينبض بها قلبه وترتعش أطرافه، وأما من يجيئه خبر العاشق وحالته فهو يلم بالظواهر البادية دون أن ينبض له قلب أو ترتعش أطراف.

شاهد الناس من حولك، تدرك من سلوكهم أي ثقافة يعيشون، فإذا رأيت رجلا تعلم عنه المعسرة ولا تعلم عنه الميسرة، قد أقام المآدب في بذخ واصطنع الغنى أمام الناس مهما كلفه ذلك من دين، فاعلم أنه إنما يعيش ثقافة تعلي من شأن المظهر مهما يكن ما وراءه، أو رأيت رجلا اعتدي على إحدى من يعصمهن من النساء، فلا يلين مضجع تحت جنبيه إلا إذا أخذ بالثأر الذي يشفي غليله، فاعلم أنه إنما يصدر في ذلك عن ثقافة يعيشها، بغض النظر عما يقال عن سلوكه قبل ذلك أو بعد ذلك. إننا نعيش ثقافتنا في كل ما تراه من تفصيلات احتفالاتنا بمناسبات الميلاد والزواج والموت، نعيشها في الطريقة التي نكرم بها الضيف، وفي الطريقة التي نتشكك بها في أمانة الناس، والتي نرتاب بها في أصحاب الجاه ورجال الحكم، والتي نؤمن بها في أعمق أعماقنا بأن أنصبة الناس في حيواتهم مقسومة لهم، وأن آجالهم مكتوبة، وأن مشيئة الله قد سبقت بما كان وما سوف يكون.

ذلك حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس مع دمائهم، فحياتهم هي ثقافتهم وثقافتهم هي حياتهم، لا حين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم اسم «المثقفين»، ولا يحدث انسلاخ كهذا - فيما أظن - إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من خارج، لا منبثقة من نفوسهم. إنه لم تكن عند اليونان الأقدمين - كما يقول هربرت ريد - كلمة خاصة تعني «ثقافة»؛ لأنه لم تكن هنالك المجموعة الفكرية القائمة بذاتها والتي تستحق أن تستقل وحدها بلفظة تسميها، كانت الثقافة كاللغة تدور بين الناس في معاملاتهم اليومية، دون أن يشعروا لها بوجود خاص، أما حين أخذ الرومان ثقافة اليونان، أصبحت ثقافتهم - في بادئ الأمر - كيانا قائما وحده متميزا بخصائص؛ فأوحى ذلك لهم بأن الثقافة كالسلعة يستوردها القوم أو يصدرونها. ولما صنع الرومان بعد ذلك ثقافتهم الخاصة بهم من فن العمارة وأدب وأخلاق وقانون وإدارة، وأخذوا يقيمون لأنفسهم إمبراطورية فسيحة الأرجاء، حملوا ثقافتهم معهم وأرادوا فرضها على الشعوب التي يسيطرون عليها.

وجاءت العصور الوسطى التي سادها الدين - إيمانا بالقلوب أو بحثا وتحليلا بالعقول - فعادت الثقافة كما كانت قبل عهد الرومان، جزءا من الحياة العملية، وفقدت استقلالها الذي يجعلها كالسلعة ينفرد بها فريق من الناس دون فريق، يأخذونها ويعطونها ويرسلونها مع قادة الجيوش إلى البلاد التي يغزونها، عادت الثقافة لتكون هي طريقة الحياة ووجهة النظر وأساس العمل والسلوك، تظهر في بناء المساجد والكنائس والمنازل، وفي صناعة الأواني والمصابيح، وفي زخرفة الجدران وأغلفة الكتب وصفحاتها، وعلى البسط والمقاعد والوسائد وزجاج النوافذ وأقمشة الثياب. كان الناس في العصور الوسطى - كما كانوا أيام اليونان الأقدمين، وكما كانوا قبل ذلك إبان الحضارة المصرية القديمة وغيرها من حضارات الشرق - يحملون ثقافتهم وكأنهم يحملون الهواء الشفاف يستنشقونه وهم لا يشعرون بوجوده. وذهبت العصور الوسطى، وجاء عصر النهضة الأوروبية ومعه بدايات الاستعمال الجديد لكلمة «ثقافة»، وهو الاستعمال الذي يشيع بين جماعة المتعلمين إلى يومنا هذا، ومع الثورة الصناعية في أوائل القرن الماضي، جعلت الثقافة تزداد انسلاخا عن دنيا العمل؛ إذ لم يعد الصانع - بعد ظهور الآلة في الصناعة - يستخدم عقله ويديه في عملية واحدة.

ونعود بعد هذا الاستطراد القصير إلى ما كنا نتحدث فيه، وهو أن الناس يعبرون عن ثقافتهم في مواقفهم من الحياة العملية، حين يندمج الطرفان في كيان عضوي واحد، وعندئذ لا تنشأ أمام الفكر مشكلات؛ لأن طرق السلوك ممهدة مرصوفة بالعرف والتقليد، فإذا حدث كذا استجاب له الناس بكذا، وكانت الاستجابة موضع القبول والرضا عند الجميع، وإنما تنشأ المشكلات حين تحدث فجوة وتتسع بين الثقافة الجارية من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى اقتضتها حياة جديدة لم يألفها القوم، فعندئذ لا استجابات العرف والتقاليد تكون ملائمة وكافية، ولا الناس يملكون الطرق الجديدة التي يواجهون بها الجديد.

لننظر إلى حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما قد ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا، لسبب بسيط، هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرحاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.

فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرق»، فالفرد من الناس إما أن يكون حرا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدا مملوكا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به مولاه، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم: فأولا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثم اتسع المعنى - ثانيا - ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر، على الصورة التي نألفها - على اختلاف أشكالها - في الدول الحديثة. لقد كان يسيرا علينا - أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها - أن نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل المحكوم. أقول إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقي عددا من المواد نجمعها في بضع صفحات، لنقول: هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع والقضاء والإدارة؟

لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف؛ فعلى طول التاريخ العربي، ندر - وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة - ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير، أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار ولا الشعب يملك حق العزل ولا القلة ممن لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئا إلا الطاعة أو العصيان والمؤامرة.

ووجدنا أنفسنا في عصرنا هذا بين هذين الطرفين: أنظمة الحكم التي تكفل الحرية للشعب ننقلها على الورق، ثم صورة موروثة تخلع على الحاكم صفات «الخليفة» أو «الأمير» بالمعنى التاريخي القديم، يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء بغير حساب؛ ومن ثم نشأت أمام المفكرين منا مشكلة المطالبة بتحقيق الحرية السياسية تحقيقا يجاوز الكتابة على الورق، ليصبح سلوكا جاريا في صلب الحياة التي نحياها كل يوم.

وشاء لنا القدر الغشوم أن نستيقظ لنجد أنفسنا في قبضات المستعمرين، فكان من الطبيعي أن نوجه الطاقة الثائرة كلها أولا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك لتنظيم البيت ما دمنا قد أصبحنا سادته.

مشكلة الحرية السياسية إذن هي على رأس مشكلاتنا المعاصرة، ولن أجد في «التراث» حلولا لها، لا بل إنها إنما نشأت أساسا بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التي تباعد بين أنظمة الحكم في العصر الحديث، والصورة التي ورثناها عن الحاكمين وما يحيط بهم من جاه وسلطان وهيل وهيلمان.

وأصعب من هذه الحرية السياسية منالا، حرية أخرى يقتضيها عصرنا ولم تكن معروفة ولا مألوفة - في صورتها الحديثة - عند أسلافنا، وأعني بها الحرية الاجتماعية التي تكفل الحياة المادية للمواطنين، حتى لا يجدوا رقابهم في أيدي من يوفرون لهم سبل العمل والعيش. إنها لمهزلة أن نقول للناس: اذهبوا فأنتم الأحرار في انتخاب من يمثلونكم في مجلس النواب، ومن يحاسبون رجال الحكم نيابة عنكم، وبهذا تصبحون أنتم الحاكمين والمحكومين معا، فإذا ما ارتد هؤلاء الناس ليؤيدوا هذا الحق السياسي، وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام سادة يتحكمون في أرزاقهم، وعلى هؤلاء الناس أن يختاروا بين انتخاب أولئك السادة وبين التعطل والتشرد والجوع لأنفسهم ولعيالهم؛ وإذن فلا بد من حرية اجتماعية تصون للناس حق الحياة لكي يصان لهم بالتالي حق انتخاب النائبين فالحاكمين، ولم نكن لنجد حلا لهذه المشكلة الجديدة إذا نحن ارتددنا إلى التراث؛ لأننا إذا وجدنا في هذا التراث مبادئ نظرية تكفل لنا الحرية الاجتماعية المنشودة، وجدناها من جهة أبعد ما تكون عن التطبيق الشامل بحيث تهبط إلينا وكأنها العرف الذي ليس من سيادته مناص، ووجدناها من جهة أخرى أقرب إلى التوصية بالصدقات يتصدق بها الغني على الفقير، فإن فعل كان له الجزاء عند ربه، وإن لم يفعله كان له الجزاء كذلك عند ربه، وفي كلتا الحالتين لا شأن للدولة بالأمر.

وليست مشكلة الحرية بمقصورة علينا في هذا العصر، بل إنها لتتسع حتى تكاد تعم العالم كله، وإن تنوعت أشكالها بتنوع الظروف، فهو عصر تميز بكثرة ما شهده من نظم دكتاتورية ونازية وفاشية وعسكرية، قد يكون لكل منها ما يبرره في سياسة إقليمه الذي ظهر فيه، كأن يتطلب شعب ما وحدة قوية يجابه بها عدوا طامعا فيه، فلا يكون لهذه الوحدة من سبيل أمام القادة إلا أن يفرضوها على الناس بحكم فردي مستند إلى الحديد والنار حتى يزول الخطر، أو أن يتطلب شعب آخر وحدة قوية ريثما يتم له التحول من نظام قديم إلى نظام جديد، ويخشى ألا يتم هذا التحول إذا تمزق الرأي العام تحت ضغوط المذاهب والاتجاهات المتنازعة، لا سيما إذا كان وراء هذه المذاهب والاتجاهات أعداء يتربصون. وهكذا وهكذا، أسباب كثيرة وظروف متنوعة قد تؤدي إلى صورة من صور الحكم الفردي الذي لا يسمح بحرية الرأي ولو إلى فترة محدودة، انتهت بالعالم في عصرنا إلى قيود فرضت على الحريات في أجزاء كثيرة من العالم.

وكان محالا أن تمر الحريات بمثل هذه الأزمات الصارمة، دون أن ينهض لها منقذون في دنيا الأدب والفن والفكر، فتستطيع أن تقول على وجه الإجمال أن معظم تيارات الفلسفة المعاصرة والفن المعاصر والأدب المعاصر، ينصب على هذا الإنقاذ، من وجودية تجعل للفرد كل السلطان على نفسه في اتخاذ لقراراته فيما يصادفه من مواقف، إلى فن تجريدي أو تكعيبي أو سيريالي يجعل للفنان الحق في أن يتحرر من الموضوع الخارجي ليكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تكوين العالم الفني الذي يريد العيش فيه، إلى أدب العبث واللامعقول الذي يجمع عدة أشخاص في مسرحية واحدة يتحدثون دون أن يكون هناك ضرورة اتصال بين قائل وسامع. هذه وغيرها مما يملأ الكتب والصحف والمعارض والمسارح والقصص والشعر، قد انتقل إلينا نحن رجال الفكر والأدب والفن في البلاد العربية، فشاركنا فيه مشاركة من وجد فيه تعبيرا عن حالته، لكنها كذلك مشاركة من أعوزته قوة الابتكار والإبداع، فأخذ الصور الأدبية والفنية والمذاهب الفكرية والفلسفية من الآخرين، ليملأها بمادة محلية من عنده. والمهم في سياق حديثنا هذا هو أن نلحظ كيف أننا حين تأزمت معنا مشكلة الحرية، وجدنا الحلول وأشباه الحلول، لا في التراث العربي القديم، بل وجدناها في النتاج الأوروبي الحديث.

وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها وعمق أثرها في حياتنا العربية المعاصرة، منها حرية المرأة، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس، ومع ذلك فقد وجدت نفسها في مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات «الحريم» و«الجواري» و«الغانيات». لقد أصبحت المرأة العربية اليوم طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة في مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدا إلى كراسي الأستاذية في الجامعات، أصبحت المرأة العربية اليوم عالمة في معامل الفيزياء النووية وكيماوية أمام مخابير التركيب والتحليل، وقانونية وممثلة للشعب في مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء في قيادة أمتها. نعم، أصبحت المرأة العربية اليوم ثم أصبحت وأصبحت، فهل يعقل أن يقال لها - وهذا هو كيانها الجديد - ما كان يقال لسالفتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى القديم، ومن حق الرجل في أمثالها العاملات العالمات المثقفات القائدات، مثنى منهن وثلاث ورباع؟ هذه إذن إحدى المشكلات الفرعية التي تفرعت من المشكلة الأم؛ مشكلة الحرية بمعناها المطلق العام في دنيا السياسة والاجتماع. وإن امرأة عصرنا لتجد نفسها في أزمة حادة، نلمسها في كل من نعرفهن من ذوات القربى ومن الزميلات في مجال العلم والعمل؛ لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين، فمن هنا تقاليد تضعها موضعا لم يعد يصلح لها، ومن هناك مشاركة في نشاط العصر وثقافته تجذبها جذبا إلى أن تقف مع الرجل الزوج الأخ والزميل في صف واحد، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص؟ إن ذلك لن يكون في تراث عربي قديم، مهما نشط المتحذلقون في جمع قول من هنا وقول من هناك، وحكمة من هنا وحكمة من هناك، ومثل من هنا ومثل من هناك، ليدلوا بذلك على ما كان للمرأة العربية من مكانة يمكن أن تكون مطمعا لزميلتها المعاصرة، ومرة أخرى لن نجد للمشكلة حلولها إلا في حضارة الغرب الحديث.

ومن مشكلاتنا الكبرى كذلك - إلى جانب مشكلة الحرية بكل فروعها - مشكلة الدخول في عصر العلم والصناعة، لقد بدأ العالم كله عصرا جديدا أصبحت المعرفة فيه من جنس يختلف عما كان يسميه آباؤنا «معرفة» اختلاف الأبيض عن الأسود، وسأخصص فصلا من فصول هذا الكتاب لشرح الانتقال الانقلابي العميق الذي انتقل به الإنسان المعاصر - في البلاد المتقدمة علما وتكنية وصناعة - من عهود طويلة كانت «معرفته» خلالها كلاما في كلام في كلام - كما يقول هاملت - إلى عصره هذا الذي أصبحت فيه «المعرفة» التي تستحق هذه التسمية أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ولنقل الصوت والضوء، ولتحريك الطائرات والغائصات والصواريخ. واختصارا، قد انتقل إنسان هذا العصر من معرفة «اللفظ» إلى معرفة «الأداء».

لم يكن «العالم» في العهود السابقة يبلغ من علمه حدا يجاوز إحسانه للكتابة والقراءة، ولا يغير من هذه الحقيقة البسيطة أن يكون الموضوع المكتوب أو المقروء فلسفة عميقة أو أدبا رائعا، فلا تكاد تجد فرقا ظاهرا من حيث القدرة على تغيير وجه الأرض بحضارة جديدة، بين تلاميذ المدارس الابتدائية أو الثانوية وبين كبار الفلاسفة والأدباء، فكلا الفريقين على حد سواء يكتب ويقرأ، لكن لا تحركت طائرة بتلك الكتابة والقراءة ولا غاصت غائصة ولا نطق مذياع.

وإن هذه التفرقة بين نوعي المعرفة يصدق علينا نحن العرب ألف مرة إذا صدق على شعوب أخرى مرة واحدة؛ لأن عبقرية العرب كانت في لسانها، لم تكن اللغة في ثقافة العرب «أداة» للثقافة، بل كان هي الثقافة نفسها، فأنت مثقف بلغ القمة إذا أنت أجدت الإلمام باللغة في مفرداتها ومترادفاتها وفي نحوها وصرفها وفي رواية نثرها وشعرها.

فإذا جاء علينا عصر يركز في أجهزة وأنابيب ومعامل ومصانع، أسقط في أيدينا؛ لأن بضاعتنا شعر ونثر ونحو وصرف ومفردات لغوية ومترادفات، وهي كلها لا تقوى على ضبط إبرة في جهاز.

والمشكلة الكبرى الآن هي كيف نتحول من ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلم والتكنية والصناعة؟ واضح أن ذلك لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، وأن مصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء وما استطعنا من القبول وتمثل ما قبلناه.

ومن مشكلاتنا التي نصبح معها ونمسي، والتي تشغل قلوبنا وعقولنا مع القيام والقعود، وخلال العمل وإبان الفراغ، مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية وما يتهددها من عوامل التسلط والعنصرية متمثلة في الغزو الصهيوني. لقد تعرض العرب من قبل لغارات المغول وغزوات التتار، لكن الغزو الصهيوني أفدح خطرا؛ لأنه غزو جاء ليقيم وليكتسح وليتسع وليضرب بجذوره في الأرض، ولأنه غزو تناصره دول لا يبدو في الأفق ما يوحي أقل إيحاء بأنها سوف تهن وتضعف في وقت قريب. وإنه لخطر مزدوج؛ لأنه دهمنا ونحن على غير اعتصام بحبل القومية الواحدة ، والنظرة السياسية الواحدة، والرأي الواحد فيما يختص بالهدف والمصير، فترانا نعترك بعضنا مع بعض في ساحات الكلام، ثم نعترك مع العدو المهاجم في ساحات القتال بالسلاح. وإلى هذه الساعة التي تكتب فيها هذه السطور، لا معركة الكلام انتهت بأصحابها إلى إقناع واقتناع، ولا معركة السلاح انتهت بنا مع العدو إلى موقف نطمئن له ونستريح.

وفي غمرة هاتين المعركتين ترتفع أصوات المشفقين على الأمة العربية من مصير قد ينتهي إلى ما يشبه الدمار السياسي والحضاري، وهو دمار لا ينتقص من حدته أننا موجودون بالأبدان وبالتكاثر، ترتفع أصوات هؤلاء المشفقين بأن طريق الخلاص أن نستمسك بالدين وبالعروبة وبغيرهما من المفهومات التي من أجل توضيحها كتب هذا الكتاب.

فسؤالنا المطروح الذي نبحث له عن جواب، هو: على أي نحو يكون التمسك بتراثنا الديني والثقافي العربي ممسكا لنا من الانهيار والهزيمة والدمار؟ بديهي أن ذلك لا يكون بأن نطمئن إلى وجود الكتب المحتوية على هذا التراث فوق رفوف المكتبات، سواء أكانت موجودة هناك مخطوطة أو مطبوعة طباعة قديمة أو طباعة محققة حديثة، وإنما الوجود الذي نعنيه والذي يرجو به الداعون إلى إحياء تراثنا أن يجيء هذا الإحياء وسيلة إنقاذ مما نحن فيه، وطريقة حياة جديدة نحياها في مستقبل قريب أو بعيد، هو ذلك الوجود الذي تتحول به الثقافة المعينة إلى وجهة نظر حية تدفع صاحبها في مسالك الحياة اليومية العملية. إنه ما من خطوة يخطوها الإنسان في حياته إلا ووراءها خلفية فكرية في رأسه، استمدها من التقاليد بالتربية أو من الدراسة بالتعلم، أو استمدها من التأمل النظري الذي يتحول معه إلى عمل وتطبيق. إنك إذا غيرت مجموعة الأفكار المجتمعة في رأس آدمي تغير بالتالي سلوك صاحبه، وما «غسل الدماغ» الذي يتحدثون عنه اليوم إلا تغيير أفكار بأفكار في رءوس الناس، وما هدف الدعاوى السياسية والمذهبية والتجارية إلا زرع أفكار معينة في رءوس الخاضعين لها، فنضمن بذلك أن يتغير سلوكهم.

وإذن فسؤالنا الأساسي المطروح هو: أي الأفكار التي يريدوننا أن نبتعثها من تراث الأسلاف، يمكن أن نعلق به الرجاء ؟ وهل صحيح أننا واجدون في أفكار أسلافنا بالأمس ما يمكن أن ينير أمامنا الطريق؟ لقد كانت أفكارهم وليدة مشكلاتهم، فهل تكون مشكلاتنا هي نفسها مشكلاتهم، بحيث نهتدي بحكمتهم في اقتراح الحلول؟ •••

ضربنا أمثلة قليلة لمشكلات حقيقية حية نعيشها اليوم، حتى لنراها تحاصرنا من جميع أقطارنا، وتمسك برقابنا، لا يستطيع فكاكا منها إلا أولئك الذين ينفضون أيديهم من عصرهم، ليلوذوا بمعتصم في ركن من الماضي يأوون إليه، لكن هؤلاء لا يستطيعون الادعاء بأنهم هم المثقفون الذين يرتبطون بمجتمعهم بآصرة من أواصر الفكر.

فماذا لو تصدينا لهذه المشكلات الحقيقية الحية، فأخذنا الظن بأن طريق السلامة والأمان، هو أن نعرضها على ضوء ما قد نجده من ثقافة الأقدمين؟ إنني لأحسب أنه لو كان المقصود بإحياء التراث الفكري هو أن نفتح له المنافذ ليسري في كياننا العضوي سريانا يكون لنا وجهة النظر التي نهتدي بها في الحياة العملية بما يعتورها من صعاب ومشكلات، أقول إنه لو كان هذا هو المقصود، إذن فإحدى الوسائل الفعالة هي أن أفكر في مشكلاتي الراهنة على ضوء ما قد رآه الأسلاف إزاء مشكلاتهم التي بينها وبين مشكلاتي شبه، فمن هم رجال الفكر من هؤلاء الأسلاف، وماذا كانت مشكلاتهم؟

إنه لبعثرة للجهد أن أحلل الماضي كله لألتمس الجواب، ويكفيني في هذا السياق الذي نحن بصدده أن نأخذ شريحة زمنية نختارها من فترة ارتفعت فيها ثقافة السلف إلى أوجها، وتعقدت بهم خلالها سبل الحياة حتى كثرت مشكلاتهم التي كان على رجال الفكر أن يتصدوا لها، وأظنني لا أخطئ الاختيار لو وقفت في الموضع نفسه الذي وقف فيه الغزالي لينظر وراءه قليلا وحوله ويسأل نفسه: من هم جماعات المفكرين؟ وماذا كانت مشكلاتهم وطرائق حلولها عندهم؟ وبعد أن أوجز وصف الموقف سأرى وسيرى القارئ معي: إلى أي حد يتشابه أو لا يتشابه عصرنا ومشكلاته مع عصر أسلافنا ومشكلاته؟ ولو وضعنا السؤال في عبارة أخرى، قلنا: إلى أي حد أستطيع أن أجد العون على حل مشكلاتي العصرية عند أسلافي؟ ولو وجدت أن لا عون يمكن أن أستمده من هؤلاء الأسلاف، كانت الدعوة إلى إحياء التراث دعوة تغري السامع بنغمتها الجذابة، لكنها لا تنطوي على نتيجة عملية، سوى ما يجده محترفو الدراسة الأكاديمية النظرية فيها من رياضة للذهن، ومن حفاظ على الأثر بعد العين، يتذكر به أبناء العصر أن قد كان لهم آباء عاشوا حياتهم في نشاط فكري، وأجدر بهؤلاء الأبناء أن ينشطوا بالفكر كما نشط الآباء، ولكن في مشكلاتهم هم وبعقولهم هم وبحلولهم هم، لا في مشكلات الآباء ولا بعقول الآباء وحلولهم.

يحلل لنا الغزالي «أصناف الطالبين» - أي الذين يجاهدون للوصول إلى الحقيقة - إلى فئات أربع، هي بلغة الغزالي نفسه: (1)

المتكلمون، وهم الذين يدعون أنهم أهل الرأي والنظر. (2)

الباطنية، وهم الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس عن الإمام المعصوم. (3)

الفلاسفة، وهم الذين يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان. (4)

الصوفية، وهم يدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة.

يقول الغزالي: إن «الحق» لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع؛ إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته.

وإني لألاحظ هنا ملاحظتين هامتين قبل أن أمضي مع الغزالي في وقفته من ثقافة عصره ورجال الفكر فيه:

الملاحظة الأولى:

هي هذه العبارة التي أود أن تتحول إلى أجراس تقرع في آذاننا حتى يصحو النائم ويتنبه الغافل، وأعني العبارة التي تقول إنه «لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته»، فإذا كان رجل كالغزالي في منزلته العقلية وفي مكانته الفقهية، وفي زمنه الذي يقع في صميم الفترة التاريخية التي يريد بعضنا اليوم أن يحييها ليحاكيها، إذا كان رجل كهذا في ظروفه تلك يبعد «التقليد» من جملة الأساليب الفكرية التي يصح الوقوف عندها، فهل يجوز لعاقل بعد ذلك أن يقول في عصرنا هذا بمبدأ التقليد؟ ألا إنه لو كان في تراثنا ما ينقل ويقلد، فهو هذه الوقفات المنهجية العظيمة التي وقفها الأولون.

وأما الملاحظة الثانية:

التي لا أحب أن أجعلها تمر مرورا عابرا في سياق الحديث ؛ ولذلك فسوف أعود إليها في موضع أو مواضع تالية من هذا الكتاب، فهي: كلمة «الحق» ماذا تعني؟ كان رجال الفكر الذين قسمهم الغزالي إلى أصناف أربعة - أو إلى مدارس أربعة إذا استخدمنا لغة عصرنا - يطلبون «الحق»، تماما كما يطلبه رجال الفكر في كل العصور، لكن يا ويلتاه «للحق» من تعدد معانيه على أيدي المفكرين، إنه يتشعب على أيديهم ألف معنى ومعنى، كل منهم يأخذه من زاوية معنى واحد، فيظن بعد ذلك أنه إذا اختلف مع غيره مذهبا ورأيا، فقد اختلف معه اختلافا يجعله هو على «حق» ويجعل الآخر على باطل، مع أن هذا الآخر لا يختلف عنه إلا في أخذه لجانب آخر من جوانب الحق الكثيرة المتعددة.

فماذا يعني هؤلاء المفكرون - ومعهم الغزالي نفسه وغيره من أئمة المفكرين في تراثنا - ماذا يعنون «بالحق» الذي يطلبونه ويتفرقون في سبيله فرقا وجماعات؟ خذ معناه كما صاغه الغزالي في هذا السياق: «ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق.» وفي ظني أننا لو وقفنا من هذا التعريف وقفة نزيهة موضوعية متأملة، لكفانا ذلك جهدا وعناء ما أغنانا عنهما فيما ينشب بيننا من نقاش؛ لأنه إذا كان «الحق» عند أولئك الأسلاف من المفكرين هو «العقيدة» التي أنزلها الله إلى عباده على لسان رسوله، إذن فليس هو إلا جانبا واحدا من الحق كما نطلبه اليوم، فنحن منصرفون اليوم بمعظم سعينا نحو طلب الحق من حيث هو قوانين الطبيعة من صوت وضوء وكهرباء ومغناطيسية وجاذبية وغيرها، ومن حيث هو بناءات رياضية نقيمها بالتفصيلات المعقدة المركبة التي يعرفها علماء الرياضة، والتي لا يعلم أمثالي منها إلا مجمل الاتجاه في عمومه، ومن حيث هو نظم اقتصادية ونظم اجتماعية ما زلنا حتى هذه الساعة نتخبط حيالها في ظلام؛ لأن العالم منقسم في موضوعها لم يرس بعد على بر يستريح إليه ويطمئن.

فما أبعد «أصناف الطالبين» اليوم عن أصنافهم بالأمس! إن حقيقة موقفنا الفكري اليوم، هي - على أحسن الفروض - أن الأصناف القديمة الأربعة ما زالت ممتدة في رجال يعيشون بيننا إلى اليوم، لكنهم إذ يبحثون ويتجادلون، فإنما يخاطب بعضهم بعضا، ولا تسمع الدنيا إلا إلى قليل جدا مما يقولون ويكتبون؛ لأن المسائل التي تشغل دنيا اليوم ليست هي مسائل المتكلمين والباطنية والفلاسفة الأقدمين والصوفية، فكل ما قاله هؤلاء مجتمعين لا يغني فتيلا - لا أقول في دفع الصواريخ في الفضاء - بل أقول: إنه لا يغني فتيلا في إعداد المواطن المعاصر تجاه مواطنيه في قومه وتجاه سائر الناس في سائر الأقوام.

ونكتفي بهذا الآن، لنسمع ماذا يقول الغزالي في «أصناف الطالبين» الأربعة.

وأولهم جماعة «المتكلمين»، وهم - بتعريف الغزالي - «الذين ينصرون السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة»؛ ذلك أن الله تعالى قد ألقى إلى عباده على لسان رسوله - كما أسلفنا - «عقيدة هي الحق»، لكن حدث أن شاب هذا الموقف النقي ما ألقاه الشيطان من وساوس المبتدعة من أمور جاءت مخالفة للسنة، فتصدى «المتكلمون» للدفاع عن العقيدة التي تلقاها المسلمون من النبي بالقبول، وهي مهمة تجد عند الغزالي كل تشجيع وتقدير.

لكنه يأخذ عليهم أنهم اعتمدوا في أداء مهمتهم تلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، فلماذا فعلوا؟ اضطروا إلى ذلك إما متأثرين بالتقليد، أو بإجماع الأمة، أو بمجرد القبول الذي اصطنعوه تجاه القرآن وتجاه ما تواتر من الأخبار، تلقوا ذلك كله، وجعلوا همهم الأكبر هو استخراج أوجه التناقض التي تكمن في أقوال خصومهم؛ فطريقتهم هي أن يسلموا لهؤلاء الخصوم - جدلا - بما يدعون، ليأخذوا في تحليله وعرض ما ينطوي عليه من نقائض. ويعلق الغزالي على هذا الموقف قائلا إنه قد يفي بمقصودهم، لكني وجدته «غير واف بمقصودي»، وإنه «قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا»؛ أي أن جهود المتكلمين كلها تذهب عبثا إذا خوطب بها من يقف موقف الشك من كل شيء فيما عدا الحقائق العقلية الأولية الضرورية، كمبادئ المنطق الصوري والرياضيات.

ومرة أخرى نود لو جاءت عبارات الغزالي في هذا السياق أجراسا تدوي في آذاننا؛ لتوقظنا على حقيقة ساطعة صارخة، وهي أن طرائق المتكلمين التي يدافعون بها عن العقيدة على أساس التسليم بالعقيدة نفسها من حيث المبدأ، لم تقنع رجلا كالغزالي، مع أنه يشاركهم في نوع المشكلات المعروضة للحل، فما بالك بأبناء هذا العصر، والمشكلات نفسها لم تعد مشكلاتهم؟

لقد تحوط الغزالي في حديثه عن المتكلمين وطرائقهم في معالجة المشكلات؛ إذ قال إنه لم يجد عندهم شفاءه، فربما وجد سواه عندهم ما يبتغي، «فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر.» ويريد كاتب هذه الصفحات أن يتحفظ التحفظ نفسه حيال جانب ضخم من تراثنا، لا يراه جزءا من حياتنا الفكرية التي نعيشها، ومحال أن يكون، فيقول: إن عصرنا هذا لن يجد شفاءه فيما قاله هؤلاء السلف في أمورهم، حتى وإن ثبت أن غيرنا قد وجد فيه الدواء الشافي لما يعرض لهم من معضلات.

وينتقل الغزالي بعد المتكلمين إلى الفلاسفة كالفارابي وابن سينا؛ وهنا نراه - كعادته في كتاباته النقدية على اختلافها - لا يقبل بالجملة ولا يرفض بالجملة، بل ينظر إلى التفصيلات والفروع، فلعل فيها ما يقبله كما أن فيها ما يرفضه.

ويبدأ بتقسيم الفلاسفة - كما وجدهم بالفعل في الثقافة الإسلامية التي يتناولها بالنظر والتحليل - ثلاثة أقسام، هم: الدهريون، والطبيعيون، والمؤلهة. ثم يأخذ في تحديد كل فئة من هؤلاء تحديدا موجزا لكنه نافذ ودقيق؛ فأما الدهريون: فهم الذين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا بنفسه وبغير صانع. وأما الطبيعيون: فيعترفون بالصانع الحكيم المطلع على غايات الطبيعة التي صنعها وخلقها، غير أنهم اعتقدوا أن القوة العاقلة - كسائر قوى الحيوان - نابعة من مزاج الإنسان، وأنها تبطل ببطلان ذلك المزاج فتنعدم، ثم لما كان من غير المعقول أن يعاد المعدوم، فقد جحدوا الآخرة؛ وبالتالي أنكروا العقاب والثواب «فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام.» ولا ريب في زندقة هؤلاء الطبيعيين وأولئك الدهريين؛ لأن أصل الإيمان - كما يقول الغزالي - هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والدهريون ينكرونهما معا، والطبيعيون ينكرون اليوم الآخر وإن يكونوا يؤمنون بالله. وأما الفئة الثالثة من الفلاسفة، فهم جماعة «الإلهيين»؛ مثل فلاسفة اليونان: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومن تبعهم من فلاسفة المسلمين؛ مثل الفارابي وابن سينا. ولقد رد هؤلاء الإلهيون على الصنفين الأولين من دهريين وطبيعيين. وإذن فهم إلى هذا الحد لا عيب فيهم ولا غبار عليهم، لكنهم يضيفون إلى ذلك الرد مواقف وأقوالا يكفرون في بعضها من وجهة نظر الغزالي، الذي وجد في تفكيرهم ثلاثة أقسام، لا يجوز الحكم على أحدها بما يحكم به على الآخر؛ فقسم فيه كفر وقسم فيه بدعة وقسم ثالث يجوز قبوله.

ويمضي الغزالي - على طريقته في عدم الحكم الإجمالي قبل النظر في التفصيلات - في تحليل نتاج الفلاسفة، فإذا هو عنده ستة علوم: رياضة ومنطق وطبيعة وإلهيات وسياسة وأخلاق. أما الرياضة والمنطق فلا شأن لهما بالعقائد الدينية؛ إذ تنظر الرياضة في الكم وينظر المنطق في طرق الأدلة؛ مما لا يمس العقائد الدينية في مضموناتها. ولا يفوت الغزالي هنا أن ينبه إلى خطرين: خطر أن يرى بعض الناس دقة البراهين الرياضية عند الفلاسفة، فيحسن الظن بجميع علومهم مع أن دقتهم في جانب لا يستلزم دقتهم في جانب آخر. والخطر الثاني هو أن يتصدى قوم لتأييد العقيدة الدينية بجهالة فيظنون أن نصرة العقيدة لا تتم إلا بإنكار شامل لكل ما قاله الفلاسفة، حتى ما هو قائم فيه على برهان حاسم كالمنطق والرياضة. وأما علم الطبيعة عند الفلاسفة فليس به بأس ما داموا يعلمون أن الطبيعة مسخرة لله ولا تعمل بنفسها. وأكثر أغاليطهم ترد في قسم الإلهيات؛ ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها؛ إذ لم يستطيعوا في الإلهيات أن يوفوا بالبراهين على النحو الذي شرطوه في المنطق. ويحصر الغزالي مجموع أغاليطهم في عشرين مسألة، يجب تكفيرهم في ثلاث منها، وتبديعهم في بقيتها - وترى تفصيل ذلك في كتابه «تهافت الفلاسفة» - والمسائل الكفرية الثلاث هي: إنكارهم لبعث الأجساد، وقولهم إن الذي يبعث هو الروح وحدها دون الجسد. والمسألة الكفرية الثانية هي قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. والثالثة قولهم إن العالم المادي أزلي قديم، أي أنه غير مخلوق لله، ويبقى من علوم الفلاسفة علمان هما: السياسة والأخلاق، وهذا ليس فيهما ما يعرضهم لكفر وزندقة.

يفرغ الغزالي من النظر في موقف الفلاسفة من المسائل الفكرية السائدة في عصره، بعد أن فرغ من النظر في موقف المتكلمين. ثم ينتقل إلى الفئة الثالثة، وهي فئة الباطنية، الذين يذهبون إلى أن الحق لا يعرف إلا عن طريق التعليم - أي أن العقل وحده لا يكفي لإدراك الحق - وأن ذلك التعليم لا يسلم من الخطأ إلا إذا جاء عن طريق إمام معصوم (وسوف أعود بشيء من التفصيل إلى موقف الباطنية لخطره وأهميته حين توزن الثقافة التي نسميها تراثا، وزنا يبين لنا ماذا نأخذ اليوم من تلك الثقافة وماذا ندع). وقد لا يختلف مسلم في وجوب المعلم الذي نتلقى عنه، وفي وجوب عصمته من الزلل، وإلا لجاز الشك فيه، لكن موضع الاختلاف بين مسلم ومسلم هو فيمن يكون هو هذا المعلم المعصوم؟ فأما الباطنية فيمدون هذه الصلاحية إلى سلسلة من الأئمة يختلفون فيما بينهم في عددهم، وأما السنيون - ومنهم الغزالي - فيرون أن محمدا وحده هو الحقيق بهذه الصفة، فقواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة، وأما ما وراء ذلك من التفصيل فيعرف الحق فيه بموازين العقل، مما يكفي فيه كل إنسان ينهج نهج القسطاس المستقيم، ومما يؤدي إلى الاستغناء عن إمام معصوم يجيء بعد صاحب الرسالة. لقد ذهب الباطنية إلى أن ظاهر القرآن يخفي وراءه باطنا، وأنه إذا كان في وسع الإنسان من عامة الناس أن يقرأ ظاهره، فليس في وسع أحد - إلا من ألهمه الله بالقدرة - أن يئول هذا الظاهر بما قد استبطنه، وهذا هو ما يوجب أن يقوم فينا إمام معصوم ملهم، ليدلنا على ذلك الباطن. أما الغزالي فمبدؤه هو (راجع ص53 من كتاب فضائح الباطنية) أن يؤخذ النص بظاهره، إلا حيث يحكم العقل بالضرورة المنطقية على ذلك الظاهر بالبطلان، وعندئذ فقط نعلم أن المراد لا بد أن يكون شيئا غير الظاهر، فنلجأ إلى التأويل المعقول.

وأخيرا ينتقل الغزالي إلى الفئة الرابعة - فئة المتصوفة - فيجد عندهم طريقا يصلهم «بالحق»، هو طريق الإدراك الذوقي المباشر، فيضم نفسه إلى جماعتهم.

ماذا أردنا بهذه الوقفة الطويلة التي أخذنا تفصيلاتها من الغزالي؟ أردنا أن نطلع القارئ على رجال الفكر عندئذ، كيف كانوا، وبأي السمات يتميزون، وما ضروب المشكلات التي تعنيهم؛ ليرى القارئ في وضوح ناصع أن المفكرين في عصرنا من طراز مختلف، وأن مسائلهم من طبيعة مختلفة، وإذن فلن يجد المعاصرون عند الأقدمين قبسا يهتدون به في أزماتهم الفكرية من حيث مضموناتها، وربما وجدوا عندهم ما يصح الاهتداء به في النظرة والمنهج بصفة عامة.

لقد كان محور البحث عند هؤلاء المفكرين - إذا استثنينا بعض معارف الفلاسفة ومباحثهم - هو علاقة الإنسان بالله وبالرسول وبالرسالة، وكيف كان الأمر ليجيء على غير هذا النحو؟ ألم يجدوا بين أيديهم نصا قرآنيا وأحاديث مروية عن الرسول، يراد بهم أن يأخذوا أخذ المطيع لما جاء فيهما؟ فما السبيل إلى معرفة ما جاء فيهما؟ هنا وقع معظم الاختلاف بين الطوائف الأربع التي ذكرناها.

أما نحن اليوم، فقد كادت هذه المشكلة تستقر في نفوسنا عل حلول نستقر عليها في حياتنا السلوكية، ولا ضير أن نتفرق في ذلك فرقا، لكن المهم هو أن المشكلة فقدت حدتها النظرية، شأنها شأن جميع ما يعرض للإنسان في تاريخه الفكري من مشكلات، تستقر على حلول، فتبرد حرارتها، وتجيء الأيام بغيرها مما يستنفد همم المفكرين.

وإن لنا اليوم لمشكلات أخرى، تدور حول علاقة الإنسان بالطبيعة، وبالصناعة، وبزميله الإنسان.

الفصل الرابع

غربة الروح بين أهلها

يخيل إلي أن الكاتب العربي المعاصر - وسنفترض فيه أمانة الأداء وصدق العبارة - محتوم عليه أن يقع بين نارين، لا يدري كيف ينجو بنفسه منهما؛ فهو إذا ما نظر إلى أمام، وجد ثقافة تعصف عليها أعاصيرها من الغرب، بكل ما تحمله من علوم وفنون وآداب ونظم سياسية وتيارات فلسفية، فيحس وكأنه الغريب الذي يبسط الفكين ابتغاء الصدقة؛ لأنه لا يملك من ذاته شيئا يتبلغ به - ذلك إن قبلها - فإن أخذته الكبرياء الرافضة، وأشاح بوجهه عن زاد لم يكن له فضل في إنباته وإنضاجه وإعداده، لم يجد أمامه عندئذ إلا أن يلوي عنقه إلى الوراء ليأخذ زاده من مخلاة آبائه، فمثل هذا الزاد - مهما يكن فيه من شظف - فهو نبات أرضه وعبير زهره، يكفيه ذل الصغار الذي يعانيه حين يتسول في أسواق الآخرين، لكن الكاتب العربي المعاصر، لا يكاد يفتح خزانات آبائه، راجيا أن يجد فيها مراده، حتى يأخذ منه القلق مأخذا لا أظنه يصبر عليه طويلا؛ لأنه إنما فتح تلك الخزانات وبين يديه مشكلات يعانيها ويريد لها الحلول، ولم يفتحها ليجعل من رفوفها متاحف يملأ بمرأى نفائسها المعروضة ناظريه، فكيف يطول به المقام عندها وهي لا تقدم له حلا واحدا لمشكلة واحدة؟ أم ترانا ناصحيه بأن ينفض يديه من عصره ومن حياته ومن مشكلات العصر والحياة، ليطيب له العيش بين نفائس القديم بكل ما تعرضه عليه من أزمات ليست أزماته، بل كانت أزمات أصحابها، ومن معالجات لا يدري ماذا يصنع بها، إلا أن يعلقها على جدرانه للزينة؟

وهكذا يجد الكاتب العربي المعاصر نفسه بين هاتين النارين، فإما أن يختار حياة فكرية حقيقية تنبض بمشكلاته وأزماته وما يقترح لها من منافذ للنجاة، لكنه في هذه الحالة يكون في حياته الفكرية متسولا - كما هو بالفعل متسول في حياته المادية بأنظمتها وأجهزتها - وإما أن يلوذ بأصالة آبائه فيما خلفوه من إرث عظيم، لكنه في هذه الحالة الثانية مضطر أن يقضي حياته في متحف الآثار النفيسة، فلا تعود له صلة حيوية مع دنيا الفاعلية والنشاط؛ لأنه عندئذ يكون قد بتر شرايين الحياة الفاعلة النشيطة التي تصله بدنياه، وفي كلتا الحالين يحس الكاتب مرارة الغربة، فلا هو بين أهله إذا شرب من ينابيع الثقافة الأوروبية، ولا هو غني بنبض حياته إذا قفل راجعا إلى ثقافة آبائه.

وأستعير من أبي حيان التوحيدي بعض عباراته التي بث فيها شعورا منه بالغربة في عصره - القرن العاشر الميلادي - برغم اختلاف الطرفين اللذين كان عليه أن يختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمه، عن الطرفين اللذين علينا نحن الكتاب المعاصرين أن نختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمنا تمام الملاءمة. قال أبو حيان - وذلك في كتابه «الإشارات الإلهية»: «أما حالي فسيئة كيفما قلبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب علي فأكون من العاملين لها» ... «فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حمر أو نعم (= أنعام)؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندعي الصدق، والكذب شعارنا ودثارنا؟ ... إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»

ويوجه أبو حيان شواظا من نار الغيظ إلى علماء عصره، ما أحرانا أن نوجه مثلها إلى طائفة منا تسد علينا منافذ الهواء، فيقول: «... والعجب أنك - أيها العالم الفقيه، والأديب النحوي - تتكلم في إعرابه وغريبه (يقصد القرآن الكريم)، وتأويله وتنزيله، ... وكيف ورد، وبأي شيء تعلق، وكيف حكمه فيما خص وعم، ودل وشمل، وكيف وجهه، وكيف ظاهره وباطنه، ومشتمله ورمزه، وماذا أوله وآخره، وأين صدره وعجزه، وكنايته وإفصاحه، وكيف حلاله وحرامه، وبلاغته ونظامه، وغايته ودرجته ومقامه، ومن قرأ بحرف كذا وبحرف كذا؛ ثم لا تجد في شيء مما ذكرتك به، ووصفتك فيه، ذرة تدل على صفائك في حالك وإدراكك ما لك، بل لا تعرف حلاوة حرف منها ... فعلمك كله لفظ، وروايتك حفظ، وعملك كله رفض ...»

فإذا كان أبو حيان التوحيدي، إبان القرن العاشر، قد نظر إلى العلماء الفقهاء من حوله، الذين جعلوا دراسة الكتاب الكريم شغلهم الشاغل، فلم ير فيهم إلا قوما يلوكون بألسنتهم لفظا، ويعيدون الرواية حفظا، دون أن يسري شيء مما قالوه وحفظوه في حياتهم العملية، فالقول في واد والعمل في واد آخر، فماذا نقول نحن في علمائنا وفقهائنا الذين يظنون أنهم قد وقعوا على المعين الفكري الثر إذ وقعوا على دراسات من التراث، والله وحده أعلم كم من علمهم يتسرب إلى حياتهم الفعلية في مواقفهم التي يقفونها إزاء المجتمع بنظمه وأفراده، وإزاء العالم كله بمسائله ومشكلاته، بل إزاء أنفسهم وما تضطرب به من هموم ... إلا أن علمهم كله حفظ ، وروايتهم كلها حفظ - كما قال التوحيدي في علماء عصره، مضروبا في ألف - وأما عملهم ففي عالم آخر يقيس الأشياء بقيم أخرى، ولعلهم بهذه الازدواجية العجيبة بين العلم والعمل لا يشعرون، كالمصاب بداء «الفصام» عند علماء النفس المعاصرين، يقولون لنا عنه إن أوهامه في ناحية ووقائع دنياه في ناحية، ولكنه لا يصبر على من يصف له حقيقته تلك، وربما فتك به من شدة الحنق والغيظ.

ألا ما أشدها غربة، تلك التي يحسها الكاتب العربي المعاصر بين معاصريه، الأبعدين منهم والأقربين على حد سواء، فلا هو من أولئك بحكم مولده وعشيرته، ولا هو من هؤلاء بطريقة نظره وفكره. وأستطرد في استعارة العبارة من التوحيدي، وهو يصف غربة كهذه أحسها هو بين أهله وفي عصره: «قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب (= النديم)، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحق نصيب ... يا هذا! ... الغريب الذي لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشهر، ولا طي له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيستر. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه؛ لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويقصى عن المعهود ... يا هذا! الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر ... يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى.»

ولقد أطلنا الأخذ عن التوحيدي، ليتعزى الكاتب العربي المعاصر إذا هو أحس الغربة حين يذكر الحق فيهجر، أو يدعو إلى الحق فيزجر، وحين يعظم عناؤه بغير جدوى. •••

إن استعارتنا لما استعرناه من أبي حيان التوحيدي، للتشابه الذي رأيناه بين وقفته في زمنه والوقفة التي نظن أن الكاتب العربي المعاصر يقفها من معاصريه، لتصلح دليلا على ما يؤخذ من التراث وما لا يؤخذ. وأستطيع أن ألخص رأيي في ذلك بعبارة واحدة قصيرة - تفصيلها وارد في سائر فصول هذا الكتاب - وهي أن ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه؛ فقد نجد الأسلاف ذوي وقفة يغلب عليها النظر العقلي، فنأخذ منهم هذه العقلانية في النظر، وأما موضوعاتهم التي صبوا عليها الفكر المنطقي، فلم تعد أغلب الحالات هي موضوعاتنا. وها هو ذا أبو حيان التوحيدي يضيق بنفسه، وتأخذه الحيرة؛ إذ يجد نفسه لا هو من أهل الدنيا الناجحين في أمورها، ولا هو من أهل الآخرة الذين يتجردون لها. وقد نضيق نحن بأنفسنا وتأخذنا الحيرة كذلك، لكن قلما يكون هذان هما الطرفان اللذان نتردد بينهما: الدنيا والآخرة، بل قد يكون الطرفان أمامنا هما: حياة معاصرة بكل أجهزة العصر وأدواته الفكرية، أو حياة تقليدية. وهكذا يكون التشابه في بنية الإطار، لا يتعداه إلى حشوه وفحواه.

وها أنا ذا أحمل طرفا من مشكلاتي الراهنة - وقد أشرت إلى بعضها في الفصل السابق - لأعود به إلى جماعات الأسلاف باحثا عن جماعة منها تصلح أن أنضوي تحت لوائها، لأجد عندها ما يرسم لي طريق الخلاص، فإذا وجدت تلك الجماعات كلها في واد غير الوادي الذي أجتازه بهمومي، وإذا وجدت أن مسائلهم الشاغلة أمور أستكثر عليها اليوم لحظة واحدة من وقتي وجهدي ودراستي؛ لأنها أمور لا تشغل من ذهني خلية واحدة من خلاياه، إذا وجدت ذلك، كانت النتيجة التي لا مناص من قبولها، هي أن التراث الباقي من تلك الجماعات، هو أقرب إلى الآثار المحفوظة في المتاحف، لا أفرط فيها، لكني كذلك لا أستخدمها في شئون الحياة الجارية.

وأرجع إلى مؤرخي «الفرق» الإسلامية لأطالع ما كان يشغل تلك الفرق من مسائل، فأجدني كالتائه الغريب في مدينة تشعبت طرقاتها، يتكلم أهلها لغة لا يفهمها، ويتكلم هو لغة لا يفهمونها، كأهل الكهف إذ دخلوا المدينة بعد نومهم الطويل، فإذا هم في مدينتهم غرباء، في أيديهم نقود لم تعد قادرة على شراء، وعلى ألسنتهم ألفاظ لم تعد مؤدية.

نعم، إني لأرجع إلى مؤرخي «الفرق»، فأجدهم يبدءون عادة بحديث يروى عن النبي عليه السلام بروايات تختلف قليلا في لفظها، لكنها تتفق جميعا على معنى واحد، مؤداه أن أمة الإسلام ستتفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها على ضلال إلا واحدة فقط، هي وحدها الفرقة الناجية، يصفها عبد القاهر البغدادي فيقول إنها: «أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشتري لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة، وفي أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين، وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق، وهم الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقدمه، وقدم صفاته الأزلية، وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل، مع الإقرار بكتب الله ورسله، وبتأييد شريعة الإسلام، وإباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرمه القرآن، مع قبول ما صح من سنة رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد الحشر والنشر، وسؤال الملكين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان» (راجع «الفرق بين الفرق» ص26).

فواضح من ذلك أن البغدادي يفتح أبواب الجنة لأهل السنة والجماعة، ويوصدها دون سائر الفرق من خوارج، وروافض، وقدرية، وغيرها، مما يحاول أن يشققها ويفرعها حتى تبلغ اثنتين وسبعين فرقة، ليتم الصدق لحرفية الحديث النبوي السالف الذكر، ولو كان المؤرخ من الخوارج أو من الروافض أو من القدرية، لجعل فرقته التي ينتمي إليها هي الناجية وحدها، وأما سواها فصائرة إلى جحيم.

وواضح كذلك أننا منذ البداية واجدون أنفسنا بين جماعات تدير اهتماماتها على مشكلات دينية، مأخوذة من زاوية بعيدة بعدا شديدا عن المجال الفكري الذي يتحرك فيه هذا العصر ومن يريدون العيش فيه، فما الذي كان يشغل القوم مما استدعى بينهم ضروبا من الاتفاق والاختلاف؟

كان من أهم ما اهتموا به إمامة علي - رضي الله عنه - فهل كان أولى بالخلافة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان؟ وهل نص الرسول على إمامته؟ وإذا كان قد فعل، فهل كان هذا النص بالوصف أو بالاسم؟ وهل كفر الصحابة الذين اختاروا خلفاء غير علي، أو لم يكفروا؟ ... ولك أن تتصور تحت هذه المسائل وأشباهها فروعا، وفروعا للفروع، ثم لك أن تقرر بعد ذلك من ذا يكون على صواب ومن ذا يكون على خطأ، لكن هل تستطيع أن ترى على أي وجه يمكن لهذا الباب كله، بفروعه وفروع فروعه، أن يعيننا فيما نحن بصدده اليوم من معضلات؟

كان «الروافض» هم الذين أثاروا هذا الإشكال وجعلوه مدار اهتمامهم، وهم - فيما يذهب البغدادي - ثلاث فرق، تتفرع كل فرقة منها فروعا، فالزيدية منهم ثلاثة فروع، والكيسانية فرعان، والإمامية خمسة عشر فرعا، وكانت الأفكار الرئيسية التي يدور حولها البحث والحوار هي - كما أسلفنا - الطريقة التي نص بها الرسول على إمامة علي؛ فبعضهم يقول إنه نص بالوصف، وبعضهم الآخر يقول بل هو نص بالاسم؟ وتكفير الصحابة بتركهم بيعة علي؛ فبعضهم يقول إن الصحابة كفروا عندما اختاروا الأئمة الراشدين وتركوا عليا، وبعضهم الآخر يكتفي بالقول إنهم أخطئوا، لكنه خطأ لا يبلغ أن يكون كفرا. ثم مسألة الإمامة بعد ذلك لمن تكون؟ فبعضهم يجعلها لأي واحد من أولاد علي، ما دام قد خرج شاهرا سيفه، داعيا إلى دينه، وكان عالما عارفا، وبعضهم الآخر يقصر الإمامة على رجل بعينه، هو المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض، مع اختلافهم بعد ذلك حول هذا الإمام المنتظر من يكون؟

ولقد ذهب غلاة من الروافض إلى تكفير علي نفسه؛ لأنه إذا كان الصحابة قد كفروا - في رأيهم - لتركهم بيعة علي، فعلي كذلك قد كفر لتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم، كما لزمه قتال أصحاب صفين، ومن القائلين بهذا بشار بن برد الشاعر، على أن الروافض جميعا - على اختلافهم في المسائل التي ذكرناها - قد اجتمعوا فيما يظهر على رأي واحد بالنسبة لمرتكبي الكبائر، وهو أنهم مخلدون في النار.

وينقلنا هذا الرأي إلى جماعة أخرى، هي جماعة «الخوارج» التي تتشعب عشرين فرقة، تختلف فيما بينها على تفصيلات هنا وهناك، لكنها تجتمع كلها على تكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وتكفير كل من رضي بتحكيم الحكمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ثم أوجبوا جميعا خروج الناس على الإمام الجائر.

فالخوارج - في عبارة الشهرستاني - هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين والأئمة في كل زمان. وأول من خرج على أمير المؤمنين جماعة ممن كانوا معه في حرب صفين، حين طلب إلى أمير المؤمنين الاحتكام إلى كتاب الله فيما بينه وبين معارضيه من خلاف، وكان أمير المؤمنين يريد إقامة الحق بالقتال، فخرج عليه هؤلاء الخوارج قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف؟! وحملوه على قبول التحكيم، وعلى أن ينيب عنه أبا موسى الأشعري في التحكيم، وكان مبدؤهم ألا حكم إلا الله، ويجمع الخوارج أيضا - كما يقول الشهرستاني - «على التبري من عثمان وعلي، ويكفرون الكبائر، ويرون الخروج على الإمام - إذا خالف السنة - حقا واجبا.»

وإن القول بتكفير المذنب مقترف الكبائر، ليدعونا إلى ذكر جماعة «المرجئة» الذين نادوا بألا يكون لأحد حكم على أحد في هذه الدنيا من حيث معصية أوامر الله أو طاعتها، بل ينبغي أن يرجأ الحكم إلى يوم الحساب، يوم يكون العبد بين يدي خالقه. وفي رأيهم أن يفسح الأمل أمام الإنسان في مغفرة، فلا تضر - مع الإيمان - معصية، ولا تنفع - مع الكفر - طاعة، كما كانوا يقولون. وإنا لنلمح في هذا القول من المرجئة موضعا من مواضع التعارض بينهم وبين المعتزلة (وسيرد ذكرهم بعد قليل)، الذين يرتبون على العدل الإلهي نتيجة ضرورية، هي ألا يعامل المؤمن والكافر على حد سواء، وذلك عندهم هو مبدأ «الوعد والوعيد». •••

ونود أن نقف وقفة أطول عند فرقة لها أهميتها البالغة، هي فرقة «الشيعة» وما يصاحبها من نزعة «باطنية » (على أن نلحظ هنا بأن النزعة الباطنية ليست مقتصرة على الشيعة وحدها)، فقد مرت بنا جماعات خرج على علي خروجا بلغ أحيانا إلى حد تكفيره؛ لأنه لم يقاتل من انصرفوا عن بيعته، وأما «الشيعة» فهم الذين شايعوا عليا وقالوا بإمامته وخلافته، نصا ووصية، سواء كان ذلك النص أو هذه الوصية قد وردت جلية أو خفية، وهم كذلك الذين اعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وعندهم أن الإمامة ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة، لكنها قضية أصولية تعد ركنا أساسيا من أركان الدين.

وليس يقتصر أمر الشيعة على الجانب السياسي وحده، الذي يفضل رجلا على رجل، أو أسرة على أسرة في أحقية الخلافة، ولكنه يجاوز ذلك ليمتد إلى أبعاد بعيدة في الفكر الإسلامي. وقبل أن نقدم إلى القارئ صورة موجزة لهذه الأبعاد - معتمدين في تقديمها، بصفة أساسية، على كتاب «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، تأليف هنري كوربان، وترجمة الأستاذين نصير مروة وحسن قبيسي - نريد أن نبين للقارئ أجلى بيان مستطاع، أن هدفنا في تتبع هذه التيارات الفكرية ليس هو أن نشايع أو أن نعارض، بل هو أن نمهد الطريق الذي يمكننا آخر الأمر من الإجابة المقنعة المنصفة على سؤال رئيسي طرحناه، وجعلنا هذا الكتاب كله محاولة للجواب عليه وهو: إلى أي حد يمكن للعربي المعاصر أن يستعين بالتراث الفكري في معالجة مشكلاته الراهنة. ولقد تناصرت في الصفحات السابقة لمحات، يدل مجملها على رأي نراه مرجحين لصوابه، وهو أن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته؛ لأنه يدور أساسا على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان.

ونعود إلى الأعماق الفكرية التي تمتد إليها النظرة الشيعية: فبين أيدينا كتاب أوحي به إلى النبي عليه السلام، وواجب المسلم أولا وآخرا هو أن يلم بما جاء في هذا الكتاب إلماما لا يكفي فيه الوقوف عند سطح اللفظ الظاهر، بل لا بد من أن يتعمقه إلى أبعد ما يكمن وراء هذا السطح من أغوار . لكن هذا الفهم المتعمق مرهون بوجود الإنسان الذي يستطيعه، ثم ينقله إلى الآخرين، فإذا ما وصل هذا الإنسان إلى الأعماق الكامنة وراء الظاهر، كان بذلك قد وصل إلى «الحقيقة» أي إلى المعنى «الحقيقي» الذي قصدت إليه الإيحاءات الإلهية كما هي بادية في ظاهر اللفظ القرآني. ولقد تستطيع أن تقف عند ظاهر النص فتفهمه من حيث هو تركيب لفظي ينكشف معناه بمعرفتك للألفاظ ودلالاتها القاموسية، لكن مثل هذا الفهم - وإن دلك على أحكام الشريعة في الحلال والحرام وما إلى ذلك - فهو ليس بالفهم الذي يوصلك إلى المعنى الروحي. على أن المسافة بين المعنى الظاهر في طرف، والمعنى الروحي في طرف آخر، ليست هي المسافة التي تقطعها بوثبة واحدة، إنما هي طريق تتدرج مستوياته، ولكل امرئ من هذه المستويات المتدرجة ما تسعفه به قدرته.

فهناك إذن «شريعة» و«حقيقة»؛ الشريعة هي المظهر الخارجي للحقيقة، والحقيقة هي البعد الداخلي للشريعة؛ الأولى ظاهر والثانية باطن، والظاهر رمز يرمز إلى خفي مقصود، والباطن هو المرموز إليه، الظاهر له مكانه وزمانه، وأما الباطن فأزلي بغير مكان أو زمان. ولقد ذكرنا أن إدراك هذا الباطن محتاج إلى عارف بالسر، وذلك هو النبي، لكن النبوة قد ختمت بمحمد عليه السلام، فما وسيلتنا من بعده إلى كشف السر الحقيقي الخافي وراء الظاهر؟ لا بد أن يكون هنالك «إمام» معصوم من الخطأ، يخلف النبي، ليكون هو كاشف الأسرار، فالتشيع إلى إمام بعينه لا يستهدف الجانب السياسي وحده، بل أهم من ذلك أنه هو الإمام الذي سوف يركن إليه في فهم المسلم لدينه فهما حقيقيا، وإن هذا الإمام العارف بسر الحقيقة، لينقل ذلك السر إلى من يخلفه، وهذا إلى من يخلفه، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي السلسلة عند حلقة بعينها.

ويرتكز الشيعة في سعيهم إلى المعنى الحقيقي الباطن للقرآن، على حديث يروى عن النبي عليه السلام، يقول: إن للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن، وهو حديث يجعله المتصوفة أيضا سندا يستندون إليه في محاولاتهم التغلغل وراء ظاهر النص القرآني إلى ما قد يهتدون إليه من معان حقيقية، يكون ذلك الظاهر المنصوص بمثابة الإيحاء الذي يشير إليها، وما «الإمام» عند الشيعة إلا الولي الملهم في بلوغ المعاني الحقيقة المستبطنة طي النصوص الظاهرة، ينقلها إلى الناس بطريقة «التعليم»؛ أي أن مسألة الفهم ليست موكلة إلى «عقل» يتأمل ويدرك ويقيس (كما هي الحال عند المعتزلة)، بل هي مسألة مرهونة بإمام عارف يلقنها إلى الناس تلقينا، مستندا في معرفته إلى الإلهام الروحي، لا إلى المحاولات العقلية.

فالطريق إذن مزدوجة، لها شعبة للنزول وأخرى للصعود، إن جاز هذا التعبير، فهنالك «تنزيل» من ناحية، ثم «تأويل» من ناحية أخرى، أما التنزيل فهو ما أملاه جبريل على النبي من آيات، وأما التأويل فهو حركة نئول بها - أي نعود - بدءا من هذه الآيات فرجوعا إلى الحقيقة الأولى التي كانت ينبوعا لها، فلو بلغنا بالتأويل تلك الحقيقة الأولى، فقد بلغنا الجوهر الأزلي، وعرفنا الله سبحانه؛ وإذن فوجهة الفكر هي معرفة الله الذي يتجلى في هذا الكتاب المنزل. على أن هذه المعرفة لا تكمل للإنسان إلى على مراحل، فإذا وجدنا فكرة «الانتظار» أساسية عند الشيعة، فليس هو انتظارا لوحي بشريعة جديدة، بل هو انتظارا حتى تنكشف كل المعاني المستورة، وما انتظارهم للإمام الغائب إلا انتظارا لمن يتمم عملية الظهور لما تنطوي عليه الإيحاءات الإلهية من إشارات.

إنه إذا كان دور النبوة قد انتهى، فإن دور الولاية يبدأ بذلك الانتهاء، ودور الولاية هو دور الإمام يعقب النبي، أعني هو دور الباطن يعقب الظاهر، أو هو دور الحقيقة تتلو دور الشريعة. وها هنا تجد بين فرق الشيعة تفاوتا في درجة التوازن الذي يقيمونه بين الشريعة والحقيقة، بين الظاهر والباطن، فهنالك من لا يستغني بأحدهما عن الآخر، وهنالك من إذا وصل إلى الحقيقة أسقط الشريعة. ومهما يكن من أمر اعتدال المعتدلين أو تطرف المتطرفين في العلاقة بين وجهي الظاهر والباطن: هل يتعادلان أو يطغى أحدهما على الآخر، فإنه لا بد - في جميع الحالات - أن يقترن الجانبان اقترانا لا ينفك قائما. ولعل أبسط صورة تصور لنا العلاقة بين الرسالة والنبوة والولاية، أعني بين الرسالة وهي في ظاهرها والرسالة وهي في باطنها، أن نتصور هذه الجوانب الثلاثة في صورة دوائر ثلاث ذات مركز واحد، الدائرة الوسطى في قلب الدائرة الكبرى، والدائرة الصغرى في قلب الوسطى، فالرسالة في ظاهرها هي بمثابة الدائرة الخارجية، وباطنها - أي الدائرة الوسطى - هي النبوة، وباطن النبوة - أي الدائرة الداخلية - هي الولاية، وبهذا يكون الرسول رسولا ونبيا ووليا في شخص واحد، وإنما تكون له هذه الصفات بحسب العمق الذي يتعمق به بواطن رسالته تأويلا لها بحيث يئول إلى الحقيقة الأزلية التي عنها صدرت رسالته، ويكون النبي هو كذلك وليا، وأما الولي فهو ولي فحسب، بمعنى أن الولاية تتحقق له حالة إدراكه للسر الإلهي الكامن تحت النصوص الظاهرة. وإذا شئت تصويرا آخر لهذه الطبقات الثلاثة، فقل إن الرسالة هي قشرة الثمرة، والنبوة لبها، والولاية هي الزيت الساري في ذلك اللب، فلو أخذت الرسالة وحدها كان ذلك هو الشريعة مجردة عن النظرية الصوفية، وعلى أساس هذا التصوير تكون الولاية هي الغاية القصوى المقصودة من وراء الرسالة والنبوة معا؛ لأن هاتين وسيلتان مؤديتان إليها.

إنه لا بد للكتاب من قيم يناط به العلم به علما كاملا، فنص القرآن وحده لا يكفي، لأنه - فضلا عن معناه المستور وراء ظاهره - يشتمل على تناقضات ظاهرية، لا ترتفع إلا بالتأويل، وهو تأويل لا ينفع فيه اللجوء إلى الجدل الكلامي القائم على منطق العقل وقياسه، وإنما يحتاج الأمر إلى رجل ملهم ورث عن سلفه إرثا روحيا يمكنه من الإلمام بالظاهر والباطن معا في وحدة متصلة، وهذا هو ما ننعته بأنه حجة الله، أو قيم الكتاب، أو الإمام.

ولست أرى كيف أنتفع بهذه العدة كلها، بملحقاتها وملحقات ملحقاتها، سلاحا أخوض به معمعان هذا العصر؟ إن أبناء هذا العصر في سباق مميت نحو القوة بكل ضروبها، من سلاح وصناعة وعلم ومال وصحة وغيرها، فهل تفيدنا هذه المئونة الفكرية زادا على الطريق؟ نعم، قد تنفع زادا على الطريق إلى الجنة في اليوم الآخر، وهذا هدف - لا شك - منشود، لكن سؤالنا في هذا الكتاب منصرف دائما - دون التغاضي عن السعادة الأخروية وسبلها - إلى هذه الحياة الدنيا، وفي هذا العصر الذي نعيش تحت سمائه؟ إنني أترك للقارئ أن يجيب.

بل قد تجد من صفوة الأئمة الأقدمين من ينكر علي مثل هذا النظر أن يكون سبيلا إلى سعادة اليوم الآخر، ويرى فيه محاولة للانسلاخ من شرائع الدين، فهذا هو الإمام الغزالي، يؤلف كتابا بأكمله، يسميه «فضائح الباطنية»، ليكشف به ما قد تنطوي عليه هذه الوجهة من النظر، فيقول:

إن الباطنية سميت بهذا الاسم لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار، بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، وعندهم أن من ارتقى إلى علم الباطن، انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه، وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع، فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر فهموا الباطن فهما يمكنهم من الانسلاخ عن قواعد الدين؛ لأنه إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة، فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.

فالسبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة - هكذا يقول الغزالي في الفصل الثاني من الباب الثاني - هو الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ثم يقول: تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع، وتكذيب الرسل، وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر.

فبعد أن استولى المسلمون على ملك أسلافنا - هكذا يتصور الغزالي مخاطبة تلك الطوائف لنفسها - وانهمكوا في التنعم في الولايات، مستحقرين عقولنا ... ولا مطمع في مقاومتهم بقتال، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال ... فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم، وهم الروافض، ونتحصن بالانتساب إليهم، ونتباكى لأهل البيت عما حل بآل محمد ... ونتوصل بذلك إلى تطويل اللسان في أئمة المسلمين، حتى إذا قبحنا أحوالهم في أعينهم، انسد عليهم باب الرجوع إلى الشرع وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين، فإن بقي عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار، أوهمناهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن، وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليها عقائدنا، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن.

ويمضي الغزالي في بقية أبواب الكتاب وفصوله يبين مذهب الباطنية جملة وتفصيلا؛ ليظهر فيه مواضع المؤاخذة والتناقض، ويكفي أنه مذهب يستند إلى قول الإمام المعصوم، منكرا على العقول أن تكون مدرجة للحق.

فإذا كان هنالك من يرى في هذا المذهب طريقا مسدودة بالنسبة إلى علاقة الإنسان بالله وباليوم الآخر، فماذا عساه أن يكون بالنسبة إلى أمور الحياة الدنيا، وفي هذا القرن العشرين؟ •••

ويبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها - بغض النظر عن الموضوعات التي كانت مطروحة لبحثها؛ لأن لكل عصر موضوعاته التي تعنيه قبل سواها - أعني أن يرثها في طريقتها ومناهجها عند النظر إلى الأمور، هي جماعة المعتزلة التي جعلت «العقل» مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر. ومع ذلك فلم يكن ينظر إلى هذه الجماعة نظرة الرضا، بل عدت عند كثيرين جماعة ضالة انحرفت عن طريق الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإلهام ثم التعليم، أي أن الإمام الملهم تنكشف له الحقيقة انكشافا، ومن ثم ينقلها إلى عامة الناس بالتعليم؛ لم يكونوا ليستريحوا لجماعة المعتزلة بسبب اعتماد هذه الجماعة على العقل؛ لأن إمعان النظر في موقفهم يبين أنهم بمثابة من أنكر النبوة ذاتها؛ إذ يتلخص موقفهم هذا - كما عبر عن ذلك مفكر متطرف كالراوندي - في هذا القياس الإحراجي: إما أن تتفق رسالة النبي مع العقل وإما أنها لا تتفق، فإذا كانت الأولى فلا فائدة منها لأن في العقل ما يكفي، وإن كانت الثانية فهي أولى بالرفض من القبول.

ويضعهم عبد القادر البغدادي (في كتابه «الفرق بين الفرق») مع فرق الضلال، ويقول: إن المعتزلة افترقت فيما بينها عشرين فرقة، كل فرقة منها تكفر سائرها، يضيف إليها اثنتين يصفهما بأنهما كانتا من غلاة الكفر، وهو يرى أن الفرق العشرين المعتدلة - على ضلالها - تختلف فيما بينها حول تفصيلات كثيرة، لكنها جميعا تتفق على أمور:

منها: نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية، وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا صفة أزلية. وزادوا على هذا بقولهم: إن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة.

ومنها: قولهم باستحالة رؤية الله عز وجل بالأبصار، وزعموا أنه لا يرى نفسه، ولا يراه غيره. واختلفوا فيه: هل هو راء لغيره أم لا؟ فأجازه قوم منهم، وأباه قوم آخرون منهم.

ومنها: اتفاقهم على القول بحدوث كلام الله عز وجل، وحدوث أمره ونهيه وخبره، وكلهم يزعمون أن كلام الله عز وجل حادث، وأكثرهم اليوم يسمون كلامه مخلوقا.

ومنها: قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وزعموا أن الناس هم الذين يقدرون على أكسابهم، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم، ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع وتقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون «قدرية».

ومنها: دعواهم في الفاسق من أمة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين، وهي أنه فاسق، لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سماهم المسلمون «معتزلة»؛ لاعتزالهم قول الأمة بأسرها.

هذا ما يقوله البغدادي عن مواضع الاتفاق التي جمعت فرق المعتزلة في جماعة واحدة. وإنه ليجدر بنا قبل ترك هذا السياق أن نذكر نقطة فرعية في تعليل اسم «المعتزلة»، فلئن كان البغدادي يعزو هذه التسمية إلى كون هذه الجماعة قد «اعتزلت قول الأمة بأسرها» حين رأت رأيها في الفاسق بأنه لا هو مؤمن ولا كافر، فللشهرستاني (في كتابه «الملل والنحل») تعليل آخر هو أكثر شيوعا بين الدارسين، وهو أنهم سموا «بالمعتزلة» لقول الحسن البصري، وقد كان يجلس في حلقته من الجامع، وبين تلاميذه المحيطين به عندئذ واصل بن عطاء ، ثم جاء من يسأل عن الحكم في الفاسق أمؤمن هو أم كافر؟ فتصدى واصل للإجابة بأنه يكون في منزلة بين المنزلتين، ولم يوافق الحسن البصري على هذا الرأي، فانتقل واصل بن عطاء - مع مؤيديه - وجلس وحده على مبعدة، فقال الحسن البصري: «اعتزل عنا واصل.» ومن هنا سمي من تبعوا هذا الخط الفكري الذي بدأه واصل «بالمعتزلة». وهناك تعليل ثالث ذكره النوبختي (في كتابه «فرق الشيعة»)، وهو أن اسم المعتزلة إنما أطلق على عدد من الصحابة «اعتزلوا» عن الإمام علي؛ بمعنى أنهم حايدوا بينه وبين معارضيه، فلا هم حاربوه ولا هم حاربوا معه.

ونعود إلى المعتزلة بالمعنى الأشيع، لنوجز القول في مذهبهم - وقد أسلفنا تلخيص البغدادي لأهم أركانه المتفق عليها بينهم - ثم لنشير إلى الوجه الذي نراه نافعا لنا في عصرنا الراهن، فيمكن القول بأن مذهبهم يدور حول محورين (وقد قال ذلك هنري كوربان في كتابه الجيد «تاريخ الفلسفة الإسلامية») هما: مبدأ التوحيد بالنسبة لله تعالى، ومبدأ حرية الاختيار بالنسبة للإنسان. وأما «التوحيد» - كما نظروا إليه - فهو بمثابة الرد على مظاهر التثليث في العقيدة المسيحية؛ وذلك لأن المعتزلة ينفون عن الجوهر الإلهي كل صفة، وهم ينفون عن الصفات (الإلهية) كل حقيقة إيجابية متميزة عن الجوهر الواحد، فلو كان «العلم» الإلهي - مثلا - أو «القدرة» أو «الكلام» صفة ذات كيان متميز مستقل، لحدث تعدد، ولم يعد الجوهر الإلهي «واحدا»، ولقد نتج عن موقفهم هذا - فيما نتج - تأكيدهم على أن القرآن «مخلوق» وأنه ليس «بالقديم»، أي أن القرآن حادث، له مكان وزمان نزل فيهما على النبي عليه السلام، ولو قيل إن القرآن هو كلام الله القديم، الذي ظهر في الزمان على الصورة التي نزل بها، حين نزل باللغة العربية، أو قل إن كلام الله قديم بمعناه حادث بلفظه، لو قيل ذلك، كان أشبه بالتجسد في العقيدة المسيحية، حين يقول أصحاب هذه العقيدة بأن المسيح عليه السلام هو «كلمة» الله القديمة، وقد ظهرت في مجرى الزمن على صورة إنسان من البشر.

أما التوحيد كما يراه المعتزلة فهو مطلق وخالص، لا يتكثر بتكثر صفاته، ولا يرى بالأبصار، شأن كل تجريد مطلق خالص.

والمبدأ الثاني عندهم هو حرية الاختيار بالنسبة للإنسان، ويترتب على ذلك مبدأ العدل الإلهي - وكثيرا ما قال المعتزلة عن أنفسهم إنهم أهل توحيد وعدل؛ إبرازا لهذين الجانبين في مذهبهم - ومقتضى العدل الإلهي عندهم أن يثاب الإنسان وأن يعاقب على أفعاله، فما دام الإنسان حرا في اختياره، فحريته هذه لن يكون لها معنى إلا إذا كان مسئولا عما يفعل، ثم لا يكون لهذه المسئولية معنى إلا إذا ترتب الجزاء المناسب على العمل، أما أن يقترف الإنسان الإثم باختياره فنقول إن الله تعالى قد يغفر له إثمه، أو أن يعمل الإنسان العمل الصالح فنقول إن الله تعالى قد يشاء له من الجزاء شيئا غير الذي نراه متفقا مع العدل، فأمور لا يقبلها المعتزلة؛ لأنهم يرونها مناقضة لفكرة العدل الإلهي، ثم يترتب على صفة العدل هذه مبدأ من مبادئهم، هو مبدأ الوعد والوعيد، فالعدل الإلهي يقتضي عندهم ألا يتساوى المؤمن والكافر في الجزاء، فقد وعد الله تعالى المؤمنين بأشياء، وتوعد الكافرين بأشياء، فلا يعقل ألا يكون الله عند وعده ووعيده. على أن طرفي الكفر والإيمان يمكن أن تتوسطهما درجات من العصيان، فليس كل ذي معصية كافرا، بل يقولون إنه في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا هو بالكافر الذي تنكر لأركان الدين كلها، ولا هو بالمؤمن الذي أطاع تعاليم الدين كلها.

فهذه - إذن - أربعة أصول في مذهبهم: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، يضاف إليها أصل خامس يعالجون به موقف الفرد من المجتمع، هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكفي أن تؤمن - من حيث أنت فرد واحد - بالعدل، وبالحرية، بل لا بد من إشاعتهما في المجتمع الذي تعيش فيه عضوا مواطنا؛ لتتحقق الظروف التي تمكن سائر الأفراد من أن يكونوا أحرارا في اختيارهم لما يعملون، وفي أن يتحملوا تبعات أفعالهم التي اختاروا فعلها وهم أحرار الإرادة.

إنه برغم الاختلافات البعيدة بين مضمونات هذه الألفاظ؛ ألفاظ العدل والحرية والأمر بالمعروف، عندما يستخدمها المعتزلة، عنها حين نستخدمها نحن اليوم في سياق الحياة الفكرية المعاصرة، فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطا فكريا ليمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة؛ فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى حرية الفرد في فكره وسلوكه، وفي حمله التبعة عن نفسه دون أن يحمل عنه هذه التبعة ولي أو حاكم، ونحن أحوج ما نكون إلى سند من التراث يسندنا في الدعوة إلى مشاركة الفرد في حياة المجتمع مشاركة فعالة مسئولة، لعلنا نقضي على هذه اللامبالاة العجيبة وهذه السلبية وهذا الاستهتار، الذي يميل بالفرد إلى أن ينحصر في أهدافه الفردية، حتى لو كان بعد ذلك طوفان يغرق الأرض وما عليها. وإنا لنلحظ هنا تناقضا يلفت النظر، فبينما الفرد من أفرادنا اليوم يوشك أن يلقي بزمام أموره الاجتماعية والسياسية كلها إلى غيره يسيرها له، فتنعدم حريته الفردية انعداما شبه تام، بحيث يمكن أن يستيقظ ذات صباح فإذا الصحف تعلن له تغيرات أساسية في قواعد عيشه وقوانينها، وهو لم يكن يدري عشية الأمس من أمر تلك التغيرات مقدار ذرة، ثم لا يأخذه من ذلك العجب؛ لأنه شيء مألوف في حياته المعتادة، تراه يدير حياته من ناحية أخرى على فرديته كأنما الدنيا لم يعد فيها من الناس سواه، وإنه لعسير علينا أن نقول أيهما هو الأصل عندنا، تقرير الذات المفردة أم إنكارها؟ ومن أجل هذا أعتقد أن إحياء التراث المعتزلي في صورة جديدة قد ينفع في معالجة هذه المفارقة التي تمزق فينا وحدة النظر.

ولقد عرف المعتزلة كذلك بمذهبهم في «التوحيد» الذي يلزم عنه في رأيهم نفي أزلية الصفات الإلهية، بمعنى أنهم لم يتصوروا أن يكون مع الذات الإلهية القديمة - أي الأزلية - صفات قديمة كذلك، كالعلم والقدرة والحياة وما إليها؛ لأن ذلك من شأنه - عندهم - أن يجعل من الوحدة كثرة؛ ولذلك فهم يرون أن الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته ... إلى آخر صفات الله، فليس هنالك «علم» و«قدرة» و«حياة» تضاف إلى الله عز وجل، وكأنما هو شيء وصفاته شيء آخر بل الذات الإلهية نفسها علم، وهي نفسها قدرة، وهي نفسها حياة، وهكذا، فإذا طبقنا هذا المبدأ على صفة «الكلام» و«البصر» و«السمع» وغيرها، انتفى أن يكون الكلام (الذي هو القرآن) قديما، كما انتفى أن يكون لله - عز وجل - بصر وسمع بالمعنى الذي يكون به للإنسان مثلا بصر وسمع، فقد أتصور الإنسان ذا بصر وقد أتصوره فاقد البصر، أو أتصوره ذا سمع وغير ذي سمع؛ لأن أمثال هذه الصفات مصاحبة للإنسان وليست جزءا من ذاته، ولا كذلك الأمر بالنسبة إلى الله تعالى، فهو - كما يقول المعتزلة - بصير بذاته سميع بذاته.

ولم تظهر أزمة فكرية في شيء من هذا كله بقدر ما ظهرت في مسألة «كلام» الله، أهو قديم أزلي، أم هو حادث مخلوق؟ هل كان القرآن كما نقرؤه ونسمعه موجودا قبل وقت نزوله على النبي عليه السلام؟ أو أنه استحدث استحداثا وقت نزوله، ولم يكن قبل ذلك؟ قال المعتزلة إنه مخلوق حادث، وقال أهل السنة بل هو أزلي قديم، وكان ما كان في هذه المسألة من خلاف أدى إلى محنة أيام المأمون.

وربما بدا أن لم يعد لنا صلة بهذه المشكلة لا شكلا ولا مضمونا، لكن أظن أنه - وإن يكن مضمون المشكلة قد خرج من حياتنا الفكرية خروجا تاما أو شبه تام - إلا أن شكل المشكلة وموقف المعتزلة منها يمكن إحياؤه لننتفع به في وقفتنا المعاصرة؛ وذلك أن المسألة تستتبع رأيا في التشبيه، أعني في تصور الله مشبها بالإنسان سمعا وبصرا وإرادة وغير ذلك. وموقف المعتزلة من شأنه - كما نرى - أن يتجرد الله تعالى من كل صفة خارجة عن ذاته، وأعتقد أننا إلى يومنا هذا يتعذر علينا - أو على سواد الناس منا على الأقل - ألا نتصور الله تعالى مشبها وكأنما هو إنسان كبير، كل ما يختلف به عن الإنسان الصغير، إنه غير مرئي من جهة، وأنه أوسع مكانا وأطول زمانا من جهة أخرى، وهو تصور يجعل الفرق بين الله والإنسان فرقا في الكم لا في الكيف. ثم هو تصور - وذلك هو المهم عندنا - يجعل الرقابة الأخلاقية على الإنسان آتية من خارج لا نابعة من داخل، ولو تصورت الله تعالى في الصورة المجردة الموحدة التي أرادها المعتزلة، لكان شيئا أقرب ما يكون إلى «الضمير»، ولأصبحت وحدته وحدة في القيم، بحيث يصعب على المؤمن - بهذا المعنى - بعد ذلك أن يتصرف هنا على أساس آخر، فلا يشعر بالتناقض ولا بالتمزق في شخصه، حين يرى نفسه قد انعدمت فرديته وزالت حريته في ناحية، وتضخمت فرديته وطغت أنانيته في ناحية أخرى. •••

ونغض أنظارنا عن فرق كثيرة لا تستحق مجرد الذكر لتفاهة اهتماماتها وهزال رأيها، وهي الفرق التي جمعها عبد القاهر البغدادي في الباب الرابع من كتابه، وميزها بأنها «فرق انتسبت إلى الإسلام وليست منه.» وإن كنت لا أتعاطف مع البغدادي حين يدرج في صنف واحد فرقا تشغل نفسها بتأليه هذا الرجل أو ذلك من عباد الله، وجماعات أخرى كان لمواقفها الفكرية قيمة كبرى، سواء وافقناهم أو خالفناهم في وجهات النظر، كالصوفية والباطنية مثلا.

فماذا يحس المفكر العربي المعاصر إلا الشعور بالغربة الشديدة، وكأنه بين جماعات من مخلوقات ليست من الأناسي، حين يقرأ عن فرق كالسبئية مثلا تزعم أن عليا - رضي الله عنه - إله، ولما قتل علي زعموا أن المقتول لم يكن عليا، وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورة علي، وأن عليا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم. ثم زعموا أنه في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، ومن سمع منهم الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين.

أو حين يقرأ عن فرقة «البيانية» التي زعم أصحابها الربوبية وملحقاتها لزعيمها بيان بن سمعان، الذي قالوا عنه إن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى إمامهم هذا.

أو حين يقرأ عن «المغيرية» - أتباع المغيرة بن سعيد - الذي ادعى النبوة، وأنه عليم بالاسم العظيم الذي يحيي به الموتى ويهزم به الجيوش، وأن الله تعالى لما أراد أن يخلق العالم تكلم باسمه الأعظم، فطار ذلك الاسم ووقع تاجا على رأسه، ثم إنه بعد وقوع التاج على رأسه كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده، ثم نظر فيها فغضب من معاصيهم، فعرق، فاجتمع من عرقه بحران، أحدهما مظلم مالح، والآخر عذب نير، ثم اطلع في البحر فأبصر ظله، فذهب ليأخذه، فطار، فانتزع عيني ظله، فخلق منهما الشمس والقمر، وأفنى باقي ظله، وقال لا ينبغي أن يكون معي إله غيري، ثم خلق الخلق من البحرين، فخلق الشيعة من البحر العذب النير، فهم المؤمنون، وخلق الكفرة - وهم أعداء الشيعة - من البحر المظلم المالح.

وهكذا وهكذا، تقرأ أمثال هذا الخلط الصبياني العجيب عند جماعات كثيرة، هي لا شك جزء من تراثنا، لكنه جزء لا يجوز النظر إليه إلا كما ننظر إلى ألاعيب الصبية الحالمين؛ فهل يحق لنا أن نضع الحلاج - مثلا - مع أمثال هؤلاء، كما فعل البغدادي؟ لقد وجد البغدادي وجها للشبه بين الحلاج وبينهم في أن كليهما ينزع إلى «الحلولية»، لكنني أحس بأن الحلولية عند الحلاج صادرة من عمق الخبرة وغزارة الوجدان، على حين كانت عند تلك الفرقة صادرة عن سذاجة دونها سذاجة الأطفال.

لنغض أبصارنا - إذن - عن فرق كثيرة، لنقف وقفة عند الفرقة التي قيل عنها إنها هي وحدها الفرقة الناجية، ومن أهم ما يهمنا من أمرها أنها تقف من المعتزلة موقف الضد، وذلك - على الأقل - من جهة أن المعتزلة تنفي أن يكون لصفات الله كيانات أزلية قائمة بنفسها، وأما هذه الجماعة - وهي أهل السنة المعتمدة على أخبار السلف دون مطلق الركون إلى العقل - فيثبتون حقائق الصفات الإلهية كما وردت بها النصوص؛ ومن ثم تسميتهم «بالصفاتية» أحيانا؛ لإبراز الفرق بينهم وبين المعتزلة الذين هم من الناحية «معطلة» أي مجردون للصفات.

وأهمية هذه الجماعة - ولعلها أكثر الجماعات عددا - إنها هي الجماعة التي يكون فكرها ومواقفها الجزء الأكبر مما يعنيه القائلون بضرورة إحياء التراث في حياتنا الفكرية العصرية، فأهل السنة والجماعة - كما يسمون عادة - يشملون فئات هي نفسها الفئات التي تمثل في ذهن المتكلم حين يحدثك عن الفكر الإسلامي في أرفعه وأقواه، فهم يشملون كل من أحاط علما بفقه الدين، وتبرءوا من بدع الفرق المنحرفة الضالة بأهوائها، ويشملون أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية، وتبرءوا من القدرية والمعتزلة، وأثبتوا رؤية الله تعالى بالأبصار، من غير تشبيه ولا تعطيل، وأثبتوا الحشر من القبور، مع إثبات السؤال في القبر، والصراط، والشفاعة وغفران الذنوب التي هي دون الشرك، وهم الذين اعتقدوا دوام نعيم الجنة على أهلها ودوام عذاب النار على الكفرة، ولم يشكوا في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إجماع الصحابة، ورأوا تحريم المتعة، ووجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية.

ويدخل في هذه الجماعة الأئمة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن حنبل.

وتشمل هذه الجماعة كذلك من أحاطوا علما بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه السلام، كما تشمل من أحاطوا علما بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وجروا على سمت أئمة اللغة، كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه وغيرهم من أئمة النحو، كوفيين كانوا أو بصريين، وكذلك تشمل من أحاطوا علما بوجوه قراءات القرآن، ووجوه تفسيره وتأويله وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضالة، وتشمل أيضا الزهاد الصوفية الذين أجروا كلامهم في طريق العبارة وفي طريق الإشارة على سمت أهل الحديث، دون من يشتري لهو الحديث، كما تشمل المجاهدين في سبيل الله الذين يقاتلون أعداء المسلمين.

تلكم هي الفئات التي تؤلف الفرقة الناجية - كما يذكرها عبد القاهر البغدادي - ولقد تعددت ميادين نشاطها، لكنها جميعا تلتقي في أركان أساسية، هي التي تكون ما يميز الفرقة الناجية من عذاب الآخرة، فما هي تلك الأركان التي أجمعوا عليها؟ يحصرها البغدادي في خمسة عشر، هي: إثبات الحقائق والعلوم، والعلم بحدوث العالم، ومعرفة صانع العالم وصفات ذاته، ومعرفة صفاته الأزلية، ومعرفة أسمائه وأوصافه، ومعرفة عدله وحكمته، ومعرفة رسله وأنبيائه، ومعرفة معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومعرفة ما أجمعت الأمة عليه من أركان شريعة الإسلام، ومعرفة أحكام الأمر والنهي والتكليف، ومعرفة فناء العباد وأحكامهم في المعاد، والخلافة والإمامة وشروط الزعامة، ومعرفة أحكام الإيمان والإسلام في الجملة، ومعرفة أحكام الأولياء ومراتب الأئمة الأتقياء، ومعرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء.

وبغض النظر عما في هذه الأقسام من تداخل واضح، نفترض أن مسلما معاصرا قد ألم بتفصيلات هذه الأقسام كلها إلماما كاملا وشاملا، فهل تكون الحصيلة النهائية إلا رجلا كمل إسلامه بحيث يرجو عند الله - يوم الحساب - نعيم الفردوس؟ إنه بهذا الإلمام كله سينظم علاقته بربه على النحو الذي يأمل به أن يظفر برضوان الله، وهو في الحق أمل كبير، وأكبر من كبير، لكن تبقى - برغم ذلك - عدة لدنيا هذا العصر، إما تزود بها وإما هلك بمقاييس الحياة الدنيا.

إنه لا نكران بأن بعض هذه المبادئ زاد صحي في تكوين الإنسان المنهجي النظر، مهما يكن زمانه ومكانه، وإلى هذا الحد يمكن استعانة المعاصرين بتراث الأقدمين. خذ المبدأ الأول مثلا، وهو إثبات الحقائق والعلوم، فها هنا نرى منهاجا يكاد يكون علميا حتى بالمعنى الحديث، لكن مجال التطبيق المقصود هنا ليس هو المجال الذي نقصد إليه حين نتحدث اليوم عن العلوم ومناهجها؛ فهم في شرحهم لهذا الركن من أركان الدين، يهاجمون من يتشككون - على الطريقة السفسطائية - في أن يكون بمستطاع العلم الوصول إلى حقائق ثابتة، بل هم يكفرون من يعاند أحكام العقل الضرورية. ولقد توسع أهل السنة في تفصيلات العلوم، فقسموا العلوم ثلاثة أنواع: ما جاء منها عن طريق البديهة، وما جاء عن طريق الحواس، وما جاء عن طريق الاستدلال؛ وذلك لينظروا في شروط الصواب في كل نوع، وأفاضوا القول في تواتر الأخبار؛ لأن الخبر المتواتر أصل من أصول العلم، شريطة أن يستوفي التواتر الصحيح أركانه ... فهذا كله مؤد إلى تربية عقلية يحتاجها المثقف كائنا ما كان عصره، لكننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية - والتي جاء عصرنا في مجالها بما لم يعد معه باحث بحاجة إلى إضافة من السابقين، لتطور العلوم وتطور مناهجها وطرائق البحث فيها، تطورا لم يكن يحلم به أحد من الأولين - أقول إننا لا نكاد نترك هذه القواعد النظرية إلى مواد البحث نفسها، حتى نجد أنفسنا في واد، والجماعة التي نطلق عليها اليوم اسم «علما» في واد آخر.

فماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن «تؤمن» بأن العالم قديم أو حادث - أعني بأنه أزلي أو أنه مخلوق - بل وماذا يغير من نظريات العلم الطبيعي وقوانينه أن تعرف صانع العالم وصفاته الأزلية وأسماءه وعدله وحكمته ورسله وأنبياءه؟ ... إنني ها هنا أريد أن أكون واضحا أمام القارئ، خشية الكبس؟ فلست أعني بذلك ألا «نؤمن» بهذا الصانع وبما يتصف به، لكن هذا «الإيمان» شيء والعلوم الطبيعية والرياضة وميادينها وقوانينها شيء آخر؟ فقد يكون أعلم علماء الأرض مؤمنا وقد لا يكون، عارفا بصانع العلم أو جاهلا به؟ إن شرط معرفة صانع العالم وصفاته إلخ ضرورية حين يكون معنى «العلم» التفقه في الدين وأحكام الشريعة، وأما حين يكون معناه الكشف عن قوانين الضوء والصوت والكهرباء وسائر ما في الطبيعة من ظواهر، ثم تطبيق هذا الكشف على أجهزة كالتي نراها اليوم في كل ركن من أركان الأرض، فعندئذ لا شأن للإيمان الديني به. ولقد نتصور أن يكون العالم منتميا إلى أي دين، إلى اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، إلى الهندوكية أو البوذية، قد نتصوره من غير المؤمنين بأي دين، قد نتصوره من عبدة النار أو من عبدة الأوثان؛ لأن «علمه» - بالمعنى الذي نقصد إليه اليوم بهذه الكلمة - لا صلة له بالطريقة التي يتدين بها إذا كان ذا ديانة.

وفي هذه التفرقة يكمن أصل من أهم الأصول التي نعتقد أنها هادية حين نتحدث عن اهتداء المعاصرين بتراث الأقدمين، فلا ينبغي قط - فيما نرى - أن يكون الإيمان الديني مما نمسه بالقول في هذا المجال؛ لأن المعاصرة لا تتنافى ولا تتأيد بالإيمان الديني كائنا ما كان في شكله ومضمونه، وإنما المعاصرة هي فيما له علاقة بمشكلات اليوم، المعاصرة هي في متابعة العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها، وفي متابعة الفنون على مقتضى نوازع الحياة الحاضرة، وفي متابعة أنظمة الحكم والتعليم والاقتصاد وغيرها من وسائل العيش وفق الحضارة التي نحياها.

كان أهل السنة في مجموعهم يقفون في طرف اليمين المحافظ، على حين وقف المعتزلة في طرف اليسار الشوري، إذا جاز لنا استخدام هذه المفهومات الجديدة بالنسبة إلى الحياة الفعلية القديمة، فبينما أصر المعتزلة على أن تئول آيات القرآن لتتفق مع أحكام العقل، آثر أهل السنة أن يتمسكوا بحرفية النصوص حتى لا يتعرضوا للخطأ والضلال، فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل. ولقد أمسكوا عن تفسير الآيات وتأويلها لأمرين: أولهما المنع الوارد في التنزيل من قوله تعالى:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب . والثاني هو أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، ولا يجوز قول بالظن في صفات الله تعالى.

فها نحن أولاء بين طرفين فكريين: أحدهما يلتزم النص ويبطل صلاحية العقل الإنساني للتأويل والتفسير، والآخر يعتمد الاعتماد كله على العقل هاديا من فهم التنزيل بتفسيره وتأويله. وواضح أن الأمر لا يقف عند هذه النقطة الأولية بين الفريقين، بل يطرد معها إلى كل موقف مما يوجب الحكم بالصواب والخطأ، فالحكم عندئذ لا يكون بمتابعة السلف متابعة دقيقة عند أحد الطرفين، ولكن يكون بالانصياع لمنطق العقل عن الطرف الآخر.

وكان لا بد أن يجيء من يختار لنفسه موقفا وسطا بين الطرفين، فكان هذا التوسط نصيب أبي الحسن الأشعري، الذي خشي أن يذهب دين الله وسنة رسوله ضحية الآراء المتطرفة من يمين أو يسار، فحاول أن يوفق بين هذه الآراء، وانتهى إلى ألا يجعل العقل كل شيء كما أراد المعتزلة، وألا يجعل الإيمان بالنص وحرفيته كل شيء كما أرد المتطرفون من أهل السنة وأتباع السلف ، فمن جهة، رأى أن العقل وحده لا يكفي لدعم الدين، كما ظن المعتزلة؛ إذ لو كان أمره كذلك فماذا تكون قيمة الإيمان بالله وبالكتاب المنزل؟ أليس الإيمان بالغيب مبدأ أساسيا في الحياة الدينية؟ لكن الغيب يتجاوز حدود البراهين العقلية؛ وإذن فالعقل وحده لا يكفي، فلماذا إذن لا نجعل المسائل مشاركة بين العقل والإيمان معا، فللعقل ما يستطيعه من تحليل وتفسير وتأويل، وللإيمان ما تقتضيه مبادئ الدين وأصوله، مما يجاوز حدود العقل؟ بهذا يكون لكل من العقل والإيمان ميدان، وينحسم كل خلاف. وكان للغزالي موقف شبيه بهذا في مدى ما يتركه العقل حيال النص القرآني؛ إذ يقول (ص53 من فضائح الباطنية): «إن لنا معيارا في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك، بشرط أن يكون اللفظ مناسبا له بطريق التجوز والاستعارة.»

وهذا هو نفسه الموقف الذي نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم - شكلا لا مضمونا - وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضا بل أن يجعلوا بينهما تعاونا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك، وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية والعلم من ناحية أخرى، فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم الفعلية ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه؛ وبهذا نجعل الدين موكولا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شئون الآخر.

الفصل الخامس

صراع ثقافي قديم

سألت نفسي ذات لحظة متأملة: ترى ما الذي تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى؟ وإلى أي حد تغيرت هذه الحياة الفكرية في عصرنا الراهن؟ وعلى أي صورة نتمنى لها أن تكون؟ ثم أجبت نفسي إجابات تنقصها دقة التحديد، كما هو الشأن في كل إجابة عامة مجردة، يجاب بها عن سؤال عام مجرد، لكنها كانت إجابات تصلح أن تكون فاتحة لطريق المحاولات، التي قد تثمر أو لا تثمر آخر الأمر.

فلعل أظهر ما تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى، أنها كانت كالبحر، تنظر إلى سطحه فتراه على كثير من التجانس، فالماء قوامه أينما وجهت البصر في أرجائه، لكنك تغوص تحت السطح التماسا لضروب الحياة الكامنة فيه، فإذا هي على درجة من الصراع وشدة التباين، حتى لتعجب كيف تكون هذه الأحياء المتقاتلة المتعارضة مكنونات بحر واحد؟ وتمعن النظر في قليل من الدقة، فتستطيع عندئذ أن ترى الصراع ناشبا بين ثلاث مجموعات تشابكت بينها الروابط والصلات، لكنها مختلفة بعضها عن بعض اختلافا يبلغ حد الحرارة والعداوة. فأما نقطة الالتقاء الواحدة فهي الكتاب المنزل، وبعد ذلك يذهب كل في طريق: فهنالك من يقف عند التنزيل نصا، يدرسه من كل ناحية، يستخلص منه الأحكام، ويدرس حوله لغة وأدبا وتاريخا. وهنالك من ينظر إلى النص لا ليقف عنده، بل ليغوص فيما يظنه كامنا وراءه من أسرار يحاول كشفها ليصل إلى «الحقيقة» وصولا حدسيا مباشرا هو من قبيل الإلهام الصوفي. وأما الفريق الثالث فهو أولئك الذين لا هم يكتفون بظاهر الآيات ليستخلصوا منها «الشريعة» ولا هم يرضون بالوصول إلى «الحقيقة» المستترة وصولا وجدانيا مباشرا، بل يريدون أن يكون «العقل» أداتهم التي يعالجون بها الفهم والتأويل معا؛ وإذن فلا بد لهم من حجاج يقيمونه في كل مسألة على أسس المنطق الأرسطي الذي جاءهم منقولا من اليونان.

تلك صورة موجزة للمواقف الثلاثة التي لم تزل تقتتل، لا اقتتال المختلفين في الرأي، بل كان أقرب إلى مقاتلة أصحاب الديانات المختلفة بعضهم بعضا، يكفر بعضهم بعضا، وكل يريد أن يرد الضال إلى إيمانه الصحيح. ولقد يبدو الفارق بين تلك المواقف الثلاثة هينا، لكنه في الحقيقة كان في السعة والعمق، بحيث لا يجوز لنا - إلا مع التجوز الشديد - أن نتحدث عن حياة فكرية عربية أو إسلامية، وكأن ثمة حياة واحدة تتجانس في الأصول وتختلف في الفروع، وسوف نرى بعد قليل كيف كانت تلك التفرقة في وجهة النظر ذريعة يتذرع بها الناس ليرتد كل إلى جذور في حياته الخاصة أعمق جدا من السطح الطاهر الذي يلتقون عنده، فلياذ اللائذين بالمعاني المستورة الباطنة وراء النصوص، إن هو إلا ثغرة ينفذون منها إلى عقائد دينية أولى كانت لها السيادة بينهم قبل الإسلام، والمحتكمون إلى العقل - بتأييد من الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني - إنما هم في أعماقهم جماعة لا يقنعها أن «تؤمن» إيمانا ليس من طبيعته أن يسأل كيف؟ ولماذا؟ حتى لقد ذهبت الجرأة بأحدهم أن يقول: إنه إذا تبين أن ما نقبله على أساس الإيمان متفق مع ما يصل إليه العقل بمنطقه، فلماذا الإيمان إذن؟ وأما إذا تبين بينهما اختلاف، فلا يجوز أن نتنكر للنتائج العقلية حفاظا على الإيمان، والأمر لا يعدو أن يكون بين الإيمان والعقل اتفاق أو اختلاف، وفي كلتا الحالين حسبنا العقل ولا ضرورة توجب الإيمان.

فهذان فريقان: أحدهما يريد أن «يؤمن»، ولكنه إيمان بعقيدة مسبقة يظل يبحث عنها وراء النصوص حتى يجدها، والآخر لا يجد نفسه بحاجة إلى إيمان ما دام العقل يكفيه، وبين هذين فريق ثالث يلتمس لنفسه بر السلامة، فيستريح إلى شريعة يأخذها من ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث، حتى ولو وجد في هذه النصوص متشابهات ومتناقضات. وأستطيع القول بصفة عامة: إن الفريق الأول كان هدفه السياسة من وراء الدين، وإن الفريق الثاني كان همه الثقافة، وأما الثالث فهو الذي أراد الدين لذاته ابتغاء الآخرة وجزائها. استطاع الطريق الأول أن يضيف إلى العقيدة الإسلامية أبعادا صوفية، واستطاع الفريق الثاني أن يضيف إليها أبعادا فلسفية، وأما الفريق الثالث فهو كمن يطيع القوانين طاعة لا ثورة فيها ولا تمرد ولا مراوغة ولا حفر وراء أعماق وأغوار.

وإنه ليلفت النظر - نظري على الأقل - ما بين الفريق الذي استبطن النصوص ليجد «الحقيقة» الروحية وراءها، وجمهور الناس في عصرنا الراهن من تجانس وثيق، فالروح واحدة، وإن اختلفت الأهداف. وإذا صح هذا الشبه بينهما جاز لنا القول عندئذ إن الجانب في حياتنا الفكرية الراهنة الذي يقابل جماعة الباطنية قديما، هم عامة الناس، فإنك لتلحظ الواحد من هؤلاء العامة كيف يسعده ويرضيه أن تكون وراء الظواهر حقائق روحانية تخفى على الأبصار، لكنها جلية أمام البصائر. وحين أقول «عامة» الناس، فإنما أدرج في هذه المجموعة طائفة كبيرة جدا من خاصة المثقفين، الذين لا يمنعهم علمهم من الاعتقاد بالخوارق التي تفعل فعلها في الخفاء، رضي العلم أو لم يرض. وإن الحديث ليستطرد بي إلى قصص طريفة، لو أردت أن أروي ما سمعته بأذني، لا أقول ما قرأته من علوم الفيزياء والكيمياء والرياضة والبيولوجيا، وفي الفلسفة ذاتها، من أحاديث يتحدثون بها وهم في نشوة الطمأنينة والرضا، ليزعموا لك كيف يسير «المؤمنون» على ماء البحر وكأنهم يسيرون على يابس، وكيف يخلق المعدمون منهم أكداسا من الطعام خلقا من عدم، وكيف تجري ألسنة الجهلاء المؤمنين بلغات لم يدرسوها، وهكذا وهكذا، فهؤلاء جميعا من عامة الناس في عصرنا، الذين أراهم يمثلون الفرقاء الثلاثة القديمة المتصارعة، مع فارق هام بين هذين الشبيهين لا بد من الإشارة إليه، وهو أنني أقصر وجه الشبه بينهما على عدم الاكتفاء بالظاهر، والبحث عن باطن يكمن وراءه، أما الأقدمون فكان مجال تطبيقهم لهذا الاتجاه هو نصوص التنزيل والأحاديث، وأما المحدثون من عامة الناس، فالأغلب أن يكون مجال التطبيق عندهم هو ظواهر الطبيعة. ونتج عن هذا الفارق نتيجة هامة، هي أن الأقدمين الباحثين عن الحقيقة الباطنة قد انتهوا في كثير من الحالات إلى بناءات فكرية لها قيمتها من الناحية النظرية، وأما المحدثون من عامة الناس، فإن اتجاههم هذا نحو باطن خفي وراء الظواهر، ينتهي بهم إلى خرافات كثيرا ما تفسد عليهم سلامة التفكير النظري إذا كانوا من أصحابه.

وأما أنصار العقل قديما وحديثا فهم جماعات المثقفين الذين يهتمون بالفكرة لذاتها، فهم لا يبدءون بفروض دينية - مثلا - ثم يحاولون أن يسلسلوا حجاجهم الفكري على طريقة تضمن لهم أن يصلوا إلى نتائج بعينها كانوا يريدون الوصول إليها منذ البداية، بل يبدءون ب «رغبة» في تحقيق طائفة من القيم، الحرية والمسئولية من أهمها، فكأنما هم يسألون أنفسهم: إذا أردنا للإنسان أن يكون حرا في إرادته وفي اختياره، فكيف نتصور هذا الموضوع أو ذلك، تصورا لا يؤدي إلى تقييد تلك الحرية التي نريدها له؟ ودور «العقل» عندهم هو في استنباط النتائج من تلك القيم الأولية المسلم بضرورتها. ويغلب على أنصار العقل هؤلاء أن يستمدوا أصولهم الثقافية من ينابيع الحضارة التي يكون لها الصدارة في العصر المعين. وكانت تلك الينابيع في العصر القديم هي اليونان وفارس والهند، وأما ينابيع عصرنا فهي أوروبا وأمريكا. وسنرى بعد قليل كيف تجيء الثقافات الوافدة في كلتا الحالتين - قديما وحديثا - فتصطدم بأفكار لا تتجانس معها، فينشق الناس عندئذ شقين: أحدهما يناصر الثقافة الوافدة لأنها منحدرة من حضارة لها صدارة، والآخر يتمسك بالأفكار المحلية السائدة رافضا ما يناقضها من ثقافات الآخرين.

وإلى جانب من لا ترضيهم ظواهر الأمور فيبحثون وراءها عما تطمئن له نفوسهم من حقائق الغيب، والمثقفين العقلانيين الذين يهتمون لسلامة الأفكار استنادا إلى قيم أساسية يأخذونها مأخذ التسليم، من أهمها حرية الإنسان، هنالك الفريق الثالث الذي يلتزم الشرائع كما نصت عليها ظواهر التنزيل والحديث والأخبار المتواترة عن السلف الصالح، وهو فريق تمثل في جماعات قديمة كما يتمثل اليوم في جماعات معاصرة. وهؤلاء يختصمون مع الباحثين عن باطن وراء الظاهر؛ لأن في ذلك مجالا للأهواء والنزوات، ثم يختصمون كذلك مع المثقفين أنصار التفكير العقلي والفكر الحر؛ لأن ذلك معناه مجاوزة النص وما يستلزمه. على أن هذا الفريق يتدرج في مرونة النظر درجات متفاوتة، منهم من يسد الأبواب دون ابتكار العقل مكتفيا بالأخبار المروية عن السلف، ومنهم من يجد ألا مناص من إفساح المجال أمام العقل حيثما أعوزتنا أخبار السلف التي نهتدي بها.

هكذا نرى الصورة متشابهة - من حيث التكوين - بالنسبة إلى الجماعات المتصارعة على مسرح الفكر قديما وحديثا، حتى ليمكن القول إن المحدثين في طريقة انقسامهم واختلافهم، امتداد للتراث الموروث عن أسلافهم . ولست أظن أن مثل هذا الانقسام أمر طبيعي يتكرر مثيله في كل الثقافات؛ إذ لست أرى هذا التضاد بين أهل الظاهر وأهل الباطن مألوفا من الثقافات الأخرى، كما أني أرى أن طريقة الجماعات الفكرية في تقبل الثقافات الوافدة من خارج تتخذ دائما هذه الصورة نفسها التي اتخذتها في ثقافتنا العربية قديمها وحديثها على السواء. ولو كانت لا تعمل، وأستبق حكما هو الذي أجدني أميل إلى الأخذ به في تنظيم نشاطنا الثقافي تنظيما يأخذ عن الماضي ويساير الحاضر، وهو حكم سترد له تفصيلات في فصول آتية من هذا الكتاب، لقلت إننا لو استطعنا أن نركز على محورين من المحاور الثلاثة السالف ذكرها، فذكر على الجانب العقلاني من جهة، وعلى الجانب السلفي المعتدل من جهة أخرى، لاستطعنا بأولهما أن نواجه عصرنا - وهو عصر العلوم القائمة على عقل خرف - متكئين في الوقت نفسه على أصول الشريعة الإسلامية والدراسات اللغوية والنحوية والفقهية التي قوام السلفي، قائلين في السلفية التي تجعل للعقل نصيبه من التأويل كلما اقتضت الحاجة إلى تأويل، أقول إننا لو استطعنا الجمع بين هذين المحورين، لكان لنا بذلك استمرار مع الماضي من أسس العلاقات الإنسانية، علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله ومسايرة للعصر من علومه واتجاهاته الفكرية، لا سيما فيما يتصل بالاقتصاد والسياسة. •••

كانت هنالك - إذن - ثلاثة أطراف في الحياة الفكرية عند الأقدمين: طرف منها لا عقلاني يعتمد على الغوص إلى الحقيقة الروحانية مهتديا بإلهام أو بحدس مباشر. وطرف ثان عقلاني يستخدم طرائق المنطق النظري في حجاجه، وغالبا ما يتأثر بثقافة اليونان. وطرف ثالث لا يتخذ موقعه في مجال «الفكر» بقدر ما يتخذه في مجال «السلوك» سلوكا يتفق مع شريعة الدين.

ولم يكن الطرف اللاعقلاني بسيط التكوين موحد الطريق والهدف، بل اختلطت فيه خيوط كثيرة منوعة الأهداف، ونقطة الجمع بينها هي مقاومة السيادة العربية، حتى ولو جاءت تلك المقاومة على حساب العقيدة الإسلامية نفسها. لعل أول فصول الرواية قد ظهر حين اعتز الأمويون بعروبتهم وبقوميتهم، اعتزازا أدى بهم إلى تفرقة صريحة بين نوعين من المسلمين: فمسلمون ينتمون إلى العرب في أصولهم، ومسلمون آخرون من غير العرب أطلق عليهم اسم «الموالي»، فكان لا بد أن يحدث صراع بين الفريقين، قد يكون مستترا حينا أو معلنا حينا آخر، بحسب قوة القابضين على أزمة الحكم. ولما كان هؤلاء الموالي هم من الفرس، أصبح الصراع في حقيقته تنافسا بين قوميتين: العربية والفارسية، وهو التنافس الذي عرف باسم «الشعوبية». ولقد بدأت الحركة الشعوبية منذ العصر الأموي، في صورة متواضعة أول الأمر، وهي المطالبة بمجرد المساواة بين الموالي والعرب؛ وذلك لأن هؤلاء الموالي قد أحسوا خيبة الأمل المرة بعد اعتناقهم الإسلام؛ لما رأوه من تفاوت جائر في منزلة كل من الفريقين، فلم يكن للموالي العصر الأموي من الحقوق ما كان للعرب. ولقد ترفع العرب على الموالي ترفعا مهينا؛ فلم يتسامحوا في زواج يتم بين رجل من الموالي وامرأة من العرب، بل ذهبوا إلى تمييز بين الجماعتين في بيوت الله نفسها؛ إذ جعلت للعرب مساجد وللموالي مساجد، وجرى العرف بأن تترك السياسة والحرب للعرب؛ ليضطلع الموالي بعد ذلك بالمهن الحرفية.

وإذا كان الأمر كذلك، فلم تكن إلا خطوة واحدة يخطوها الموالي في طريق التنافس، هي أن يلتمسوا لأنفسهم طريق الردة إلى دياناتهم الأولى، دون أن يعلنوا ذلك بالضرورة حتى لا يجلبوا على أنفسهم الأذى، فكان يكفيهم أن يعلنوا الإسلام ويضمروا ما شاءت لهم قلوبهم من عقائد؛ ومن ثم نشأت الحركة القوية نحو ما عرف باسم «الزندقة»، وهو اسم تعددت مقاصده واختلفت معانيه حتى في القواميس العربية، فالزنديق تارة يكون القائل بالثنوية التي تجعل للعالم مبدأين هما النور والظلمة، الأول للخير والثاني للشر، والزنديق تارة أخرى يكون هو القائل بأزلية الدهر وأبديته، والزنديق تارة ثالثة هو من اعتنق مذهب ماني أو غيره من مذاهب الفرس السابقة على الإسلام، والزنديق تارة رابعة هو من ينكر وجود الله، أو يذهب إلى أن لله شريكا. وجاء عند أحمد أمين في «ضحى الإسلام» أن الزندقة تطلق على معان أربعة: فهي إما تطلق على التهتك مع تبجح في القول يمس الدين، وإما تطلق على أتباع عقيدة المجوس - وخاصة مذهب ماني - مع التظاهر بالإسلام، وإما تطلق على الإلحاد في الدين بصفة عامة. وهي على اختلاف معانيها تلك تتفق كلها - كما يقول طه حسين في «حديث الأربعاء» - في أنها ضرب من السخط على العرب وعاداتهم وأخلاقهم ومحافظتهم ودينهم بنوع خاص.

فالشعوبية والزندقة وجهان لموقف واحد، الأولى خروج على العرب، والثانية خروج على الإسلام وإن يكن في الأغلب خروجا في الخفاء. فإذا كان العرب في عهد الأمويين قد وحدوا أنفسهم مع الإسلام ليجعلوا الإسلام فضلا لهم على غير العرب، فالفرس قد وحدوا أنفسهم مع عقائد فارسية قديمة، وأخذت كفة الفرس تزداد رجحانا، حتى جاء العباسيون على أكتافهم، فكان طبيعيا أن تجيء دولتهم وقد حققت لهم بعض ما أرادوا. وكان بعض ما أرادوه أن يبثوا الفرقة بين العرب ليحدوا من قوتهم، وأن يقللوا من شأنهم حتى لا يصبح لهم فضل على العجم، لا، بل أن يظهروا ما كان للحضارة الفارسية من شأن رفيع أين منه العرب في بداوتهم؟ وإنه ليلفت النظر بقوة - وهو أمر قد يلقي الأضواء على تيارات السياسة في عصرنا - أن العرب في الدولة الأموية كان من صالحهم أن يعلوا من فكرة «القومية» العربية على رابطة الإسلام؛ لأن الإسلام فيه عرب وغير عرب، وهما في رأيهما عندئذ لا يتساويان، فكان رد الفعل عندما اشتد بأس الفرس بمجيء الدولة العباسية، أن أخذوا يعلون من شأن الرابطة الإسلامية لتكون هي أساس التعامل، على حساب فكرة القومية؛ لأن تلك الرابطة من شأنها - مهما تكن سطحية أو مزيفة - أن تفسح لهم مجال المساواة بينهم وبين العرب.

كان الزنادقة فرقا كثيرة، بعضها تافه الدعوة وبعضها خطيرها، لكن سواء كانت دعوة الداعي تافهة أو خطيرة، فقد كانت - في جميع الحالات - سرعان ما تجمع حولها الأتباع بعشرات الألوف، كأنما هؤلاء الأتباع قد ضاقوا ذرعا بقيود الدين الجديد، وأخذوا يترقبون الفرصة السانحة ليتحللوا منها، في الحقيقة إن لم يكن في الظاهر. ولنذكر مرة أخرى - فهذه إحدى النقاط التي تهمنا فيما نحن بصدده من حديث - أن الدعوات الزنديقة التي كانت تصيخ لها آذان الأتباع، كانت تحقق لهم شيئا مما ألفوه، وكان من أهم ما ألفوه في عقائدهم القديمة ألا يكون الفاصل حادا بين الله والإنسان، بل أن تكون هنالك الصلات الملغزة التي تصل الإنسان بالقوى الكونية الخفية؛ ومن ثم كان يسيرا عليهم أن يؤمنوا بأن الله قد حل في هذا الإنسان أو ذاك، كلما دعاهم داع إلى مثل هذا الاعتقاد؛ إذ كان كامنا في جذورهم الثقافية التقليدية أن يروا أمام أعينهم إلههم وقد تجسد في إنسان.

كان أبو مسلم الخراساني ممن أعانوا على قيام دولة بني العباس؛ إذ رأى في ذلك طريقا موصلا إلى أمله وآمال الفرس جميعا، وهو أن يعاد لشعبهم وثقافتهم وعقائدهم ما كان لها من مكانة ومجد، ولكي لا تكون هذه الأهداف مكشوفة عارية، سترها بالدعوة لآل بيت الرسول؛ انتقاما من بني أمية الذين تعصبوا للعرب الخلص دون غيرهم ممن انتموا إلى دين الإسلام؛ ولذلك نرى جماعات كثيرة من الزنادقة، قد وجدت في أبي مسلم الخراساني هذا شخصا قريبا إلى أذهانهم، يجعلون منه الإنسان الرباني، أو الرب الإنساني الذي كانت تتعلق به أهواؤهم. وسنذكر لك فيما يلي قصصا متناثرة تبين طبيعة الجو الوهمي الذي كان ينعم بالعيش فيه عدد ضخم من الناس؛ لنرى لأنفسنا كم يجب الحذر في القول، حين نقول للعرب المعاصرين إنه ينبغي لهم أن يحيوا تراث الأسلاف، فما كل تراث ينبغي إحياؤه بمعنى أن يسري في حياتنا العصرية، وإن يكن كل تراث واجب الدراسة عند المؤرخين:

ظهر في خراسان - أيام أبي مسلم - رجل يدعى «بيها فريد»، يقال إنه قدم من الصين بعد أن أقام فيها بضع سنوات، صعد ذات ليل في الخفاء إلى مخبأ في معبد، حتى كان الصبح، نزل مرتديا قميصا أخضر يلفت النظر، فالتقى بزارع يحرث أرضه للزرع، فزعم له أنه إنما هبط لتوه من السماء، حيث شهد الجنة والنار، وأن الله تعالى قد أنعم عليه بهذا القميص العجيب، وأرسله هاديا للناس، فما أسرع أن تناقل الخبر أهل ذلك الريف، وجاءوا ليلتفوا حول هذا الرسول الجديد، يستمعون إلى رسالته، فأخذ الرجل ينشئ لهم كتابا مقدسا بلغة فارسية يفهمونها، يدعوهم به إلى أن يجعلوا صلاتهم للشمس سبع مرات كل يوم، وأن يمتنعوا عن ذبح الحيوان، مؤسسا هذا التحريم على مذهب التناسخ، فكان كلما ازداد الناس إقبالا عليه، ازداد إمعانا في إحياء التعاليم المجوسية القديمة بينهم.

وسرعان ما ظهر دعي آخر، يدعى «سنباذ»، آخذا عن «بيها فريد» مذهب الحلول والتناسخ، ثم أضاف عقيدة مؤداها أن أبا مسلم الخراساني لم يقتل، بل تحول - عند قتله - إلى حمامة بيضاء، ولاذ بالفرار. ولقد أنذر سنباذ المجوسي هذا بأن سلطان العرب وشيك الزوال على يديه، وبأنه مصمم على هدم الكعبة وغيرها من الأماكن المقدسة عند المسلمين.

وتبعه في الطريق إسحاق التركي، الذي قدس أبا مسلم الخراساني، وأراد أن ينتقم لقتله (كان قتله على يدي أبي جعفر المنصور) إذ كانت عقيدته أن أبا مسلم لم يمت، بل اختبأ في الجبال، وأنه عائد يوما ليؤم أنصاره. وقد دعا إسحاق التركي هذا إلى المجوسية، كما ادعى كذلك أنه نبي مرسل من زرادشت ليرد الفرس إلى الطريق القويم.

وجاءت جماعة «الراوندية» لتنشر العقيدة بأن أبا مسلم قد حلت فيه روح الله، وأنه الإمام، وأنه لم يمت ولن يموت حتى يعود إلى الظهور ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا!

وظهر زنديق أبرص، يدعى «الأبلق» فزعم أن الروح التي كان يحيا بها عيسى - عليه السلام - قد صارت إلى علي بن أبي طالب، ثم صارت بعد علي إلى الأئمة إماما بعد إمام. ولقد دعا الأبلق هذا إلى مذهب الحلول وتناسخ الأرواح، صارفا القوم عن أداء فرائض الإسلام، مبيحا لهم صنوف اللذة المحرمة.

وكانت قصة المقنع الخراساني من أطرف ما يروى من قصص الزنادقة؛ فقد كان رجلا دميما قميئا أعور، فصنع لنفسه قناعا من ذهب، وزعم للناس أن هذا هو وجهه؛ يشع نورا؛ لأنه ليس بشرا من البشر، بل هو إله ، وطالب أتباعه بالسجود له وعبادته. وقد دعا هذا المقنع كذلك إلى مذهب التناسخ، وأنكر هو أيضا أن يكون أبو مسلم قد مات حين قتله أبو جعفر المنصور، وإنما قتل المنصور شيطانا شبه له في صورة أبي مسلم. وعاد المقنع بأتباعه إلى تعاليم مزدك (وقد ظهر مزدك في القرن الخامس الميلادي، داعيا إلى الثنوية التي تقول بأن الكون يسيره نور وظلمة، ثم هو يدعو إلى شيوعية المال والنساء، قائلا إن السلام يتحقق للناس إذا أبيحت النساء وأبيح المال مشاعا بينهم جميعا)، فإلى هذه التعاليم المزدكية من هدم للأسرة وهدم للملكية الخاصة كانت دعوة المقنع. وقد لعب المقنع على خيال الأتباع السذج بحيلة توهمهم أنه يظهر قمرا في الأفق، وجمع لنفسه مقادير ضخمة من الطعام، وأحاط نفسه بعدد كبير من النساء، وحصن نفسه داخل قلعة لأنه خشي أن تدهمه قوة ترسلها الدولة، وذلك ما حدث، هاجمته قوة لم يستطع ردها، وأدرك أن نهايته قد دنت، فأشعل النار في القلعة، وأحرق كل من فيها وما فيها من بشر ومن دواب ومن ثياب ومتاع، وألقى بنفسه فيها آخر الأمر.

ووجدت الدعوة نفسها استمرارا بعد ذلك على يدي رجل آخر يدعى «بابك الخرمي»، الذي أراد - هو الآخر - أن يثأر لأبي مسلم، وقد دعا بدوره إلى إحياء العقيدة المزدكية بما فيها من إباحات اللذات وشيوع المال والنساء والقول بالأصلين النور والظلمة.

على أن حركة الزندقة لم تكن كلها في هذا الاتجاه الظاهر البطلان، وعلى أيدي أمثال هؤلاء المهرجين، بل كانت لها صور أخرى أقوى جذورا وأخفى ظهورا، ويكفي أن نجد من الزنادقة شعراء كأبي نواس وبشار، وكتابا كأبي المقفع؛ فقد اشتد الصراع الثقافي بين العرب والفرس، حتى لقد لجأ كل فريق منهما إلى بذل الجهود الثقافية الجادة تأييدا لوجهة نظره، كانتحال الأحاديث النبوية، فالعرب يروون أحاديث فيها تفضيل للعرب، والفرس يروون أحاديث أخرى فيها تفضيل للفرس، ثم أخذ كل من الفريقين يؤلف الرسائل والكتب في الاتجاه الذي يراه مؤيدا للثقافة التي يدافع عنها، فأنصار العرب يؤلفون في اللغة والأدب، وأما الآخرون فينشرون من ضروب الثقافات ما تنطفئ بجانبه لمعة الثقافة العربية الأصيلة؛ ومن هنا كانت حركات الترجمة والنقل عن اليونان وغير اليونان من الأمم ذوات الثقافة العريقة.

فالزندقة صلتها وثيقة بحركة الشعوبية التي اقتضت أن يباهي الفرس العرب، والعرب الفرس، وما كانت المعركة التي احتدمت بين الأمين وأشياعه من العرب، والمأمون وأشياعه من الفرس، إلا انعكاسا لحركة الشعوبية تلك، وكانت الزندقة من القوة ومن سعة الشمول بحيث شغلت قادة الفكر عندئذ، وهذا هو أبو العلاء المعري يختصها بقسط موفور من رسالة الغفران، فنراه هناك يصنف الزنادقة أنماطا وصنوفا بحسب الدوافع التي مالت بهم إلى زندقتهم. ويحسن أن نوجز هنا قول أبي العلاء؛ لأنه - في رأينا - فضلا عن كونه وصفا لحركة الزندقة، فهو كذلك صورة لبعض العوامل التي كانت تعتمل في نفوس الناس إبان القرون الأولى من الثقافة العربية والإسلامية.

فهنالك الزنادقة الذين جاءت زندقتهم شاهدا على اتجاه الناس نحو النفاق، الذي يظهر شيئا ثم يخفي غير ما يظهر، يقول أبي العلاء: «فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان؛ لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تدينا وإنما يجعل ذلك تزينا، يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء (يقصد أغراض الدنيا)، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون»، ويقول في موضع آخر: «ومن الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وهي أغدر من الورهاء الزانية.» ثم يقول في موضع ثالث: «كم متظاهر باعتزال، وهو مع المخالف في نزال، يزعم أن ربه على الذرة يخلد في النار، بله الدرهم وبله الدينار، وما ينفك يحتقب من المآثم عظائم ... وينهمك على العهار والفسق.» ويضرب أبو العلاء أمثلة على مثل هذا النفاق، ندهش لها غاية الدهشة؛ لأنها تتناول رجالا نضعهم نحن في طليعة القادة من عالم الفكر العربي الإسلامي القديم؛ من ذلك ما أورده أبو العلاء عن الأشعري: «والأشعري إذا كشف، ظهر نمي (أي ظهر له طبع أصيل) تلعنه الأرض والسمي (أي السموات) ...» ويقول أبو العلاء عن الأشاعرة بصفة عامة إنهم إما مقلدون لإمامهم تقليدا أعمى، وإما هم يكشفون عن حقيقة الأمر لكنهم يؤثرون الصمت. وفي عبارة أبي العلاء: «إن شعر (أي إذا انتمى أحدهم إلى مذهب الأشاعرة) قلد المسكين سواه، فإنما وثق بمن أغواه، وإن بحث عن السر وتبصر، أقصر عن الخبر وقصر.»

ومصدر آخر لحركة الزندقة؛ الثقافات الأجنبية التي وجدت سبلها إلى عقول المسلمين؛ مما جعلهم يقارنون ويوازنون، فينتهي ذلك بفريق منهم إلى التحول باعتقاده إلى طريق آخر: «... فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسق ملكه على أركانه، مازج العرب غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة».

ومصدر ثالث للزندقة - في رأي أبي العلاء - لا عقلانية الإنسان بحكم طبيعته، فإذا قسرته على نظام عقلي، فسرعان ما يفك القيد ويرتد إلى فطرته، «... وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير ...» «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.» ويقول أبو العلاء في موضع آخر ليبين كيف أن معظم الناس لا يهتدون بهدي عقولهم، وإنما يأخذ بعضهم عن بعض تقليدا ومحاكاة بغير تفكير مستقل: «... يلقن الطفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فيلبث معه في الدهر الغابر، والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المخبر، لا يميزون الصدق من الكذب لدى المعبر، فلو أن بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسيا، أو من الصابئة، لأصبح لهم قرينا سيا (السي = المماثل)، وإذا المجتهد نكب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد، وإذا المعقول جعل هاديا، نقع بريه صاديا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، ويصقل فهمه أبلغ صقل؟! هيهات! عدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه في الرمم رمس، إلا أن يشذ رجل في الأمم، يخص من فضل بعمم.»

ومصدر رابع للزندقة، ارتداد نفر من الفرس إلى ديانة المجوس، بما يتبعها من قول بالتناسخ وقول بالحلول، ومن أبرز من قال بالحلول الحسن بن منصور الحلاج، فيهاجمه أبو العلاء مهاجمة ربما جاوز بها حدود الإنصاف؛ إذ يقول: «... فأما الحسن بن منصور، فليس جهله بالمحصور ... أراد أن يدير الضلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العطب.» (العطب هو القطن، والإشارة هنا إلى اسم «الحلاج»، أي أنه بدلا من أن ينصرف إلى حلج القطن كما كان ينبغي له تحول إلى الضلالة وأراد أن يرسيها على أسس وركائز). ويشير أبو العلاء في موضع آخر إلى أن القول بالحلول، يؤدي إلى القول بالتناسخ، «وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة.» ثم يقول في مكان آخر: «أما الذين يدعون في علي عليه السلام ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة ...»

ومصدر خامس عنده، لا يفوته أن يذكره، وهو أن «الإلحاد» انحراف لم يخل منه عصر ولا أمة، أي أنه حقيقة واقعة، حتى ولو لم نجد لها تعليلا يفسرها: «ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور»، «ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يتظاهرون لأصحاب شرعهم أنهم موالفون، وهم فيما بطن مخالفون.» ولقد ذكر لنا مؤرخو الأدب العربي والفكر العربي - هكذا يقول أبو العلاء - جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس، ووصفوهم بالزندقة «وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب، وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفا من السيف.»

ذلك ما يقوله أبو العلاء في جماعات الزنادقة وأفرادهم، رويناه لنزيد هذا الجانب من جوانب الصورة وضوحا. على أن «نيكلسون» - فيما تروي عنه الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها عن رسالة الغفران - من رأيه أن أبا العلاء لم يحاول أن يتعمق حركة الزندقة إلى ما دون سطحها الظاهر، وملاحظاته في أصل الزندقة لم تزد عن كونها جزئية تافهة؛ إذ إن حقيقة الأمر هي أن كثيرا من النحل قد تسرب إلى الإسلام منتشرا عن طريق الفرس لإفساد العقيدة الإسلامية وتطعيمها بعناصر وأفكار فارسية، ولكي تعيد إقامة الدين القديم على أنقاض الدين الذي اضطهده. •••

وإذا كانت الشعوبية وما تبعها من زندقة تصوران جانبا من الصراع الثقافي القديم، فالباطنية تصور جانبا آخر، وسنوجز خبرهم هنا نقلا عن كتابي: «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي، و«فضائح الباطنية» للغزالي. ولو كان هدفنا هو إصدار حكم على الباطنية أو لها، لوجب أن نذكر من أخبارهم أقوال المؤيدين إلى جانب أقوال المهاجمين، لكن هدفنا الرئيسي هنا ليس التخطئة أو التصويب، بل هو البيان بأن «التراث» منطو على أضداد ومتناقضات، فعلى الداعين في غير حذر إلى وجوب العودة إلى التراث، أن يحددوا أي هذه الأضداد والمتناقضات يريدون؟ أم يريدون أن ندخل في الصورة كما هي لنتخبط اليوم كما كانوا يتخبطون بالأمس؟

يذكر لنا الغزالي في «فضائح الباطنية» الأسماء المختلفة التي تطلق عليهم، وهي أسماء تدل وحدها على التداخل الشديد بين حركة الباطنية وحركات الزنادقة، فضلا عن التداخل بينها وبين الشيعة، فلقد سميت «باطنية» لدعوى أنصارها أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، ولكنهم كذلك كانوا يسمون «القرامطة» نسبة إلى رجل يدعى حمدان قرمط، كان أحد دعاتهم، ويسمون أيضا «بالخرمية» نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه مذهب يطوي بساط التكليف، ويحط من المتعبدين أعباء الشرع، ويغري الناس بطلب شهواتهم وقضاء حاجاتهم من المباحات والمحرمات على حد سواء. وكلمة «خرم» لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ المستطاب، الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته، ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبا للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس. ويسمون أيضا «البابكية» لأن طائفة منهم بايعت رجلا يدعى «بابك الخرمي». ويسمون كذلك «الإسماعيلية» نسبة لهم إلى أن زعيمهم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذي يزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به؛ إذ كان هو السابع من محمد عليه السلام، وعندهم أن أدوار الإمامة تأتي سبعة سبعة؛ ولذلك فهم يسمون أيضا «بالسبعية». كما يسمون «بالمحمرة» لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة أيام بابك، ولبسوها لتكون شعارا لهم. ويسمون كذلك «بالتعليمية» لأن أساس مذهبهم هو إبطال الرأي وإنكار أن يكون العقل حكما، وإنما واجب الإنسان التعلم عن إمام معصوم ملهم.

وواضح من هذه الأسماء التي أطلقت على الباطنية، أن منهم من كان من طوائف الشيعة؛ ومن ثم اسم «الإسماعيلية» واسم «التعليمية»، ومنهم من كان من الزنادقة المرتدين إلى المجوسية في صورها المثالية، ومن ثم اسمه «الخرمية»، واسم «البابكية»، ويروي عن الباطنية في جملتهم عبد القاهر البغدادي فيقول ما خلاصته: إن دعوة الباطنية ظهرت لأول مرة في عصر المأمون، ثم انتشرت في عهد المعتصم، وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أسسا، من قبلها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي عليه السلام على موافقة أسسهم. وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على أربع طبائع، وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان من هذه الطبائع الأربع مدبرات هذا العالم، وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم، وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان محدث، فاعل للشرور. وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا العالم، وسموهما: الأول والثاني، وربما سموهما العقل والنفس. وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم، هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين، أحدهما قديم والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني، وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية ووضعوا أساسا يؤدي إليه.

وكانوا وفق دينهم يرون أن التعبد إنما يكون للنار، فلما لم يمكنهم إظهار ذلك احتالوا عليه بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تجمر المساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مجمرة، يوضع عليها الند والعود في كل حال. وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدا، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.

ويستطرد عبد القاهر البغدادي في ذكر فروع الباطنية وحركاتها هنا وهناك من أجزاء العالم الإسلامي إذ ذاك، ثم يقول: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها، لميلها إلى استجابة كل ما يميل إليه الطبع، ويبطلون القول بالمعاد والعقاب، ويعتقدون أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وأن أهل الشرائع يعبدون إلها لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، ويفصل البغدادي القول تفصيلا في طرق الاحتيال التي كان يستخدمها الباطنية في دعوة الناس إلى فريقهم، وهي طرق أخذها عنه الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» وزادها شرحا وتوضيحا، حتى لأراها قد أصبحت على يديه درسا من دروس علم النفس في وسيلة الإقناع: كيف يقنع إنسان إنسانا آخر بقبول دعوته حتى وإن كانت تدعو إلى باطل، لكنه يزين الباطل ويدلسه حتى يصير عند المتقبل وكأنه الحق.

والذين يروج عليهم مذهب الباطنية - فيما يرى البغدادي - إما عامة قلت بصائرهم بأصول العلم والنظر، وإما شعوبية يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون أن يعود إلى العجم ملكهم القديم، وإما قوم من بني ربيعة غاظهم أن يخرج النبي من مضر ...

فلنذكر من كل هذا شيئا واحدا، هو أن هذا الخليط كله داخل في مجموعة «التراث»، عندما ننظر: ماذا يأخذ المعاصر من أسلافه ليكون عربيا ومعاصرا في آن؟ واضح لي أنه لا يأخذ من هذا كله شيئا. •••

رب وسيلة أصبحت غاية في ذاتها، ذلك يحدث في حياة الأفراد وفي حياة الأمم وفي حياة الثقافات وفي كل صور الحياة، فقد ضربت الحركات اللاعقلية التي أشرنا إلى أطراف منها، ضربت بجذورها في الأرض ونشرت فروعها في الهواء. ليس ما يهمني الآن هو تفصيلات ما زعمته طوائف الزنادقة من سخافات، ولا ما استهدفت إليه في حقيقة الأمر من غايات سياسية شطرت المسلمين عربا وفرسا، إنما الذي يهمني فيما أنا بصدد الحديث فيه، هو أولا وقبل أي شيء آخر ما نتج عن هذا كله من ميل يشد الناس إلى الغيب الملغز المجهول، يريدون أن يصلوا إليه في خفائه، وأن يهتكوا حجب الظاهر ليشهدوا شهادة مباشرة؛ فقد تكون دعوات الزنادقة مقتصرة في أهدافها النفعية العملية على قلة مغرضة هادفة مستغلة، لكن هذا الذي كانوا يدعون إليه قد تسلل - من حيث صحيحه إن لم يكن من حيث تفصيلاته - تسلل إلى قلوب الجماهير؛ لأن جماهيرنا منذ الأزل - أزل التاريخ المدون - مفتونة بالغيب دون الشهادة، بالباطن دون الظاهر، بالخفاء دون العلن، بالإضمار والرمز دون الإفصاح وصراحة التعبير، فإذا وجدت رياحا تهب علينا من هنا أو هناك، تميل برءوسها نحو المستور المحجوب، مالت معها وهي في حالة من سكر النشوة والوجد.

اجتاحت جماهير الناس موجات من اللاعقلانية الهيمانية، بل ربما كانت هذه اللاعقلانية مفروزة في طبائعها كألوان جلودها، تنفر ممن يحاول إزالتها وتميل مع من يزيدها في أنفسهم رسوخا، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، فإذا عقل بعضهم كان ذلك قبسا دخيلا على طبع أصيل، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات و«الكرامات» والخوارق بأسرع من رؤية البرق إذا لمع.

فكان لا بد من تيار مضاد، كان لا بد من «عقل» ينهض ليلجم الخيال الشاطح في سمادير الوهم، فكان أن ادعى الداعي إلى أن تنقل الفلسفة والعلوم من مصادرها. إن كاتب هذه السطور لتساوره شكوك كثيرة بالنسبة إلى الدوافع الحقيقية التي دفعت الدعاة إلى نقل الفلسفة والعلوم، ظاهر الأمر قد يعمينا عن باطنه - ومن الخير أن يعمينا - فظاهر الأمر أن خلفاء الدولة العباسية أرادوا الحضارة بكل ازدهارها، فأرادوا أن تضاف إلى علوم الغرب من لغة وشعر علوم الأولين من هنود وفرس ويونان، وخصوصا اليونان، لكن الذي يستوقف النظر ولو للحظة قصيرة عابرة أن أصحاب الحركات التي أدت إلى دعوات الزنادقة في لا عقلانيتها هم أنفسهم الذين أخذتهم الرغبة في أن يترجم العلم وأن تترجم الفلسفة بكل ما يحمله العلم والفلسفة من عقلانية تقيس النتائج على المقدمات، لماذا؟ هل أحسوا إذ أطلقوا مارد العصبية الثقافية أنهم ربما أطلقوا جبارا يهدد سلطانهم فأرادوا له الشكيمة؟

لقد كان الفارق فسيحا بين ما ينزع إليه الناس بحكم الطبع الموروث، وبين ما نقلت الثقافة اليونانية لتدعوهم إليه، فالناس في هذه المنطقة من الأرض، وفي ذلك الزمن - على الأقل - إن لم يكن على امتداد الزمن، تهولهم الفجوة الفاصلة بين ظاهر العالم وباطنه، بين المخلوقات وخالقها، ويتشوفون إلى طريق يعبرون عليه تلك الفجوة مستدبرين الظاهر ومقبلين على الخفي الباطن؛ ومن ثم كانت الرغبة الجامحة في أن يروا ذلك الخفي وقد لبس ظاهرا ليشهدوه، على حين صميم الروح اليونانية هو هذا الشخص الإنساني بما يمتاز به من منطق ومن إدراك للقيم الموضوعية التي ينظم بها سلوكه فردا وعضوا في جماعة. صميم الروح اليونانية هو أن تنزل الآلهة من قمة الأولمب لتعيش مع الناس، لا أن يتحول الناس إلى دخان ليلحقوا بالآلهة في مساكنها من السماء.

وبرغم هذا الفارق الفسيح، نقلت ثقافة اليونان، ورحبت بها الصفوة المفكرة كما رحبت بها الدولة الرسمية؛ لتكون أداة فعالة بعقلانيتها في محاربة الحركات اللاعقلانية التي تشد المسلمين إلى ما قبل الإسلام من عقائد زرادشت وماني ومزدك وغيرهم. وكان المتكلمون - والمعتزلة منهم بصفة خاصة - هم أول فئة تستخدم هذه الأداة العقلية اليونانية في دفاعها عن الإسلام وقيمه وعقائده وشرائعه، ولم يكن المتكلمون كلهم من صنف عقلي واحد، بل تفاوتوا في ركونهم إلى العقل درجات، بين متطرف ومعتدل، لكنهم اتفقوا جميعا على الهدف، وهو تخليص الإسلام مما أوشك أن يصيبه من ردة روحية، تستبدل بوحدانيته ثنوية، وبقيمه الأخلاقية إباحة للشهوة والمتاع، وبتجريده وتنزيهه تجسيدا وتشبيها.

أفرغ هذا الموقف بطرفيه من مضمونه ومادته، ليبقى لك هيكله وصورته، تر الصراع عندئذ هو صراعنا الثقافي اليوم، وكل ما في الأمر من خلاف، هو أن موضوعات العقيدة والرأي مختلفة، وأما صورة الموقف فواحدة لم تتغير عبر القرون، فهنالك دروشة تعجب الجماهير العريضة، يقابلها عقل مستعار من ثقافة أخرى، تستخدمه الصفوة القليلة لتقاوم به دروشة الكثرة الغالبة. ليس الأمر مجرد تقابل بين أنصار القديم وأنصار الجديد، أو بين رجعية وتقدمية، كالذي نراه في كل بلد وفي كل عصر، وإلا لما كان فيه طابع خاص يميزنا، وإنما الأمر فيه أكثر من هذا التقابل بين محافظين ومجددين؛ لأنه في حقيقته تعارض بين صوفية الدراويش وعقلية العلماء، مع ملاحظة نضيفها إلى هذا التعارض، وهو أن صوفية الدراويش تلقى الرضا والقول عند عامة الناس، وأن عقلية العلماء تجيء وافدة دائما ولا تنبثق من أهل الإقليم. ولقد عنيت بصوفية الدراويش تلك الرغبة الحادة التي تدفع الإنسان دفعا إلى مجاوزة حدود العالم الظاهر لتلتقي وجها لوجه بحقيقته الإلهية الباطنة، إن لم يكن بالفعل، فبالأمل والرجاء.

وتلك هي محنتنا اليوم في حياتنا الفكرية والثقافية، كما كانت بالأمس، فلو كان إحياء التراث لنحياه، معناه أن نتقمص هذا التعارض الثقافي بعينه؛ إذن فقد أحييناه وعشناه إلى نخاع النخاع.

وإنه لمما يزيد اليأس يأسا - بالنسبة لكاتب هذه الصفحات على الأقل - أن الصفوة العاقلة بثقافتها المستعارة، سواء كان ذلك عند أسلافنا الأقدمين أو في مجتمعنا القائم، سرعان ما تنشق على نفسها، فيخرج منها فريق يحارب فريقا، بأن يستكبر أولهما على ثقافته أن تكون مستعارة، ويعيب على الآخر إقباله المخلص على فكر ليس نبات أرضه، وأما هذا الفريق الآخر فيسقط في يده، لا يدري ماذا يصنع؟ لأنه لا يجد أمامه سبيلا - إذا أراد ثقافة عقلية إلا أن يفتح لها النوافذ لتهب عليه مع رياح الشمال والغرب - وهو ينظر خصمه المستكبر، فيراه في حالة عجيبة من النفاق الفكري، يأخذ الحسنة من المتصدق بها ثم يستعلي عليه ويشمخ بأنفه كأنه هو الذي أعطى وتصدق!

ولننظر إلى ما كان عليه الأسلاف في هذا السبيل، لنرى أنفسنا في مرآتهم:

نقلوا عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وسرعان ما أطلق عليها اسم «علوم الأوائل» أو علوم القدماء؛ ليعارضوا بينها وبين ما هو «علوم العرب». وكان في علوم الأوائل تلك صنوف العلم على اختلافها ، من علوم رياضية وعلوم طبيعية وإلهيات، وما اشتملت عليه هذه الأقسام من طب وفلك وموسيقى وغيرها. ورحب بتلك العلوم جماعة أرادت أن تستخدمها دفاعا عن دين الإسلام عقيدة وشريعة ضد أعدائه من مرتدين ومن يهود ونصارى، لكن هل طال معهم هذا الترحيب؟ كلا، فما لبثوا أن تألب منهم فريق على ثقافة اليونان هذه، داعيا إلى «علوم العرب» وحدها والإعلاء من شأنها، حتى لقد اضطر رجل كالغزالي أن يتخذ لنفسه موقفا وسطا، ينادي منه إلى وجوب التدبر والتريث، فما كل علوم الأوائل حقيقة بالرفض، فمنها علم الرياضة ومنها علم المنطق، وهما علمان صوريان لا دخل لهما بمضمون العقيدة الدينية، كما سوف نذكر بعد قليل.

لكن المتطرفين من أهل السنة وأتباع السلف، لم يكونوا ينظرون نظرة الرضا إلى أي فكر دخيل، «فالعلم» عندهم لفظة لا تنصرف إلا إلى معنى واحد، هو العلم الموروث عن النبي عليه السلام، أما ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقا، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل، لا، بل إن مثل هذه المعرفة الدخيلة التي لا تنفع، قلما يقف أمرها عند هذا الحد السلبي؛ إذ يغلب أن تجاوزه إلى ضرر فعلي؛ لأنها كثيرا ما تميل بحاملها إلى الاستخفاف بالدين ودراسته.

ونعود إلى موقف الغزالي، فهو برغم نظرته الموضوعية التي فرقت بين علوم وعلوم، فلم تجد بأسا في دراسة الرياضة والمنطق من بين فروع الفلسفة؛ لأنها دراسة لا تتعرض في ذاتها بالأمور الدينية نفيا ولا إثباتا، أقول إنه برغم نظرته تلك، فلم يفته أن يحذر من آفات قد تنجم منهما، فقد تعجبنا الدقة العقلية التي نراها في الرياضة والمنطق، واليقين الذي ينتهيان إليه، فنتوهم أن هذا نموذج لجميع أقوال الفلاسفة مهما اختلفت موضوعاتها، وعندئذ نظن اليقين بما ليس من اليقين، بل قد يأخذنا الإعجاب بدقة الفلاسفة كما تتبدى في علومهم الرياضية والمنطقية، ثم يبلغنا عن بعضهم الكفر فنكفر معهم؛ إيمانا منا بأنهم أصحاب حق يقيني ودقة معصومة من الخطأ.

وإنه لمما يلفت النظر أن الغزالي مع أنه أراد أن يحد من إسراف أهل السنة المتطرفين في رفضهم للفلسفة اليونانية بكل أجزائها، بأن يفرق لهم بين الدراسات الصورية اليقينية كالمنطق والرياضة، وبين الدراسات المتصلة بالطبيعة وبالإلهيات فهذه قد تكون مزيجا بين حق وباطل، أقول إن الغزالي برغم موقفه هذا المعتدل المعقول، لم يشأ أن يستخدم كلمة «منطق» في صورتها اللفظية الصريحة، عنوانا لمؤلفاته المنطقية، كأنما أراد لها ألا تلفت النظر بعنوانها، ما دام مثل هذا اللفظ قد امتزج في أذهان المحافظين بالمقت والكراهية، وأخذ يختار لمؤلفاته المنطقية - وهي ليست بالقليلة - أسماء مختلفة، مثل «معيار العلم» و«محك النظر» وما أشبه ذلك (نستثني الجزء الخاص بالمنطق في كتابه «مقاصد الفلاسفة» فها هنا ذكر «المنطق» عنوانا لموضوع دراسته ذكرا صريحا)، أضف إلى ميل الغزالي إلى اجتناب هذا اللفظ في عنوانات مؤلفاته - فلقد بلغت كراهية المحافظين للفلسفة، بما فيها جانب المنطق بصفة خاصة، أن جعلوا دراستها ضربا من الزندقة، وقيل في ذلك: من تمنطق تزندق - أنه (أعني الغزالي) قد حرص في دراساته المنطقية أن يبين بطريق غير مباشر نفع المنطق في الدراسات الفقهية، بأن جعل يسوق أمثلته من الفقه، وذلك واضح في كتابه «المستصفى» الذي جمع فيه ما أراد أن يقوله في أصول الفقه، وقدم للكتاب بمقدمة لخص فيها جوانب المنطقة الأساسية.

ذلك كان موقف الاعتدال من الفلسفة اليونانية عند أئمة الفقه، وأما الموقف الشائع السائد فهو الرأي بأن طرق البراهين الأرسطية كما وردت في منطقة خطر على سلامة العقيدة عند المؤمن. وظهرت مؤلفات بأكملها تصدى فيها مؤلفوها للرد على المنطق الأرسطي خصوصا والفلسفة اليونانية عموما. وللشهرزوري فتوى أفتى بها سائلا سأله عن رأي الدين في الاشتغال بالمنطق تحصيلا وتعليما، وماذا يجب على ولي الأمر فعله بإزاء المشتغلين بالمسائل الفلسفية عموما، فأجاب الشهرزوري قائلا: «إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان ... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالح، وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وساداتها ... ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة ... فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام.»

وكذلك كان موقف أئمة آخرين، فابن تيمية معروف بعداوته للفلسفة والمنطق، وله مؤلفات في الرد عليهما. وتاج الدين السبكي يقف في خصومة الفلسفة موقفا حاسما، وإن يكن قد خفف هجمته بالنسبة إلى المنطق، فلم يحرمه تحريما كاملا، فيكفي أن قد اشتغل به أئمة سابقون كالغزالي. وأما السيوطي فيحرم الاشتغال بالمنطق، قائلا عن نفسه: «كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح الشهرزوري أفتى بتحريمه، فتركته لذلك؛ فعوضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم» (راجع مقالة بقلم المستشرق جولد تسيهر بعنوان «موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل» ضمن بحوث ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي لطائفة من المستشرقين، وجمعها في كتاب عنوانه: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية).

فإذا كانت الفلسفة عامة والمنطق خاصة يؤخذان دليلا على النظرة العقلية الخالصة، جاز لنا القول إنه حين نقلت الثقافة اليونانية لتكون أداة في محاربة التيار اللاعقلي الذي لقي عند جماهير الناس أصداء الرضا، وحين التقط المثقفون هذه الأداة ليستخدموها في دفاعهم عن العقيدة الإسلامية في وجوه من أرادوا تحريفها وتجريحها، فإن هؤلاء المثقفين أنفسهم - كما أسلفنا القول - سرعان ما انشقوا على أنفسهم بإزاء العقل ومناهجه وأحكامه، وخرج منهم رجال الفقه، ليهاجموا الفلسفة والمنطق هذا الهجوم العنيف، تاركين علماء الكلام وحدهم في الميدان، أو قل تاركين فريقا واحدا من علماء الكلام، هم المعتزلة الذين ثبتت في ميادين العقل أقدامهم لم يتحولوا ؛ وذلك لأن من المتكلمين - كالأشاعرة - من استكثر أن يترك العقل وحده حكما في الميدان، فقالوا: نجعل للإيمان الصرف قسطا وللعقل قسطا.

القسم الثاني

الفصل السادس

ضرورة التحول

(أ) من فكر قديم إلى فكر جديد

مواضع الزلل الفكري عند الإنسان لا تكاد تقع تحت الحصر، يهمنا منها الآن موضع واحد، هو أن يتفق الناس على معان مجردة، فيحسبوا أن قد اتفقوا بذلك على التفصيلات الجزئية التي تقع تحت ذلك التجريد، فالناس جميعا متفقون - مثلا - على ضرورة «الطعام»، حتى إذا ما أخذوا يعدون لأنفسهم صنوفه اختلفوا ميلا ونفورا إلى أبعد درجات الاختلاف؛ حتى ليتقزز منهم نفر مما يجعله نفر آخر موضع الاحتفال والتكريم ... وقل شيئا كهذا في كل شيء: تقول للناس «فن» فلا تجد منهم أحدا ينفر من الفن، وكيف ينفر والفن في ثيابه وأواني طعامه وعلى جدران داره؟ لكن ادخل معهم في تفصيلات ما يعد فنا وما لا يعد، تجد منهم عجبا، فالفن التجريدي - مثلا - أو السريالي أو غيرهما من ضروب الفن الحديث، لا يلقى عند كثرة من الناس إلا هز الأكتاف الهازئة وإلا الضحكات المتعجبة الساخرة. وخذ ما شئت من معاني الدين والسياسة والاجتماع، تجد من الناس اتفاقا لا استثناء فيه ولا تردد، لكن أبدأ في ذكر التفصيلات والشروح التي تحملها تلك المعاني، فعندئذ تجدهم قد تفرقوا فرقا يباعد بينها ما يباعد بين القطبين، فإذا كان المجال مجال الدين كفر بعضهم بعضا، أو كان مجال السياسة قاتل بعضهم بعضا، أو كان مجال أوضاع اجتماعية اتهم بعضهم بعضا بالرجعية من فريق وبانحلال من فريق آخر.

وذلك لأن الفكرة المجردة من شأنها أن تمحو الفواصل والفوارق التي تميز المفردات العينية الجزئية المندرجة تحت الفكرة، فالقط والكلب والسبع والنمر والحمار والحصان والجمل ... كلها «حيوان»، والبرتقال والتفاح والتمر والرمان والموز والبطيخ ... كلها «فاكهة»، فقد تجد رجلين يتفقان - مثلا - على قيمة معينة يتصف بها الحيوان كله، أو تتصف بها الفاكهة كلها، حتى إذا ما نزلا إلى تفصيلات الحياة العملية وجدت أحد الرجلين يقتني في داره كلبا ووجدت الآخر ينفر من نجاسة الكلب ، أو وجدت أحد الرجلين يأكل البطيخ على اشتهاء، ووجدت الآخر يجتنبه لما يصيبه به من نفاخ، والحديث في هذا الباب أوضح من أن نمضي فيه.

وإنه ليندر جدا أن يكون الانتقال الفكري من عصر إلى عصر، انتقالا في المعاني العامة المجردة، كما تدل عليها ألفاظ عامة يتداولها الناس فيما بينهم من أحاديث ومعاملات، وإنما يكون الانتقال الفكري في تغير المضمونات التي يقصد إليها المتحدثون والمتعاملون بتلك الألفاظ العامة والمعاني المجردة. وبعبارة أوضح، نقول إنه لو كانت الألفاظ العامة والمعاني المجردة كئوسا ومضموناتها هي الشراب داخل تلك الكئوس، أو لو كانت أطباقا ومضموناتها هي الطعام في تلك الأطباق، فإن الكئوس أو الأطباق ليست هي التي تتغير من عصر فكري إلى العصر الذي يليه، وإنما الذي يتغير هو الشراب في الكئوس أو الطعام في الأطباق، وإلا فقل لي متى كان العصر الذي يتنكر «للفضيلة» بمعناها العام، أو «للعدالة» أو «للحرية» أو «لكرامة الإنسان» أو غير ذلك من المعاني الداخلة في هذا المضمار؟ فهذه ألفاظ تبقى ولا تزول، تجيء حضارة وتذهب حضارة، وتجيء ثقافة وتذهب ثقافة، وتجيء عقيدة وتذهب عقيدة، لكن تبقى ألفاظ «الفضيلة» و«العدالة» و«الحرية» و«الكرامة» إلخ مرفوعة الأعلام، فما الذي يتغير إذن بحيث نقول: ذهبت ثقافة وجاءت ثقافة؟ الذي يتغير هو المضمون الذي نعنيه، فقد تعني العدالة في عصر فكري معين أن يقتص المظلوم من ظالمه متى استطاع ذلك بشخصه، ثم يتغير العصر فتصبح العدالة أن يقف بين الطرفين قاض محايد، وهكذا في سائر المعاني.

ولهذا لن تجد في حياتنا الفكرية المعاصرة معنى مجردا واحدا، نشير إليه بلفظة عامة، إلا أن تجد ذلك المعنى المجرد نفسه وتلك اللفظة العامة نفسها - أو ما يرادفها - واردين في تراثنا الفكري القديم، فهل يكون معنى ذلك أن فكر المعاصرين هو نفسه فكر الأقدمين؟ سوف يكون الجواب أن «نعم» عند من يكتفون من الشراب بالكئوس الفارغة، ومن الطعام بأطباقه الخاوية، وهذا على أفضل الفروض؛ لأن الكأس الفارغة والطبق الخاوي أفضل منهما، وقد امتلآ بما لم تعد النفس تشتهيه. سيكون الجواب أن «نعم» عند من لا يفطنون إلى تيار الزمن كيف يجرف من العصور المتوالية لبابها الفكري، وإن أبقى لها القشور والأوعية التي كانت تحمل لها ذلك اللباب، وهو إذ يجرف ما يجرفه، فإنما يفعل ليجيء أبناء العصر الجديد فيضعوا في الآنية القديمة لبابا جديدا.

أقول ذلك وأنا على علم بمدى التحفز الذي يتحفز به كثيرون، دفاعا عن تراثنا الفكري، ظنا منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين فأخرجوا لفظا من هنا ولفظا من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك؛ ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد - وأعني القيم المحمودة الشريفة - قد وردت كلها في تراثنا، وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين، فإن قال المحدثون «حرية» و«مساواة» و«علم» و«عدل»، أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء، لقد سبقناكم بكذا قرنا من الزمان إلى «الحرية» و«المساواة» و«العلم» و«العدل» وغيرها من القيم الرفيعة. ويفوتنا دائما أن نتروى حتى نستوثق من أن كئوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم، ولم تستبدل به شرابا جديدا، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظا ومعنى، وشكلا ومضمونا. •••

ولأضرب مثلين في شيء من التفصيل، لأوضح ما أريد:

إن من علامات هذا العصر المميزة، أنه عصر «العلم» المقترن ب «العمل»، حتى لتجد فلاسفة عصرنا منصرفين بكثير من عنايتهم وجهدهم نحو تحليل العلاقة بين العلم والعمل تحليلا ينتهي ببعضهم إلى القول بأن العلم والعمل موصول أحدهما بالآخر، فإذا وجدت «علما» مزعوما لا يجيء بمثابة الخطة الدقيقة لعمل يؤدى، فقل إنه ليس من «العلم» في شيء إلا باسم زائف، وأن هذا الفريق من الفلاسفة المعاصرين لينكرون أشد إنكار أن يكون هناك ما يجوز تسميته ب «العلم النظري» الذي لا صلة له بدنيا التطبيق، بل إنهم ليتطلبون من العلماء إذا حددوا مصطلحاتهم العلمية، أن يحددوها بما يسمونه «تعريفا إجرائيا»، أي أن يحددوها بالجوانب العلمية التي تنطوي عليها تلك المصطلحات، فإذا وردت في لغتهم ألفاظ رئيسية لا تشير إلى «إجراءات» فعلية معينة رفضوا مشروعيتها من الناحية العلمية، وإننا لنقول عن عصرنا إنه عصر «التكنيات» (التكنولوجيا)، وما الأجهزة التكنية هذه إلا «الأفكار» العلمية وقد برزت إلى دنيا العمل.

فإذا قال قائل عن عصرنا إنه عصر «العلم» و«العمل» كان لقوله معنى محدد بمضمونات العصر ومفهوماته، ف «العلم» - من ناحية - هو العلم الطبيعي، و«العمل» - من ناحية أخرى - هو تطبيق العلم بالأجهزة التكنية على اختلاف مجالات العلوم وتطبيقاتها. إن كلمة «علم» بهذا المعنى المحدد لم تدخل اللغة الإنجليزية نفسها إلا في الثلث الأول من القرن الماضي (وأعني كلمة

Science )؛ مما يدل على أن ما قد سبق ذلك من علم لم يكن به كل المقومات التي تميز علم العصر الراهن. وإني لأذكر في هذا الصدد - وعلى شفتي ابتسامة إشفاق وأسف - أن أحد كتابنا المرموقين قد وقع على هذه الحقيقة الغربية في بعض ما قرأ - وكان ذلك منذ أعوام قلائل - فأسرع إلى صحيفته يكتب مفاخرا هذا العصر المتعجرف المغرور بتراثنا، فمنذ كذا قرنا من الزمان - هكذا قال الكاتب - وتراثنا مليء ب «العلم» اسما ومسمى، وها هي ذي إنجلترا لم تعرف «العلم» إلا منذ أقل من مائة وخمسين عاما. ولو تريث كاتبنا لحظة ليراجع معنى الكلمة في الحالتين، لوجد الفرق بين المعنى الذي كان والمعنى الذي استحدث هو - كما قلت - كالفرق بين القطبين، فاللفظ واحد - في العربية - والمضمون مختلف. •••

وأعود إلى تراثنا العربي، وبين يدي لفظتا «علم» و«عمل» الدالتان على جانبين يميزان العصر الحاضر وثقافته، فأجدني مع أبي حامد الغزالي في كتابه «ميزان العمل»، وأقرأ، فإذا هو يبدأ فيضع الأساس الذي يريد أن يقيم عليه البناء، وهو أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل ... ولو تعجلت النتائج كما يتعجل المتعجلون، لقلت من فوري: الله أكبر! ماذا أبقى القرن الحادي عشر للقرن العشرين من علامات ومميزات؟ لكني تريثت حتى أرى بأي المعاني استخدمت كلمة «العلم» وكلمة «العمل»؟ ثم لا ألبث أن أجدني في مجال من القول لا يتصل أدنى صلة بما يراد اليوم حين يقال «علم» و«عمل». وحسبي أن ألخص النتيجة التي انتهى إليها الغزالي من بحثه، وهي «أن العلم المقصود هو العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية، من حيث إنها مرتبة بقدر الله، لا من حيث ذواتها؛ فالمقصود الأقصى العلم بالله»، وأما العلم فمقصود به - أساسا - مجاهدة الهوى، حتى تزول الحوائل التي ربما أعاقت الإنسان عن العلم بالله.

تلك هي النتيجة، وذلك هو مجال القول، وإنها لنتيجة وصل إليها الغزالي بعد سلسلة من الحجاج على درجة عالية من الاستدلال المحكم المتين، ولكنها كذلك داخل مجالها من القول. إنها نتيجة تلزم لزوما قاطعا عن المقدمة التي وضعها الغزالي؛ إذ ذكر في حديثه أن السعادة التي يبحث لها عن علم وعمل يحققانها هي «السعادة الأخروية»، وهي سعادة قد تقتضي من الساعي إليها ترك اللذات الدنيا واحتمال عنائها، «فإن المدة في احتمال التعب منحصرة ... واللذات الدنيوية منصرمة مقتضية، والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقدا، في طلب أضعافه نسيئة».

وما دامت هذه هي السعادة المقصودة، فما على المفكر أولا إلا أن يثبت الحياة «الأخروية» إثباتا عقليا يفحم به منكريها، حتى إذا ما أيقن القارئ بصحة الفكرة، انطلق منها إلى ما يترتب عليها من علم وعمل يؤديان إليها، فكانت له النتيجة التي أسلفنا ذكرها.

لست أظنني بحاجة إلى التوكيد بأن المقصود بهذه التفرقة بين طريقتين في استخدام لفظتي «علم» و«عمل» ليس هو أن نجعل إحدى الطريقتين أعلى من زميلتها، بل هي تفرقة لمجرد التفرقة، كما أفرق في دنيا المواصلات - مثلا - بين السيارة والطيارة، وكل ما يعنيني من هذه التفرقة هو أن ورود الألفاظ في سياقها القديم، ثم ورودها هي نفسها في سياقها الجديد، قد لا يدل على أن الفكر الجديد هو نفسه الفكر القديم، إلا إذا حللنا المراد بتلك الألفاظ فإذا هذا المراد واحد في الحالتين.

فقد أتصور مفكرا معاصرا يقابل الغزالي في زمنه، ويتصدى لبحث مثل بحثه؛ ليدل معاصريه على «ميزان العمل» المؤدي إلى «السعادة». أقول إنني قد أتصور مفكرا معاصرا يبدأ بداية أخرى غير البداية التي بدأ بها الغزالي ورتب عليها نتائجه، فأولا هو يتفق مع الغزالي في أن «السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل»، لكنه يمضي ليقول إن السعادة التي يقصد إليها هي سعادة الإنسان ها هنا على هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا، وإن هذه السعادة «الدنيوية» التي هي مقصد - لا السعادة «الأخروية» التي كانت هي كل شيء عند الغزالي - إنما تنال بالعلم والعمل، ولكن أي علم وأي عمل؟ ربما وجد هذا المفكر المعاصر أن العلم المقصود هو العلوم الطبيعية بمعناها الحديث من فيزياء وكيمياء وما إليهما، وأن العمل المقصود هو من قبيل ما يجري في المعامل من تجارب من شأنها أن تخلق لنا من الوسائل والأدوات والأطعمة والأشربة والثياب والمساكن والمواصلات ما لم يكن للعصور السابقة عهد بمثلها.

وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحا، وهو أن أستخدم الألفاظ - التي هي في الحقيقة دالة على رءوس الموضوعات - استخداما يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة. •••

وأنتقل إلى مثل آخر، هو فكرة «الحرية».

ولعلي في هذه المرة في غنى عن كثير من الشرح الذي اضطررت إلى ذكره في الفقرة السابقة؛ لأن التناول طريقته واحدة، فلا يكفي أن أجد على صفحات التراث كلمة «الحرية» مذكورة لأصرخ في وجه القائلين بأن «الحرية» مطلب يشغل عصرنا، ساخرا بهم، وزاعما أنهم يستيقظون الآن لما دعونا إليه نحن منذ كذا قرنا من الزمان! فقد تكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفا على ألسنة المعاصرين، عنه على ألسنة الأولين.

والحق أنه لو كان المقصود بالكلمة شيئا واحدا في الحالتين، لعجبنا بدورنا أشد العجب من هؤلاء المعاصرين الحمقى، الذين يجعلون من فكرة «الحرية» هذه مدارا لجزء كبير جدا من نشاطهم الفكري، سواء كان ذلك في مجال الفكر الفلسفي، أو في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وحسبك أن تعرف أن المطابع تخرج عشرات الكتب عاما بعد عام، ليس فيها إلا غوص في فكرة الحرية هذه، بمعناها عندما يوصف بها الفرد الواحد من الناس، ومعناها عندما يوصف بها المواطن - لا الفرد من حيث هو فرد - بل المواطن من حيث هو عضوا في مجتمع واحد تحكمه دولة واحدة، ومعناها عندما ترد في ميدان المعاملات الاقتصادية، وهلم جرا. ولو قرأ قارئ كتابا واحدا لفيلسوف واحد من المعاصرين - وليكن مثلا من الفلاسفة الوجوديين، الذين عنوا أكثر من سواهم بفكرة الحرية - لأدرك عن يقين أن المشكلة ذات أبعاد وأطراف وأعماق لا يحلها أن يقال متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا، بل قد تجد بعد تحليل قليل أن الناس تلدهم أمهاتهم مكبلين لا أحرارا، مكبلين بجهاز نفسي خاص، فيه الغرائز والميول الموروثة والاستعدادات الفطرية، مما لا قبل للفرد أن يكون حرا بإزائها، أما أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة هنا أو هناك، ثم أسمع المتحدثين عن هذا العصر يقولون إن أزمة الحرية هي من أعقد الأزمات التي يعانيها المعاصرون، وإن الحرب الدائرة أرحاؤها - باردة وساخنة - إنما هي حرب على التحديد الذي تحدد به فكرة «الحرية» ماذا يكون؟ أقول: أما أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة وردت في تراثنا، ثم أسمع هذا الحديث كله وأرى هذا الصراع كله في عصرنا حول «الحرية» وتحديدها وأبعادها، فأقول: صح نومكم يا هؤلاء! لقد حللنا العقدة منذ كذا قرنا من الزمان، فضرب من الخمول الفكري، لو كان ليطول معنا بقاؤه، فلا أظن أن الأمل قريب في نهوضنا نهوضا بالفعل لا بالكلام، وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام.

وأعود إلى التراث، فأجد «الحرية» قد شغلت بالفعل فريقا من الفلاسفة والمفكرين، ولكن بأي معنى؟

كان المعتزلة أهم من أثاروا البحث في حرية الإنسان، بحيث حرصوا على أن يجعلوا الإنسان قادرا خالقا لأفعاله، خيرها وشرها على السواء؛ ليكون مسئولا عما يفعل مسئولية تبرر ثوابه أو عقابه يوم الحساب، قائلين إن العدل الإلهي يقتضي ذلك، ومرجع الإنسان في اختياره لأفعاله هو عقله.

فأنت ترى من ذلك أن المعنى الذي قصدوا إليه «بالحرية» هو حرية الإنسان في اختياره لأفعاله، وهي حرية تحدد علاقة الإنسان بربه، ولا شأن لها بالروابط التي تصل بين الإنسان والإنسان في هذه الدنيا؛ فهي لا تمس علاقة الناس بالحكومة، هل هم أحرار في إقامتها وفي عزلها، ولا تمس صور التبادل التجاري والاقتصادي، بل ليست هي بذات الشأن في علاقة الوالد بولده ولا الزوج بزوجه، إلا من جهة أن الأفعال التي يختارها الإنسان بإرادته الحرة في كل هذه الميادين، تضعه موضع الحساب يوم الحساب.

وقد انشعبت المعتزلة فرقا كثيرة، وكان موضوع الإرادة الحرة في اختيار الفعل بين الموضوعات التي أدلت كل فرقة منها برأيها فيها: فالواصلية - وهم أتباع واصل بن عطاء - قالوا «بالقدر» ومعناه قدرة الإنسان على خلق أفعاله ليصبح مسئولا عنها؛ إذ لا يجوز في رأيها أن يحتم الله على عباده شيئا ثم يجازيهم عليه.

وأما «النظامية» - وهم أتباع إبراهيم بن سيار النظام - فقد زادوا على القول بقدرة الإنسان على اختياره لأفعاله، خيرها وشرها، قولهم إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، فليست هي مقدورة له، مخالفين بذلك الآخرين الذين قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها. وكان من إضافات النظام كذلك أن حرية الإنسان في فعله محدودة بقدرته، وأما ما جاوز قدرته فهي من فعل الله، مثال ذلك أن تلقي بحجر فتكون حركته نتيجة قدرتك، لكن إذا بلغت قوة الدفع غايتها، سقط الحجر بحكم طبيعته، أي بفعل الله لأنه هو الذي أنشأ في الحجر طبيعته.

وقصدت جماعة الجهمية لمعارضة المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في خلقه لأفعاله، إذ الإنسان عند الجهمية - نسبة إلى جهم بن صفوان - لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على غرار ما يخلق في سائر الجمادات، فإذا نسبنا إلى الإنسان أفعاله، كان ذلك على سبيل المجاز، كما تنسب إلى الجمادات أفعالها، حين يقال - مثلا - أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وأما الثواب والعقاب فهما جبر من الله.

وبين هذين الطرفين - المعتزلة والجهمية - جماعة وسط، هي جماعة الأشعرية - أصحاب أبي الحسن الأشعري - فقد فصلت بين الإرادة الإنسانية والفعل الذي يتبعها، فعندما يريد الإنسان فعلا معينا إرادة مخلصة يخلق الله له الفعل؛ وبهذا يكون الفعل مخلوقا لله، ولكنه مخلوق له عند إرادة الإنسان، لا بإرادة الإنسان.

ذلك هو مجال القول عندهم في موضوع الحرية وما يحيط بها من قدرة وفعل ونتائج تترتب على الفعل، وهكذا، ولست أعرف مفكرا عربيا واحدا تصدى للبحث في الحرية الإنسانية بمعانيها التي هي موضوعات البحث اليوم، ولقد كان مألوفا أن يحدث التقابل بين «الحر» و«العبد»، فإذا وجدنا كلاما عن الإنسان الحر، كان ذلك بالقياس إلى الرقيق، فهو حر بمعنى أنه غير مملوك لأحد، وأما حرية هذا الحر ما مداها في أوضاع الحياة الفكرية والعملية، فلا أظن أنها ظفرت بالنظر؛ ولذلك لا أذكر أن الحرية قرنت إلى «الفكر»، ولا كانت حرية الفكر مشكلة تثار، الذي أثير دائما هو موضوع الحرية «الفعل» على النحو الذي بيناه، وقد يكون ذلك لأن مصدر التشريع - من حيث معيار السلوك - نزل وحيا أو ورد سنة عن رسول الله، فكانت مهمة الفكر عندئذ هي تحليل النص، لا خلق الفكرة وابتكارها فيما يختص بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عصرنا هذا الحديث، فلم تكن حرية الفكرة ذات موضوع.

أفيجوز بعد هذا كله أن يسمع سامع عن العصر الراهن أنه منشغل بفكرة الحرية الإنسانية وتحليلها وتحديدها، فيقفز من فوره غاضبا ليقول: هذه فكرة فرغنا نحن منها، ووضعنا لها أصولها وفروعها منذ كذا قرنا من الزمان. إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا ... نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين ... (ب ) المبادئ: حقائق هي أم فروض؟

من الكلمات ما قد امتزج بمشاعر الناس امتزاجا، بحيث باتت تلك الكلمات وكأنما هي المقدسات، التي لا يجوز لكاتب أن يمسها إلا على حذر شديد، فليست هي عند الناس بألفاظ كسائر الألفاظ يستطيع الباحث أن يتحدث عنها حاسبا أنه يتحدث عن رموز باردة مجردة، مهمتها أن تشير وأن تسمي، دون أن يكون لها في ذاتها حياة نابضة حساسة، ليست هي كالألفاظ التي من قبيل قولك: «شجرة» و«نهر» و«جبل»، لا، بل هي إلى الكائنات الحية أقرب، إن مسستها بقلمك فقد مسست بالمشرط جهازا عصبيا شديد الحساسية سريع التأثر والهيجان. ومن هذه الكلمات كلمة «مبادئ»، فقد ألف الناس استخدامها مقرونة بالقيم الخلقية، حتى لأوشك اللفظان أن يكونا مترادفين، إذا قلت عن رجل إنه ذو مبادئ فكأنك قلت عنه إنه على خلق قويم، والعكس صحيح كذلك، أعني أنك إذا رويت عن إنسان بأنه على خلق قويم كانت روايتك منطوية على القول بأنه ثابت على مبادئه. •••

والأجدر بي - قبل أن أمضي في الحديث - أن أوضح هذه المقابلة بين ما هو حقائق من جهة، وما هو فروض من جهة أخرى، فأما الحقائق فهي ما لا حيلة للإنسان فيه، عليه أن يتقبلها لأنها وقائع قيمة هنالك، رضي الإنسان أو كره، ثم يبني عليها إذا شاء، ويستنبط منها النتائج إذا شاء، أما هي نفسها فكيان مستقل عن الإنسان ورغباته وميوله وإرادته، فالمحيطات ماؤها أجاج والأنهار ماؤها عذب، وفي هذه البقعة من جوف الأرض نفط، ولا نفط في تلك، والضوء يسير بسرعة كذا ميلا في الثانية، وينعكس شعاعه على الأسطح المصقولة بزاوية يتناسب مقدارها مع زاوية السقوط، وهكذا وهكذا مما يستطيع كل قارئ أن يذكر من أمثلته ألوفا - تلك هي الحقائق التي يتقبلها الإنسان ولا يصنعها، وفي مستطاعه الإفادة منها إلى أي مدى وسعت قدرته.

وأما الفروض فشأنها آخر؛ لأنها ممكنات يتصورها الإنسان ليستنبط منها النتائج، فإذا قلت لمن أتحدث إليه: افرض أن أ ب ج مثلث متساوي الأضلاع، فماذا تكون الحال بالنسبة إلى زواياه؟ فيجب بعد عملية استنباطية يجريها على هذا الفرض أن زوايا مثلث تساوت أضلاعه يلزم أن تكون هي الأخرى متساوية، وأن هذا الحوار ليتم بيني وبين محدثي دون أن يتحتم علينا إيجاد مثلث من هذا القبيل في عالم الواقع.

وسواء كان الذي بين أيدينا «حقائق» واقعة أو «فروضا» من عندنا، فهذه أو تلك بداية محتومة لأي تفكير. إنه ليستحيل على العملية الفكرية - كائنة ما كانت مادتها - أن تتحرك قيد شعرة إلا إذا كانت بين أيدينا «نقطة الابتداء» التي منها نسير، وقد تكون نقطة الابتداء هذه هي من «الحقائق»، وقد تكون من «الفروض»، فإن كانت الأولى كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الطبيعة، وإن كانت الثانية كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الرياضة، ولا ثالث لهذين الضربين في عمليات الفكر، فمهما تنوعت موضوعات البحث ألفيتها - بعد شيء من التحليل - إما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الحقائق الواقعة، وإما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الفروض. وقد تسمى هذه الفروض بأسماء أخرى كالبديهيات أو المسلمات أو غير ذلك، لكن ذلك لا ينفي عنها طبيعتها، وهي أنها فروض نفرضها لنستنبط منها، وكان في وسعنا أن نفرض سواها فتخرج لنا نتائج أخرى. •••

وكلمة «المبدأ» إنما تعني ما يدل عليه لفظها؛ إذ تعني النقطة التي «نبدأ» التفكير من عندها، غير أن نقطة البدء إذا كانت حقيقة واقعة من حقائق الطبيعة، فإنه لا يحسن تسميتها «بمبدأ»؛ لأنها عندئذ تكون مفروضة على الإنسان، ولا يكون الإنسان هو فارضها، فإذا كان من حقائق الطبيعة أن الضوء يسير بالسرعة الفلانية، ثم أقمنا على هذه الحقيقة بعض نتائجها، فإن اللغة عندئذ لا تسيغ أن يقول العالم إن «مبدئي» هو أن سرعة الضوء هي كذا، لكن الأمر على خلاف ذلك حين تكون نقطة البدء من اختيار الإنسان، اختارها حين أدرك أنها قد تعطيه من النتائج أكثر مما يعطيه سواها، وها هنا في وسعه - دون غضاضة - أن يقول إن «مبدئي» هو كذا، وقد يجيء إنسان آخر فيختار لنفسه في الموضوع نفسه مبدأ آخر، ولا يكون بين الرجلين تناقض، فكل منهما بمثابة من ابتنى لنفسه من مبدئه بيتا يئويه، ثم تجاور البيتان، لا ينقض وجود أحدهما وجود الآخر.

والأمثلة في دنيا الفكر كثيرة لا تحصى؛ فالفروض في الرياضة هي «مبادئ» مختارة، ليس فيها إلزام لأحد من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستو ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كري ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني، وهكذا. وإنها لفروض ثلاثة تخرج لنا ثلاث هندسات مختلفة النتائج، لا تنقض واحدة منها واحدة، فكل مجموعة من النتائج تكون صوابا بالنسبة إلى فرضها الأول؛ أعني بالنسبة إلى «مبدئها». •••

والديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تنبني على «مبادئ»، كل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، وإنما تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابا بالنسبة إلى نص كتابها، ولا بد لي هنا أن ألفت الأنظار إلى نقطة هامة وخطيرة، وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلة عن الأخرى في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام، أعني أن كلا منها إذا استشهد على صواب حكم معين، فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤديه كل منها للحياة الإنسانية من سعادة أو من تسام أو غير ذلك، فالأمر هنا شبيه بأن ترى بيوتا متجاورة، لكل منها أساسه الذي أقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيت منها حجة على بيت آخر، فقد يهوي أحدهما لضعف أساسه بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استقلال هذه البيوت المتجاورة بعضها عن بعض لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤديه في حياة ساكنيها. •••

على أن الجانب الذي يعنينا هنا هو جانب نظري بحت، فنحن نسوق الأمثلة على المنظومات الفكرية كيف تقام على «مبادئ» أي أن كلا منها يختار نقطة يبدأ من عندها السير، وقد ضربنا مثلين هما: مثل العلوم الرياضية، ومثل البناءات الدينية، ونستطيع أن نسوق مثلا ثالثا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تبدأ النظرية السياسية من «مبدأ» معين تقيم عليه بناءها كله. خذ مثلا فيلسوفين إنجليزيين من أصحاب النظريات السياسية المعروفة هما «هوبز» و«لوك». الأول يقيم نظريته السياسية على أساس أن الحق الحكم للأقوى، وأن هذا الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. وأما الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب؛ وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله. من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، وهكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يحكم على نتائجها بالصواب أو بالخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبدئها، فكيف نفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟

إننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء ما دامت هذه الأجزاء مستنبطة استنباطا سليما من المنبع، بعبارة أخرى قد تكون كلتا المنظومتين الفكريتين صوابا على ما بين تفصيلاتهما من اختلاف بعيد، لا، لسنا نفاضل بينهما على أساس الصواب والخطأ؛ لأن كلا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصواب أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة بينهما على أساس النفع للإنسان في حياته، فقد تكون إحدى المجموعتين - برغم صواب الاستدلال فيها - قليلة النفع عند التطبيق في حياة الإنسان العملية، وقد تكون زميلتها غزيرة النفع عند التطبيق العملي؛ فعندئذ تكون هي أولى بالتفضيل والاختيار.

وأسوق مثلا رابعا لزيادة التوضيح، مثل النسقات الفلسفية، فلكل فيسوف شيء يسميه في فلسفته «بالمبدأ الأول» قاصدا بذلك الفكرة الأم في نسقه الذي يبنيه، وهي الفكرة التي يعتصر منها كل أجزاء بنائه الفلسفي، فيها يقيم البرهان على كل ما يزعمه بعدها، وأما هي فلا برهان عليها؛ إذ لو كان عليها برهان لكانت فكرة البرهان هي الأسبق في أولويات العقل، ولم يعد «المبدأ الأول» لا «مبدأ» ولا «أول»، فإذا جاء فيلسوف آخر، فالأغلب ألا يوجه نقده إلى الفيلسوف السالف من ناحية طرائقه في استدلال النتائج الفرعية من المبدأ الأول، بل يوجه نقده إلى «المبدأ لأول» نفسه، بأن يضع «مبدأ أول» آخر، فتختلف النتائج، ونصبح أمام بناء فلسفي جديد، والمفاضلة بين البناءين تكون على أساس مدى قدرة كل منهما على تفسير أكبر عدد ممكن من ظواهر الوجود، فالأقدر منهما على التفسير أولى بالتفضيل، فمثلا كان المبدأ الأول عند أفلاطون هو افتراضه وجود «المثل» التي على غرارها جاءت الطبيعة وكائناتها، ثم تبعه أرسطو ونقده، ثم وضع لنفسه مبدأ أول جديدا، هو فكرة «الصورة والهيولى» زاعما بالطبع أنها أقدر من فكرة المثل الأفلاطونية على تفسير الوجود.

من هذه الأمثلة كلها يتبين أن «المبادئ» في شتى البناءات الفكرية، ليست «حقائق» تفرض نفسها على الإنسان بحيث لا يكون له قبل على تغييرها وتبديلها، بل هي - بحكم طبيعتها - «فروض» يفرضها الإنسان لنفسه حرا مختارا، وهو يفرضها لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العملية. •••

ثم ماذا؟ ماذا نستهدف بهذه النتيجة التي بلغناها؟ ها نحن أولاء قد رأينا وآمنا بأن «المبادئ» هي نقاط ابتداء لا بد منها لمسار الفكر، هي نقطة الصفر التي لولاها لما تسلسل العدد، هي خط جرينتش الذي بغيره لا نستطيع تحديد الزمن في أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية، ثم ها نحن أولاء قد رأينا وآمنا بأن «المبادئ» هي بمثابة فروض يفرضها الإنسان لنفسه، وفي مكنته تغييرها ليضع فروضا أخرى. كان الإنسان ذات يوم - مثلا - يضع لنفسه مبدأ - أعني يفرض لنفسه فرضا - هو أن الناس حيث الحقوق والواجبات صنفان: أحرار وعبيد، ثم يرتب على هذه التثنية نتائج ونتائج في إقامة نظامه الاجتماعي، وعلى مر الزمن تغيرت دنياه، فاضطر إلى اصطناع مبدأ آخر، هو أن الناس من حيث الحقوق والواجبات صنف واحد: أحرار ولا عبيد، ولو كانت المبادئ من قبيل الحقائق لا الفروض لما أصابها التغيير على مر الزمن، لو كانت من قبيل قولنا إن الماء ينحل إلى نسبة معينة من الهيدروجين والأوكسجين لظلت على حالها إلى أبد الآبدين.

نعم، ها نحن أولا قد رأينا ذلك عن «المبادئ» وآمنا به، فماذا عندك بعد ذلك؟ عندي أن ما أسلفته هو التمهيد الضروري لما أردت أن أقوله؛ ذلك أني أردت أساسا أن أقول إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمرارا للعرب في ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلمة رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تثمر لهم في حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضا فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بد من تغير الفروض. كان الفرض - مثلا - أن المسافر في الصحراء لن يجد «فندقا» ولا «مطعما» يأوي إليه إذا جن الليل أو إذا ألم به الجوع؛ وإذن فلا بد - تأسيسا على هذا الفرض - أن يكون كل لكل فندقا ومطعما، وتغيرت ظروف الحياة بحيث أصبح مسافر الصحراء كمسافر الأرض المزروعة سواء بسواء، كلاهما يركب الطائرة من طرف إلى طرف، لا يعنيه ما تحته، أفلاة هو أم حقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم يعد أمامنا محيص عن تغيير الفرض الأول بفرض جديد تنبثق منه أحكام الناس على سلوك الناس من فضيلة ورذيلة.

فالوقفة الصحيحة - إذن - هي أن ما بقيت ظروفه على حالها تبقى مبادئه مثلا عليا للحاضر كما كانت للماضي، وما تغيرت ظروفه تتغير مبادئه، فالموروث عن الأسلاف هو لنا بمثابة نقاط ابتداء، نبقي بعضها ونحذف بعضها بحسب ما تقتضيه حياتنا العصرية. ولنضرب على ذلك أمثلة موضحة:

كانت لأسلافنا مبادئ معينة فيما يعد شعرا وما لا يعد شعرا، وفيما يكون أدبا من النثر وما لا يكون أدبا، وقياسا على هذه المبادئ يعمل النقاد، وليس في وسعي الآن أن أتتبع تلك المبادئ تفصيلا لأقترح ما لا يزال يصلح منها وما لم يعد صالحا لعصرنا، وحسبي قاعدة واحدة أذكرها - اجتهادا مني وربما كنت فيه على خطأ - وهي أن الأدب العربي القديم بكل شعره ونثره لم يكن يتطلب من صانعه إلا أن يصوغ في لفظ جميل حقيقة معلومة من قبل، فليس فيه كشف جديد ينكشف لقارئه، تقرأ المقامة - مثلا - لا ابتغاء الوقوع على تحليل للطبيعة البشرية، بل تقرؤها لترى كيف نسق اللفظ وكيف رصع كما تنسق قطع العاج وترصع على أبواب المساجد ومنابرها. نعم، لم يكن المبدأ هو أن ينظم الشاعر أو أن يكتب الكاتب كاشفا للخبيء من طبع الإنسان ولا محللا للمعقد الغامض، بل ينظم ذاك ويكتب هذا ليقيم البرهان على غزارة علمه باللغة وعيونها. بالطبع كانت هناك استثناءات قليلة أراد فيها الكاتب أن يقول شيئا - مثل الجاحظ - ولكن القاعدة العامة هي أن الأديب يكتب ليتمزز القارئ بجرس اللفظ وحسن ترتيبه وتنسيقه، لا ليعلم منه القارئ عن حقائق الدنيا ما لم يكن يعلم. كان هذا هو المبدأ في الأدب نظما ونثرا، فهل يجوز أن يظل هو مبدأ الأدب في عصرنا الذي تحتم علينا زحمته ألا نضيع من وقتنا دقيقة واحدة دون أن نكتب للناس لنزيدهم علما بما ليس يعلمون؟

وهذا مثل آخر، لعله أفدح خطرا، فقد كان «المبدأ» في نظام المجتمع أن يكون الحاكم هو صاحب السلطان وهو في الوقت نفسه صاحب الرأي، ولم يكن ثمة من غضاضة على النفوس أن يملي ولي الأمر في حكومة الناس ما يتفق ومذهبه هو ليكون هو المذهب لا مذهب سواه عند المحكومين، بعبارة أخرى كان رأي السلطان هو سلطان الآراء، وليس لأحد بعد قول القابض على سيف القضاء من قول، وبهذا المزج العجيب بين قوة الحكم وسداد الرأي، بحيث يكون الأقوى هو الأصوب، ورثنا مزجا عجيبا بين ولاية الحكم وزعامة حتى لم نعد نتصور أن تكون هذه بغير تلك.

وأكتفي هنا بذكر مثل واحد من تاريخنا الفكري، هو ما يسمى «بالمحنة » الخاصة بالرأي في القرآن، أقديم هو أم حادث؟ فهل تصدق أن الخليفة المأمون - وهو الذي اتسع أفقه العقلي ليقبل التراث اليوناني كله علما وفلسفة، لم يضق به أن يترجم إلى العربية - هل تصدق أن الخليفة المأمون هذا هو الذي أرسل إلى وزيره إسحاق بن إبراهيم ليمتحن القضاة والمحدثين؛ ليخرج منهم من ضلت به السبيل فوصف القرآن بأنه أزلي قديم، فما دام أمير المؤمنين على رأي بأن القرآن حادث ومخلوق، إذن فالقائلون بالرأي المعارض هم - كما ورد عنهم في رسالة المأمون التي أشرنا إليها - «... من حشو الرعية وسفلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ... (وهم) أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ... لضعف آرائهم ونقص عقولهم ... فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة ... وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس ... إلخ إلخ» (الطبري، ج8، ص631 وما بعدها).

وكان من بين الأئمة الذين امتحنوا أحمد بن حنبل، كما سبق أن أشرنا في فصل سابق ... ونعيد فيما يلي نص محاكمته: - ما تقول في القرآن؟ - هو كلام الله. - أمخلوق هو؟ - هو كلام الله لا أزيد عليها. - ما معنى قوله «سميع بصير»؟ - هو كما وصف نفسه. - فما معناه؟ - لا أدري، هو كما وصف نفسه ...

وإنما أوردت هذه النتفة من محاكمة ابن حنبل لنلمح فيها كيف اضطر إمام كهذا كان ينبغي ألا يكون لولي الأمر الحاكم شأن برأيه؛ لأنه أثبت أنه من أصحاب الرأي، حتى وإن لم نتفق معه فيه، أقول: لنلمح كيف اضطر إمام كهذا أن يتحفظ في إجاباته حتى لا يقع به مكروه العقاب، ومع ذلك فقد وقع به المكروه.

وأكتفي بهذا القدر من قصة المحنة، فهذه القصة ليست موضوع الحديث، وإنما هي لمحة عابرة أذكرها لأدل بها على «مبدأ» كان قائما، وهو أن يكون صاحب الحكم هو صاحب الرأي. والسؤال الذي يهمنا الآن هو هذا: هل يجوز «للعربي» المعاصر أن يبقى على مبدأ كهذا في حياته الفكرية، لكي يجيء استمرارا للسلف؟ إنه لو كانت «المبادئ» حقائق ثوابت لوقفنا أمامها لا حول لنا ولا حيلة، فما كان لا بد أن يكون والأمر بعدئذ لله، لكن المبادئ فروض تتغير إذا تغيرت الظروف، فربما لاءم السلف أن يجتمع السيف والرأي في يد واحدة، لكن هذا الجمع لم يعد اليوم يلائم أحدا. •••

وهذا مثل ثالث: كان المبدأ في التعليم أن يكون مداره إعادة الموروث وتحليله وشرحه، فكان العالم هو من ازداد إلماما بالتراث وقدرة على فهمه وشرحه وتحليله وإعرابه، فإذا حفظ التلميذ عن شيخه كل هذا، جاز له أن يكون بدوره شيخا لتلميذ يحفظ عنه، فنتج عن ذلك أن كان مفهوم العلم هو الدراية بما ورد في الكتب، حتى وإن جهل «العالم» كل شيء عن الطبيعة وظواهرها. إن أحدا لم يكن يتصور مجرد تصور أن يكون «التعليم» تعليما لمعالجة الطبيعة، بحيث ينصب العلم على الزراعة وتركيب الآلات وهندسة المدن، فذلك حتى إن وجد شيء منه، كان متروكا «للخبرة» ينقلها الحرفي الكبير إلى الحرفي الناشئ، ولا شأن «للعلم» به، ونحن لا نذكر هذا لننتقص من شأن الأقدمين، بل نذكره لنؤكد أن هؤلاء الأقدمين كانوا يصدرون عن «مبدأ» في تصورهم للعلم والتعليم، فإذا جئنا نحن في عصر تغيرت ظروفه على النحو الذي نرى، فهل يجوز أن نبقى على المبدأ نفسه؟

قد يقال: لماذا نذكر شيئا كهذا ولم يعد لذكره مبرر، بعد أن نشأت عند العرب المحدثين جامعات فيها كليات للطب والهندسة والزراعة وغيرها! لكنني لا أظن أني أفجأ القارئ بجديد لا يعلمه، إذا قلت إننا ما زلنا - حتى في هذه الكليات العلمية - نجري على المبدأ القديم نفسه، وهو أن يحفظ التلميذ عن الشيخ، وليس ثمة من فرق بعيد بين أن يكون المحفوظ هو ألفية ابن مالك أو كتابا في الكهرباء؛ لأن المدار في كلتا الحالتين هو الحفظ الذي يمكن التلميذ من «تسميع» ما حفظه أمام شيخه، وبعد ذلك يسأل السائلون لماذا لا نسهم في دنيا العلوم بإضافات جديدة إلا القليل الذي يمكن تجاهله؟ والجواب واضح، وهو أن «المبدأ» القديم في العلم والتعليم لم يغيره مبدأ جديد.

لقد بدأت حديثي بداية نظرية، فانتهيت به إلى نهاية عملية، بدأته بتحليل نظري «للمبادئ» يكشف عن حقيقتها وعن طبيعتها، وانتهيت إلى نظرات في التحول من قديمنا إلى الحديث، بأنه لا تحول إلا إذا بدأناه من الجذور: من المبادئ، نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى فنستبدل مثلا عليا جديدة بمثل كانت عليا في أوانها ولم تعد كذلك، ولا ضير علينا في شيء من هذا، فأسلافنا قد صنعوا الصنيع نفسه، استبدلوا مبادئ بمبادئ، وأفكارا بأفكار، ومثلا بمثل، ولا نريد سوى أن نكون خير خلف لخير سلف.

الفصل السابع

ثورة في اللغة

(أ) من اللغة تبدأ ثورة التجديد

لست أتصور لأمة من الأمم ثورة فكرية كاسحة للرواسب، إلا أن تكون بدايتها نظرة عميقة عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها؛ لأن اللغة هي الفكر، ومحال أن يتغير هذا بغير تلك، فقد تسود العصر روح دينية صوفية، تبحث عن الغيب وراء الشهادة، عن الخفاء وراء الظهور، عن الثابت وراء المتغير، عن المطلق وراء الجزئي النسبي العابر، عن البقاء وراء الفناء، فعندئذ ينعكس هذا كله على طريقة استخدام الناس للغة - في مدارج الثقافة العليا لا في تصاريف الحياة اليومية - فتراهم يجعلونها للإيحاء لا للدلالة، فهي أداة عروج إلى السماء لا وسيلة اتصال بالواقع. ثم قد تسود العصر روح علمانية واقعية، ينشغل الناس فيها بالعلوم الطبيعية والرياضية أكثر مما ينشغلون بالوجد الصوفي وتسبيح المتدين، فعندئذ كذلك ينعكس ذلك على اللغة، فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز إلى الواقع المحسوس، أكثر مما يتخذونها عدسات ينفذون منها إلى اللانهاية والخلود، ذلك على وجه التعميم الذي لا ينفي أن يتناثر في الحالة الأولى أفراد أشبه بالعلماء في استخدامهم للغة، كما لا ينفي أن يكون في الحالة الثانية أفراد أشبه بالشعراء في صياغة القول.

فإذا كان الناس في مرحلة من تاريخهم الفكري تشبه الحالة وأرادوا الانتقال منها إلى مرحلة أخرى تشبه الحالة الثانية، كان لا بد لهم من تغيير الأداة. والعكس صحيح أيضا بالنسبة إلى من يأخذون العلم الطبيعي برقابهم ويريدون الإفلات من قبضته ولو قليلا، فهنا كذلك ترى الدعاة إنما يسوقون دعوتهم بلغة الإيحاء الشاعرة، لا بلغة الأعلام الواقعية العلمية المحدودة المعنى. •••

وقبل أن أنصرف بالحديث إلى أنفسنا، أود أن أنقل إلى القارئ لمحة من النشاط الفكري الذي نشط به الفرنسيون في ثورتهم الكبرى، ليرى معي كيف أنهم ما كادوا يعلنون الثورة السياسية الاجتماعية حتى اجتمع رجال الفكر منهم ليبحثوا في اللغة على أي نحو يتصورونها، وفي أي اتجاه يوجهونها.

ولم يكن قد مضى على الثورة (1789) أربعة أعوام حين حلت السلطة القائمة ما كان هنالك من مجامع علمية؛ رغبة منها في أن تعيد بناءها على خطة جديدة تتفق وروح الثورة التي أرادت أن يستدبر الفرنسيون من تاريخهم مرحلة، ليستقبلوا مرحلة جديدة جدة كاملة شاملة. ومضى عامان بعد هذا الإلغاء، ثم أنشئ (1795) «المعهد القومي للعلوم»، قسموه أقساما ثلاثة: قسم منها للعلوم الطبيعية، وقسم آخر لعلوم الأخلاق والسياسة، وقسم ثالث للفنون الجميلة بما فيها الأدب، ويهمنا في هذا الحديث القسم الثاني - قسم علوم الأخلاق والسياسة - فقد فرعوه فروعا ستة: فرع لتحليل الإحساسات والأفكار، وفرع للأخلاق، وثالث لعلم الاجتماع، ورابع للاقتصاد السياسي، وخامس للتاريخ، وسادس للجغرافيا، شيء يذكرنا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في الجمهورية العربية المتحدة اليوم. •••

والذي يعنينا الآن هو أول الفروع، الخاص بالنظر في تحليل الإحساسات والأفكار؛ لأنه هو الفرع الذي عني بتحليل المعرفة الإنسانية تحليلا يبين وسائلها ومداها وحدودها، وهنا يأتي البحث في اللغة من حيث هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها - أو جمودها في بعض الحالات - وغني عن البيان أن يقال إن البحث في المعرفة الإنسانية من حيث النشأة والتكوين، هو من أهم الموضوعات التي يتصدى لها الفلاسفة، بل هو أهمها على الإطلاق منذ القرن السادس عشر وإلى يومنا هذا، فلا عجب أن نرى بعض أعضاء هذا الفرع من فروع «المعهد القومي للعلوم» من الفلاسفة البارزين عندئذ، منهم «فولني»

Comte de Volney

و«كاباني»

Cabanus ، الأول منهما يؤمن في إله، والثاني يرفض مثل هذا الإيمان ، أعني أن أعضاء ذلك الفرع كانوا على جهات شتى في وجهة للنظر، إلا فكرة واحدة التقوا عندها جميعا، هي ضرورة البحث في فلسفة اللغة، ليكون هذا البحث ركنا ركينا لأي تفكير يجيء بعد ذلك. وعلى ما كان بين «فولني» و«كاباني» من اختلاف بالنسبة للإيمان في وجود الله، فقد اتفقا معا على أن موضوع الإيمان أو عدم الإيمان، لا يجوز أن يدرج في نطاق الحديث العلمي.

يقول «فولني»: إنه كلما وقف الناس عند مشاهدة الأشياء الواقعة كما هي واقعة، اتفقوا عليها، وأما إذا رأيت بينهم خلافا في الرأي، فاعلم أنهم عندئذ قد جاوزوا حدود الأشياء الواقعة، ولم يقفوا بمشاهدتهم لها عند ظاهرها المرئي المحدود؛ وإذن فكل ضروب الخلاف بين الناس، بل إن ما يصيبهم من تفكك اجتماعي، إنما ينشأ حين يتصدى الناس في أحاديثهم لأمور تستحيل على المراجعة والتحقيق على أساس الخبرة الحسية وحدها. وهنا خلص «فولني» إلى نتيجة، هي: «ينبغي أن نرسم خطا فارقا بين ما يمكن التحقق من صوابه وما لا يمكن، وأن يقام سور منيع بين عالم الوهم وعالم الواقع، وأعني بذلك ضرورة إخراج ما يقوله اللاهوتيون إخراجا عن مجال العلوم الاجتماعية.»

وأما «كاباني» فقد تقدم إلى اللجنة الفرعية ببحوث مستفيضة، عن انطباع الحواس - من بصر وسمع ولمس إلخ - بالأشياء الخارجية، كيف يتم من الناحية الفسيولوجية الصرف، ثم كيف تتحول تلك الإحساسات إلى «أفكار» بعد ذلك. ويكفي «كاباني» هذا من الأهمية في تاريخ الفكر، أنه هو الذي صاغ العبارات التي أصبحت بعد ذلك شعارات لأنصار المذهب المادي في القرن التاسع عشر، مثل قولهم إن المخ يفرز الأفكار كما تفرز الكبد الصفراء، وهم بذلك يعنون أن العالم كله مادة في مادة، وحتى الجانب العقلي منه فيمكن تحليله ورده إلى عضو مادي في الجسم، هو المخ. •••

كان «فولني» و«كاباني» بمثابة من قذف الكرة على أرض الملعب ليبدأ اللاعبون، فما هو إلا أن تقدم «دي تراسي» إلى اللجنة الفرعية بتحليل واف لطبيعة الفكر، وكيف ترتبط تلك الطبيعة ارتباطا وثيقا باللغة، وقد استمد في بحثه مادة مفيدة من فيلسوفين: أحدهما إنجليزي هو «جون لوك»

Lock ، والثاني فرنسي هو «كوندياك»

Condillac ؛ لأنهما كانا قد سبقاه إلى تناول الموضوع من أصوله، قائلا إنه إذا كان «لوك» في مجال البحث في علم الأفكار، بمثابة «كوبرنيق»

Copernic

في علم الفلك؛ لأنه هو أول مستكشف للتفسير الصحيح الذي يفسر ظاهرة التفكير من حيث نشأتها ونموها، فإن «كوندياك» هو بمثابة «كبلر»

Kepler - في علم الفلك أيضا - الذي وضع القوانين لحركة الأجرام في المجموعة الشمسية. بعبارة أخرى: أوضح «لوك» كيف ينشأ الفكر، وبين «كوندياك» كيف تكون الصلة بين الأفكار، ولم يفت كليهما أن يدرك العلاقة بين الفكر واللغة، على اختلاف بينهما، فبينما «لوك» قد حسب أن الفكر ينشأ أولا ثم تأتي اللغة بعد ذلك لتجسده، رأى «كوندياك» أن عملية الفكر نفسها مستحيلة بغير اللغة ورموزها.

عرض «دي تراسي» على الأعضاء أركان هذا العلم الجديد المقترح إنشاؤه والبحث فيه - العلم الذي يكون موضوعه طبيعة الأفكار وما بينها من علاقات - ونظر إلى الأعضاء ليجدهم فلاسفة وعلماء فسيولوجيا، فأسف أن لم يكن بين الأعضاء نحويون، قائلا: «إن تكوين الأفكار وثيق الصلة بتكوين الكلمات، فكل علم يمكن رده إلى لغة أجيدت صياغتها، ومعنى قولنا عن علم معين إنه تطور وتقدم، هو أن ذلك العلم قد ضبط لغته، لا أكثر ولا أقل، ضبطا يتم إما بتغيير ألفاظه، وإما بأن يجعل الألفاظ القائمة أدق في معانيها.»

كانت الفكرة الأساسية التي أراد «دي تراسي» عرضها على أعضاء اللجنة الفرعية، مستمدة من الإضافة التي أضافها «كوندياك» إلى «لوك»، وهي أن اللغة ليست لمجرد التعبير عن أفكار تكونت، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها، فاستنتج «دي تراسي» من ذلك أن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة؛ وهي نتيجة لها من الأهمية والخطورة ما لا يحتاج منا إلى بيان؛ لأنه في هذه الحالة يصبح محالا أن يتغير للناس فكر دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها. •••

وبالطبع لم يكن «كوندياك » قد أرسل قوله هذا بغير سند وتدليل، بل أوضح (في كتابه «مقال في أصل المعرفة الإنساني»، 1746) كيف أن قوام المعرفة تحليل لما يأتي إلى حواس الإنسان مدمجا، «فلو أدخلنا إنسانا - خلال عتمة الليلة - قلعة» تطل على منظر فسيح، حتى إذا ما أصبح عليه الصباح فتحنا له النافذة ثم أغلقناها على الفور، بحيث يتاح له من المنظر كله لمحة واحدة شاملة، فها هنا سينطبع المشهد على بصره، ولكنه لن «يلاحظ» شيئا معينا فيه، وبالتالي لن يستطيع وصفه لسواه، أما إذا أراد أن «يعرف» ما يرى، كان لا بد للنافذة أن تظل مفتوحة أمامه فترة، تتيح له أن يوجه الانتباه إلى هذا الجزء ثم إلى ذاك. بعبارة أخرى، ما كان قد رآه من المنظر في لمحة واحدة، يجب الآن أن يفك إلى عناصره ثم يعاد ضم العناصر آخر الأمر في مشهد واحد، فعندئذ يكون الرائي قد «عرف» المشهد بأجزائه وبالعلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض.

على أن المهم هنا هو أن نلاحظ أن هذا التحليل - في رأي كوندياك - مستحيل بغير أن تسايره رموز كرموز اللغة، فكلما وقفنا عند جزء من المشهد كانت عنه لفظة تميزه، كقولنا «شجرة» أو «جدول» أو غير ذلك، فبهذا وحده يمكن بعد ذلك أن يصور الرائي لغيره ما قد رآه، وبغيره تعود الأجزاء فيتداخل بعضها في بعض بغير تمييز. وخلاصة القول أنه لا معرفة بغير تحليل، ولا تحليل بغير رموز، أي بغير ألفاظ ... وبعد ذلك يمضي كوندياك فيبين كيف تتطور هذه الألفاظ معنا من إشارتها إلى المفرد الجزئي، إلى إشارتها إلى الكلي الذي يطلق على مجموعة متجانسة من الأفراد. •••

عرض «دي تراسي» هذا على اللجنة الفرعية، شارحا ومعلقا، فأثار اهتمام الأعضاء بالموضوع إلى الحد الذي حملهم على إعلان مسابقات متتالية على الأعوام، يعرضون فيها على ذوي الكفاية أن يكتبوا ليجيبوا عن هذه الأسئلة الخمسة الآتية، وللفائزين السابقين جوائز، وحسبنا أن نذكر هنا أن الإغراء قد استدرج فلاسفة بارزين في عصرهم أن يسهموا بالرأي من أمثال «مان دي بران» و«بيير بريفو»، والأسئلة هي: (1)

هل يتحتم أن يستعين الإنسان برموز (= لغة) لينتقل من إحساسه المباشر بالأشياء إلى مرحلة يحول فيها ذلك الإحساس إلى أفكار؟ (2)

هل تعتمد دقة التفكير على دقة الرموز المستخدمة فيه؟ (3)

هل يرجع اتفاق المشتغلين بالعلوم المضبوطة النتائج إلى دقة الرموز التي يستخدمونها؟ (4)

هل تكون علة الخلافات التي تدب بين المشتغلين في فروع المعرفة التي هي موضع خلاف أن الرموز التي يستخدمونها تنقصها الدقة. (5)

إذا قومنا الرموز المصيبة في دقتها، هل تصبح كل العلوم على اختلاف ضروبها مضبوطة النتائج؟

تلك هي الأسئلة المطروحة للمتسابقين من رجال الفكر، وقد فاز بالجائزة الأولى في المسابقة الأولى رجل لم يكن من الفلاسفة المحترفين، هو «جوزف ديجراندو»، ببحث قدمه في أربعة مجلدات ضخام، يجيب بها على الأسئلة (وكان الثاني هو بيير بريفو أستاذ الفلسفة في جنيف، وكانت إجابات ديجراندو مختلفة عما كان ارتآه كوندياك في علاقة الفكر باللغة، لا في أنه لا علاقة بينهما، فذلك أمر لا اختلاف عليه، ولكن في إمكان أن يتم الفكر أولا بعملية عقلية صامتة، كل ما فيها انتباه يوحي إلى هذا الشيء أو ذاك، وبعد ذلك يأتي الرمز اللغوي فيجسد الفكرة في لفظ يمكن نقله وتداوله.

فبدل أن نقول مع كوندياك: إن تطور العلم هو نفسه تطور مصطلحه الرمزي، يقول ديجراندو: إن تطور هذا المصطلح واكتمال دقته يأتي بعد أن يكون العلم قد حقق لنفسه التقدم والدقة، كما تأتي الآثار بعد وقوع التاريخ، وبدل أن نقول مع كوندياك إنه مع دقة الرموز اللغوية ترتفع درجات التفاوت بين العلوم المختلفة، وتصبح كلها قائمة على البرهان؛ إذ لا فرق - على حد قوله - بين «المعادلات الرياضية والقضايا المنطقية وأحكامنا على الأشياء»، فكلها تصنع منهجا واحدا، بدل ذلك ينبهنا «ديجراندو» إلى أن هنالك مصادر أخرى للخطأ والاختلاف غير دقة الرمز، كاختلاف الناس في المزاج وفي الظروف وفي آرائهم المسبقة وفي اهتماماتهم ومصالحهم، فمع هذه الاختلافات كلها لا يجدي أن يتفقوا على دقة في الرمز الذي يستخدمونه ... إلى آخر ما ملأ به «ديجراندو» مجلداته الأربعة من نظرات. •••

بمثل هذا شغل المفكرون في صبيحة الثورة الفرنسية؛ إيمانا منهم - كما أسلفت - بأن الثورة الفكرية مستحيلة بغير معاودة النظر في اللغة المستخدمة، للعلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة، فسواء كان الصواب مع «كوندياك» في دمج الفكر واللغة دمجا يجعلهما عملية واحدة، أو كان الصواب مع «ديجراندو» في التفرقة بينهما تفرقة تجعلهما متتابعين، وإن يكن اللاحق منهما ضروريا للسابق، فهنالك بينهما تلك الصلة القوية على كل حال.

والآن فلنصرف الحديث إلى أنفسنا، في نهضتنا هذه الراهنة، التي تريد لها أن تكون قوية من جذورها إلى فروعها.

وأول ما أود أن ألفت إليه النظر، هو أننا حين نربط الفكر باللغة، فلسنا نقصد أن كل نطق بألفاظ من اللغة يكون فكرا؛ إذ من النطق ما هو هراء وتخليط كتخليط المجانين، فلا بد إذن من شروط ينبغي لها أن تتوافر في المنطوق ليكون ذا علاقة بما نسميه فكرا، لقد كان أول ما افتتح به «ابن جني» حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص» هو أن يفرق بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل «القول» ما تتحرك به الشفتان، وأما «الكلام» فلا يكون إلا إذا اكتمل اللفظ حتى بات مستقلا بنفسه، مفيدا لمعناه، فلئن كان كل كلام قولا، فليس كل قول كلاما.

تلك ملاحظة أولى، والثانية هي أنني أود أن ألفت النظر إلى تقسيم بالغة الأهمية، يفرقون به بين نوعين من اللفظ الذي يكون فكرا: فنوع منهما يربط - الكلام - بالواقع الخارجي المحسوس، ونوع آخر يربط الكلام بكلام آخر، بحيث يجيء الكلام الأول والكلام الثاني كلاهما - وإن ارتبط أحدهما بالآخر - ولا علاقة بينهما قط بما هو واقع في العالم الخارجي المحسوس، فمثلا إذا قلت: «إن الكويت واقعة على الخليج العربي»، فهذا كلام ذو علاقة بأمر واقع يمكن رؤيته ويمكن رسمه على الورق، وأما إذا قلت - مثلا - «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فها هنا كلام ارتبط بكلام آخر ارتباطا أنتج نتيجة، لكن لا «الكلامان» ولا «النتيجة التي لزمت عنهما» تشير إلى أي شيء في دنيا الأشياء الواقعة، وإني لأرجو القارئ أن يدقق النظر في هذه النقطة؛ لأننا سنرتكز عليها - مع نقاط أخرى - في تحديد النقص في طرائق استخدامنا للغة، وهو نقص لا مندوحة لنا عن معالجته إذا أردنا لأنفسنا فكرا ذا أثر. •••

وبعد هاتين الملاحظتين أقول بصفة عامة - وهو قول أتفق فيه مع جاك بيرك في كتابه عن «العرب»: إن اللغة العربية كما نراها في التراث الأدبي، وكما لا تزال تستخدم عند كثيرين ممن يظنون أنهم يكتبون أدبا، توشك ألا تنتمي إلى دنيا الناس، فلا تكاد ترى علاقة بينها وبين مجرى الحياة العملية؛ ولذلك لم يجد المتكلمون بالعربية مفرا لهم من أن يخلقوا - إلى جانب الفصحى - لغات عامية يباشرون بها شئون حياتهم اليومية، وقد تقول: أليست لغة الصحافة - مثلا - من الفصحى، وهي تعالج شئون الحياة العملية من سياسة واقتصاد وأحداث وما إلى ذلك، فأجيب بأن هذه فصحى قد اقتربت من العامية لتنجح، وليست هي من قبيل الفصحى التي تراها في التراث الأدبي.

لم تكن الفصحى في تراثنا الأدبي أداة للاتصال بمشكلات العالم الأرضي، ولا وسيلة للثقافة المتصلة بحياة الناس وأزماتهم، بل كانت مجالا للفن الذي يهوم في السماء أو ما يشبه السماء، كان الكاتب بها يعني بالقول في ذاته كيف يجيء مسبوكا، ثم بالقول الآخر كيف يتولد منه تولدا يراعى فيه الظرف أكثر مما يراعى منطق التسلسل الفكري. ولن أنسى ما حييت قصة صبي من ذوي قرباي، كان تلميذا في مدرسة ابتدائية، طلب أستاذ اللغة العربية منه - ومن زملائه معه - أن يكتبوا موضوعا إنشائيا، خطابا يوجهه الكاتب إلى أبيه بمناسبة بدء العام الدراسي، فكتب الصبي الذي أعنيه خطابا إلى أبيه، مهتديا فيه بالسليقة السليمة الحية، فجعله متصلا بحياته المباشرة، وذكر له بعض الصعاب التي لقيها في حياته المنزلية مع من كان يساكنهم في المدينة والوالد في الريف، فطعامهم ليس على ما يشتهي، ومخادع النوم تقض المضاجع، والبيت ينقصه المواد الغذائية الأساسية؛ ولذلك أخذ يطلب في خطابه أن يرسل إليه أبوه مع فلان الفلاني شيئا من البيض والسمن والرقاق ... فدهش الأستاذ أن يكون هذا «إنشاء» عربيا، وكانت الدرجة عنده «صفرا»، وجاءني الصبي يشكو، ويسأل في حيرة: ماذا - إذن - يكتب في خطاب إلى أبيه؟ فعندئذ تذكرت ما لم أستطع أن أرويه للصبي؛ لأنه كان أصغر من أن يتابعه، تذكرت ما روي لي عن شيخ مرموق من أعلام اللغة كيف علم «الإنشاء» لمن كان مصيرهم أن يكونوا أساتذة للغة في المدارس؛ إذ أخذ يمليهم بادئ ذي بدء قائمة «بما يقال في مدح الشيء»، ثم قائمة «بما يقال في ذم الشيء»، لا يهمه أي شيء هو، وبعد ذلك بدأت كتابة الموضوعات الإنشائية على هذا الأساس، وداخل ذلك الإطار، يطرح على طلابه موضوعا في «إكرام الضيف»، ثم يسأل: أهو مما يمدح أو مما يذم؟ فيقال له: إنه مما يمدح ... إذن فعليكم «بما يقال في مدح الشيء»، ثم يعقب عليه بموضوع في «النفاق»، فهل النفاق مما يمدح أو مما يذم؟ إنه مما يذم، إذن فعليكم «بما يقال في ذم الشيء». •••

تلك هي وقفتنا من «اللغة» حين تكتب من أجل ذاتها، إنها عالم وحدها غير هذا العالم، بل إن الأمر لا يقتصر عليها مكتوبة، وإنما يتعدى ذلك إليها مقروءة، أفتحسب أن العرف قد جرى بيننا على أن نقرأ العربية - حين تكون في مستواها الأدبي التقليدي - كما يقرأ عباد الله ما يقرءون ليفهموا؟ كلا، وإن شئت فاستمع إلى التلاميذ في مدارسهم وهم «يطالعون»، المطالعة شيء من الخطابة، وبذلك يتعاون المكتوب والمقروء على الإيحاء بأننا - إذ ندخل في اللغة - فإنما ندخل عالما مسحورا لا عالما مألوفا، هو هذا العالم الذي يطعم فيه الطاعمون ويشرب الشاربون.

الفجوة فسيحة فسيحة فسيحة بين دنيانا الفكرية كما يصورها لنا الكاتبون وبين خبراتنا الشعورية كما يكابدها المكابدون، ليست تلك هي هذه؛ ولذلك لا يقرأ منا أحد مقالا أو كتابا، إلا ويحس كأنما خرج من نفسه ليتقمص أنفسا أخرى ليست هي أنفسنا، إنما هي أنفس الذين ننقل عنهم إذا نقلنا، أو يحس كأنما خرج من نفسه ليدخل في مجموعة نغمية تقصد أجراسها إلى الآذان ولا تقصد إلى العقول أو القلوب، وليس ببعيد عن ذاكرتنا ما كان يحدث بصغار الأطفال في الكتاتيب، حين يطالبون بحفظ أجزاء من القرآن الكريم، فلا يحفظون إلا نغما صوتيا، لا يدركون من معناه ذرة، وإني لأخجل أن أقول عن نفسي كم عاما مضى من عمري قبل أن أتبين المفردات التي ركبت مها آيات حفظتها صغيرا، كالآية:

لإيلاف قريش * إيلافهم ... ، أو كالآية الكريمة:

ألهاكم التكاثر .

اللغة عندنا نغم يطير بنا عن أرض الواقع، يصعد بنا إلى اللانهائي المطلق، وإن شئت فاختر لنفسك أي كتاب شئت من عيون تراثنا الأدبي، واقرأ مقدمة المؤلف، والأرجح جدا أن تجد نفسك في أحبولة عجيبة من ألفاظ وتراكيب، خيوطها سحرية تصرفك عما يراد بها من معنى، لتعكف على النغم والجرس، إنك تقرأ سطرا كما تقرأ سطرين كما تقرأ عشرين سطرا، فإحساسك هو أنك واقف مسمر القدمين في مكان واحد، لا تتقدم من فكرة إلى فكرة، إنما هو دوران في لا شيء، فمن الجائز - بل لعله من المؤكد - أن ذلك الضرب من الكتابة كان يتفق ومزاج من لم يرد أن يعمل شيئا، فهو في فراغ يملؤه بالزخارف، لكنه ضرب من الكتابة لا يصلح أداة في عصرنا تصل بين كاتب وقارئ فيما يراد عمله بالنسبة إلى أوضاع الحياة اليومية الجارية. •••

لقد أسلفت لك ملاحظة عن الفرق بين ضربين من الكلام: ضرب منهما يتصل بالواقع الذي يتحدث عنه اتصالا مباشرا، كقولنا: «الكويت تقع على الخليج العربي». وضرب آخر يصل جزءا من الكلام بجزء آخر دون أن يكون لأي من الجزأين أو للجزأين معا شأن بدنيا الواقع. وضربت لذلك مثلا قول القائل: «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فمثل هذا الكلام قد يوهم بأن في الأمر تفكيرا، لكنه في الحقيقة «كلام في كلام» لا يعني شيئا ، يوضح لك ذلك أن تقول نقيض هذا الكلام فلا يتغير في العالم شيء، كأن تقول: «إن ركوب الطائرة أمتع من ركوب البحر، ولما كانت السفينة أبطأ من الطائرة، كانت هنالك علاقة بين السرعة ومتعة السفر»، فأنت هنا بإزاء تركيبتين كلاميتين، لا تستطيع أن تصف إحداهما بصواب والأخرى بخطأ؛ لأنه لا صواب ولا خطأ في أمثال هذه التركيبات اللفظية التي تبني كلاما على كلام، وانعدام الصواب والخطأ فيه علته أنها لا تقول عن دنيا الأشياء شيئا، فلا المتكلم أفاد ولا السامع استفاد، هو نطق صوتي ينتقل من فم إلى أذن، وانتهى الأمر.

وإني لأزعم - راجيا أن أكون قد أخطأت فيما أزعم - أن نسبة ضخمة من اللغة التي نتداولها في كتاباتنا الأدبية هي من هذا القبيل الأجوف، لا يقدم حياتنا خطوة إلى أمام.

إن ألفاظ اللغة تتصاعد في درجات متفاوتة من التركيب والتعميم، فقولك «إسماعيل» قد يصعد ليصبح «رجلا»، وهذا بدوره قد يصعد ليصبح «أمة» ثم يصعد ليصبح «إنسانية». وواضح أنك كلما صعدت من مدارج التعميم والتجريد بعدت عن الواقع الملموس، ولا ضير في ذلك، فالعلوم كلها تعميمات مجردة تبعد عن الواقع الملموس بعدا شديدا، لكن هنالك حالتين من الصعود، حالة تندرج من أرض الواقع الحسي إلى سماء التعميم المجرد، تدرجا لا تنطمس فيه الدرجات، بحيث يستطيع الصاعد أن يعود فينزل إلى الأرض مرة أخرى درجة درجة. فلو سألت عالما عن قانون علمي: كيف تبين أنه قانون صحيح ينطبق على الواقع؟ أخذ بيدك هابطا من تعميم القانون إلى وقائع الأرض المشهورة التي كانت في الأصل نقطة البداية. غير أن هنالك حالة أخرى أمرها غريب، هي حالة يقفز فيها الإنسان إلى ألفاظ عامة مجردة، دون أن تكون هنالك الرابطة التي تربطها بوقائع الأرض، كقولك - مثلا - «خلود»، هذا معنى عام غاية التعميم، مجرد أقصى التجريد، ولا بأس في ذلك، لولا أن من يستخدمه يغلب ألا تكون عنده الحلقات الوسطى الموصلة بينه وبين الجذور الأرضية التي منها نبت ونما، وإذن فالكلمة في هذه الحالة رنين أجوف لا يفيد صاحبها علما.

وكلما كثرت كلمات كهذه في اللغة التي يستخدمها كاتب أو تستخدمها مجموعة ثقافية من الناس، ازدادت درجة الترجيح عندنا أن ذلك الكاتب، أو هذه المجموعة من الناس، إنما يسبح - أو تسبح - في سمادير، لا تطعم جائعا ولا تروي ظمآنا ولا تكسو عاريا. وإني لأزعم - راجيا أن أكون مخطئا فيما أزعم - بأن نسبة ضخمة مما نقوله ونكتبه هو من هذا القبيل، وأحسب أني لست بحاجة إلى تنبيه القارئ إلى أنني بهذا لا أقصد أحاديث الناس في حياتهم اليومية، فالحمد لله أن هؤلاء الناس في حياتهم اليومية يعرفون كيف يتفاهمون بلغة دالة على واقع، وإنما أقصد من يقطنون في منازل الثقافة العليا - أو هكذا يظنون.

إنه لا يغيب عني أن نهضتنا الحضارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - أو قل إلى يومنا هذا - قد صحبتها بالضرورة نهضة في مجال اللغة، فذلك أمر محتوم في دورات التطور لا مفر منه، لكنني ألاحظ أن النهضة اللغوية قد أخذت مجريين مختلفين، أما أحدهما فطريق سلكه فريق من الناهضين أرادوا باللغة أن تنافس العامية في وسيلة أدائها، وأما الطريق الآخر فهو الذي سلكه فريق ظن أن النهوض باللغة إنما يكون بإحياء القديم وكان الله يحب المحسنين.

وعندي أن الأمل المنشود هو أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين: أن تحافظ على عبقريتها الأدبية أولا، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنم المترنمين، ثانيا: وبغير هذه الثورة في استخدامنا للغة فلا رجاء أن تحقق لنا الوسيلة الأولية التي ندخل به مع سائر الناس عصر التفكير العلمي الذي يحل المشكلات. (ب) من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء

التحول انتقال من حال إلى حال، وأول الخطأ أن نوجه أنظارنا إلى حال المبتدأ، أو أن نوجهها إلى حال المنتهى، مع أن مرحلة التحول هي الواقعة بين حالين: حال المبتدأ وحال المنتهى. ومن هذا الخطأ في النظر تتفرع الأخطاء، منها أن نقيس الأمور بمعيار الماضي، أو أن نقيسها بمعيار المستقبل الذي سوف يكون، غاضين النظر عن الحاضر الذي هو كائن، حاضر الانتقال والتحول، فكأنما الحاضر التحولي هو مرحلة المراهقة في أعوام الإنسان الواحد، فلا هو الطفل الذي كان ولا هو الرجل الذي سوف يكون. وأفدح الخطأ في النظر إلى سلوك المراهق، أن نرده إلى طفولة خرج من طوقها، أو أن ندفع به إلى نضج الرجولة التي ما زالت بالنسبة إليه على مرمى البصر البعيد.

عصر التحول هو عصرنا، فالسفينة تتحرك به بين شطين، ولو غفلنا عن هذه الحقيقة الأولية زاغت أبصارنا إلى ماض تركناه، أو شطح بنا الخيال إلى مستقبل مأمول لا نملك بعد وسائله، فإذا كانت الأولى التوت أعناقنا، وتحولنا إلى أصنام من الملح، كالذي ألم بقوم لوط إذ لووا أعناقهم لينظروا إلى الوراء أسفا وحسرة، وإذا كانت الثانية أصابنا كساح كالذي يصيب الطفل حين يرغمه أبواه على المشي قبل أن تستقيم ساقاه وتقويا.

يصور «كافكا» صورة هادية، حين تصور إنسانا أخذه النعاس واستيقظ ليجد نفسه خنفسا ضخما، لقد تحول، فكان لهذا التحول مشكلات العصية العسيرة، فكيف يسير وعلى أي نهج يسلك هذا الإنسان الخنفس، بحيث يرضى عن سيره وسلوكه؟ أيجعل معياره حياة الخنفس، أم يجعله حياة الإنسان؟ إنه لو فعل هذا أو ذاك تجاهل حالته الراهنة، فلا هو بالإنسان حتى يصطنع قواعد الأناسي، ولا هو بالخنفس حتى يحيا كما تحيا الخنافس، إنه إنسان خنفس، وإذن فلا بد له من نظرة جديدة، ومن معايير جديدة، وإلا أخذته الحيرة واستبدت به الفوضى وضلله اللبس والغموض، واضطرب بين مجموعتين من المثل، فلا يدري بأيهما يأخذ، والصواب هو ألا يأخذ بأي منهما، وأن يخلق مجموعة من المثل ثالثة تصلح لهذا الكائن الجديد.

لا جناح على الإنسان أن تستقر حياته على قواعد ثابتة، إذا ما رسا فلكه على شط الوصول، أما وهو ما يزال يسبح في اللجة، يلاطم الموج ليصل، أعني أما وهو في مرحلة التحول، فصاحب القواعد الجامدة الثابتة هو المحكوم عليه بالتهلكة والضياع، فالقاعدة الأولى في مرحلة التحول هي ألا تكون هنالك قاعدة تسد علينا طريق المغامرة والمبادرة والخلق. إن «الجديد» لم يتحدد بعد حتى يجوز لنا أن نقعد له القواعد ونقنن له القوانين، الجديد هو في طريق الصنع، نحن الذين نصنعه في مرحلة التحول هذه، نبتكر لكل موقف ما يلائمه، ونلاقي كل مشكلة بما يناسبها. إننا إذ نشكل المواقف نتشكل في صورتنا الجديدة، فلا بد أن يكون من صفات هذه المرحلة تغير كل عام، كل شهر، كل يوم. ليس العيب هو في هذه المراجعة الدائبة لنظم الأسرة، والحكومة، والتعليم، والاقتصاد، وإنما العيب هو في الوقوف عندما كان قائما، كأنما هو الأزل الذي لا يبيد.

لقد ارتسمت حقائق الأشياء أمام أفلاطون صورا سماوية لا تتبدل ولا تتغير، وعلى الأشياء في دنيا الطبيعة والواقع أن تقترب من تلك النماذج ما استطاعت. كذلك ارتسمت حقائق الأشياء أمام أرسطو أجناسا وأنواعا، لكل منها تعريف ثابت ساكن أزلي أبدي، يضعه حيث هو من بقية الأشياء، لكن حقائق الأشياء لا تثبت هكذا ولا تستقر، إلا حين تجمد أوضاع الحياة على حالة هادئة ساكنة يرضى عنها الإنسان، أما حين يزول عن الإنسان هذا الرضا، ويهم بالانتقال إلى حالة أخرى، فعندئذ تكون حقيقة الكائنات أنها تتغير، وبخاصة الإنسان، ولا يعيب الإنسان إذ هو في مرحلة التغير، مرحلة التحول، مرحلة السفر، أن تهتز القيم وترتج المعايير، بل العيب هو ألا ترتج هذه وألا تهتز تلك، فلا ينبغي أن تكون لشيء أو لفكرة أو لوضع أو لنظام حصانة تصونه من النقد والتجريح. إن كل الأشياء والأفكار والأوضاع والنظم تريد أن تتغير وتتجدد، فكيف يتم لها ما تريده إذا لم نقع على أوجه النقص فيها، ننقده ونجرحه لكي تتكشف حقيقته وتتعرى؟

إن الحكم على المستقبل قياسا على الماضي لا يجوز إلا في حالات الثبات والاطراد، أما في حالات التحول، فبحكم الفرض نفسه - والفرض هنا هو أننا «نتحول» - لن يجيء المستقبل على صورة الماضي وغراره، وإذن فلا يحق لأحد أن يحكم بالذي كان على الذي سوف يكون. بعبارة أوضح: لا يجوز اليوم للتقاليد أن تكون حكما يبين الصواب والخطأ، «فالتقليد» هو محاكاة الكائن لما كان، ولو جرت هذه المحاكاة لجاء غدنا كأمسنا، ولم يكن ذلك ليستوجب العجب لو كنا في حالة مستقرة من تاريخنا، أما ونحن «نتحول»، فمحال لغدنا أن يحاكي أمسنا، فلئن كان الاطراد في الجماعات المستقرة هو الأصل، والتغير هو الشذوذ، ففي مرحلة التحول ينعكس الموقف ليصبح التغير الدائم الدائب هو الأصل، والثبات المطرد هو الشذوذ.

في الحياة المستقرة يفيد الشبان من خبرة الشيوخ؛ ومن ثم فواجبهم الخلقي هو في توقير الشيوخ واحترام ما يدلون به من رأي؛ لأنه رأي الخبرة، والخبرة هي صورة الماضي، والمستقبل سوف يجيء على غرار الماضي؛ وإذن ففي رأي الشيوخ إضاءة وهداية. وأما في الحياة المتحولة، ففي كل لحظة جديد لا يعرفه الشيوخ، ولم تعد خبراتهم بالماضي لتفيد حتى وإن أمتعتنا بذكرياتها. إن من يطرد معه سير الحياة يستطيع أن يتعلم الدرس من الماضي ليفيد منه في المستقبل؛ ومن هنا كان يقال إن قادة الجيوش وهم يعدون لحرب آتية بمثابة من يعدون العدة لحرب وقعت بالفعل، توقعا منهم أن الموقعة الآتية ستكون كالموقعة الماضية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجال الاقتصاد، كانوا وهم يفكرون في مواقف الغد، بمثابة من يحلون أزمات الأمس، افتراضا منهم بأن قوانين الاقتصاد التي تحكمت أمس هي التي ستتحكم غدا ... وذلك كله مفهوم ومقبول في حياة ثبتت أوضاعها واستقرت، أما في حياة «متحولة» فلا قياس لغد على أمس، لأنه لن يكون غد كأمس.

مفتاح الصواب اليوم هو أن نبدأ بهضم هذه الفكرة هضما جيدا، فكرة أننا في تحول، وإذن فنحن في تغير، وإذن فلا حكم لماض على آت، مفتاح الصواب اليوم هو أن ننظر إلى حالة التحول هذه من الداخل، لنعيشها ونعانيها. انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل من باطنها، بكل أليافها وقشورها، وبكل جذوعها وأوراقها؛ لكي تخلق آخر الأمر وردة، تكون ثمرة المعاناة. أقول: انظر إلى الفارق البعيد بين شجرة الورد وهي تعتمل وترهص لتلد وتثمر، وبين من يجيء عابرا على الطريق فيقطف الوردة جاهزة، يشمها ثم يضعها في عروة سترته! تلك هي حالنا مع ثمرات الحضارة في عصر التحول هذا، فالعالم المحتضر بحق، يعاني من الداخل مخاضا ليلد الثمرة، ونجيء نحن على طريق الحياة عابرين فنقطف الثمرة من خارج، دون أن تهتز في أبداننا خلية، نقطف الثمرة نظما للتعليم ونظما للحكم، ومذاهب وفلسفات وأفكارا، وسيارات وطيارات وفنا وأدبا وعلما، نقطف الثمرة ثم نتبجح، فإذا قال خالقو الثمرة إنهم يحسون في حياتهم قلقا لأنها حياة متحولة زعمنا - على أقلام كتابنا - أننا نحن كذلك نحس قلقا مثل قلقهم؛ لأننا في تحول مثل تحولهم. هم هناك يجرعون المر، ونحن هنا نقرأ تركيبة هذا المر كما فصلت عناصرها على ظاهر الزجاجة من خارج ... وأقول إن مفتاح العيش في عصرنا ومعه، هو أن ندرك من الأعماق، ما معنى أنه عصر للتحول، ولن يتم لنا هذا الإدراك واضحا إلا إذا عرفنا أولا: تحول من ماذا؟ •••

في البدء كان الكلمة. هذا صحيح، لكن هل تكون الكلمة في الوسط وفي النهاية كذلك؟ ذلك هو السؤال.

كانت «الكلمة» - في البدء - هي كل ما هنالك، هي الفكرة، وهي الثقافة، وهي المعرفة، وهي المهارة، بل كانت «الكلمة» هي التي ترفع عارفها إلى مكان الصدارة، وتخفض جاهلها إلى الدرجات الدنيا من سلم المجتمع، وارتبطت الكلمة بالكهانة، وبالقداسة، وبالوساطة بين الإنسان والله، فمن قرأها ومن كتبها كانت له قوة السحر في خلق الأشياء وتبديلها وإعدامها، فما على الكاهن الساحر إلا أن يقرأ كلاما أو أن يكتب كلاما، لتنفتح له أبواب السماء، وليشفي المرضى، وليفتك بالعدو، ولتربح التجارة، ويسلم المسافر، وينتصر المحارب. كلام ينط ق به القادر على الكلام أو يكتبه، كان هو الكفيل بتيسير العسير وتذليل الصعاب وبلوغ الهدف.

ولم يكن ذلك غريبا؛ فالكلمة - أعني الرمز إلى الشيء بعلامة تنوب عنه وتغني عن حضوره - كانت هي الحد الفاصل بين الحيوان والإنسان. لقد ظل الحيوان حيوانا «أعجم»، فلما زالت برموز اللغة عجمته ارتقى إلى منزلة الإنسان. التطور من الحيوانية إلى الآدمية قد تحقق عندما نطق الحيوان باللفظ الرامز فصار بالنطق إنسانا، الإنسان هو الحيوان، والناطق هو المفكر، إذ لم يكن فكر إلا بنطق، ولم يزد الأمر في جوهره كثيرا عندما أضيفت الكتابة إلى النطق صورة أخرى لعملية الرمز باللفظ إلى دنيا الحقائق. أقسم الله - جل وعلا - بالقلم، وبما يسطر القلم. أقسم بهذه القدرة العجيبة التي أبرزت الإنسان من دنيا الحيوان ليصبح سيدها ومسخرها، أعني قدرة الإنسان على الكلمة ينطقها أولا، ويسطرها بالقلم كتابة بعد أن تحضر.

لبث مجرد النطق بالكلام كفيلا أن يجعل من الحيوان إنسانا، حتى ظهرت الكتابة وظهرت معه - بالطبع - القراءة، فلا قراءة إلا لمكتوب، ولا كتابة إلا لما يحتمل أن يقرأ. وعندئذ اختصت قلة قليلة من الناس بهذا الامتياز العظيم، وأصبح القارئ الكاتب بين الناس ذا قدرة يفعل بها المعجزات، هو وحده القادر على مخاطبة السماء، يخط الطلاسم فينزل المطر بعد جفاف ويهدأ البركان بعد ثورة.

وها هنا كانت المعرفة هي أن تقرأ وتكتب، ثم تبليغ المعرفة إلى أقصى درجاتها، حين تبلغ المادة المكتوبة المقروءة أبلغ صورها وأفصحها وأجملها، أعني حين تكون «أدبا» أو ما يتصل بالأدب بصلات القربى. ولئن كان ذلك كذلك بالنسبة إلى الإنسان عامة، فهو كذلك بصفة أخص، وعلى نحو يلفت النظر بالنسبة إلى العرب الأولين.

اللغة هي عزهم، وهي مجدهم، وهي ثقافتهم، وهي فنهم، وهي علامة إعجازهم، وخصوصا إذا ما ارتفعت إلى مستوى الشعر. انظر كم بذلوا من جهود في حفظها وصيانتها، ولما نشبت معركة التفاخر بالأصول والأنساب فيما يسمى بالحركة الشعوبية، طفق المفاخرون بعروبتهم يجمعون ويرصدون، فماذا جمعوا وماذا رصدوا ليقدموا علامة السؤدد والأصل الكريم؟ جمعوا الألفاظ ورصدوها، وجمعوا الشعر الذي قاله الأسلاف ... صور أبو العلاء الجنة وصور الجحيم، فلم يكن في جنته أو في جحيمه إلا شعراء أو من صناعتهم «الكلمة»، وصور ابن شهيد في «التوابع والزوابع» وادي الجن، فلم يعمره إلا بالشعراء والكتاب، حتى البغال والحمير والطير التي صادفها ابن شهيد في وادي الجن ذاك، كانت كلها صانعة للشعر أو منشغلة بنقد الأدب. ولقد حكموه بين قصيدة قالتها بغلة وأخرى قالها حمار ليوازن بينهما، وحكم للبغلة بالتفوق، فاحتجت إوزة أديبة هناك على ضلال الحكم وفساده.

كم أمرا كان يكفيه ليقضي أن يقول صاحب الحاجة قولا فيقع القول موقع الإعجاب من سامعه؟ جمال الكلمة في ذاته مفتاح للأبواب المغلقة، يفتح الطريق إلى مناصب الدولة، ويفتح الخزائن بالرزق الغزير. كان يكفي لصد الرجل عن قضاء غايته ألا يكون موهوبا بالنطق الجميل، كما يكفي لإقبال الدنيا بكل زخرفها على رجل أن يوهب القدرة على صياغة الكلام ... «إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن، فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر عن الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها، التذاذا لما أسمع من كلامه» - هكذا قال عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان موقف العربي على إطلاقه.

وليس لهذا الحديث نهاية نقف عندها، فما أظن أحدا منا لا يلم بكثير أو قليل بما كان للغة - من حيث هي لغة وكفى - من أهمية وخطر، في الثقافة العربية كلها، لكن الذي يفوتنا إدراكه هو أن هذه الثقافة العربية - في كثير جدا من الحالات - لم يكن يعنيها أن تكون للصيغة الكلامية دلالة في دنيا الطبيعة وعالم الكائنات. إن الصيغ اللغوية إنما تفعل فعلها كله ما دامت حسنة التركيب جميلة الجرس، ولا على صاحبها ولا على قارئها بعد ذلك أن يهتدي بها في تجارة أو صناعة أو سفر أو قتال أو في أي شأن من شئون العيش. هي كالقماش المخرم (الدانتيل) يكفينا فيه جمال زخرفه وجودة خرومه وحسن وشيه وتطريزه، ونضعه على المناضد لننظر إليه، بل قد نخزنه في خزانة النفائس لنعلم أنه هناك وكفى، ولا نطلب منه أن يؤدي في حياتنا شيئا؛ إننا لا نلبسه، بل وقد لا نتزين به. وهكذا قل في صيغ الكلام التي تؤلف شطرا ضخما من الثقافة العربية، تقرأ المقامة من المقامات، بل تقرأ صفحات طوالا عند رجل عاقل كأبي العلاء - في رسالة الغفران مثلا - فلا تجد إلا الرغبة في إقامة البرهان على أنه يعرف اللغة من حيث هي لغة قائمة بذاتها، لا من حيث هي أداة للمعرفة وناقلة للأخبار والمعلومات عن أشياء الدنيا وكائناتها. اللغة في تراثنا أقرب إلى الأشكال الهندسية، تكفي نفسها بنفسها، منها إلى مسائل الجبر والحساب، يوصل فيها إلى حلول، ماذا تبغي من زخرف هندسي ركبت فيه مثلثات ودوائر إلا أن تنظر إليه وتنعم النظر؟ لكنك لا تكتفي بمجرد النظر إلى رموز الجبر وأرقام الحساب، بل تسارع إلى السؤال حيالها: ماذا يراد بها؟ ووقفتك من الزخارف الهندسية هي وقفة المثقف العربي من بناءات الكلام.

وهنا يكون موضع التحول العظيم لينتقل العربي من حال إلى حال، ألم نسأل في ختام الفقرة السابقة قائلين: إذا سلمنا بأن عصرنا هذا هو عصر التحول، فمن حقنا أن نسأل سؤالا لا محيص عنه، وهو: تحول من ماذا؟ وها نحن أولاء نضع الجواب: من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء.

وليس الأمر مقصورا علينا، بل إنه ليعم الدنيا بأسرها في تحولها الراهن، إنه تحول يسير في خط واحد، ولا مجال فيه للاختيار والتردد؛ إذ هو - دائما وفي جميع الحالات - انتقال من ثقافة الكلمة إلى ثقافة العلم المؤدي إلى عمل، بل إن هذا «العمل» لم يعد يترك على إطلاقه، وإنما هو عمل محدد الخصائص، إذا أريد للأمة أن تكون «معاصرة»، وذلك أن يكون عملا في دنيا «الصناعة» بمعناها الآلي الحديث، لا بصورتها اليدوية القديمة. الصناعة، والصناعة وحدها، هي طابع التحول الحديث، الصناعة القائمة على علوم وعلى تقنيات، لا القائمة على خبرة العامل الذي مهر في مهنته.

كان مجتمع ما قبل العلم والصناعة أحد اثنين: فهو إما مجتمع بدائي ما يزال يعيش مع الساحر والكاهن - وقلما نجده الآن - وإما هو مجتمع ذو أبعاد عميقة في ثقافته وفي حضارته، لكنهما ثقافة وحضارة لا تقومان على العلوم والتقنيات الآلية، وها هنا تقع الأمة العربية مع سواها من البلدان «النامية» برغم ما لها من مجد ثقافي عريق.

قتل قابيل أخاه هابيل، فقيل في ذلك إنه رمز على أن الزارع قتل الراعي، وأن مرحلة من مراحل الحضارة البشرية - هي مرحلة الزراعة - قد أعقبت مرحلة أكثر بدائية منها هي مرحلة الرعي. ونريد اليوم من ينهض ليقتل قابيل الزراعة، حتى يخلي المكان لمرحلة ثالثة هي مرحلة الصناعة الآلية. الصناعة لا تحتاج من الإنسان إلى عضلات ذراعه أو ساقه، وكل ما تحتاج إليه أزرار تضغط عليها أضعف الأنامل، فتدور العجلات وتؤدي الآلة سائر الشوط كله.

ولو تحقق التحول على هذا الوجه، انتقل الإنسان من فكر إلى فكر، من حياة إلى حياة، من أخلاق ومعايير إلى أخلاق ومعايير. إنه ينتقل من ثقافة «الكلمة» إلى ثقافة «التشكيل» الذي يغير بها وجه الأرض، ويحاول بعدها أن يبدل وجه السماء وأجرامها، على الأقل بأن يزيح عنها السحر ويرفع النقاب. •••

لم يعد في أمر التقدم سر - كما يقول «سي، بي، سنو» - لأن طبيعته قد انكشفت، والوسيلة إليه لم تعد تحيط بها الشكوك؛ فقد كان يمكن للكاتب المفكر منذ نصف قرن أن يسأل: ما سر تقدم هذه الأمة أو تلك؟ أهي أخلاق أبنائها؟ أهو علمها؟ أهي الحرية في نظامها السياسي؟ إلى آخر هذه الأسئلة. أما الآن فلا حاجة إلى سؤال لأن الجواب معروف.

التقدم أينما حدث في عالمنا المعاصر خطواته المحتومة هي: علوم فتصنيع فتهذيب للتقنيات يترك للآلة أن تسير الآلة، وحتى إن كانت زراعة فهي زراعة تقوم عليها الآلات، لم يعد التقدم مرهونا «بالعلماء» الفقهاء الذين يقصرون العلم على شروح على النصوص، ثم على حواش تلحق بالشروح، أو الذين يجعلون الفقه «فقها» بما هو مسطور في الكتب، مهما كانت لهذه الكتب مكانتها. تلك ثقافة «الكلمة»، ذلك علم «بالكلام»، وفقه بالقراءة والكتابة، تلك جميعها بضاعة من أجاد أن يقرأ وقد يحسن أن ينضد اللفظ في عقود وموشحات ومطرزات، لكن لا تلك الثقافة ولا ذلكما العلم والفقه بمدير عجلات المصانع، ولا برافع لطائرة جناحا، ودع عنك أن يوجه تقنيات الحرب في ساحات القتال.

أحسب أن سلسلة التحولات «المحتومة» عند ماركس والماركسيين هي كما يلي: رءوس أموال تتراكم، فمصانع تقام بتلك الأموال تعاونها سواعد الرجال ومهاراتهم ، فثورة من هؤلاء الرجال العاملين؛ إذ يرون أنفسهم وجهودهم في ناحية، وثمرات عملهم في ناحية أخرى، فاشتراكية تعطي ملكية أدوات الإنتاج للعاملين، فيكون المالك عندئذ عاملا، والعامل مالكا، فهو تسلسل يجعل التصنيع سابقا والاشتراكية نتيجة لاحقة، لكن ما هكذا جاء ترتيب الأمور؛ إذ رأينا - في جميع الحالات بغير استثناء - أن تجيء الثورة الاشتراكية في بلد ما، من روسيا إلى كافة البلدان التي حررت نفسها في آسيا وإفريقيا، ثم يهم الناس بالعلمنة والتصنيع (أريد بالعلمنة أن يتحول نوع المعرفة السائدة من دراسة للنصوص الأدبية التاريخية إلى إجراء لتجارب العلم).

فالتحول في عصرنا هو نحو أن يكون الناس ذوي علم وصناعة، وسواء بعد ذلك أكانت الخطوة المؤدية إلى هذه النتيجة نظاما فرديا أو نظاما اشتراكيا، فها هي ذي الولايات المتحدة في طرف الفردية، والروسيا في الطرف المقابل، طرف الاشتراكية، لكن كلتيهما سواء في العلمنة والتصنيع؛ وإذن فتلك هي العلامة التي لا علامة سواها لأي بلد يقال إنه قد تحول.

وأعتقد أن الماركسية قد أخطأت خطأ آخر في تنبئها بمجرى الحوادث، فخطأ أول ذكرناه هو ظنها بأن التصنيع أولا ثم الاشتراكية تجيء بعد ذلك لزوما، وقد رأينا العكس هو الصحيح؛ إذ ظهرت اشتراكيات كثيرة في بلدان كثيرة، ثم أعقبتها حركات التصنيع. أما الخطأ الثاني فهو في حسبانها أن التحول «محتوم» أراده الناس أم لم يريدوه. والصحيح - كما نراه في تواضع له ما يسوغه في ضآلة علمنا بأطراف الموضوع وتفصيلاته - هو أن هذا التحول مرهون بأن يختاره الناس لأنفسهم ويريدوه ليعملوا على حدوثه.

يا ليته كان أمرا محتوما كما ظنوا؛ إذن لاستراحت الأمة العربية في تواكلها التقليدي وتراخيها بعد طول مجد وتاريخ. نعم، يا ليته تحول محتوم، لنضمن فعل الإرادة الكونية في أن تنقلنا من «دروشة» النصوص وشروحها وحواشيها، إلى العلم ومخابيره ومعامله، ثم إلى التصنيع بكل تقنياته، لكنه - وا أسفاه - مرهون بإرادة الناس، فما لم نعمل على استحداثه لبثنا حين نحن: نزرع ونقلع - كما يقولون - ثم نجلس تحت ظلال التوت والجميز، نسمع شعرا وزجلا ومواويل، أو نتحضر قليلا فنجلس أمام المذياع - صوتا وصورة - لننصت إلى مواعظ الواعظين، أن نتمسك بما نحن فيه منذ قرون، ووالله لولا خشيتي سوء التأويل، لعارضت شاعرنا أحمد شوقي في قوله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لأقول له: إنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن همو انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف أضغط على الأزرار ومتى.

لا، لم أعد أشك لحظة في أن هذا هو الطريق، طريق التحول من تخلف إلى عصرية، وهو أن ننتقل من «معرفة» قوامها الكلام، إلى «معرفة» قوامها الآلة التي تصنع. ولقد وضعت كلمة «المعرفة» بين حواصر، لألفت نظر القارئ إلى هذه الكلمة العجيبة، فهي هي موضع الزلل والعثار؛ لأننا نطلقها على ضروب كثيرة من اللغو، ولو استخدمناها استخداما دالا، لقصرناها على المعرفة العلمية العملية. وعلى هذا الأساس، يكون الانتقال المنشود هو حركة من حالة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، من حالة اقتصر مثقفوها على «فك الخط» - كما يقال - أعني أنهم اقتصروا على القدرة على القراءة والكتابة - وهل تزيد دراسة النصوص على إلمام بالقراءة؟ - إلى حالة يكون المثقفون فيها هم أنفسهم المصرفون للآلات، ألا فلنعلم جيدا أن الآلة ليست كتلة من الحديد، وإنما هي علم مجسد، ومهارة مركزة، إنها هي الحضارة وهي الثقافة.

واعجبا لقوم - وما أكثرهم في عصرنا - يجعلون من «الثقافة» كيانا قائما برأسه، كأنه ثوب أو مظلة، بحيث يستطيع من شاء أن يستعير الثوب أو يعيره، ويشتري المظلة أو يبيعها، دون أن يتأثر شيء في مجرى الحياة بتلك الإعارة والاستعارة، أو بهذا الشراء والبيع. وا عجبا لقوم - وأعترف أنني ما زلت واحدا منهم للأسف الشديد - ينظرون إلى الثقافة والمثقفين كأنها وكأنهم مهنة ومحترفوها، فقد تسأل أحيانا: ماذا يصنع فلان؟ فيقال لك: إنه مشتغل بالثقافة! على غرار ما يشتغل الناس بغزل الصوف ونسج القماش.

لكن الثقافة لم تكن هكذا - فيما أظن - إلا في عهود الضعف والعقم، وأما في عصور القوة والخلق الحضاري فهي وجهة النظر، تضاف إلى ما يعمله العاملون تأسيسا على علم، وإلا فهل تتصور - مثلا في التاريخ المصري القديم كله - أحدا كانت حرفته «الثقافة»؟ كان الواحد من مثقفيهم ينحت التماثيل أو يرسم الصور على المعابد أو يقيم البناء، أو يصوغ الذهب والنحاس، اللهم إلا إذا جعلنا «المثقف» عندهم مرادفا للكاهن، ولو قيل ذلك لكفاني حجة بضرورة أن نتخلص - وبأسرع وقت مستطاع - من جماعة الكهان في حياتنا، أعني جماعة «المثقفين» الذين يروجون لبضاعتهم، وما بضاعتهم إلا كلام في كلام.

عصر التحول عصرنا، ولا تحول لنا إلا إذا أقلعنا بالسفائن من شط ليس فيه، أو لا يكاد يكون فيه، إلا ذرابة اللسان وصناعة الكلام، لنقصد إلى شط آخر، تقوم فيه، لا أقول مهارة الأيدي، فمهارة الأيدي ذهب زمانها أو أوشك، بل تقوم فيه الأجهزة الآلية القادرة بكل ما تقتضيه من علم وكفاءة عند الإنسان الواقف خلفها.

وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي كانت تحتكر عندنا اسم «الثقافة»؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول - كما قلت مرارا مقلدا هيوم وجاريا مجراه - لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال، ابتغاء الوصل بين جديد وقديم. (ج) نقلة من اللفظ إلى معناه

فكرة تؤرقني كلما أصبحت أو أمسيت، وأحسبها مؤرقة لكثيرين غيري، ممن يعنيهم أن تكون لنا - في عصرنا هذا بكل خصائصه - ثقافة عربية لا تخطئها عين ولا أذن، أم هل يكون هذا السعي وراء تفرد متميز، سعيا وراء أوهام وأشباح، في عصر من خصائصه أن تقال الكلمة هنا، فتدور حول الأرض في مثل اللمحة بالبصر؟

ما هي الصفة أو الصفات الرئيسية، التي عنها تتفرغ صفات، إذا ما وقعت عليها عين الرائي في صورة أو تمثال، أو استمعت إليها أذن في قصيدة أو قصة، قال الرائي من فوره - أو السامع - هذا فن عربي وهذا أدب عربي، أنشئ في النصف الثاني من القرن العشرين؟ أم ترى ليس لسؤال كهذا من جواب؟

أما أن الثقافة الإقليمية قد كانت لها الخصائص المميزة في العصور السابقة، فذلك ما لست أظنه موضع خلاف، فقد كان معلوما ومتفقا عليه أن الفرنسيين - مثلا - يتميزون في فكرهم بالوضوح الرياضي، الذي يضع لنفسه المقدمات اليقينية ليستنبط منها نتائج يقينية كذلك، كما استن لهم إمامهم ديكارت، وأنهم من أجل هذه الرغبة في كمال الدقة - أو دقة الكمال - بذلوا عناية ملحوظة في الصقل الشكلي كلما أنتجوا أدبا وفنا، حتى لو جاء هذا الشكل المصقول على حساب المضمون نفسه، فالمسرحية عند راسين أو كورني، هي - كالنسق الفلسفي عند ديكارت - بناء محكم، متصلة حلقاته في غير زائدة هنا أو ناقصة هناك، بل إن العارفين بالحياة الفرنسية فيما مضى ليقولون كذلك، إن نظم الحكم وأساليب الإدارة كانت عندهم بهذه الدقة نفسها - أو قل بهذه الآلية نفسها - التي عرفوا بها في مجالات الفكر والأدب والفن، فلم يكن ثمة فارق - من حيث الجوهر - بين النسق الديكارتي والمسرحية الكلاسية وبيروقراطية الإدارة في دواوين الحكم.

وكان معلوما ومتفقا عليه أن الإنجليز - وهذا مثل آخر - يتميزون في فكرهم بالتقريبية أو الاحتمالية التي تتناسب مع إدراكات الحواس، وهي الإدراكات التي يعولون عليها، فلم تكن المسألة عندهم مسألة إتقان في الشكل نضمن به يقين المقدمات والنتائج، مهما بعد هذا الشكل عن لحم الحياة ودمها، بل المسألة عندهم كانت أولا وأخيرا، إدراكا حسيا للحقائق يكفي أن يشترك فيه الناس ليكون معتمدا ومقبولا. ولا غرابة أن تشيع بين الإنجليز، في حياتهم اليومية وفي حياتهم العلمية على حد سواء، عبارة

Common Sense

التي تترجم حرفيا «حس مشترك»، أي اشتراك الناس في إدراك معين بالحواس، وما دام هذا موقفهم من الفكر، فقد كان حتما كذلك أن يكون هو نفسه موقفهم من الفن أو الأدب، فالمسرحية عند شكسبير لا تلتمس كمالها عن طريق البناء المحكم بقدر ما تلتمسه في فوران التيار وجيشانه، فلا بأس من زائدة هنا أو ناقصة هناك، ما دام العرق ينبض بالحياة من أول سطر في المسرحية إلى آخر سطر، وهل تلتزم الحياة أحكاما في بناء كائناتها؟ هل تتحرج الحياة من أن تمتد فروع الشجرة طويلة هنا قصيرة هناك، غنية بأوراقها في الجانب الأيمن، فقيرة بها في الجانب الأيسر؟ لكن الشجرة مع هذه الحرية كلها في طريقة نمائها، هي الشجرة الحياة في وحدتها وكيانها.

وكان معلوما ومتفقا عليه أن الأمريكيين - وهذا مثل ثالث - قد بنوا فكرهم على قاعدة المنفعة، فالفكرة تقاس بنفعها، فهي صواب إذا نفعت وهي خطأ إذا لم تنفع، ولا يكفي عندهم أن يقاس صواب الفكرة بسلامة استدلالها، من فكرة غيرها، وإلا دارت الطاحونة على خلاء، وأمحلت الأرض وسكنت العجلات وجاعت البطون. وإنك لتجد لهذا المبدأ انعكاسات شتى في السياسة والتربية والأدب والفن، فليس للسياسة عندهم غايات في ذاتها تدوم دوام الأبد، بل إن وقفاتها لتدور مع المنفعة المرجوة وجودا وعدما، وليس للتربية مواد يتحتم درسها في المعاهد مهما تكن الظروف، بل التربية إعداد للفرد يعينه على النجاح في المصانع والأسواق، والأدب عندهم مليء بأمثلة تدل على أن مدار القيمة هو على النجاح، وعلى أن هذا النجاح يقاس بمقدار الكسب ومنه سدت أمامه موارد الكسب اضطربت نفسه إلى حد الموت في كثير من الأحيان. •••

وإن الحديث ليطول بنا إذا تعقبنا الثقافات الإقليمية كيف كانت تتنوع بخصائص تميز إحداها عن سائرها، لكنه لا بد لنا من وقفة عند الثقافة العربية القديمة، لنسأل عن خصائصها البارزة المميزة؛ تمهيدا لانتقالنا بعد ذلك إلى الحديث عن الثقافة العربية المعاصرة ماذا نريد لها أن تكون. وأحسبني لا أضل طريقي إلى الصواب ضلالا بعيدا إذا زعمت أن المقدمة الأولى التي أستطيع أن أستخرج منها الخصائص الفرعية للثقافة العربية القديمة هي التعارض الحاد بين الذات والموضوع، فلا سبيل عند العربي إلى خلطه بين ذات نفسه من جهة، والأشياء في عالم الواقع من جهة أخرى، فهو هنا في ناحية وهي هناك في ناحية أخرى، وعليه بعد ذلك أن يحدد علاقته بها، أيجعلها علاقة الزاهد فيها التارك لها، أم يجعلها علاقة الغالب المنتصر المسيطر؟ إنه لا يدع نفسه تسري في الأشياء ، ولا يدع الأشياء تسري في نفسه، إنه بالنسبة إليها في عزلة ووحدة، ولكنه - وهذه هي النقطة الهامة الخطيرة التي أجازف فأقذف بها قذفا - ولكنه يستعيض عن «الأشياء» بألفاظ، ومن ثم جاءت حياة العربي في «لغته» أكثر مما جاءت في أشياء بيئية، ومن هنا أيضا كان للغة العربية ما كان لها من سيطرة عليه ومن جذب له، فكم ألف بحث أداره العربي حول لغته؟ وكم جعل العربي لغته منظارا ينظر خلاله إلى ما أراد النظر إليه؟ وإذا أراد تقويم قطعة أدبية فذلك إنما يكون بالنظر في ألفاظها وتركيب تلك الألفاظ قبل أن يكون بالبحث عن المضمون وما يستتر فيه من أضواء وظلال. إني لأذكر في شيء من الغموض قول أديب عربي حديث - لعله مصطفى لطفي المنفلوطي - حين قال إنه يفضل أن يقرأ وصفا جميلا لبستان، على أن يشهد البستان نفسه. وسواء قالها المنفلوطي، أو قالها سواه، أو لم يقلها أحد، ففي هذه العبارة صدق يكاد يجعل منها مفتاحا لخصائص الثقافة العربية كما كانت طوال العصور، والكلام هنا بالتعميم والإجمال لا بالتفصيل والتحديد.

إننا لنزداد لذلك فهما ووضوح رؤية، إذا وضعنا نصب أذهاننا هذه الحقيقة الآتية، وهي أن هنالك في حياة الإنسان عالمين يعيش في أحدهما أو في كليهما بنسب متفاوتة، عالم الطبيعة من جهة، وعالم الرموز (وخصوصا رموز اللغة) التي يبتكرها الإنسان ليشير بها إلى الطبيعة وأشيائها وكائناتها، فهناك الشجرة التي هي نبات، وهنالك إلى جنبها «الشجرة» التي هي كلمة تكتب أو تقال، فمن مجموع الأشياء يتكون عالم، ومن مجموعة الألفاظ والرموز يتكون عالم آخر، وقد تجد من الناس من يؤثر الخوض في العالم الأول، وقد تجد منهم من يؤثر السكنى في العالم الثاني، الأولون يعالجون الأشياء ذاتها بالرؤية واللمس والتشكيل، والآخرون يكتفون من الأشياء برموزها، فيكتبون ويستنبطون عبارة من عبارة ويشتقون لفظا من لفظ، ويئولون النصوص ويفسرون الأحاجي والمعميات، والزعم هنا هو أن المثقف العربي كان يفضل الإقامة في عالم اللغة أكثر جدا مما يطيل البقاء في عالم الأشياء.

اقرأ معي حديث الليلة السادسة في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وهي أمسية كان الحديث فيها عن خصائص الأمم، وكان المتحدث هو ابن المقفع، فأوجز الحديث عن العرب في قولهم إنهم «أهل بلد قفر ووحشة من الإنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله.» وهو إنما قال ذلك ليدل به على أن العرب خير الأمم جميعا، فهم لا ينقلون العلم عن أحد، إنما يعتمدون جميعا على ومضات بصائرهم، أي أن العربي لا يحيا «في» الأشياء، بل يحيها «معها»، وهو في انفصاله هذا عن الأشياء تراه يلحظها ويدون صفاتها كما يرصد الصانع عدته، لا كما يؤاخي الصديق صديقه «علموا أن معاشهم من نبات الأرض» - كما يقول ابن المقفع في السياق الذي ذكرناه - «فوسموا كل شيء بسمته ... ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء ... واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها فسلكوا بها البلاد.» أي أن أشياء الطبيعة عند العربي أدوات تستخدم للنفع ويجتنب بها الضرر، ولكنه يقف منها - قبل ذلك وبعد ذلك - موقف المعتزل المحايد، الذي لا يحب ولا يكره، أما الذي ينغمس فيه مرحا فرحا نشوان، أما الذي يعاشره متغزلا متعشقا مأخوذا بجماله هيمانا بفتنته، فهو «اللغة»، يتذوق ألفاظها وتراكيبها كأنه يتذوق طعاما يأكله وشرابا يشربه.

إن نظرة طائرة سريعة إلى الفن الإسلامي، كافية للتفرقة بين هذا الفن والفن اليوناني - مثلا - أو الفن الهندي، أو الفن الفرعوني القديم. الفن الإسلامي هندسي يقيم أشكاله من خطوط وزوايا ومربعات ومثلثات ودوائر، إنه لا يرسم كائنات الطبيعة وأشياءها لأن هذه الكائنات لا تمتزج بنفسه، ولا العربي الفنان يسعى إلى مزج نفسه بها، إنه إعلان من الفنان العربي بانفصال ذاته انفصالا تاما عن الأرض وكائناتها، إنه احتجاج على المتناهي ولياذ باللامتناهي؛ لأن عين الرائي إذ هي تتابع قطعة من «الأرابسك» لا تصدمها نهاية تفرض عليها الوقوف عندها، بل هي تسترسل في سلسلة الأشكال الهندسية إلى غير نهاية معلومة، وكذلك قل في قصيدة الشعر عند الشاعر العربي، لماذا يحددها «بوحدة» عضوية تحكم أولها وآخرها، لماذا لا يدع أبياتها - كوحدات التركيب الهندسي - تتعاقب إلى غير نهاية مفروضة محددة؟ وإنه لمما يزيد مسافة البعد بين المثقف العربي والأشياء، أنه لم يكن ينظر إلى هذه الأشياء على أنها مجسدة لقوانين، ولو فعل لازدادت عنايته بها - لا من أجل ذاتها - بل استخراجا للقوانين الخافية وراءها.

ولهذه النقطة الأخيرة عندنا أهميته البالغة؛ لأنك إذا نظرت إلى أشياء الكون على أنها كائنات مفردة لا تجمعها قوانين وقفت منها وقفتك من كثرة، لا وقفتك من كيان موحد، وبالتالي أحسست بدهرك وقد تحول إلى لقطات وومضات ولحظات، وإن هذه اليقظات - على وقدتها وسطوعها - من شأنها أن تحل فكرة المصادفة المفاجئة محل القانون الدائم، وفكرة العفوية التلقائية محل الخطة الطويلة المدى. •••

وأعود إلى استئناف الحديث فيما بدأت به، وهو أن الثقافات الإقليمية كان لها من الخصائص ما يميزها، واحدتها عن الأخريات، وقد نصيب الآن أو نخطئ في تشخيص الملامح الرئيسية لكل ثقافة على حدة، لكن المبدأ العام متفق عليه، والسؤال الآن هو: هل تبقى هذه الفوارق في عصرنا بكل ما فيه من وسائل النقل السريع؟ وإذا بقيت، فماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟

أما السؤال الأول فجوابه عندي هو أن وسائل النقل السريع في عصرنا لن يسعها أن تنقل إلا ما يمكن نقله، فهي تنقل الأفكار والأخبار، ولكنها لن تنقل نبضة من قلب إلى قلب، وإذن فستبقى الخصائص المميزة للثقافات المفردة، مهما اتسع النطاق المشترك بينها في حقائق العلم وفي قيم الأخلاق وفي عادات العيش وطرائق العمل والفراغ، إننا لا نقول بهذا إن بين الأمم فوارق بحكم الفطرة أو بحكم التكوين، لكنها فوارق تنشأ نتيجة لعوامل التاريخ، ولكل أمة تاريخها، ولكل أمة ماضيها الذي أصبح - أو يجب أن يكون - جزءا من حاضرها، فمثقفو اليوم بغير تراث ينظرون إليهم، هم حبات مفردة يعوزها الخيط الذي يسلكها في عقد واحد، وكذلك لو هبط علينا التراث بغير مثقفين يتناولونه تناولا خلاقا فيه مشاركة وإبداع ، يظل قشرة ولا لباب.

وأما السؤال الثاني فهو مربط الفرس، وجوابه هو ما يثير في نفوسنا القلق والحيرة، ماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟ والجواب الذي ألقي به هنا راجيا أن يكون موضوعا للمراجعة وموضوعا للتصحيح، هو أن نبني على أساس تقليدنا الثقافي طابعا جديدا، يبقى على الأساس، لكنه يضيف إليه، فإذا كنت قد أصبت حين زعمت أن «روح» تراثنا الثقافي، هو إيثار السكنى في عالم اللفظ على معالجة الأشياء والفتنة باللغة في ذاتها حتى لتصرفنا - أو تكاد - عن دنيا الكائنات والحادثات التي ما جاءت اللغة إلا لتكون رموزا مشيرة إليها، فإنني أود لو أننا احتفظنا بهذا الحس الجمالي نحو اللغة، ثم أضفنا إليه حسا آخر، يجاوز اللغة إلى ما عداها، يجاوزها إلى دنيا الطبيعة والحوادث. إن الماء السائغ الزلال لذيذ حين يطفئ الظمأ، لكنه لو زاد على هذا الحد فقد يؤدي إلى شرق أو غرق، وكذلك اللغة الجميلة الفاتنة، يكون لها سحرها ما دمنا نقف منها عند حدود فنونها، لكنها تنقلب إلى ما يشبه المخدر إذا جعلناها حجابا يحجب عنا ما وراءها. وإذن فلا بد للثقافة العربية المعاصرة أن تضيف إلى اللغة الجميلة لغة «قبيحة» - وأنا أتعمد هذه المغالاة في اللفظ لألفت النظر - نعم، لا بد أن تضيف ثقافتنا العربية المعاصرة إلى الجانب الجميل من اللغة، لغة شائهة قبيحة ينفر منها النظر والسمع، فيسرع الإنسان إلى مجاوزتها إلى دنيا الوقائع الكائنة على أرض الحوادث.

إنه إذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة أخرى أمرا متعذرا في جميع الحالات، فهي لا شك أكثر تعذرا إذا أردنا ترجمة ما يكتبه مثقفونا بلغتنا العربية الجميلة؛ وذلك لأن هؤلاء المثقفين تفتنهم الألفاظ وجرسها، فيقفون عندها ويطيلون الوقوف، فينتهي بهم الأمر إلى غير حصيلة فكرية يمكن نقلها بالترجمة إلى لغات أخرى، فلكي تكون لنا رسالة فكرية نسهم بها في عالمنا الصخاب بمذاهبه ودعاواه، فلا بد أن يكون لدينا ما نقوله، أي أنه لا بد أن نجعل من اللغة أداة لا غاية في ذاتها، فنضيف بذلك «فكرا» إلى «أدب».

على أن هذه الخطوة التي أقترح أن نخطوها من اللفظ الجميل إلى اللفظ الدال، من جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، هذه الخطوة قد خطونا جزءا كبيرا منها في الأدب الحديث حين انتقلنا من فسيفساء المقامات إلى شخصيات القصة ومواقفها، ومن كتب الأخبار المنشورة إلى المسرحية وحوارها، ومن قصيدة الطبل إلى قصيدة الخبرة، أما في مجال الفكر فما زالت طاحونة اللفظ هي صاحبة الدوي الأعلى، مع أننا نعيش في عصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره، وهي نفسها القضايا التي كنا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري فيمدنا هذا التراث بزاد دسم يغنينا عن هذه الزوابع اللفظية التي نثيرها في الجو حتى تمتلئ بعثيرها الخياشيم فتفقد قدرتها على الحس والتمييز.

ففي العصر الذي ذهبت فيه العصبيات أخطر مداها، نجد من تراثنا ما يعطينا دستور المعادلة بين مختلف الأقوام والثقافات: «... فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق مفضوضة بين كلهم» (الإمتاع والمؤانسة، ج1، ص73). وفي العصر الذي اشتدت فيه عنصرية اللون والجنس والدين، وازداد البطش واتسع الظلم، نجد في تراثنا الفكري ما يضع بين أيدينا وقفة مثلى، فيها التسامح وفيها العدل والاعتدال، وفيها المساواة وفيها تدرج القيم من الأعلى إلى الأدنى، خطة للسلوك السوي، ولو نسجنا من هذه الخيوط نسجا ثقافيا يتناول قضايا عصرنا، كان لنا بذلك ما يصح أن نوصف بسببه بأننا أمة الاعتدال في الفكر والعمل، أمة تجمع بين العقل والدين، بين الدنيا والآخرة، بين الفرد والجماعة، أمة لو سار حاضرها على نهج ماضيها جمعت بين ثقافة الروح وحضارة العيش، في هذا العصر الذي كادت الثقافة والحضارة أن تفترقا إلى غير تلاق، فإما جماعة تتقلب في السيارات والثلاجات والناطحات ولكن بغير أعماق، وإما جماعة ركنت إلى طمأنينة الأعماق ثم كستها بأكواخ الطين وهلاهل الثياب وشظف الرغيف . •••

والسؤال نطرحه من جديد: ما سبيلنا إلى ثقافة عربية معاصرة؟ لقد قدمت من جوانب الإجابة جانبا واحدا، وهو ضرورة الخروج من دنيا اللغة إلى دنيا الأشياء، ثم استدركت بقولي إننا قد خطونا خطوة طيبة في هذا السبيل بما غيرناه من تصورنا للأدب فيما نحاوله اليوم من قصة ومسرحية وقصيدة، لكننا ما نزال في دنيا الفكر متخلفين، إلى الدرجة التي أستأذن القارئ في أن أقول عنها إنها الدرجة الدنيا التي ليس لنا فيها فكر يوصف بأنه فكر عربي معاصر، مع أن تراثنا - كما قدمت - يمدنا بالخامة الولود التي يمكن أن نتخذ منها محورا لموقف عربي أصيل إزاء القضايا الإنسانية الكبرى المطروحة على الألسنة والأقلام، ومع ذلك ترانا أحد رجلين، فإما ناقل لفكر غربي وإما ناشر لفكر عربي قديم، فلا النقل في الحالة الأولى ولا النشر في الحالة الثانية يصنع مفكرا عربيا معاصرا؛ لأننا في الحالة الأولى سنفقد عنصر «العربي» وفي الحالة الثانية سنفقد عنصر «المعاصرة»، والمطلوب هو أن «نستوحي» لنخلق الجديد، سواء عبرنا المكان لننقل عن الغرب، أو عبرنا الزمان لننشر عن العرب الأقدمين.

فإذا أوحت إلينا الثقافتان بخلق ثقافي جديد، فيه النظرة العربية وفيه الوقفة العصرية، كان من أهم ما يميز هذا النتاج الجديد - فيما أرجح - خروجنا إلى عالم الوقائع والأحداث، بالمعايير نفسها التي كنا ننسجها لفظا ثم نكتفي منها بذلك، فننظر إلى ذلك العالم الخارجي النظرة التي تلتمس فيه القوانين المطردة التي تنظمه، والتي على أساسها يمكن التخطيط لمسارات المستقبل تخطيطا يحقق الأهداف المأمولة، بدل أن ننظر إلى ذلك العالم النظرة التي تجعله ضاربا في تيه من المصادفات، لا ندري معه بماذا يجيء الغد فيفجؤنا حين يجيء.

واختصارا، إن وقفة الفنان العربي التي وقفها وهو ينشئ فنه الهندسي في النوافذ والشرفات، وعلى جدران المنازل، ومنابر المساجد ومآذنها، هذه الوقفة الرياضية الدقيقة المحكمة التي عبرت عن روح الحياد المعقول عند العرب الأولين والتي كانت هي نفسها الوقفة التي هندس بها الشاعر تفعيلاته وقوافيه، وزخرف بها كاتب المقامة سجعه ونغماته، هذه الوقفة التي تضع المفرد الجزئي المتناهي المحدود، في مكان من تركيب يشمله، بحيث يجيء التركيب كله موحيا بالمجرد الكلي اللامتناهي واللامحدود، هذه الوقفة التي وقفها المتصوف العربي حين رأى في فردية ذاته ومجسد خبرته حقيقة الكون في تجردها وشمولها، وفي الفرد الواحد الإنسانية بأسرها، هذه الوقفة التي نراها منبثة في تراثنا من عقيدة وأدب وفن وفكر، هي التي ندعو إلى أن تكون وقفتنا التي ننظر منها إلى قضايا الإنسان في عصرنا الراهن، فتنتج لنا ما يجوز بحق أن يسمى بالثقافة العربية المعاصرة ...

الفصل الثامن

فلسفة عربية مقترحة

(أ) ثنائية السماء والأرض

أحسبني على حق حين أزعم أن كلمة «فلسفة» هي من أكثر الكلمات دورانا على الألسن، ومن أقلها تحديدا عند جمهور المثقفين، هم يحبون استعمالها، ولكنهم يكرهون الوقوف عندها، كأنما هم يحبون استخدامها جرسا ولفظا، ويكرهون تمحيصها مضمونا ومعنى، فما أكثر ما تسمع في أحاديثهم عبارات مثل: فلسفتي في الحياة، فلسفة التاريخ، فلسفة اللغة، فلسفة السياسة، وغير ذلك، أما أن تسألهم أن يحددوا معناها المقصود، بحيث يفرقون في هذه العبارات التي أسلفناها بين الحياة وفلسفتها، والتاريخ وفلسفته، واللغة وفلسفتها، والسياسة وفلسفتها، وهكذا، فعندئذ يضيقون بك ذرعا، وينقلبون على اللفظة ذاتها، فيستخدمونها هذه المرة استخداما يحمل معنى الزراية؛ إذ يقولون لك عندئذ «هذه فلسفة»، يريدون بذلك أنك بدأت تخاطبهم بما ليس له عندهم معنى مفهوم.

فإذا شئنا أن نحدثكم عن طريق مقترح نحو فلسفة عربية، أفلا يكون جديرا بنا - بادئ ذي بدء - أن نلقي شعاعا من الضوء على معنى الفلسفة على إطلاقها، قبل أن نتصورها عربية أو غير عربية؟ هل تفهم معنى لقولنا «الخيول العربية» قبل أن تتصور «الخيول» على إطلاقها كيف تكون؟ وهل تدرك معنى لقولنا «اللغة العربية» قبل أن تدرك معنى «اللغة» في خصائصها العامة المشتركة؟ فكذلك لا أحسب أن قولنا «فلسفة عربية» سيحمل إلى أذهاننا معنى محددا، إلا إذا ارتسمت في تلك الأذهان صورة للفلسفة على إطلاقها : ما مقوماتها الأساسية التي بغيرها لا تكون؟

ولعل أوضح وسيلة لبيان ذلك، هي أن نفرق بين مراحل ثلاث، أو قل بين مستويات ثلاثة للإدراك: ففي المستوى الأول ترانا نعيش في صلة مباشرة مع الأشياء من حولنا، وفي تواصل مباشر بعضنا مع بعض، فأنا إذ أرى الأشياء بعيني وألمسها بيدي، وإذ أنظر إلى صديقي فأراه راضيا أو غاضبا، فعندئذ أكون في مستوى الإدراك الأول، وعلى هذا المستوى تجري شئون الحياة اليومية من بيع وشراء، ومن صناعة الصانع لما يصنعه إذ هو يعالج المادة التي يشكلها، ومن زراعة الزارع لأرضه حين يبذر الحب ويروي الزرع ويحصد الحصاد. فهذه وأمثالها كلها أشياء تتم بالصلة المباشرة بين الإنسان من جهة، وما عداه - أو من عداه - من جهة أخرى. وواضح أن ما يتصل به الإنسان في هذه الحالة، هو دائما أشياء بعينها، أو أشخاص بأعينهم، أو مواقف معينة هي كلها مفردات جزئية مما يشغل مكانا محددا، ويقع في لحظة زمنية معلومة، لكن الإنسان لا يقف عند هذا المستوى الذي تشغله مفردات من أشياء وأشخاص ومواقف، لها مكانها ولها زمانها، إلا ريثما يفرغ من شئون حياته اليومية الجارية، وبعدئذ يحدث أن يتخصص من بين الناس نفر يحاولون الوصول إلى قوانين عامة تضبط تلك المفردات، وهؤلاء هم العلماء، كل عالم يختار لنفسه ميدانا يتفرغ للبحث فيه، عن القوانين التي تحكم ظواهره، فإذا نزل علينا المطر ذات يوم، وعشناه ومارسناه، كنا ما نزال في المستوى الذي ندرك فيه الوقائع والحادثات إدراكا مباشرا، أما إذا تفرغ منا واحد لبحث هذه الظاهرة، لعله يجد لنا قوانينها الطبيعية، كان ذلك الواحد عالما في ميدان معلوم من ميادين التخصص، وتراه عندئذ ينتقل من المستوى الأول إلى المستوى الثاني - من حيث تخصيص القول أو تعميمه - فقد كان المتحدث العادي في الحالة الأولى، إنما يتحدث عن حالة معينة خاصة من حالات نزول المطر، أما المتحدث على المستوى العلمي، فيقدم لك قوانين عامة تنطبق على كل حالات المطر، أينما حدثت وفي أي وقت حدثت، وقل ذلك عن شتى نواحي الطبيعة التي نشاهدها، أو نواحي الحياة الإنسانية التي نحياها.

ثم لا يقف الأمر عند هذا المستوى الثاني، بل قد نرى أنفسنا بإزاء قواعد عامة تضبط سلوكنا، أو بإزاء مجموعات من قوانين العلوم المختلفة، فهذه قوانين الضوء، وهذه قوانين الصوت، وهذه قوانين الكهرباء، وهلم جرا، فنسأل أنفسنا: ترى هل هذه القواعد السلوكية العامة، وهذه المجموعات من القوانين العلمية، مستقل بعضها عن بعض، أو أننا إذا أمعنا النظر فيها، ألفيناها تلتقي كلها في مبادئ مشتركة بينها؟ بل ربما نجدها آخر الأمر ترتد كلها إلى مبدأ واحد عام وشامل، فنمضي في تحليلها، لنرى إذا كان ثمة ما يوحدها أو لم يكن، وعندئذ تكون هذه العملية الفكرية هي ما يسمى بالفلسفة. فالفلسفة - إذن - هي مستوى من التعميم، يحاول أن يرد مفردات القيم السلوكية والمعارف والعلوم على اختلافها، إلى قمة واحدة، على نحو ما كان يفعله كل علم من العلوم على حدة، حين يقف عند المستوى الأول من مستويات التعميم، يحاول فيه أن يرد مفردات الظواهر الجزئية إلى قانون علمي واحد.

وهنا لا بد من ملاحظة هامة، وهي أنه سواء كان الأمر عند مستوى التعميمات العلمية، أم كان عند مستوى التعميم الفلسفي، فهذه التعميمات في كلتا الحالتين لا تهبط علينا من السماء، وإنما هي تستخلص استخلاصا مما يحدث هنا على الأرض؛ فالعلم يستخلص قوانينه من الحوادث الواقعة هنا في حياتنا اليومية، والفلسفة تستخلص مبادئها من قوانين العمل؛ وإذن فلا العلماء ولا الفلاسفة يصمون آذانهم ويغمضون عيونهم عن جزئيات الواقع. ولو وجدنا قانونا علميا لا تطبيق له على أرض الواقع، أو وجدنا مبدأ فلسفيا لا يمكن تعقب الصلة بينه وبين ما يحدث من حولنا وفي مجرى حياتنا، للفظناه لأنه عندئذ يكون كلاما في كلام. إذن فلو قلنا: إن الفلسفة هي استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي أو المتضمنة في الثقافة السائدة أو في حياتنا العملية، يصبح القول مفهوما، ولو كان رجال العلم أو كان الناس في حياتهم اليومية على وعي دائم بالفروض المسبقة المدسوسة المتضمنة في أقوالهم، لما بقي للفلسفة وظيفة تؤدى. لا ، بل كثيرا ما يحدث أن ينتبه عالم الرياضة أو عالم الطبيعة لما ينطوي عليه علمه من فروض مسبقة خافية، فيقف برهة ليقوم هو نفسه بتحليل علمه تحليلا يكشف عن الخبيء المنطوي. وعلى أية حال، فالذي يحدث في معظم الحالات هو أن العالم يبدأ علمه من نقطة معينة، تاركا ما وراءها من فروض مضمرة، وكذلك الإنسان العادي في اعتقاداته وفي حياته العملية، لا يعنيه البحث عما وراء تلك الاعتقادات وما وراء هذه الحياة العملية من أسس ومبادئ، فتكون مهمة الفلسفة هي استخراج ما هو مضمر في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لننقلها من حالة الكمون إلى حالة العلن، وما أكثر ما يحدث أن تجد إنسانا راضيا كل الرضا عن أفكاره وتصرفاته، حتى إذا ما استخرجت ما تنطوي عليه تلك الأفكار والتصرفات من أسس خافية، فزع واستنكر؛ لأنه لم يكن قد حفر تحت أفكاره وتصرفاته ليرى تلك الأسس واضحة صريحة، وها هنا يتمهد الطريق أمامه إلى التحول عما هو فيه؛ لأنه - وقد رأى وراء أفكاره أسسا لا يرضى عنها - يجد ألا مندوحة له عن تغييرها ليقيم سواها على أسس أخرى ترضيه.

أظن أن في هذا التحديد لمعنى الفلسفة ضوءا كاشفا، يبين لنا ماذا يكون الفرق - مثلا - بين التاريخ وفلسفة التاريخ، وبين اللغة وفلسفة اللغة، بين السياسة وفلسفة السياسة، وغير ذلك من مقابلات بين الشيء وفلسفته. فالتاريخ يروي ما قد حدث، وأما فلسفته فتحفر وراء هذا الذي حدث، لعلها تقع على المبدأ الذي على أساسه قد حدث، كأن يقال مثلا: إن الأساس الكامن وراء حوادث التاريخ هو عقل كوني يسير الأحداث ويوجهها نحو غاية يريدها، أو يقال: إن ذلك الأساس هو ما يحدث بين طبقات المجتمع من صراع، وهكذا فهذه لا تكون تاريخا، بل تكون فلسفة للتاريخ. وكذلك قل في اللغة وفلسفتها، فاللغة هي هذه الرموز التي نتبادلها كلاما وكتابة، وفق قواعد تضبط تركيباتها وتصريفاتها، أما إذا حفرت وراء هذه التركيبات والتصريفات، لعلي أقع على جذور عنها انبثقت، كان ذلك هو فلسفة اللغة، كأن أقول - مثلا - إن اللغة العربية تجعل الأولوية للأسماء على الأفعال والحروف، بدليل أنه لا بد لكل كلام مفيد من الاسم، على حين قد تستغني الجملة المفيدة عن الفعل والحرف، وقد أفسر هذا بأن العربي أشد اهتماما بالأشياء منه بالعلاقات الكائنة بين تلك الأشياء، فأنا إذ أقول هذا فلست أقول به قاعدة من قواعد اللغة، إنما أذكر مبدأ في فلسفة اللغة، والأمثلة كثيرة على الفرق بين الشيء وفلسفته، يستطيع من شاء أن ينسجها على هذا المنوال. •••

تلك - إذن - هي الفلسفة: هي إخراج الأسس الكامنة في أفكارنا واعتقاداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفة عامة، إخراجها من حالة الكمون إلى حالة الإفصاح والإيضاح والعلانية، لتسهل رؤيتها ومناقشتها، وهنا ينشأ هذا السؤال: إذا كان أمر الفلسفة كذلك، فكيف تجوز التفرقة بين فلسفة عربية وفلسفة غير عربية؟ أليست الفلسفة هي هذا البحث عن الأسس الكوامن في حياة الإنسان العقلية والسلوكية، بغض النظر عن قومية الباحث؟ وإلا فهل تختلف عملية الحفر إذا اختلفت الأيدي التي تمسك بالفأس الحافرة؟ أئذا حلل عالمان من علماء البيولوجيا - مثلا - كائنا من دنيا الحيوان أو النبات، جاز أن يكون التحليل عند أحدهما تحليلا عربيا وعند الآخر تحليلا غير عربي؟ فلماذا لا تكون العملية الفلسفية على هذا الغرار؟

والإجابة على ذلك هي أن الأمر كان ليكون كذلك، لو أن الموضوع المطروح للبحث أمام الفلاسفة موضوع لا يتأثر بوجهات النظر المختلفة، فلن يكون اختلاف بين فيلسوف عربي وفيلسوف إنجليزي إذا ما أراد كلاهما أن يستخرج من العمليات الفكرية أسس الاستدلال السليم، أو أراد كلاهما أن يستخرج من العدد أسس التفكير الرياضي، أما إذا كان الموضوع المطروح للبحث والتحليل ذا صلة بالأصول الثقافية العامة عند هذه الأمة أو تلك، أعني الأصول التي تبنى عليها وجهة النظر إلى موضوعات هامة، كموضوعات الإنسان والكون والله، فها هنا لا يكون بد من أن تجيء النتائج مختلفة حتى إذا اتفق الفلاسفة جميعا على طريقة واحدة في البحث والتحليل.

وقد تسألني في هذا الموضوع قائلا: ألم تذكر لنا منذ حين أن الفلسفة هي صعود في سلم التعميم، من مستوى القوانين العلمية، إلى مستوى أعلى، يجتمع عنده شمل هذه القوانين في مبدأ واحد، إذا كان ذلك مستطاعا؟ وها أنت ذا تذكر للفلسفة موضوعات رئيسية هامة، لا شأن لها بمثل هذا الصعود، وهي التي تختلف حولها الفلسفات من أمة إلى أمة، وأعني موضوعات الإنسان وقيمته، والكون وبنيته، والله وحقيقته، فما للقوانين العلمية وهذه الموضوعات وأمثالها؟

وأجيبك بأنك قد تعجب إذا علمت بأنك لا تكاد تعلو برأسك فوق تعميمات العلم وقوانينه، حتى تصطدم بهذه المشكلات؛ إذ ما هو إلا أن تجد نفسك أمام أسئلة تسأل: هل تسير الطبيعة - والطبيعة هي موضوع العلوم على اختلافها - هل تسير على خطة مرسومة لا تحيد عنها ذات يسار أو يمين؟ أو أنها تسير على المصادفات؟ بعبارة أخرى، هل تكون قوانين العلوم يقينية، أو تكون على درجات من الاحتمال تعلو وتهبط؟ هل تطرد هذه القوانين لتشمل الكون كله - بما في ذلك الإنسان - أو أنها تتناول جانبا وتعجز عن جانب؟ هل نعد الإنسان ظاهرة طبيعية نخضعه للعلم كأية ظاهرة أخرى، أو أنه كائن فريد يتطلب طريقة في البحث خاصة به؟ هل تمتد حلقات السلسلة السببية، من مسبب إلى سببه، فإلى سببه الأعلى، وهلم جرا إلى غير نهاية، أم أنها قمينة أن تقف عند حلقة أولى نفترض فيها أنها هي السبب الأول لكل ما يتلوه من أحداث، دون أن يكون هو نفسه مسبوقا بما يسببه؟ وهكذا وهكذا، كلها أسئلة تتفرع مباشرة - أو بطرق غير مباشرة - عن تعميمات العلم وقوانينه، فإذا نسقتها وصنفتها وجدتها كلها أسئلة تدور حول الله والكون والإنسان، وهي موضوعات مما تتباين فيه الثقافات. وأيا ما كانت الحال، فهذا هو الأمر الواقع، عرضت للناس من مختلف الشعوب والثقافات، مشكلات بعينها، نشأت حين أرادوا أن يردوا الأشياء والأفكار والمعتقدات إلى أصولها الأولى، ليعلموا من أي المصادر انبثقت، وبأي الطرق سلكت سبيلها إلينا؟ فكان لكل مجموعة من الناس وجهة للنظر، وقع على الفلاسفة مهمة استخراجها، فنشأت بذلك فلسفات تتلون بألوان القوميات المتباينة ، فهذه إنجليزية، وتلك فرنسية، وهلم جرا، فإذا كان من المقطوع به أن قد كانت للأمة العربية وقفة متميزة بإزاء الإنسان والكون والله، أفلا يكون من حقنا أن نطالب لأنفسنا بفلسفة عربية، تفصح لأنفسنا، وللعالم عن دقائق هذه النظرة ومميزاتها؟

لقد كانت لأسلافنا وجهة نظر فلسفية تميزوا بها، وأما نحن - في هذا العصر - فيبدو أن النقل عن التيارات الفلسفية في أوروبا وأمريكا، قد شغلنا، حتى لم يعد أمامنا فراغ نفكر فيه لأنفسنا، وبطريقتنا الخاصة، وها أنا ذا أطرحه اليوم سؤالا: هل من سبيل إلى إنتاج فلسفي عربي أصيل؟ إني لألحظ أن فلاسفة الهند المعاصرة - وعلى رأسهم راذاكرشنان - على شدة اتصالهم بثقافات الغرب، لبثت لهم فلسفتهم الهندية التي لا يخطئها النظر بين سائر الفلسفات، فما تزال وجهة نظرهم إلى موقف الإنسان من الكون مطبوعة بطابعهم، وهو الطابع الذي يجعل الفرد جزءا من الكل الذي يحتويه، بحيث لا تكون له فرديته الخاصة خارج حدود حياته الدنيا. وأما نحن، فقد تجد منا نصيرا لهذه الفلسفة أو نصيرا لتلك، مما تعج به أوروبا وأمريكا، وبرغم اجتهادنا المذكور في حسن الهضم، وجدة العرض، فما نزال بعيدين عن أن يكون بين أيدينا ما نقدمه إلى أنفسنا وإلى العالم على أنه فلسفة عربية خالصة، تعبر عما يدور في أخلادنا حيال ما يعرض للعالم اليوم من مشكلات.

فقد تستطيع أن تقسم عالم الفلسفة في أوروبا وأمريكا اليوم ثلاثة قطاعات كبيرة، يتجانس كل منها في فلسفته السائدة بصفة عامة، فهنالك القطاع الأنجلوسكسوني الذي يشمل الشمال الغربي من أوروبا كما يشمل الولايات المتحدة الأمريكية، وهؤلاء تشغلهم فلسفة المعرفة العلمية، التي يحاولون بها - على اختلافات شديدة بينهم في ذلك - أن يحللوا تلك المعرفة تحليلا يدلهم على مصدرها الأول ماذا يكون؟ وهنالك القطاع الذي يشمل غربي أوروبا: فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، وهؤلاء تشغلهم فلسفة الوجود الإنساني، لا فلسفة المعرفة العلمية، ثم هنالك القطاع الشرقي من أوروبا، تشغله مشكلة المجتمع وكيف يقيم بناءه من جديد.

فجئنا نحن، أعني المشتغلين بالفلسفة من أبناء الأمة العربية ، وأخذ كل منا بما يتفق واستعداده من تلك التيارات الأوروبية والأمريكية، فإذا استعرضت إنتاجنا الفلسفي - على غزارته - رأيتك أمام أصداء تردد - بصفة عامة - أصوات القطاعات الثلاثة التي ذكرتها، أو قد ترى منا من قد ترك العصر وما فيه، وارتد إلى ركن من التاريخ يلوذ به في دراساته، فواحد يدرس الفلسفة الإسلامية في عصورها السابقة، وآخر يدرس الفلسفة اليونانية القديمة، وهلم جرا. وليس في ذلك كله عيب يعاب - بل إنه لواجب دراسي محتوم - لولا أننا كنا نود أن يكون إلى جانب أولئك وهؤلاء، من يعنى بالأمة العربية في عصرها الراهن، ويضرب بأدواته التحليلية إلى جذورها الفكرية، ليصوغ فلسفة معبرة عن وقفتها إزاء العصر ومشكلاته وما يعانيه، فأي غرابة في أن أطرحه اليوم سؤالا جادا: هل ثمة من طريق أمامنا يخرجنا من الطرق المسدودة التي نذهب فيها ونجيء لنسير على طريق فلسفي معاصر، يتميز بالطابع العربي المتميز الأصيل، نختلف فيما بيننا على أرضه، ولكن في حدود أطره ومبادئه؟ •••

قلنا: إن الفاعلية الفلسفية هي في صميمها حفر تحت أرض الواقع الفكري، لعلنا نصل إلى الجذور الدفينة، التي عنها انبثق ذلك الواقع، وليست الفاعلية الفلسفية هي أن يقبع الفيلسوف في عقر داره، يعتصر الأفكار في ذهنه اعتصارا مبتور الصلة بما هو كائن. وإذا كان ذلك كذلك، فهل من شك في أن لنا اتجاهات ثقافية تميزنا بها وما زلنا نتميز؟ وهي اتجاهات لم تتحجر عبر الزمان لتثبت على صورة واحدة، وإلا فلو كان أمرها كذلك، لكان فيما صنعه أسلافنا ما يكفينا أبد الدهر، لكن لا، فاتجاهاتنا الفكرية - مع احتفاظها بأسس ثابتة وأصول - تربط ماضينا بحاضرنا، وتجعل منا أمة عربية واحدة ممتدة على التاريخ، إلا أنها بالإضافة إلى هذه الأسس والأصول، تنمي فروعا تساير بها تغيرات العصر، فماذا يصنع صاحب الفكر الفلسفي، إلا أن يفرغ لتحليل هذه الحياة الثقافية العربية المعاصرة ليرتد بها إلى منابتها فتكون هذه المنابت هي ما قد يسمى بالفلسفة العربية المعاصرة ، على غرار ما صنع أسلافنا بالنسبة إلى ثقافتهم وإلى مشكلاتهم الفكرية في عصرهم؟ فلقد كانت مشكلاتهم الرئيسية هي أن يوازنوا بين ما نزل به الوحي من حقائق، وبين ما كان العقل الإنساني قد أنتجه قبل ذاك، ليروا أين يلتقي هذان المصدران، وأين يفترقان. وكانت النتيجة الأساسية التي انتهوا إليها من تحليلاتهم، هي أن المصدرين كليهما تنبثق منهما حقيقة واحدة بعينها، وإذن فلا تناقض ولا تعارض بين ما تقتضيه العقيدة الدينية، وما يقتضيه العقل بمنطقه.

وأما نحن في عصرنا، فقد نشأت لنا صراعات فكرية جديدة، تولدت عن ظروف العصر ومناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي، وما نزال نعانيها في حدة، هي طريقة اللقاء التي توائم فيها بين علوم حديثه، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزاما علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته، بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها، منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث، هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى.

والمتتبع لحياتنا الفكرية خلال المائة والخمسين عاما الأخيرة، يستطيع أن يرى في وضوح كيف تشققت صفوفنا إزاء هذا اللقاء الفكري، فانشعبنا ثلاث فرق، ما زالت بادية إلى يومنا هذا، ففريق منا آثر أن يعتصم بالتراث الماضي وحده، وأن يغلق نوافذه دون العلم الحديث الوارد إلينا، حتى لقد كانت لفظة «العلماء» - إلى عهد قريب جدا - لا تطلق إلا على من ألم بالتراث الفكري وحده. وفريق آخر ذهب إلى النقيض الآخر، وارتمى في أحضان العلم الوارد، مغلقا نوافذه دون تراثه حتى كان الواحد من هؤلاء لا يكاد يحسن قراءة العربية نفسها. وفي ظني أن كلا الفريقين قد اختار لنفسه أسهل السبل؛ إذ ما أيسر على الفريق الأول أن يعبر عصور التاريخ، قافلا إلى وراء، ليجعل من نفسه نسخة مكررة مما كان، وكذلك ما أيسر على الفريق الثاني، أن يعبر البحر الأبيض المتوسط، لينهل من موارد العلم في أوروبا، بحيث يجعل من نفسه نسخة مكررة مما هو كائن هناك، وكلا هذين الفريقين لا يصنع لنا ثقافة عربية معاصرة، لأنه إذا كان الفريق الأول عربيا فليس هو بالمعاصر. وإذا كان الفريق الثاني معاصرا، فليس هو بالعربي، وإنما العسر كل العسر هو ما تصدى له فريق ثالث، ما زال يتحسس خطاه على الطريق؛ بغية أن يصوغ ثقافة فيها علم الغرب، وفيها قيم التراث العربي جنبا إلى جنب، لا، بل متضافرين في وحدة عضوية واحدة. ولو استطاع ذلك لوفق في إنتاج ما نحن بحاجة إليه. وإذا وضعنا المشكلة في عبارة مبسطة قلنا إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان.

لقد فشل الغرب نفسه - وهو صانع العلم الحديث - في أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم - والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه - لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحيرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلو إلى نفسه ويصغي إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علم يحصله أو مال يكسبه، أو قوة يستبد بها ويطغى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يضاف إليها شيء آخر، هو القيم الخلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانا بالعمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانا بالطول والعرض.

وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين - بين مقتضيات العلم ومقومات الإنسان - والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا ، نحن أبناء الأمة العربية اليوم، وننتظر صاحب الفكر الفلسفي الأصيل النافذ؛ ليغوص إلى أعماقنا الثقافية، فيستخرج لنا الصيغة المنشودة التي نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسة فيها. وذلك هو ما حاوله الإمام محمد عبده، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر في بلادنا، كل بطريقته الخاصة، فحين حاول محمد عبده وضع تراثنا الديني في ضوء العصر الراهن، فإنما أراد أن يلتمس طريقة إلى هذا التوفيق الذي نبتغيه، وحينما حاول العقاد أن يدافع عن الإسلام بدحض ما يقوله عنه خصومه مستخدما في ذلك ثقافته الأوروبية وثقافته العربية ممتزجتين في مركب واحد، فإنما أراد أن يجمع بين الثقافتين على صعيد مشترك، وحين أراد طه حسين أن ينقد أدب العرب الأقدمين على ضوء من الفكر الحديث، فقد أراد بدوره أن يصنع الصنيع نفسه، وعندما كتب الحكيم عددا كبيرا من مسرحياته وحاول فيها أن يعانق بين الروح والمادة، وبين الأزلي والحادث، فقد أراد أن يصل بذلك إلى الغاية نفسها. وهكذا تستطيع أن تتعقب أعلام الفكر في تاريخنا الحديث والمعاصر، فتجد كل واحد منهم قد أراد بطريقته الخاصة أن يضفر ثقافة الغرب الحديث وثقافة التراث العربي في جديلة واحدة. وإني لألاحظ في هذا الصدد أن ثمة كثيرين من رجال الفكر عندنا قد بذلوا جهودا مشكورة في المجال الثقافي، لكنهم لم يبذلوها في سبيل هذا الجمع بين الثقافتين، فذهب بهم النسيان - أو سوف يذهب - بأسرع مما كانوا يظنون. •••

لكن هذه الأمثلة التي ذكرتها، هي أقرب إلى عالم الأدب والأدباء، منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي الذي كنت أعنيه في أول الموضوع، فهل في وسع الفلسفة أن تسهم في ذلك بنصيب؟ وعلى أية صورة يمكن أن يكون إسهامها؟ الحق أننا - نحن المشتغلين بالفلسفة في الجامعات العربية - قد انصرفنا في معظم الحالات إلى الدراسات الأكاديمية التي نعرض بها موضوعات ومذاهب، عرضا هو أقرب إلى التاريخ، منه إلى التكوين الجديد المبتكر لقضايانا الفكرية، تكوينا يجيء - كما قلت - كاشفا عما هو مضمر في نفوسنا من مبادئ ومثل؛ ومن ثم كانت لنا في الفلسفة مؤلفات عربية، لكن لم يكن لنا فلسفة عربية، نجري على فلكها، وندور حول مدارها. وإني لأتقدم فيما يلي بمحاولة - هي غاية في التواضع - أحاول أن أرسم بها تخطيطا أوليا مختصرا، لما قد يصح أن يكون أساسا لفلسفة عربية نقيمها، تعبيرا عن وجهة نظرنا، المنبثقة عن جذور ثقافية غائرة في أعماق نفوسنا.

فأحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأ راسخا، عنه انبعثت - وما تزال تنبعث - سائر أحكامنا في مختلف الميادين، هو مبدأ، لو عرضته على الناس في لغة واضحة صريحة، لما وجدت منهم أحدا يحتج أو يعارض، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما، هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث أو قل هما السماء والأرض، إن جاز هذا التعبير. ولكي نضع هذه النظرة الثنائية وضعها المفهوم، نقول إن الفلاسفة - على مر العصور، وفي مختلف الثقافات - حين أرادوا أن يضموا أشتات المعارف والقيم في مبدأ واحد يجمع شملها، كانوا في ذلك على أربعة أوجه رئيسية؛ فمنهم من جعل الوجود كله كائنا واحدا متجانسا جميعه في أنه روح صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها مادية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها روحية في جوهرها. ومنهم من جعل الوجود كله كائنا واحدا متجانسا جميعه كذلك، ولكنه متجانس في أنه مادة صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها روحية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها مادية في جوهرها. ومنهم من شطر الوجود شطرين، كل منهما متجانس لكنه مستقل عن الآخر، وذلك بأن شطره إلى روح ومادة معا، لكن هؤلاء الثنائيين قد يجعلون هذين الشطرين على مستوى واحد من الأصالة والأولوية، فلا الروح خلقت المادة ولا المادة سبقت الروح، بل هما أزليان معا، يتلاقيان في الكائنات كما نراها. ومن الفلاسفة فريق رابع يرد الوجوه إلى كثرة من عناصر، لا داعي لتجميعها تحت مبدأ واحد أو مبدأين. وأما نحن، فأحسب أننا أميل بفكرنا إلى الثنائية - كما ذكرت - غير أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي، فهو الذي أوجده، وهو الذي يسيره، وهو الذي يحدد له الأهداف.

وقد يقال هنا: ألم تكن الفلسفة الأفلاطونية - وما جرى مجراها - ضربا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ فنقول: نعم، ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حدا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودا حقيقيا بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد متفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا وأجناسا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حد سواء. وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرة متميزة فريدة، تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى، ثم نقسم عالم الأفراد هذا، إلى كثرة من عناصر بالنسبة إلى أفراد الناس - على الأقل - لأنها نظرة تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحر المسئول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعي، فكأنما هي نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، الثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، لتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، إحداهما تفرقة تمييز الخالق من مخلوقاته بشرا كانت تلك المخلوقات أم غير بشر، ثم تفرقة أخرى تميز - في عالم المخلوقات - بين البشر وسائر الكائنات، وذلك لتجعل للإنسان - دون سائر الكائنات - ضربا من الإرادة الحرة المسئولة، التي لا تخضع للقوانين الطبيعية كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة - أمانة الحرية - في شجاعة وإقدام، فهي أمانة عرضت على الجبال، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.

ومن هنا ترانا لا نطمئن بالا حين يقال عن الإنسان إنه ظاهرة تخضع كلها للتقنين العلمي، ونحرص على أن نبقي منه جانبا يستعصي على ذلك التقنين؛ لأنه جانب مريد خلاق، مسئول عن خلقه وإرادته، يبتكر الفعل ابتكارا، قد يغير به تسلسل الأسباب والمسببات كما يتصوره العلم الطبيعي.

ومن هنا كذلك كان من غير المقبول عندنا، أن يقال إن الأخلاق مدارها - في نهاية الأمر - منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها، أرادها لنا الله، وعقلناها، فالفعل عندنا يعد فاضلا في ذاته بغض النظر عن نتائجه، أهي ضارة بصاحب الفعل أم نافعة له؟ وبعبارة أخرى، فإننا نقيم الأخلاق على أساس الواجب، لا على أساس الفائدة، وهذا لا ينفي أن الواجب قد يجيء مصحوبا كذلك بنتائج نافعة، فوق كونها واجبا، لكنه واجب يؤدى قبل أن نفكر فيما يترتب عليه من ضر ونفع.

تلك هي الوقفة الخلقية التي نقفها - نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها: إله خالق وعالم مخلوق، وفي هذا العالم إنسان متميز دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الذي أوحي به من الله، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعة على فاعله، فإذا لم يكن للإنسان اختيار في الواجب المفروض بحكم الشريعة، فهو كامل الحرية في اختياره داخل هذا الإطار. وذلك شبيه بموقف الكاتب، يجد أمامه لغة حاضرة جاهزة، لم يكن له دخل في وضع مفرداتها وقواعد تركيبها، لكنه بعد ذلك حر فيما يأخذه منها وهو يكتب، فتكون عليه التبعة فيما يكتبه، خيرا بخير وشرا بشر.

وكما أن الصورة الكونية التي تصورناها، قد نتج عنها نظام خلقي نسير بمقتضاه، فكذلك ينتج عنها موقف خاص بنا فيما يتعلق بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فجمال الفن عند غيرنا هو في تشكيل اللون أو تشكيل الصوت أو تشكيل الحجر تشكيلات تمتع الحواس أولا وقبل أي شيء آخر، بصرا كانت الحاسة النشوانة (وذلك في حالة التصوير والنحت) أم سمعا (في حالة الموسيقى)، وأما الفن عندنا فهو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة. انظر إلى الفن العربي في زخارفه ورسومه، تجد أساسه البناء الهندسي، بناء تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى في ذلك البناء أنه إذا ما امتدت عين الرائي إلى أحد أطرافه، أحس الرائي أنه يستطيع أن يمد - بذهنه وخياله - تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهاية. وفي هذه الانطلاقة الذهنية، من الجزئي الذي أمامنا، إلى المطلق الذي ندركه بأذهاننا وإن لم ندركه بحواسنا، في هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية فيما أرى.

وهل نعدو الصواب كثيرا، إذا قلنا إن الأدب العربي، في شتى صوره وأشكاله، كان مداره الحكمة العامة الموجزة المركزة في حيز ضئيل من اللفظ؟ الحكمة العامة التي لا يتقيد صوابها بمكان معلوم وزمان محدود؛ لأنها تصدق على كل مكان وزمان. لقد تفرد الأدب العربي بهذا الإطلاق للقول إطلاقا يرتكز على اللمح الوامض كأنه لمعات البرق، على حين أن غيره من الآداب قد عني أول ما عني بالخبرة الذاتية التي تختلج بها نفس واحدة مفردة، هي نفس الأديب المعين، في لحظة معينة وفي موقف بذاته؛ ولذلك وجدت تلك الآداب أن القصة والمسرحية هما خير وسيلتين للتعبير؛ لأنهما تقيدان الخبرات الإنسانية في أشخاص بذواتهم، وفي حوار يدور حول أشياء ومواقف فريدة لا تتكرر. نعم، إن هذه الآداب الأخرى تبتغي الوصول إلى ما هو عام عن طريق ما هو فردي خاص، وأما الأدب العربي الأصيل فقد كان يستهدف العام بخطوة واحدة مباشرة، وحتى الشعر، الذي يفرض فيه أن يكون إعرابا عن ذات الشاعر - والشاعر بالطبع فرد واحد فريد - أقول إنه حتى الشعر عند العرب، كان مرماه البعيد أن يرسم النماذج المطلقة المثلى، ولم يكن أن يصور هذه الحالة الواحدة المعينة أو تلك، من الحالات الجزئية التي يزخر بها تيار الحياة الواقعة، فإذا وصف الشاعر العربي جوادا أو ناقة أو ما شاء أن يصف، وصفه كما ينبغي له أن يكون لا كما هو كائن بالفعل، بكل ما فيه من شائبة ونقص، وهذا يؤيد ما أزعمه هنا، من أن الروح العربية الأصيلة، وإن غاصت في تفصيلات العالم الأرضي بمواقفه وحادثاته، فهي مشرئبة دائما إلى الثابت الدائم الذي لا يتغير مع الأيام ولا يزول.

إن نظرتنا إلى الكون في صميمها، تفرق تفرقة واضحة بين عالمين: عالم الكائنات المتناهية - أعني الكائنات المقيدة في وجودها بمكان وزمان معينين - وعالم اللامتناهي، الذي يتعالى عن أية صفة تحدد له مكانا أو زمانا. هذه التفرقة الحادة الواضحة بين العالمين، لا تجدها في أية ثقافة أخرى بمثل الوضوح الناصع التي تجدها به عندنا. إن الأرض - عندنا - أرض، والسماء سماء، ولا اختلاط بينهما ولا خلط، وكل ما بنيهما من صلة هو أن السماء تهدي والأرض تهتدي. وأما الثقافات الأخرى، من الشرق الأقصى إلى أوروبا قديمها وحديثها، فتسيغ ضروبا أخرى من العلاقات بين الجانبين، كأن ترى اليونان الأقدمين - مثلا - يسيغون أن تنزل الآلهة إلى الأرض لتلهو مع البشر حينا ثم تعود إلى عليائها من جديد.

نعم لقد كان لنا في تاريخنا الفكري متصوفة، أقلقهم هذا الفصل الحاد بين الله والإنسان، فطفقوا يلتمسون وصلا بينهما على مذاهب مختلفة، ففريق يحل الله في الكون وفي الذات الإنسانية بحيث يجوز للإنسان عندئذ أن يقول «أنا الحق»، وفريق يصعد بالذات الإنسانية لتشهد الحق أو لتتحد به. فهذه كلها محاولات أراد بها أصحابها إلغاء المسافة الفارقة بين المتناهي واللامتناهي، لتصبح الحقيقة واحدة. لكن أمثال هذه الوقفات الصوفية - على رفعة قدرها وسمو شأنها - لا تعبر، فيما أعتقد، عن النظرة العربية في عمومها وصميمها.

ومن النظرة الثنائية إلى الكون، بالصورة التي قدمناها، نستطيع أن نستخلص لنا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية، فهذا التحليل للمعرفة - كما يكاد يجمع على ذلك مؤرخو الفلسفة جميعا - هو أهم ما تصدت له البحوث الفلسفية في الثلاثة القرون الأخيرة في أوروبا وأمريكا، وهي القرون التي تكون مرحلة التاريخ الحديث. ذلك أنك إذا تصورت العالم والإنسان طرفين، فلا بد أن تسأل نفسك: ترى كيف يتاح للإنسان أن يعرف العالم الذي حوله ، معرفة يركن إلى صوابها؟ وهنا ترى الفلاسفة على اختلاف شديد في التحليل، وهو اختلاف كثيرا ما يكون له أبلغ الأثر في الحياة العلمية نفسها؛ فهنالك المثاليون الذين يظنون أن المعرفة الجديرة بهذه التسمية، هي ما يبلغ حد اليقين. ولما كان اليقين لا يتوافر إلا للرياضة أو ما في حكمها من معرفة استنباطية، وجب أن تعالج الظواهر الطبيعية على أسس الرياضة ومناهجها. وهنالك التجريبيون الذين يذهبون إلى أن المعرفة العلمية محال أن تنبثق من الذهن وحده، وبالمنهج الرياضي وحده، بل لابد من تجربة نمارسها، وبالملاحظة أحيانا، وبإجراء التجارب المعملية أحيانا، حتى نخلص إلى قوانين الطبيعة في شتى ظواهرها.

وإني لأتساءل - على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة - لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان، لكل منهما وسيلة خاصة به؟ فإذا كان الأمر أمر الحقيقة المطلقة، جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءت المعرفة عن طريق آخر، ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله. ولكم نشبت معارك بين أناس أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتت وبلبلة ولبس وغموض.

وإن الطريق لتستقيم أمامنا؛ إذ نحن جعلنا للعلوم الطبيعية منهجا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجا آخر. أما منهج العلوم فقائم على مشاهدة الحواس وعلى إجراء التجارب وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء، فهي الظواهر وحدها - أعني ما يظهر للحواس الراصدة - هي الظواهر وحدها التي نتعقبها رصدا ووصفا وتحليلا وتصنيفا، لنستخلص منها ما عساه أن يكون هنالك من قوانين مطردة، تنتظم حدوثها ومجراها. وأما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق، كالقيم الخلقية مثلا، فذلك شيء آخر، قد لا نلجأ فيه إلى شهادة الحواس، وإلى التجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عرف وتقليد.

ها نحن أولاء، قد عرضنا مبدأ للثنائية نزعم أنه ضارب بجذوره إلى أعماقنا الثقافية، وقد فرعنا عنه نتائج هامة؛ إذ فرعنا عنه نظرة إلى الإنسان تجعله فردا حرا مسئولا عما يفعل، لا يمحوه، ولا يطمسه، ولا يحد من فرديته كل يحيط به ليحتويه ويغمره، وفرعنا كذلك نظرة في الأخلاق، تجعل أساسها أداء الواجب، كما يفرضه الوحي أو يمليه الضمير، بغض النظر عن الفائدة العائدة من أدائه، ثم فرعنا نظرة في فلسفة الفن والأدب، تجعل الجمال الفني مرهونا بفاعلية ذهنية تبلغ بنا عالم المطلق والمجرد، وليس هو مقصورا على النشوة الناتجة عن الانطباع المباشر على الحواس، وفرعنا نظرة في المعرفة وتحليلها، تفرق بين معيارين، فمعيار منهما يقاس به ضرب من المعرفة، ومعيار آخر يقاس به ضرب آخر.

إن هذه الوقفة الفلسفية المقترحة، والتي أراها محققة لما يدور في أخلادنا من مبادئ، وإن لم نفصح عنه، ربما سدت فجوات كثيرة، مما يعيب المذاهب الفلسفية السائدة في غير بلادنا، فهي - أولا - تضمن لنا الجمع بين العلم وكرامة الإنسان، بعد أن رأينا الجمع بينهما متعذرا في أوروبا وأمريكا، فالعلم هناك قد أدى إلى صناعة، والصناعة تطورت حتى أسلمت أمرها إلى تقنيات دقيقة معقدة، وهذه بدورها قد جزأت الإنسان إلى شرائح رقيقة من التخصص، بحيث كادت حياة الفرد الواحد تنحصر في عملية واحدة يؤديها طيلة نهاره حتى ينهكه التعب ويأخذ منه الملل، فيغفو عن الطبيعة الحية من حوله، بل قد يسهو عن شئون أسرته نفسها؛ وبذلك تمزقت وحدته واشتدت غربته، فأصبح في دنياه شبحا عابرا، كأنه جاء إليه ضيفا ثقيلا، لا يرغب في بقائه إلا ريثما يكدح هذا الكدح الممل الرتيب.

إننا جميعا لنسمع بما قد أصاب الشباب هناك من ذهول يشبه الهذيان لما يرونه ممتدا أمامهم من حياة جدباء، مهما أثرت جيوبهم بالمال وامتلأت بطونهم بالطعام والشراب، فتعمدوا الانسحاب، بالعقاقير المخدرة آنا، وبالانغماس في غيبوبة اليوجا آنا آخر ، أو هم قد يتعمدون الشذوذ، باصطناع العنف حينا، وبغرابة السلوك حينا آخر، وذلك كله يأسا منهم أن يوائموا بين أنفسهم وبين حياة ضيق العلم والصناعة خناقها، فلئن زادهم العلم وزادتهم الصناعة ثراء وقوة، فقد أفقداهم العيش في سلام ومصالحة مع صوت الضمير.

وإني لأزعم هنا، بأن الأخذ بثنائية النظر على النحو الذي قدمناه، قد يفتح أمامنا آفاقا مغلقة، فهي ثنائية تضع الإنسان على قدميه فوق الأرض، وترفع رأسه إلى السماء، أي أنها تتيح له أن يعيش لهما معا، فعلى الأرض يسعى علما وعملا، بكل ما يتطلبه العلم من دقة، وما يتطلبه العمل من صبر ودأب، وفي السماء يهتدي بالمثل التي ترسم أمامه لتكون له على الطريق أهدافا وغايات. العلم والقيم كلاهما - في أوروبا وأمريكا - ينبت من الأرض، كلاهما ينشد القوة والمنفعة، وأما الثنائية المقترحة فتجعل العلم نباتا ينبثق من الأرض وظواهرها، وتجعل القيم غيثا ينزل من السماء ووحيها، العلم نسبي يتغير مع التقدم، والقيم مطلقة تشخص إليها الأبصار، فهي ثابتة حيث الأسس وإن تغيرت من حيث التطبيق بتغير الظروف.

وأحسب كثيرين ممن عرفوا شيئا عما كنت أدعو إليه، قد يذكرونني في هذا الموضع، بأنني قد تنكرت لجانب من دعوتي؛ إذ كانت دعواي دائما هي أن القيم نسبية تتغير بتغير الثقافات، ولكني لا أراني قد بعدت كثيرا عما كررت الدعوة إليه؛ وذلك لأن ثبات القيمة في إطارها العام، لا ينفي تغير مضمونها بحسب تفصيلات العيش في عصر من العصور، فحرية الإنسان - مثلا - هي مبدأ مقطوع به، أو يجب أن يكون، لكن مضمون الحرية يتغير؛ لأنه يتسع مع نمو الإنسانية ونضجها.

قلت: إن الثنائية المقترحة تضمن لنا - أولا - أن نجمع بين العلم وكرامة الإنسان، وهي - ثانيا - تكفل لنا أن نضع الإنسان في موضعه الصحيح وبالنسبة الصحيحة، فلا تضخيم له ولا تهوين من شأنه، رد معي حول أرجاء العالم الفكري في عصرنا هذا، لنرى ماذا يكون موقفنا إزاء كل فلسفة نراها سائدة هنا أو هناك.

نذهب إلى العالم الأنجلوسكسوني - إنجلترا وأمريكا بصفة خاصة - فنجد الفلسفة السائدة فلسفة تحلل العلم وقضاياه، لترى متى تكون الصيغة العلمية المعينة صادقة ومتى لا تكون، لكنها لا تعبأ بالإنسان؛ إذ تترك أمر الإنسان للأدب والفن، فلنا عندئذ أن نقول لهم: لا، إننا نسايركم في فلسفة العلم، لكننا نوجب أن تضاف إليها فلسفة للإنسان الحي، الذي ينبض في صدره قلب، ويطمح في حياته إلى أبعد الغايات.

ونذهب إلى غربي أوروبا - فرنسا وألمانيا - فنجد الفلسفة هناك معنية بالإنسان على طريقة خاصة؛ إذ تكاد تجعل من الإنسان إلها على الأرض، تتعارض حريته المطلقة مع وجود الله، فنقول لهم عندئذ: لا، إننا نسايركم في اهتمامكم بالإنسان، لكننا بدل أن نجعل منه إلها كما تفعلون نجعله رسولا في الأرض لله، يشيع فيها ما قد شرعه له من قيم ومبادئ. ونذهب إلى شرقي أوروبا، فنجد اهتماما بالإنسان كذلك، ولكنه اهتمام - هذه المرة - بالنظم التي تدمج الأفراد في كل واحد، فنقول: لا، إننا نسايركم في وجوب أن تنظم العلاقات الاجتماعية على نحو يكفل للناس العدل والمساواة، ولكننا نحتم أن تضاف مسئولية الفرد أمام ربه وأمام ضميره. وقد نذهب إلى الهند، لنرى هناك فلسفة تدمج أفراد الناس في الكون العظيم، الذي يفرز الأفراد ويبتلعهم كأنهم الموج يظهر ويختفي على سطح المحيط، فنقول: لا، إننا نحرص على أن يكون كل فرد حقيقة قائمة برأسها، وجوهرا مستقلا قائما بذاته؛ لأنه مسئول عما يفعل وعما يدع.

ربما أكون قد أصبت التقدير أو أخطأته، فيما اقترحته ليكون أساسا لفلسفة عربية معاصرة، لكنني على أي الحالتين مؤمن بأنه لا مندوحة لنا على أن نزيل التعارض القائم اليوم في أرجاء الدنيا جميعا، بين العلم الذي يتقدم بخطوات كخطوات الجبابرة، وقيمة الإنسان التي تنهار بوثبات كوثبات الشياطين. (ب) ثنائية الطبيعة والفن

نريد للمواطن العربي أن يولد من جديد، ولادة تنقطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة - لو استقام لها الطبع - هي حدث جديد، يضمن البقاء للأبوين، ثم يضيف إليهما جديدا يتميز به فردا بغير شبيه. ولو جاء الولد صورة لأبويه ، لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها . فعجلات المطبعة قد تخرج لك من الأصل الواحد ألوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرا وسياقا. إنها كثرة عددية، لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها، فالواحدة منها تغني عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، لكن أبت لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها، وقد تميزت من أخواتها في شيء، قل أو كثر.

هذا هو الشأن في كل ولادة جديدة. أقول: لو استقام لها الطبع - طبع الحياة - لكن هذا الطبع قد لا يستقيم لها؛ إذ تفعل العوامل الدخيلة فعلها، فإذا أفراد البشر كأنهم التماثيل الصماء، سويت - في قالب واحد - من صلصال، قد يتوافر لها استواء البدن، فالساقان والذراعان كل في موضعه، والوجه تمت له قسماته وأجزاؤه: عينان وأذنان وأنف وفم، لكنها لم تزل برغم ذلك هي تماثيل الصلصال، جاءت كلها تكرارا مملا لأصل واحد، فإذا كان لصاحب الأصل ما للفنان الأصيل من فضل ومنزلة، فليست النسخات التي سويت على غراره بذات شأن يذكر، وإنما هي قطع من التقليد الرخيص، مكانها حوانيت العرض التي تبيع الواحدة بقرش أو قرشين.

ولكم شهد التاريخ فترات وفترات: فترات تمور بالحياة وتفور، وأخرى يصيبها من الجمود ما يشبه الموت، ففي الحالة الأولى يكثر الخلق والإبداع، ويكثر الأفراد الأعلام الذين لا يغني منهم أحد عن أحد. وفي الحالة الثانية تتشابه الفلاة، فكلها من حبات الرمل أو حصباء المدر. وإن شئت فانظر في التاريخ العربي القريب، إلى الثلاثة القرون التي امتدت به بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، والتي هي عصرنا المظلم، الذي توسط بين قديم خصب، وحاضر يحاول أن يكون خصبا. انظر في التاريخ العربي القريب إلى هذه الثلاثة القرون، تجدها سحابة واحدة دكناء، لفت في دخانها أفراد الناس فباتوا وكأنهم عجينة بشرية واحدة، لا فرق فيها بين قطعة وقطعة، كماء البحر تذوق طعمه كله إذا وضعت منه على لسانك قطرة، فكأنما الأناسي خلال تلك الفترة قد تحولوا أشباحا سودا في غرفة مظلمة، تدرك وجودها من همهمة تسمعها، لكنك لا تميز منها حرفا أو مقطعا.

ومن هذه العجينة البشرية التي تجانست أجزاؤها جهلا وخرافة، أردنا - ونريد - للمواطن العربي أن يولد من جديد ولادة يتخطى بها تلك الفترة المنكودة، إلى حيث أسلاف تركوا على درب الحضارة مواقع أقدام لن تمحوها رياح، ثم يجاوز هؤلاء الأسلاف أنفسهم، بجديد يساير به ركب العصر الذي يعيش فيه ... كلام هو أيسر اليسر حين يكتب أو يقال، لكنه أعسر العسر حين يراد له أن ينتقل من مداد منثور على الورق ليصبح كائنات بشرية تنشط في فجاج الأرض وتسعى. •••

على أن عملية الولادة الجديدة هذه، قد بدأت بالفعل منذ قرن ونصف قرن، ومع ذلك فهي ما زالت بعيدة عن مرحلة اكتمالها؛ إذ هي لم تزل - بعد قرن ونصف قرن - في حالة من العثار والفوضى، تحجب عن الأعين الفاحصة وضوح الرؤية، فلا تدري ماذا تكون بعد عشرة أعوام أخرى أو عشرين، ذلك أن نقطة البداية كانت هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية بعد بيات شتوي دام ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، فعندئذ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتا، كل منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا - بعد قرن ونصف قرن - مشتتة الفكرة مفرقة الرأي، تتباين - وهي متجاورة - تباين الألوان في الطيف.

فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الأوروبية الحديثة أشد الجزع، ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن التراث العربي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة وكأن عشرة قرون أو اثني عشر قرنا لم تذهب من عمر الزمان، وكأنما الأرض لم تزل هي الأرض والسماء هي السماء. وأما الطرف المتطرف الآخر فيفرح بالثقافة الأوروبية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يقلبونها ولا يحللونها، ويلمسونها من السطح ولا يتعمقونها، كما يفعل الذين لا يجيدون السباحة فيكتفون ببضعة أمتار يبعدون بها عن الشاطئ، ثم يأخذون في الضرب على الماء بالأذرعة والأرجل. هؤلاء - في فرحتهم الغامرة باللعبة الجديدة - يفزعهم أن تذكر لهم شيئا عن تراث عربي ينبغي له أن يبعث ليحيا بنا ولنحيا به. وبين هذين الطرفين المتطرفين تجد صنوفا شتى من الأمزجة التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك بنسب متفاوتة.

فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله ويحسب أن الجمع بينهما أمر ممكن، كما صنع العقاد. ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض، كما صنع طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض، كما صنع محمد عبده. ومنهم من يجري تعديلا في التراث وفي الغرب معا، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم.

ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معا، فلا هو قد تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين، وأمثال هؤلاء تراهم هذه الأيام بكثرة بين كتاب الشعر والقصة والمسرحية، ومن هنا سر سطحيتهم، ولكن من هنا أيضا سر الإبداع الذي يحاولونه ولو بدرجات يسيرة.

خليط عجيب، وهو خليط يدل على أننا لم نفق بعد من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الأوروبي الحديث، كما يدل على أن فترة المخاض قد امتدت بنا هذا الزمن كله دون أن تلد المواطن العربي الجديد الذي لا ينكره أحد ولا يتنكر له أحد والذي نقدمه إلى العالم المعاصر قائلين: ها نحن أولاء قد تمثلنا في هذه السحنة والملامح ... نعم هو خليط فكري عجيب، هذا الذي يحيط بنا اليوم، حتى لترى نفسك في غير حاجة إلى «آلة الزمان» - التي تخيلها ه. ج. ولز - لتسير بك راجعة إلى الوراء أو متقدمة إلى أمام، فتنعم بالماضي إذا شئت، وتطير إلى المستقبل إذا شئت. أقول إنك لن تجد نفسك في حاجة إلى هذه الآلة التي تنتقل بك في تيار الزمن؛ لأنك واجد حولك من نماذج المفكرين من يمثلون لك أي عصر شئت. ولن يقتضيك الأمر أكثر من حركة يسيرة تذهب بها من منزل إلى منزل يجاوره، أو من شارع إلى شارع يحاذيه، لتجد أنك قد انتقلت من العصر الجاهلي إلى أواخر القرن العشرين، فنحن نعيش العصور كلها في وقت راهن واحد، ونحن نجسد الحضارات كلها في مدينة واحدة، فأين من هؤلاء جميعا من يستحق أن يوصف بأنه المواطن العربي الجديد؟ •••

لن يكمل للمواطن العربي الجديد كيانه، إلا إذا أضاف إلى نفسه صفات، وتخلى عن صفات. وليس الجانب السلبي هنا بأقل قيمة من الجانب الإيجابي، بل قد يكون التخلي عن الصفات المعوقة أبلغ أثرا من إضافة الصفات المرغوب في إضافتها، كالعليل الذي يهمه أن يطرد من بدنه جراثيم المرض، قبل أن يهمه نوع الطعام الصحي الذي ينبغي بأن يقتات به ليسترد العافية. وعلى أي الحالين فكثيرا ما يتشابك الجانب السلبي مع الجانب الإيجابي، بحيث يقترن الطرد بالجذب، والتخلي بالإضافة، اقترانا لا تدري معه أين انتهى الأول ليبدأ الثاني.

وإني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلمت بالأولى كان لزاما أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة ... وأولى هذه الحلقات وأعمقها جذورا وأكثرها فروعا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول. هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة، ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول.

تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول إنها وقفة أفلاطونية أكثر منها أرسطية؛ إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض، ففي السماء الأصول وعلى الأرض الأشباح والظلال. إنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم، والحاكم هنا مطلق السلطان، والمحكوم معدوم الحول والحيلة. ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلا، وأن يكون المحكوم ملاقيا جزاءه وفاقا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاه واحد، يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل، مهما تكن ظروف الواقع وتفصيلاته التي تحيط بهذا الأسفل إذ هو يؤدي الفعل على الأرض بكل خشونة سطحها وحزونته سهلا ووعرا.

تلك هي الحلقة الأولى من السلسلة، تلزم عنها حلقة ثانية، وهي أن قوانين الأشياء والظواهر في الطبيعة، قد تطرد أو لا تطرد، بحسب ما يشاء لها الحكم السماوي المطلق. فليقل العلم ما أراد، ليقل إن قوانين المطر هي كذا وكذا، وإن قوانين هبوب الرياح هي كيت وكيت. ليقل إن الجرثومة الفلانية قاتلة، وإن العلة الفلانية تستلزم معلولها. نعم، ليقل العلم ما أراد أن يقوله في أشياء الطبيعة وظواهرها - بما في ذلك الإنسان - وسيظل الحكم الحاسم للمشيئة الإلهية آخر الأمر، فتتوافر الظروف التي يقول العلم عنها إنها تقتضي نزول المطر، ومع ذلك لا ينزل، أو لا تتوافر تلك الظروف الضرورية ولكن يشاء الله فتنفجر السماء بمدرار من الماء. إنه - في ظل ثقافة كهذه - تبتر الروابط بين الأسباب ومسبباتها، بين الوسائل وغاياتها، فقد تسلك الوسيلة المؤدية لكنها برغم ذلك لا تؤدي، وقد توفر الأسباب المنتجة ثم تفاجأ بأنها عقيم لا تلد. والعكس صحيح كذلك، أي أن الغاية المنشودة قد تفجؤك وأنت قابع في عقر دارك لم تتخذ لها وسيلتها، وأن النتائج المرجوة قد تمثل بين يديك صاغرة برغم أنك لم تحرك من أجلها ساكنا، ولم تسكن متحركا، العلاقة مبتورة بين الغرس والثمر.

وإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلا بد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه. فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا، الكلمة عندنا لصاحب القوة، القول النافذ لصاحب الجاه، الحق مع صاحب النفوذ. وإننا لنخدع أنفسنا عبثا ، إذا ظننا أن النظم الديمقراطية التي قد نصطنعها جادين مخلصين، تكفل لنا الديمقراطية محتوى ومضمونا، فالوعاء وحده لا يكفل لك نوع الشراب، وقد تكون صحاف ولا يكون ثريد. القانون عندنا يسن لمن لا يستطيع عصيانه، والنظام بيننا يقام لمن لا يقوى على هدمه. نعم، إن المواطنين جميعا سواء أمام القضاء، لكنهم ليسوا متساوين في أن تصل أصواتهم إلى مسامع القضاة؛ إنك صاحب رأي بيننا إذا كنت صاحب منصب، فعندئذ يتكلم الكرسي الذي تتربع عليه قبل أن يجري لسانك في فمك، عندئذ توزن كلماتك بموازين الذهب والجوهر، عندئذ يهرول إليك الصحفيون والإذاعيون لتنطق لهم بالدرر، الصحفي إلى جانبك والورقة والقلم في يده حتى لا تفلت منه درة، والإذاعي يدنو إلى شفتيك بسماعته حتى لا تتبدد في الفضاء حكمة. ويذهب عنك المنصب كما جاء، فتذهب عنك رجاحة العقل وإصابة الرأي وبلاغة الكلام.

إن الحدث في حياتنا يحدث، فنسأل: «من» أحدثه؟ قبل أن نسأل «كيف» حدث؟ وذلك لأن الفعل مرتبط بالإرادة - إرادة من بيده إرادة نافذة - وليس مرتبطا بالتسلسل السببي الذي يربط حادثة بحادثة أخرى سببت وقوعها أو اشتبكت معها في مركب واحد بوجه من الوجوه، فالمدار عند العربي هو للإرادة لا للفكر، فليس المهم أن «تعقل»، ولكن المهم هو أن «تريد» شريطة أن تملك القوة التي تنفذ إرادتك. كان ينبغي أن يكون الترتيب الطبيعي هو أن العقل العاقل فكرة صحيحة، فيسلمها إلى صاحب الإرادة ليخرجها بالتنفيذ إلى عمل، لكن هذا الترتيب الطبيعي للأمور قد انعكس على يدينا، فأصبح البدء للمريد، والبقية على العاقلين، ولما كانت الإرادة هي - بحكم طبيعتها - رغبة وهوى، كانت السيادة عندنا للرغبة والهوى.

قوام الأخلاق عندنا هو «الواجب» لا «السعادة»، ولطالما اختلف فلاسفة الأخلاق في أيهما أحق بأن يكون المدار: أنفعل الفعل لأن سلطة عليا قد «أوجبته» علينا، فلم يعد لنا محيص عن فعله، سواء أأسعدنا في حياتنا الدنيا أم أشقانا؟ أم نفعل الفعل لأن التجربة قد دلت على أنه يعود علينا بالحياة الطيبة؟ إنها إذا كانت الأولى، كان «الواجب» هو الواجب، مهما تغيرت ظروف العيش ومهما تطور المجتمع وتبدلت أوضاعه. وأما إذا كانت الثانية، كان من حقنا أن نغير من الفعل لنلائم بينه وبين ما يحقق لنا سعادة العيش ورخاءه. وأعود فأقول إننا من القائلين «بالواجب» المفروض علينا من صاحب السلطان، وكان المفروض أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل في المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر، بل إننا لنفزع - أو ندعي الفزع - إذا قيل لنا إنه لا بد في مجتمع متطور أن يتطور معيار الحكم الأخلاقي على الناس والأفعال، فنتج عن ذلك موقف مشحون بالمفارقات؛ إذ انسلخت دنيا الحياة الواقعة التي يتعامل فيها الناس بالبيع والشراء والزواج والطلاق وتربية الأبناء وما إلى ذلك من صنوف التعامل، انسلخت دنيا الحياة الواقعة هذه عن دنيا القيم الأخلاقية، فالفعل في ناحية والقول في ناحية أخرى. وقد ألفنا هذا الازدواج إلفا، توهمنا معه أنه هو طبيعة الأمور؛ ومن ثم كان النفاق الذي نقع فيه كل لحظة، لا نكاد نحسه أو نعيه، فلا يثير منا دهشا أن تنفرج الزاوية بين المدرسة بقيمها والبيت بفعله، وأن تكون هذه الزاوية أشد انفراجا بين المسجد والسوق.

وجاءت حياتنا الفنية انعكاسا لهذه النظرة الشاملة، التي تعلي من شأن الخارج على حساب الداخل، فالمعيار يهبط عليك من عل، ولا ينبثق من طويتك، فكانت الأولوية في حياتنا الفنية كلها - بوجه عام - هي لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون، فالرسوم أشكال هندسية، والقصائد تفعيلات موزونة. وتسربت هذه «الشكلية» إلى مناشط الحياة جميعا، فما دمت قد حافظة على «الشكل» المقبول - عند القانون أو الشرع أو العرف - فقد أديت واجبك، بغض النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لباب الفعل نفسه وما يؤدي إليه من نتائج ضارة أو نافعة. المعول عندنا على «المظهر» لا على الحقيقة، فاظهر للناس في أوضاع الغنى تكن غنيا، وفي أوضاع الحرية تكن حرا، وفي أوضاع العالم تكن عالما، المهم هو أن يسلم «الشكل» من الشوائب، وهذا - بالطبع - يحتاج إلى مهارة وبراعة ، ولهذا كان السذج منا، الذين يتعالون على «الشكل» بحثا عن المضمون وحقيقته، سراعا إلى السقوط فالموت. •••

جذور يجب أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد، فإذا ما خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتنبت لنا نبتا آخر. وكما كانت سلسلة الصفات التي لم نعد نريدها مرتبطة بعضها ببعض، بحيث كانت الحلقة منها تستتبع التي تليها، فمن انفصام السماء عن الأرض نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة وفي المجتمع الإنساني على السواء، وعلت الإرادة على الفكرة، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة هي واجبات مفروضة، وبات الفن شكلا بغير مضمون. أقول إنه كما كانت تلك السلسلة من الصفات المبعدة متصلة الحلقات على النحو الذي رأينا، فكذلك سلسلة الصفات التي نريد لها أن تضاف.

ولسنا نرى ما يمنع أن نبقى على هذه الثنائية فيما يختص بعلاقة الإنسان بربه، لكننا نوجب أن تضاف ثنائية جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وأعني بها ثنائية العلم والحرية، لكنه قول يحتاج إلى شرح وتفصيل:

هذا العالم بيت والإنسان ساكنه (ويساكنه في البيت نفسه كائنات أخرى لا شأن لنا بها الآن)، ومن حق الساكن أن يستخدم أثاث البيت على الوجه الذي يراه نافعا ومؤديا، لكنه لكي يستخدم هذا الأثاث، لا بد من أن يعرف ما هو؟ وكيف ينتفع به؟ وهذه المعرفة إذا ما أحكمت كانت هي «العلم» - العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات. وإنه لحديث طويل أن نفصل القول تفصيلا في الخطوات التي ينبغي للباحث العلمي أن يخطوها في سبيل علمه بالطبيعة وكائناتها، فحسبنا الآن أن نسوق كلمة «العلم» وكأنها واضحة المدلول.

لكن «علم» الإنسان بالطبيعة وظواهرها وتفاعلاتها، يستوجب أن يكون هذا الإنسان نفسه «ذاتا» عارفة عالمة باحثة منقبة. هنالك ذات تعلم وموضوع يعلم، ومهما زعمنا الصلة الدامجة لهذين الطرفين في كائن واحد، فما يزال هناك هذان «الطرفان»، الذات العارفة والموضوع المعروف، الإنسان والعالم، كطرفي العصا، والعصا واحدة.

إلى هنا والأمر أوضح من أن يذكر، لكن النتيجة التي تلزم عن هذه القسمة ليست واضحة دائما ، وأعني ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره، وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن، وتستجمل وتستقبح ما شاءت لها أهواؤها وميولها.

فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هو ما نريده للمواطن العصري. وبالتقيد بحقائق العلم يتشابه الناس على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم، وبالحرية في انطلاق الذات وراء طبيعتها يختلف الناس، فردا عن فرد أولا، وأمة عن أمة ثانيا. حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية فذلك «علم»، والعلم واحد للجميع، وأما حين أتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن»، والفن منوع بتنوع الأفراد والأمم. العلم موضوعي والفن ذاتي، والخلط كل الخلط في أن أفسد العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يملى عليه من خارج. وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر.

فإذا كان العربي متخلفا عن عصره، فذلك لأنه لا علما بالطبيعة اكتسب ولا فنا معبرا عن ذاته أنشأ. فالعلم - حتى إذا ألممنا بأطراف منه - هو من اكتساب غيرنا ثم حفظناه حفظ التلميذ لدرسه. والفن - إذا زعمناه - هو سلعة منقولة عن سوانا (ولا فرق بين نقل عن أسلافنا ونقل عن معاصرينا) فإذا كان في المنقول فن فالفن لغيرنا، عبر به عن ذاته هو، وأما نحن فذواتنا ما زالت مطمورة تنتظر الفنان الأصيل.

فإذا اتخذنا من هذه النقطة منطلقا؛ حقيقة علمية عن الواقع نتشابه جميعا في الخضوع لها، وعبارة فنية تصور الذات، نتشابه جميعا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجة لازمة، وهي أننا سواسية أمام العلم وأمام الفن معا، لا يفاوت بيننا أن فلانا أعلى منصبا أو أقوى جاها أو أكثر ثراء من فلان، بل يفاوت بيننا أن فلانا أصاب الحق في العلم، والصدق في الفن. بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالفن الذاتي نعرف الإنسان ونقومه. بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها وذواتها ومصانعها وتجارتها وزراعتها، وبالتعبير الفني عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرق بين الحسن والقبيح ، والمقبول والمرذول. العلم ملك مشاع للإنسانية جمعاء، والفن يحمل ملامح منشئه، وبهما معا يتحقق الإنسان متحضرا ومثقفا.

ففي اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين، توافر لهم التزام بالحقائق العلمية الموضوعية، التزاما يديرون عليه خطط البناء الحضاري الجديد، وتحرر من كل التزام في التعبير عن ذوات أنفسهم، تحررا يسقط ذواتهم على عالم الأشياء، ليفاضلوا في حياتهم بين شيء وشيء، في ذلك اليوم الذي تخرج لنا فيه البيوت والمعاهد مواطنين يدركون أين يكون الفاصل بين القيد والحرية، بين الصحو والحلم، بين الواقع والخيال، بين الموضوع والذات، بين «هو» و«أنت» و«أنا». في مثل ذلك اليوم يمكن أن يقال إنه قد تم للمواطن العربي ميلاد جديد.

الفصل التاسع

قيم باقية من تراثنا

(أ) قيمة العقل في تراثنا

أما أن الأمة «العربية» لا تكون «عربية» إلا إذا لحقت بثقافتها صفات تبرر هذه التسمية المميزة، ثم لا تكون هذه الصفات مبررة للتسمية تبريرا كافيا، إلا إذا كانت هناك حلقة رابطة بين العربي اليوم والعربي بالأمس، فذلك قول يحمل صدقه في لفظه، لا يحتاج منه إلى براعة في التدليل ولا مهارة في البرهان، وإلا فمن ذا الذي يطالبنا بالدليل وإقامة البرهان على أن ما هو «عربي» لا بد أن يكون «عربيا». •••

لكن الذي يتطلب منا العناية حقا، ويقتضي شيئا من العناء والحذر، حتى لا تزل القدم، هو الجواب عن سؤالنا: «كيف»؟ كيف تقوم الحلقة الرابطة بين أمسنا ويومنا؟ كيف تكون الصلة بين الأسلاف وبيننا - في مجال الفكر والثقافة - بحيث تجيء هذه الصلة طبيعية فيها نبض الحياة، لا متكلفة ولا مصطنعة، فنصون تراث الأسلاف من جهة، ولا نطغى على شخصية الأحفاد من جهة أخرى؟

قد يكون الجواب عن هذه الأسئلة قريبا ميسورا عند بعضنا، وهم أولئك الذين يحسبون أن إعادة طبع الكتب القديمة - مهما بلغ الجهد في تحقيقها - فيها الكفاية. أليس «الجاحظ» قاعدا هنا على رف - هكذا أتخيلهم يقولون - و«التوحيدي» مستريحا هناك على رف؟ ألست ترى «الخليل وسيبويه» يعمران ذلك الركن، و«الأمالي » و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» تعمر هذا الركن من أركان المكتبة؟

أما كاتب هذه السطور فلا يرى الجواب على سؤالنا: «كيف»؟ بهذا القرب كله وهذا اليسر كله، فإذا ما استوت كتب الأسلاف محققة على رفوف المكتبات، فعندئذ «يبدأ» العمل ولا ينتهي، عندئذ نطالع هذا التراث، ونلم به، لنسأل أنفسنا بعد ذلك: كيف يتاح للعربي المعاصر أن يتابع أسلافه ليسير معهم على خط فكري واحد، فيصبح عربيا بقدر ما كانوا هم عربا، ويحق له القول في صدق إنه هو الحفيد وإنهم هم الأسلاف؟ •••

وإنني ليحضرني الآن مثلان، أذكرهما لأسترشد بهما في تلمس الطريق إلى جواب صحيح، فأما أول المثلين فهو شرح - بين غيره من الشروح - النظرية الأرسطية في الشعر (وفي الأدب والفن جملة) وهي النظرية القائلة بأن الفن «محاكاة» للطبيعة، وهنا يسأل النقاد الشارحون: ماذا قصد إليه أرسطو ب «المحاكاة» حين جعلها محورا للأدب وللفن كله؟ كان بين الشارحين شارح فهم المحاكاة على أنها محاكاة في طريق الفعل والأداء، لا على أنها إعادة وتكرار للنتيجة التي انتهى إليها الفعل والأداء، فقد أنتجت الطبيعة شجرة الورد - مثلا - وجئت أنا الأديب أو الفنان، وأردت محاكاتها، فهل تكون المحاكاة أن أصف شجرة الورد كما وقعت في الطبيعة، أو أن أرسمها باللون على لوحة؟ إن هذا يكون إعادة وتكرارا لما هو كائن، فلماذا أصف شجرة الورد، وشجرة الورد نفسها قائمة هناك في بستانها لمن يشاء؟ أو لماذا أرسمها باللون على لوحة، والأصل هناك أوفى من صورته؟

لا، ليست هذه المحاكاة هي المحاكاة المقصودة، إنما المحاكاة بمعناها المقصود هنا - وهو المعنى الخصب المفيد - هي أن أرى ماذا «تفعل» الطبيعة وهي تخلق نتاجها، «لأفعل» مثلها حين أخلق نتاجي، فإذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن وحدة عضوية تتصل أجزاؤها جميعا اتصالا لا يجعل أحدها يستغني عن سائرها، ثم إذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن فردا فريدا يستحيل أن يماثله كل المماثلة فرد آخر من أفراد نوعه، فضلا عن أفراد الأنواع الأخرى ، إذا رأيتها تفعل ذلك، ثم أردت محاكاتها في نتاجي من أدب وفن، وجب أن تجيء القصيدة من الشعر، أو المسرحية، أو اللوحة، أو التمثال، أو القطعة الموسيقية، بحيث تكون وحدة عضوية من جهة، وبحيث تحمل الخصائص الفردة الفريدة التي تجعل الثمرة الناتجة كائنا لم يماثله، ولن يماثله، كائن آخر على طول التاريخ.

هذا أحد المثلين اللذين حضراني، وأما المثل الآخر، فهو جون ديوي حين أراد التجديد في الفلسفة على وجه العموم، وفي المنطق على وجه الخصوص، ليجيء تجديده مسايرا للعلم الحديث، ذكر لنا في كتبه كيف أنه حين خرج على التقليد الأرسطي في تصوره للمنطق، فهو لا يخرج على أرسطو نفسه بل يحاكيه ويقتفي أثره، على أن فهمه للمحاكاة واقتفاء الأثر هو أن يصنع لهذا العصر مثل ما صنع أرسطو لعصره، لا أن يجيء قارئ آخر يضاف إلى عشرات الألوف ممن قرءوا أرسطو ودرسوه، ووقفوا عند هذا الحد، كأنهم نسخات مضافة إلى النسخات التي أخرجتها المطابع من مؤلفات الفيلسوف اليوناني، لا، بل سأل جون ديوي نفسه، أو هو كمن سأل نفسه: ماذا فعل أرسطو لعلم عصره لأفعل مثله لعلم عصري؟ أئذا كان أرسطو قد حلل علم عصره، فوجد علما استنباطيا كله، يقيم النتائج اللفظية على مقدمات لفظية توجبها وتحتمها، ثم صاغ هذا المنهج الاستنباطي الذي «يقيس» النتائج على المقدمات، صياغة كانت هي «المنطق»، أفيكون حتما علينا كذلك أن نفرض هذا المنهج القياسي اللفظي فرضا على علوم عصرنا، وهي في تجاربها ومعاملها وحساباتها ومعادلاتها؟ بل الأصوب أن «نحاكيه» في الوظيفة التي أداها لعلم عصره، بأن نؤدي نظيرها لعلم عصرنا، وفي هذا إجلال له وتعظيم، وفيه متابعة السير على طريق شقها هو ولبث فيها إماما.

حضرني هذان المثلان، عندما سألت نفسي: كيف يواصل «العربي» المعاصر «العربي» القديم، ليضاف إلى التليد، وليكون طريق السير موصولا في تاريخ واحد، لأمة واحدة؟ وكانت بداية الجواب عندي هي الاهتداء بهذين المثلين في فهم «المحاكاة»، فما علينا إلا أن نتعقب هؤلاء الأسلاف، لنرى ماذا صنعوا تجاه دنياهم ، لنصنع نظيره تجاه دنيانا، فعندئذ نحافظ على السمات الأصيلة التي تميزنا، دون أن تقتصر هذه المحافظة على إعادة الناتج نفسه مرة أخرى في نسخة أخرى. •••

وإني لأزعم ها هنا بأن أبرز ما كان يميز العربي القديم وقفته تجاه العالم من حوله، هو أنه نظر إليه نظرة «عقلية»، فإذا كان أمره هكذا، ثم إذا أردنا مواصلة السير على هدى من تراثنا لنربط حاضرا بماض، لزمت علينا الوقفة نفسها تجاه عالمنا، فلئن كانت مشكلاتهم غير مشكلاتنا، واهتماماتهم غير اهتماماتنا، فذلك لا ينفي أن نصطنع «النظرة» التي اصطفوها فنتحد معهم في «وجهة النظر»، وإن لم نتشابه وإياهم فيما ينظر إليه من مشاكل ومسائل. لكن الأمر بحاجة إلى شرح وتوضيح: •••

وأول التوضيح هو أن نبين في جلاء، ماذا نريد بقولنا «عقل»؟ فلا يجدينا شيئا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفا، لنبني عليها أقوالا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟

ولا حيلة لنا - فيما أظن - عندما نتعرض لتحديد لفظ هام عام كهذا، تشعبت فيه الآراء، إلا أن نحدده نحن على الوجه الذي نريد له أن يؤديه، ولغيرنا أن يحدده على الوجه الذي يريد؛ إذ العبرة في هذه الحالات وأمثالها هي بطريقة استخدامك للفظ، في سياق حديثك، بحيث تتسق معك أطراف الحديث، وبحيث يظل للفظ معناه الذي حددته له من أول حديثك إلى آخره، أما أن نقول إن فلانا حدد اللفظ بكذا، وفلانا الآخر حدده بكيت، فذلك «تاريخ» يصلح للقواميس، لكنه ليس طريقا لاختيار معنى معين واستخدامه بالفعل.

ومع ذلك، فمما تجدر ملاحظته في هذا الموضع، أنه مهما اختلفت تعريفات الناس للفظة «عقل» حين أرادوا استخدامها في شيء من الدقة، فأظنهم جميعا - في عصرنا الراهن على الأقل - متفقون على إبعاد معنى لا يجوز أبدا أن ينصرف إليه مفكر واحد، وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنا، مستقلا بذاته، قائما برأسه، اسمه «عقل»، كما يشير اسم «هملايا» - مثلا - إلى جبل معين معلوم، فلتتعدد التعريفات كما يريد لها أصحابها، على أن تلتقي كلها عند نقطة واحدة، هي أن «العقل» اسم يطلق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط، يعالج به الإنسان الأشياء على وجه معين، فإذا كنت أنفق مالي على أساس العقل، فليس هنالك بالفعل إلا طريقة تناول، وأسلوب في التصرف والسلوك، فكأننا إذ نسأل ماذا تريد ب «العقل» - نسأل في الحقيقة: بماذا يتميز التصرف وأوجه السلوك، حين يوصف الموقف بأنه قائم على «عقل»؟

لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه عن «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن محمدا - عليه السلام - كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام. أليس العقل - كما يقول الجاحظ - هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع رسالة المعاش والمعاد، الجزء الأول من رسائل الجاحظ ص91)، «وإنما سمي العقل عقلا» - كما يقول الجاحظ أيضا (رسالة كتمان السر وحفظ اللسان، الجزء الأول من رسائل الجاحظ، ص141) - «لأنه يزم اللسان ويخطمه ... عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يعقل البعير.»

فأما التحديد الذي أريد أن أحدد به معنى «العقل» - حين أستخدم هذه الكلمة في هذا السياق - فهو الحركة التي أنتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل إلى مدلول عليه، من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة. وأهم كلمة في هذا التحديد هي كلمة «حركة»، فإذا لم يكن انتقال من خطوة إلى خطوة تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئا دون أن «تنتقل» من هذه الحالة الإدراكية إلى حالة تليها وتتوقف عليها، فلا عقل، إذا حملقت ببصري في ثمرة صفراء، فلا أجاوز منها إلا أنها شيء أصفر، فلا عقل، وإنما يكون العقل إذا انتقلت من رؤية تلك الكرة الصفراء إلى العلم بأنها شيء يؤكل. إذا جاءني أحد بنبأ، فصدقته إيمانا، ووقفت منه عند هذا الحد، فلا عقل، إنما يكون العقل حين أنتقل من ذلك المسموع إلى ما يؤيده أو ينفيه. إذا زعمت أن حقيقة ما أشرقت على ذهني بلمعة مفاجئة، لم يكن من قبلها من مقدمات تؤدي إليها، فلا عقل، حتى إن صدقت تلك الإشراقة؛ لأن صدقها حينئذ يعتمد على أداة أخرى من أدوات الإدراك - كالبصيرة مثلا أو الإلهام - غير أداة العقل. فالعقل انتقالة دائما، هو انتقالة من عبارة لفظية إلى عبارة تلزم عنها، إذا ما كنا في مجال «نستنبط» فيها حكما من حكم، أو هو انتقالة من شاهد محسوس إلى واقعة تترتب عليه وتتبعه، إذا ما كنا في مجال «نستقرئ» فيه حكما من مشاهدات.

واختصارا، فإن حد «العقل» هو أن ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، من ظاهر إلى خفي خبيء، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماض ذهب وانقضى ولم يعد مرئيا مشهودا. ومن ثم كان العقل هو الذي يتعقب الحدث إلى أسبابه، أو إلى نتائجه، في الحالة الأولى يكر راجعا من الحدث الظاهر إلى علة حدوثه وقد اختفت، وفي الحالة الثانية يتشوف المستقبل قبل حدوثه، مرتكزا في ذلك على الحدث الماثل في لحظته الراهنة، وأما أن نرى الشيء وقد انكشف وتجلى، فلا عقل في ذاك، بل لا فرق فيه بين عاقل ومخبول. ويحلو لي أن أستشهد بالجاحظ مرة أخرى، في قوله عن الحكيم إنه من يحسن الخطو إلى الهدف الذي يبتغيه، «ويبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون» (رسالة المعاش والمعاد). •••

بهذا التعريف الذي يحدد «العقل» قلنا إن العربي القديم قد تميز به كلما تأمل أو نظر. ومن شأن هذه الوقفة العقلية أن ترد الأشتات إلى وحدة تضمها ضمة المبدأ الواحد لنتائجه المتفرعة، أو العلة الواحدة لسلسلة معلولاتها. إنه - وقد رأى العالم كثرة كثيرة من كائنات - لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الموحد، وحين رأى اللغة تجري على قواعد، أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها، ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على فقه يجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» - وما «فهم» بشيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره - فوقف من العالم، ومن حياته وقفة بصيرة واعية، وهكذا ينبغي أن تكون وقفة العربي المعاصر من عالمه ومن حياته، إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه، وصلا حيا نابضا خصبا ولودا. •••

رسم أرسطو طريق العقل في سيره المحكم، حين صنف رسائله المنطقية، وألف ما سمي بالأورجانون، فمن ذا الذي يلقط الخيط من بعده إذا لم يلقطه العرب الأقدمون؟ فقد كان أرسطو حين يحلل مراحل الفكر المسدد لقومه اليونان، كأنما يوجه تحليلاته تلك إلى المفكر العربي من بعده، ليجعلها هذا المفكر لا مجرد هداية يهتدي بها، بل ليجعلها من أهم علامات المثقف في عصره - وعلامات المثقفين تختلف باختلاف العصور - فلا ثقافة لمثقف إلا أن يتقن - فيما يتقنه - طرائق الاستدلال المنطقي السليم، ولئن نعت أرسطو بأنه المعلم الأول لمنطقه، فقد نعت الفارابي بأنه المعلم الثاني لتقديمه ذلك المنطق إلى العرب.

لماذا لم تستجب الهند - مثلا - للمنطق الأرسطي استجابة العرب؟ قل في الجواب ما شئت، لكن جزءا من الجواب عندي هو أن وقفة العربي من الأمور طابعها العقل، ولو لم يسبقها أرسطو بمنطق يسدد خطاها لكان حتما على العرب أنفسهم أن يستخلصوا لأنفسهم تلك الخطى. •••

وأكاد أسمعك تسألني: أليس «العقل» بخطواته الاستدلالية تلك التي رسم أرسطو بعضها، وبقي على المحدثين أن يرسموا بعضها الآخر؟ أليس هذا «العقل» طابع الإنسان من حيث هو إنسان؟ هل تفيدنا شيئا إذا ميزت العربي أو غير العربي بما هو صفة للإنسانية كلها؟ فأجيبك بان للإدراك وسائل أخرى غير العقل، منها الإدراك بالحدس (أي بالبصيرة) إدراكا مباشرا لا نحتاج فيه إلى مقدمات وبراهين، ثم تأتي الشعوب المختلفة بثقافاتها المتباينة، كما تأتي العصور المتعاقبة المتميز بعضها من بعض بالروح التي تسودها، فيكون لكل شعب، أو لكل عصر، ما يجعل له الأولوية من تلك الوسائل الإدراكية، فمنها ما يعول على تجربة الحواس قبل تأملات العقل ولمعات البصيرة - كالشعب الإنجليزي كما نراه في فلاسفته - ومنها ما يعول على استدلالات العقل القائمة على مقدمات مفروضة أو مشهودة - والعرب من هؤلاء فيما أزعم - ومنها ما يجعل الأولوية للإدراك الحدسي، قبل الحواس وقبل العقل، كالذي نراه في ثقافات الشرق الأقصى، بل كالذي نراه عند المتصوفة جميعا، في كل عصر وفي كل شعب، غاية ما هناك أن هذه النزعة الصوفية الحدسية قد تكثر حتى تسود في شعب أو قد تقل حتى يغض عنها البصر في شعب آخر. •••

ولماذا أذهب بعيدا، وقد نرى الرجل الواحد - إذا اشتد به الوعي - مترددا متحيرا بين هذه الأدوات الإدراكية الثلاث، بأيها يأخذ إذا ما جد الجد وحزب الأمر؟ فهذا هو إمامنا الغزالي يصف لنا مثل هذا التردد أدق وصف وأروعه - في كتابه «المنقذ من الضلال» - وقد انبهمت معالم الطريق أمامه، ويحكي حكايته وكأنما هو في حوار مع تلك الأدوات الإدراكية، تناقشه ويناقشها، «فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ...» ... «فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات، فلعله لا ثقة بالعقليات ... فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ... ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم - إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم - أحوالا لا توافق المعقولات.»

هذا هو رجل واحد يداول الأمر بينه وبين نفسه ليختار من وسائل الإدراك وسيلة يطمئن إليها (وقد اختار آخر الأمر وسيلة الحدس، أي وسيلة المتصوفة في الإدراك المباشر)، فأي غرابة إذا قلنا إن الشعوب أو العصور يتميز بعضها من بعض بسيادة وسيلة إدراكية على الوسيلتين الأخريين؟ إنه لا غرابة، ولقد تميزت الثقافة العربية القديمة - فيما أزعم - باختيارها لوسيلة العقل، برغم ما شهدته من متصوفة جاءوا كرد الفعل الذي يحدث شيئا من التوازن، أكثر مما جاءوا ليكونوا هم اللسان المعبر عن وقفة العربي ونظرته.

بل إني لأعتقد أن الشعب الذي يتميز بالنظرة العقلية، إذا ما رأيناه - في بعض رجاله، أو في بعض حالاته - لائذا بطراوة الوجدان ورخاوته، من ضغط العقل وقسوته (والإدراك الحدسي هو إدراك بالوجدان)، فإنما نرجح عندئذ أن قد أصابه شيء من الوهن والضعف، فالركون إلى حدس الوجدان كثيرا ما يغري عامة الناس دون القادة الأعلام، وهو يغري عامة الناس في عصور التدهور.

الركون إلى حدس الوجدان يعزى أكثر ما يعزى للنساء (عندما كن مرتكزات على الغريزة وحدها) والأطفال وصنوف من الحيوان، فهؤلاء جميعا لا يحسنون ربط الأسباب بمسبباتها؛ ولذلك يكثر منهم السلوك المفاجئ الطارئ غير المطرد وغير المتوقع، وأحيانا يكون هو السلوك المودي بصاحبه إلى تهلكة، ومع ذلك، فإذا ما غلبت روح الانهيار جماعة من الناس، كثر فيهم من يكاد يأخذ بلمحات الأطفال الحدسية، قبل أن يأخذ بنتائج العلماء العقلية، اعتقادا منهم أن الأولين إنما يدركون بالروح الشفافة الصافية، وأما الآخرون فيدركون بالعقل الرذل الثقيل. ومن هذا التشكك في قدرة العقل - في حالات الضعف والمرض والشيخوخة والهزيمة والجهل والفقر والسذاجة - تشيع الخرافة، ويشيع الإيمان بحدوث الخوارق المعجزة التي تقصر العقول العلمية المنطقية دون فهمها.

شهدنا هذه الحالة في فترة الظلام من تاريخنا الفكري - في الثلاثة القرون التي امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر - فكانت هي الحالة التي ركز عليها المصلحون ضرباتهم لتزول، وعلى رأس هؤلاء كان الإمام محمد عبده. وليس الأمر في ذلك بمقصور علينا، فكذلك حدث في الفكر الأوروبي أن ظهرت دعوات قوية إلى الركون إلى حدس الوجدان، قبل الأخذ بأحكام العقل، كما رأينا - مثلا - في برجسون وغيره، وما ذلك - في رأينا - إلا لخور أصاب الفكر الغربي، فاستجار من العقل بالوجدان، لعله يجد الطمأنينة في فترة سقوطه. •••

على أن الاعتراض الأقوى لما نزعمه من أن الروح العربي الأصيل روح عاقل، قد يجيء من قبل الشعر، أكثر مما يجيء من جهة التصوف؛ إذ لا مراء في أن سمة من أهم سمات الثقافة العربية القديمة، سيادة الشعر وأهمية مكانته، وماذا يكون الشعر إن لم يكن صادرا عن «وجدان»؟ فحتى الجاحظ الذي يمكن القول عنه إنه نقل الثقافة العربية من شعر إلى نثر، تعبيرا عن انتقالها من بداوة إلى حضارة، حتى الجاحظ بكل نثره وكل عقله وكل منطقه، لم يغمض عينه عن الحقيقة البارزة في ثقافة العرب، وهي أنها ثقافة شعر، فيقول في ذلك وهو في معرض الموازنة بين الأمم في خصائصها المميزة: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب» (الحيوان، ج1، ص75)، وكذلك يقول في موازنة أخرى بين مميزات الأمم، إن العرب «وجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصاريف الكلام» (رسالة «في مناقب الترك»).

وهذا هو أبو العلاء، يكتب - في رسالة الغفران - عن الجنة والجحيم، فإذا هو لا يكاد يطلعنا منهما إلا على زمرة من الشعراء، يلتقي بعضهم ببعض ليتبادلوا نقد الشعر وروايته. إنك لا تصادف في جنة أبي العلاء أحدا من رجال السياسة والحكم، بل توشك ألا تصادف فيها أحدا من عباد الله إلا الشعراء، وحتى من غفر له من الشعراء، فقد غفر له بسبب بيت أو أبيات من شعره، ومن لم يغفر له منهم، وزج به في الجحيم، فإنما كان - كذلك - لزندقة وردت فيما نظم من شعر. وحين جيء بآدم عليه السلام في سياق الوصف، فإنما جيء به ليحكم في بعض قضايا اللغة والشعر، بل حين يجعل أبو العلاء ركنا للجنيات والعفاريت، فهو يجعل هؤلاء من الشعراء، أو ممن خلده الشعر. وفي جنته قيان ومغنون، لكنهم هناك لإحياء مأدبة دعي إليها الشعراء، فجنة أبي العلاء - كما يقول نكلسون - «صالون» فخم أعد لطائفة عربيدة من الشعراء، لكنها على عربدتها ظفرت بالخلود بسبب شعر قالوه فأجادوا. الشعر هو كل شيء أو يكاد، في جنة أبي العلاء. وكذلك قل في الجحيم، فليس فيها من غير الشعراء الزنادقة إلا إبليس - وإلا نفرا من جبابرة الملوك - وحتى إبليس هناك قد لبس شخصية الأديب حين ينفث الشر في أدبه. وشعراء الجحيم: ومنها امرؤ القيس، وعنترة، وعلقمة، وبشار، لم تشغلهم جهنم عن مناقشة بعضهم بعضا عن أشعارهم وأشعار سواهم، وكل منهم يدفع عن شعره عبث الناقلين وأخطاء الرواة.

للشعر - إذن - مكانة عليا في الثقافة العربية فكيف نوفق بين صفة الشعر الغالبة، وبين زعمنا بأن العرب قد تميزوا بنظرة عقلية؟

وأنا أسأل هذا السؤال لأسد الطريق على من يسأله، كأنما بين الأمرين تناقض يحول دون أن يجتمعا معا، فكم وقع لنا - في خبراتنا الشخصية المحدودة - من أمثلة لرجال جمعوا بين العقل العلمي إذا ما كان المجال مجال عقل وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانهم أحداث الحياة! وإذا صدق هذا على أفراد من الناس، فماذا تكون الأمم إلا مجموعات من أفراد؟ وهو على كل حال أصدق في الأمة العربية منه في أي أمة أخرى مما نعرف، فنحن هنا إذ نثبت للثقافة العربية حظها من العقل، لا يطوف لنا ببال أن ننفي عنها الوجدان الشاعر.

نقول: إن هذا الجمع بين العقل والوجدان لا يتمثل في تراث ثقافي بمثل الوضوح الذي يتمثل به في الثقافة العربية وتراثها، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل - فلسفة وعلما - على تراث أوروبا من يونانها فنازلا إلى يومنا، فقد كان في شرقنا العربي هذا الجمع المتزن بين عقل ووجدان. ولست أقول ذلك عن زهو ودفاع، وإنما أقوله من وقفة المؤرخ للثقافة، المحلل لخصائصها، ينظر فيما قد حدث بالفعل، وما قد نتج بالفعل، ثم يصدر الأحكام.

لقد تمثلت الثقافة العربية فلسفة أرسطو بكل ما فيها من علم وعقل، بنفس القوة التي تمثلت بها صوفية أفلوطين بكل ما فيها من ركون إلى الحدس بالوجدان. إن الأمر هنا لم يكن أمر جوار، بحيث نجد الفلسفة الأرسطية في غرفة وفلسفة أفلوطين في غرفة مجاورة لها، بل الأمر أمر دمج ومزج في نظرة واحدة.

وإن هذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، لتلائم المزاج العربي واللغة العربية ملاءمة كاملة، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا، يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالم من العالمين أهلا غير أهل العالم الآخر بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذلك، غير أن الواحد تمهيد للثاني، كما تكون المقدمة للكتاب؛ فإذا أساغ غير العربي أن يكون لقيصر عالم ولله عالم، وأن تكون مملكة الأرض غير مملكة السماء، فالعربي يفضل أن يجعل العالمين كليهما لله ولقيصر، ليكون الله حاكما في كليهما، وقيصر محكوما في كليهما. وجاءت اللغة العربية فشاركت في هذه المزاوجة مشاركة عجيبة، فهي حين تزخرف نفسها وتصقل بدنها، يخيل إليك أنها ليست لغة لأهل هذه الأرض، إنما هي إلى ملكوت السماء أقرب وأدنى فإذا شاءت أن تمشي مع الناس في أسواق التجارة ودواوين الحكم والسياسة، استقامت وكأنها قد باتت لغة أخرى. ولا عجب بعد ذلك أن نحس شيئا من الحيرة حيالها: ألها من القداسة نصيب، أم أنها اتفاق صرف تواضع عليه أصحابها؟ •••

على أنني - بعد هذا كله - كلما قرأت شعرا عربيا، أحسست بما لست أحس نظيره إذا ما قرأت شعرا إنجليزيا؛ إذ يخيل إلي عند قراءة الشعر العربي، أن الشاعر يعمل عقله في التركيب والصياغة، وأن «الصنعة» جزء لا ينفك قائما في بناء الشعر العربي، مهما أوتي الشاعر من تلقائية الطبع. نعم، يخيل إلي هذا دائما، وقد لا يعدو الأمر أن يكون خيالا عندي، لكني أجد له في كثير من الأحيان ما يبرره، فأولا: أجد في الشعر العربي من اللقطات الحسية - أعني مما يقع عليه البصر أو السمع فعلا في دنيا الأشياء - أكثر مما ألحظه في شعر سواه، واللقطة الحسية من الواقع المشهود، هي أول خطوة في طريق العقل. وثانيا: يحتوي الشعر العربي على قدر من «الحكمة» أكثر مما أجد في سواه، والحكمة حقيقة موضوعية يعمم بها الشاعر حكمه على الناس والعالم، لا تختلف في أحيان كثيرة عن تعميمات علم النفس وعلم الاجتماع. وثالثا: لم يكن نادرا بين شعراء العرب أن يقصدوا بشعرهم أهدافا غير الشعر نفسه، أعني أن الشعر قلما كان عندهم من أجل الفن الشعري، بل كان في حالات كثيرة وسيلة لغايات، تتبدل تلك الغايات بين يوم ويوم فتتبدل معه الوسيلة. وهذا من قبيل النشاط العقلي، أكثر مما يكون من دنيا الوجدان، ولو صدق ظني هذا، كان العربي القديم - حتى وهو شاعر - رجلا يملك العقل زمامه. •••

قد كان لا يطعن في عقلانية النظر عند العرب، ألا ينظروا إلى لغتهم النظرة التي تحاول أن تعلل قواعدها على أسس منطقية؛ لأن اللغة مسموعة منقولة بمفرداتها وقواعد تركيبها، فلا ضير على قوم أن يقولوا عن لغتهم، هكذا سمعناها ونقلناها، فقد نرفع الفاعل وننصب المفعول لغير علة مفهومة إلا أن نجري في ذلك مجرى الأسلاف، دون أن يكون الأخذ بالتقليد في هذا الجانب مأخذا ينتقص من صفة العقلانية فينا، فما بالك - إذن - أن تجد العرب قد حاولوا - حتى في جانب اللغة وقواعدها - أن يلتمسوا العلل المفسرة؟ إنه إيغال منهم في طلب العلة المعقولة حيثما صادفتهم ظاهرة، اجتماعية كانت أو طبيعية.

وحسبنا أن نطالع في ذلك كتابا واحدا، هو كتاب «الخصائص» لابن جني، لنرى - ونعجب - كيف راح يبحث لكل وضع من أوضاع اللغة عن علة تفسره، فهو يسأل - ابتداء - عن اللغة العربية أكلامية هي أم فقهية؟ (راجع الخصائص، ج1، 488 وما بعدها).

ويعني ذلك ما إذا كانت أوضاعها قابلة للتعليل أو غير قابلة، بحيث يكون علينا أن نأخذ هذه الأوضاع بغير تعليل كما نأخذ - مثلا - عدد الركعات في الصلاة، ثم يجيب قائلا: «اعلم أن علل النحويين ... أقرب إلى علل المتكلمين، منها إلى علل المتفقهين.» ومن هذا المبدأ ينطلق باحثا فاحصا معللا بالمنطق لا بالنقل والتقليد، فلماذا - مثلا - رفع الفاعل ونصب المفعول؟ لأن «الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع العلة لقلته، ونصب المفعول لكثرته. وذلك ليقل في كلامهم مما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون» (ج1، ص69). وهو يبين أن الضمة والواو ثقيلتان على لسان العربي، والفتحة والألف خفيفتان عليه ج1، ص69).

ولماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية، دون الرباعي والخماسي؟ الجواب هو: «لأنه حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه، وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفا، وليس الأمر كذلك ... وأقل منه (من الثنائي) ما جاء في حرف واحد ... فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه - لعمري - ولشيء آخر، وهو حجز الحشو الذي هو عينه، بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما ولتعادي حاليهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركا، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنا؟ فلما تنافرت حالاهما، وسطوا العين حاجزا بينهما، لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذا فيه» (ج1، ص55-56).

ومما هو أدخل في باب العقل، عند النظر إلى اللغة العربية وخصائصها المميزة، ركونها إلى المقاييس المعنوية أكثر مما تركن إلى المقاييس اللفظية (الخصائص، ج1، ص109)، وأنهم عند اختلاف الرأي ليستمعون إلى البرهان المنطقي الأقوى، حتى ولو خالف ذلك ما أجمع الناس عليه، حتى لو لم يأت ذلك على لسان إمام من أئمة اللغة الأسبقين. أما الناس فقد «يجتمعون على الخطأ» (ج1، ص189)، وأما عن الأئمة كالخليل وأبي عمرو بن العلاء، فكل من اهتدى إلى علة منطقية صحيحة، والتمس في تدليله نهجا قويما «كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره» (ص190). أعني أنه يوضع في الإمامة لنفسه موضع الخليل وأبي عمره، وليس لأحد أن يحتج على صاحب الدليل العقلي، بأنه إنما أقام دليله على شيء لم يعرف له نظير فيما قاله العربي؛ لأنه «إذا دل الدليل ، فإنه لا يجب إيجاد النظير ... لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه، فأما إن لم يقم دليل، فإنك محتاج إلى إيجاد النظير» (ص197).

وأستطيع أن أستطرد إلى ما شاء الله في بيان أن فقهاء اللغة العربية قد حاولوا أن يجدوا لأوضاع اللغة وقواعدها مبادئ عقلية تفسرها، وليس المهم في ذلك أن يوفقوا هنا وأن يخفقوا هناك، بل المهم هو أنهم قد اختاروا الوقفة العقلية المنطقية.

وإذا كانت تلك هي عقلانية العربي القديم فيما لم يكن يلزمه بالنظر العقلي، فمن باب أولى أن نجد هذه الوقفة أوضح وأجل فيما يستوجب عقلانية النظر، كعلم الكلام، والفلسفة، فضلا عن العلوم، رياضية كانت أو طبيعية، مما نشير إليه هذه الإشارة العابرة ولا نطيل الوقوف. •••

ونعود إلى ما بدأنا به، وهو محاولة الجواب عن سؤال طرحناه: كيف يتاح للعربي المعاصر أن يتابع السير على طريق العربي القديم، لتجيء عصريته عصرية وعربية معا؟ والإجابة المقترحة هنا هي: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه، لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقة دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة بذاتها، ولا إلى الاكتفاء بالتراث القديم لذاته. فإذا كانت قد عرضت للأقدمين - مثلا - مسألة «الكبائر» ومرتكبيها، أيعدون كفارا لارتكابهم تلك الكبائر، أم يظلون على إيمانهم برغم ما اقترفوا؟ وذلك بمناسبة موقف الخوارج من جهة، وموقف المرجئة من جهة أخرى، حيال من أخذوا بالتحكيم بين علي ومعاوية، ثم إذا كان المعتزلي واصل بن عطاء قد اختار لهذه المسألة موقف العقل المتروي، قائلا إن مرتكب الذنب الكبير ليس كافرا - كما يقول عنه الخوارج - ولا هو مؤمن - كما يقول عنه المرجئة - ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، وتعليل ذلك عنده هو أن الإيمان مجموعة كبيرة من الصفات، فإذا ارتكب المؤمن ذنبا في إحداها، وبقيت له سائرها، فإنما يكون إيمانه قد نقص ولم يرتفع عنه ارتفاعا كاملا ... فهل يجوز للعربي المعاصر أن يقف من الأمر عند تلاوة هذا الخبر مرة ومرة وألف مرة، ليزعم أنه بذلك يحيي التراث؟ كلا، بل الإحياء الصحيح هو أن يأخذ العربي المعاصر من موقف العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ مثل هذه الوقفة العاقلة المتزنة المتوسطة بين تطرفين، ليطبقها بعد ذلك فيما يعرض له هو من مشكلات عصره، كمشكلة الفرد والجماعة - مثلا - أنجعل الفرد محورا أولا وآخرا لنضمن له حريته، أم نطويه في الجماعة طيا لنضمن العدل لبقية الأفراد؟ فها هنا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة، ليقول: الصواب منزلة بين المنزلتين. مثال آخر: أنرغم شبابنا على التزام التقاليد في بنائهم لعلاقاتهم الاجتماعية، كالطريقة التي يقيم بها الزواج والأسرة، والتي ينظم بها علاقة الكبير بالصغير، والحاكم بالمحكوم، والغني بالفقير، والمخدوم بالخادم؟ بحجة أن التقاليد عرف أجمعت عليه أجيال متعاقبة؟ ها هنا أيضا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة يأخذ صورتها - دون مادتها - من التراث، فيقول إن مجرد إجماع الناس لا يكفي أن يكون دليلا مقنعا؛ لأن الناس - كما قال ابن جني بالنسبة إلى اللغة - «قد يجتمعون على خطأ»، وإنما العبرة بما يقوم على «عقل»، والعقل - كما حددناه - هو القدرة على الانتقال من وسيلة إلى هدف، فإذا كان الهدف المقصود هو أن تزدهر في المجتمع صناعة - مثلا - ثم إذا كان هذا الازدهار مرهونا بأن تحطم بعض التقاليد، برغم الإجماع عليها - فلتحطم؛ لتكون وقفتنا حيال المسألة وقفة عقلية، على نحو ما وقف أسلافنا.

ولكنني ألحظ عكس ذلك تماما في حياتنا الجارية، ألحظ مقاومة للعقل وأحكامه واستقبالا حسنا للوجدان وميوله. لو قيل لنا إن العلماء يحاولون بالعلم - والعلم عقل - أن ينزلوا إنسانا على سطح القمر، رأيتنا وقد لوينا الشفاه امتعاضا، سواء أفصحنا عن امتعاضنا ذلك بالعبارة أو لبثنا صامتين، كأنما جهاد العقل في هذا السبيل قد داخلته الأبالسة بالشر والخبث والدهاء! أو إذا قيل لنا إن العلماء يحاولون بالعلم - والعلم مرة أخرى هو عقل - أن يحلوا قلوبا سليمة محل قلوب مريضة، أو ما شابه ذلك، هززنا الأكتاف بالسخرية، وكأن تلك المحاولة فيها ما يشبه الكفر بمنزلة الإنسان وقيمته.

وإنما ضربت هذين المثلين لأنني رأيت بعيني، وسمعت بأذني، عالمين من علمائنا - وأقصد بالعلماء هنا علماء البيولوجيا والفيزياء وما إليها - رأيتهما وسمعتهما (في موقفين مختلفين) يندد أولهما بمحاولة الوصول إلى القمر، قائلا: إن ذلك قد يزحزح هذا الجرم السماوي عن فلكه الذي أراده له الله، فيكون من الكوارث ما يكون، ويندد ثانيهما بمحاولة استبدال الأعضاء السليمة بالمريضة قائلا: إن ذلك محال لأنه ضد طبائع الأشياء والكائنات! وإذا كان ذلك شأن رجال العلم منا، فأترك لك أن تتصور مواقف عامة الناس.

كان للعقل أعظم القيمة عند أسلافنا، فذلك ما ينبغي أن يكون له بين المعاصرين، لنقول إن الأمة العربية واحدة، تاريخها الفكري موصول بين الأولين والآخرين. (ب) ياقوتة العقد للعلم والعلماء

سمي كتاب «العقد الفريد» بهذا الاسم؛ لأن فصوله تؤلف عقدا من خمس وعشرين جوهرة، منها اثنتا عشرة في جانب، واثنتا عشرة في الجانب الآخر، وبينهما واسطة العقد، وقد تكررت الأسماء في المجموعتين الأولى والثانية، فلؤلؤة هنا تقابلها لؤلؤة هناك، وزبرجدة هنا تقابلها زبرجدة هناك، وهلم جرا. يقول صاحب الكتاب في مقدمته لكتابه: «وسميته كتاب «العقد الفريد» لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزءان، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا، وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد» ... وأخذ المؤلف بعد ذلك يذكر أسماء تلك الكتب وموضوعاتها، واحدا واحدا، فكتاب «اللؤلؤة في السلطان»، و«كتاب الفريدة في الحروب»، وكتاب «الزبرجدة في الأجواد والأصفاد»، وكتاب «الجمانة في الوفود»، وكتاب «المرجانة في مخاطبة الملوك»، وكتاب «الياقوتة في العلم والأدب»، ... وهكذا دواليك حتى يصل إلى كتاب الواسطة في الخطب، ثم ينتقل إلى المجموعة الثانية يكرر بها أسماء المجموعة الأولى، بادئا هنا بما انتهى إليه هناك، ومنتهيا هنا بما ابتدأ به هناك، فأول العقد هو كتاب اللؤلؤة في السلطان، وآخره هو كتاب اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والملح - هندسة بديعة في التقسيم والتبويب.

وقضيت ساعة بالأمس مع كتاب الياقوتة الذي خصص للمختارات التي قيلت في العلم والأدب، وقد قصدت إلى هذا الاختبار عامدا، في أيام نروج فيها للعلم وللنظرة العلمية وللحياة العلمية وللتخطيط العلمي وللإشادة بالقائمين على الحياة العلمية. أقول إني قد قصدت إلى هذا الاختيار بالأمس عامدا، لأعيش مع السلف ساعة أستمع إليهم في موضوع هو مشغلة اليوم، لا من حيث مادة الموضوع نفسها، ولكن من حيث القيم التي كانت تضبط عمل العاملين به، فنحن إذ نقول ونعيد - في إصرار وإلحاح، وفي إيمان وعقيدة - إن جهودنا الثقافية اليوم، ينبغي أن تسير بنا نحو ثقافة «عربية معاصرة» تحمل موضوعات العصر واهتماماته، مصوغة في قيم موروثة عن السلف، لنحقق بها معاصرة وطابعا قوميا في آن معا، ولنجمع خصوصية تاريخنا إلى عمومية الحياة العصرية المشتركة بين سائر الأقوام في نتاج واحد، نحن إذ نقول هذا ونعيده لا يجدر بنا أن نترك القول عند هذا الحد من التجريد والشيوع، بل لا بد أن نضيف إليه محاولات في التطبيق، وها هنا يتبين متى تكون تلك المبادئ معقولة ومقبولة، ومتى لا تكون. •••

إنني لعلى وعي كامل بمدى الاختلاف البعيد بين معنى «العلم» وصورة «العالم» على أقلام الكتاب الأقدمين، وبين ذلك المعنى وهذه الصورة على أقلامنا اليوم، فلم يكن الكاتب القديم وهو يتحدث عن العلم والعلماء يعني إلا قليلا جدا مما نعنيه اليوم، كما أننا لا نعني اليوم حين نتحدث عن العلم والعلماء إلا قليلا جدا مما كان يعنيه كاتب الأمس، فكاتب الأمس إنما أراد بحديثه - على الأعم الأغلب - علوم الدين وعلماء الشريعة، وكاتب اليوم إنما يريد بحديثه - على الأعم الأغلب كذلك - علوم الطبيعة والإنسان، فبين الكاتبين - كاتب الأمس وكاتب اليوم - هامش ضيق من الاتفاق في الموضوع، ثم يختلفان بعد ذلك في موضوع الحديث ومادته، ولكن هل يتحتم أن يختلفا بالضرورة في معايير التقويم، ما داما قد اختلفا في مادة الموضوع؟ لا أظن ذلك، فإذا تحدث كلاهما عن منزلة العلم في حياة الناس، وعن مكانة العلماء، وعن قيمة الحق، وعن أهمية الشك حتى نبلغ اليقين، وعن حرية العالم في الوصول إلى ما يؤديه إليه تفكيره من نتائج، وما إلى هذه الجوانب من ضوابط، كان كلاهما على اتفاق، مهما اختلف موضوع البحث عند كليهما، وإلا، فلو كان اختلاف الموضوع العلمي يستتبع اختلافا في هذه الضوابط التقويمية، لجاز لنا اليوم أن نطالب علماء الكيمياء بما لا نطالب به علماء طبقات الأرض.

أما بعد، فإلى القارئ صورة لساعة عشتها مع كتاب الياقوتة من العقد الفريد، وهو الكاتب الذي خصص - كما قلنا - للحديث في العلم والأدب، على أنني قصرت اهتمامي في هذه المرة على العلم وحده، ومع ذلك لم أتجاوز بضع صفحات، تفاعلت فيها مع المادة المقروءة أخذا وردا، وقبولا ورفضا. •••

ويبدأ المؤلف - ابن عبد ربه - كتاب الياقوتة هذا، كما يبدأ سائر الكتب، بما يسميه «فرشا»، أي مقدمة يمهد بها لموضوعه، وفي «الفرش» للياقوتة، وهو لا يزيد على صفحة ونصف صفحة، لمحات هي أنفذ اللمحات، وقفت إزاءها متسائلا في عجب وإعجاب، أتكون هذه هي الأصول والمبادئ عند أسلافنا، ثم نجد بيننا اليوم من يعد مثل هذا الحديث خروجا يكاد يبلغ عندهم حد الإلحاد والكفر؟ وأعني هنا بصفة خاصة ذلك المبدأ الذي يوجزه ابن عبد ربه ليكون أساسا لكل معرفة علمية، ألا وهو أن تبدأ المعرفة بإدراك الحواس، ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية، بحيث تنتقل من المحسوس إلى التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينهما يكون ما نسميه فكرا، فإذا ما ترويت في مضمون هذا الفكر وجدته مثيرا للإرادة، وما دامت الإرادة استثيرت، فلا بد عندئذ من الأخذ بأسباب العمل.

إنني لأوجه الدعوة إلى قارئي ألا يتعجل، وأن يقف هنا لحظة، ليشبع وليرتوي بهذا المبدأ المنهجي، وها أنا ذا أعيد أمامه أركانه الأساسية: لا معرفة مما يصح أن يسمى علما إلا إذا بدأت بتجربة الحواس، أي بضرورة أن ترى بالعين شيئا وأن تسمع بالأذن شيئا، وبعبارة أخرى فإن العلم لا ينبثق من باطن الإنسان كما تندفع حمم البركان من جوف الأرض، بل هو يجيء إلى الإنسان من خارجه، من الدنيا التي حوله، عن طريق الحواس، وإذا أنت قد شبعت من هذا المبدأ وارتويت، رفضت بعد ذلك القبوع في عقر الدار تستنزل رحمة العلم من السماء، وأخذت تسعى في دنيا الشهادة وفي معامل التجربة والاختبار.

هذه واحدة، والأخرى أنك بعد أن تبني لنفسك بناء فكريا من حصيلة المحسوسات هذه، كان المقياس الذي تقاس به سلامة البناء، هو مدى استطاعتك تحويله إلى إرادة تريد وإلى عمل يعمل. وأكررها مرة أخرى، المعرفة العلمية هي في صميمها مخططات لأعمال، وليست هي بناءات تبنى في الذهن ليتأملها الإنسان ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح.

ويمضي ابن عبد ربه في «فرشه» الموجز الدقيق العميق، الذي يقدم به لمختاراته الخاصة بالعلم والعلماء، يمضي ليقول: «والعقل متقبل للعلم، لا يعمل في غير ذلك شيئا» - انظر! العقل لا يولد العلم من جوفه كما يولد العنكبوت خيوطه من معدته وأمعائه، بل إنه «يتقبل» حصيلته من الخارج، من الدنيا بكائناتها الحية والجامدة، من معطيات الحواس سمعا وبصرا ولمسا، لا، بل إن هذه العملية هي نفسها تعريف للعقل عند المؤلف، فهو - أي العقل - يتقبل العلم من المحسوسات الآتية إليه، ثم لا يحاول الخروج عن هذه الدائرة المعطاة ليتبرع من عنده بشيء آخر، وإلا لبطل أن يكون عقلا، العقل مقيد بالمشاهدة والتجارب، مقيد بالواقع المحسوس، مقيد بالظواهر وإنه ليكفر برسالته وبوظيفته إذا هو مزق هذه القيود ليشطح بلا قيود ولا حدود.

هذا هو الفكر العلمي، على أن «العلم علمان» - كما يقول ابن عبد ربه - «علم حمل، وعلم استعمل»، وهو يفرق هذه التفرقة ليقرر أن مجرد حمل العلم بغير استعماله أمر لا طائل وراءه، بل إنه مجلبة للضرر. ولا بد لكي يكون العلم جديرا باسمه هذا، أن ينتقل من مرحلة التحصيل إلى مرحلة التطبيق العملي، فكأنما أراد المؤلف أن يقول - لو تكلم بلغة عصرنا - إن العلم لا يكون لذات العلم نفسه، بل إنه يكون لمنفعة الناس في تدبير معاشهم وفي حل مشكلاتهم.

هذه إذن خصائص ثلاث يتميز بها العلم عند ابن عبد ربه، أكتفي بها حتى لا تطول وقفتي عند التمهيد الموجز الذي قدم به لكتابه الياقوتة. والخصائص الثلاث هي: العلم تجريبي، والعلم برجماتي، والعلم للناس. وإني لأستأذن القارئ في أن أرتكز على المبادئ الموجزة عند المؤلف، لأنطلق منها شارحا ومتحدثا بلغة هذا العصر، لأمحو - ما استطعت - الهوة بين الماضي والحاضر، فكرا وتعبيرا.

على أن هذه الخصائص المنهجية، التي استخلصتها من أسطر وردت في «الفرش» الموجز، الذي قدم به صاحب العقد الفريد لكتاب الياقوتة في العلم والأدب، ليست هي ما يهمني قبل سواها مما أردت أن أقوله، إنما تهمني القيم، التي هي بمثابة المسطرة والفرجار، نرسم بهما الخطوط والدوائر، مهما اختلفت الأغراض التي من أجلها رسمت تلك الخطوط والدوائر، فمن هذه القيم ما قد حدد به أسلافنا مكانة العلماء من مجتمعهم، أيتبعهم الناس أم هم الذين يتبعون؟ فانظر إلى هذا الحديث النبوي الشريف، في أي منزلة يضع رجال العلم، حين يقول: «لمداد جرت به أقلام العلماء خير من دماء الشهداء في سبيل الله»، فهل يجوز بعد ذلك ألا تكون الكلمة العليا في المجتمع المؤمن برسالة الإسلام، لغير ما خطه العلماء بمدادهم الطاهر النبيل؟ وليست هي بالثورة الهينة تلك التي تغير من أوضاع المجتمع بحيث تكون لأصحاب العلم الصدارة والريادة، فلم تكن الثورة التي أرادها أفلاطون بالهينة، حين جعل للفلاسفة في «الجمهورية» مكان التوجيه والحكم، وأخذ الرجل في غضون المحاورة يسوق المثل تلو المثل، والحجة في أعقاب الحجة، بأن صاحب الفكر يجيء أولا ثم يأتي صاحب التنفيذ، وماذا يكون التنفيذ إلا تنفيذا لفكرة، وماذا تكون الفكرة إلا تخطيطا لعمل ينفذ فيسعد البشر؟ وليست هذه الأسبقية أسبقية في القيمة الإنسانية للأفراد بل هي أولوية منطقية تحدد ماذا يجيء قبل ماذا في تدبير الحياة، وإلا فالقيم الإسلامية لا تدع مجالا للشك في أن لكل إنسان ما لكل إنسان من رتبة، لا يرفع أحدا عن أحد إلا العمل الصالح. وها هو ذا علي بن أبي طالب يقرر لنا - وهو قول يورده ابن عبد ربه في كتاب الياقوتة الذي نحن الآن بصدد الحديث عنه - يقرر لنا أن «قيمة كل إنسان ما يحس»، ومعنى ذلك في حياة العلم والعلماء، أنه لا فرق من حيث القيمة بين القائمين بالجوانب المختلفة من العملية الفكرية الواحدة، والمهم هو أن يحسن كل منهم ما يتصدى للاضطلاع به، فالمسألة فرض على الفريق، والنتيجة فضلها للفريق، والنفع للجماعة بكل أفرادها.

وللنبي - عليه السلام - حديث آخر يورده المؤلف في هذا الموضع نفسه من السياق، وهو يحدد لنا خصيصة من أهم ما يميز العالم؛ إذ يقول: «لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم، فقد جهل.» وهو قول يقطع بأن العلم طريق يسار عليه، وليس نهاية يوصل إليها، فالعلم منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعا بصوابها، العلم تيار متدفق، كل موجة فيه تتبعها موجة، في حركة تدوم ما دام للعقل نشاطه. العلم لم يقصره الله على فرد ولا على جيل ولا على عصر ولا على أمة، ففرد من الناس يكمل ما أنجزه فرد آخر، وجيل يواصل طريق الجيل الذي سلف، وعصر يصحح عصرا، وأمة تتكامل بنتاجها العلمي من نتاج سائر الأمم. إن للكون كتابا صفحاته تعد بالملايين، فما عليك - أنت العالم - إلا أن تقلب في صفحاته ما تستطيع، وأنت أنت العالم ما أخذت تسأل وتستطلع وتبحث وتقع على جواب جزئي هنا وعلى جواب جزئي هناك، ثم يمضي عهدك ليتابع خلفك السير على الطريق، فإذا ظن أنه قد أتم العلم بفرع من المعرفة كان ذلك برهانا على أن بصره قد قصر عن رؤية الأبعاد والأعماق، أفيكون هذا هو تراثنا، ثم نتلفت حولنا في حياتنا العلمية فنرى أدعياء العلم يعدون بالألوف، ولا نكاد نقع على العالم الذي أشرب بتراث السلف، بحيث يزن قيمته العلمية بميزان متابعته لطلب العلم، لا بالقليل الذي حصله، ومحال أن يكون قد حصل إلا القليل.

لقد قرأت منذ أعوام طويلة مقالة لأديب هندي، لا أذكر اسمه ولا عنوان المقالة ولا أين قرأتها، لكني أذكر مضمونها، ولعل ما قد حفظته في ذاكرتي شدة غرابته في تقديري عندئذ، فقد كان الكاتب يبحث في الصفة الهامة التي تجعل من المثقف مثقفا على أرفع مستوى، وبعد أن طفق يفرض الفروض ويفندها، رسا على فرض لم يجد عنده ما يفنده، وذلك هو أن صفة المثقف الأساسية الأولى هو أن يكون طلعة دائما، متسائلا دائما، طالبا للحقيقة في هذه المسألة أو تلك، فهو مثقف بمقدار ما تؤرقه هذه الجذوة التي تدفعه إلى طرح الأسئلة ومحاولة العثور على إجابات لها. كان هذا الرأي غريبا علي عندئذ - وربما لبثت معي غرابته حتى هذه الساعة - لكني إذا ما ترجمت هذه الصفة إلى لغة أخرى تساويها في المعنى، وإن اختلفت عنها في الأداء، هي اللغة التي سبق بها الحديث الشريف الذي أسلفناه وهو الحديث الذي يحدد رجل العلم بصفة الطلب للعلم لا بصفة الوصول إلى نتائج بعينها يحسبها مقطوعا بصوابها. أقول إني إذا ما ترجمت فكرة الأديب الهندي إلى لغة الحديث الشريف، ألفيت الأمر قد بات أوضح من أن يثير الدهشة والتعجب، فالمثقف هو من ظل يلح في السؤال، والعالم هو من لبث يلح في البحث، بل إن الحياة نفسها حين تغزر أغوارها في نفس الإنسان، إن هي إلا هذا الإلحاح في السؤال والإلحاح في البحث. وها هنا نورد نقلا عن كتاب الياقوتة من العقد الفريد قولا لأبي عمرو بن العلاء، حين سأله سائل: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فأجاب قائلا: «إن كان يحسن به أن يعيش، فإنه يحسن به أن يتعلم.»

لقد اشتملت مجموعة الأقوال التي أوردها ابن عبد ربه عن العلم والعلماء - على قلة صفحاتها - خطوطا رئيسية تصلح أن تكون دستورا للحياة العلمية كلها، منهجا ومعيارا، فهذا هو يروي فيما يروي، قولا عن ضرورة الشك لمن التمس اليقين في أية مسألة يطرحها للبحث، فقد سئل عالم لماذا يكثر من الشك؟ فأجاب: «محاماة عن اليقين». وسئل عالم آخر عن حديث، فقال: «أشك فيه»، فقال السائل: «شكك أحب إلي من يقيني.» فماذا تريد للروح العلمية الصحيحة معيارا أصلح من هذا المعيار، وكيف يكون هذا ما رسمه الأسلاف طريقا، ثم نفغر أفواهنا من الدهشة حين يقول لنا قائل إن أعلام المنهج العلمي في الغرب يطالبون بأن نشك أولا حتى يأتي اليقين محضا؟ انظر فيمن حولك تجدهم - حكما بما يقولون وما يفعلون - يطمئنون إلى صاحب التصديق السريع، ويقلقهم أن يقف متشكك ليتساءل قبل أن يجزم بالصواب، فسريع التصديق عندنا أقرب إلى الملائكة، والمتشكك أقرب إلى الشياطين، وما هكذا روح الحياة العلمية، وما هكذا تراثنا في تحديده للقيم.

إننا إذ نقول: يجب أن نحيي تراثنا لنحياه، ابتغاء التميز بطابع يصل حاضرنا بماضينا، فليس المراد هو أن نعيد طباعة الكتب لتوضع على الرفوف، بل المراد هو أن نعيش مضمونها على نحو يحفظ لنا الأصالة، ولا يفوت علينا روح العصر، وإن لنا لتراثا عن العلم والعلماء، يكفل لنا أن نتقدم في ثقة مع المتقدمين، موضوعنا علم حديث، وخصالنا من إرث عزيز.

الفصل العاشر

شيء عن الإنسان

(أ) نموذج الإنسان في تراثنا

إن الأمر كثيرا ما يختلط علينا إذ نقرأ لأسلافنا ما كتبوا، فنسأل: ترى هل كانوا يرسمون بأقلامهم صورة معاصريهم، أو أنها صورة رسمت لتصلح في المعاصرين فسادا؟ ترى هل حاكوا الواقع أو تصوروا المثال؟ وأيا ما كان شأن الأسلاف الكاتبين، حينما كتبوا عن الإنسان كيف كان أو كيف ينبغي له أن يكون، فها أنا ذا أمام تحليلات هبطت منهم إلينا، ولو نشرت أمام أبصارنا نحن أبناء هذا العصر، لوجدنا فيها - يقينا - صورة الكمال الإنساني، التي تصلح معيارا نقيس إليه واقع الإنسان المعاصر، لنرى كم بلغت في سلوكه زاوية الانحراف، نعم، إن هذه التحليلات التي أعنيها، تفوح برائحة اليونان الأقدمين، كأنما تلك - في مواضع كثيرة - تلخيص لهذه، لكن القبول نصف الابتكار، فيكفينا في هذا الصدد أننا قد قبلنا الصورة الكاملة معيارا لنا، قبلناها عن اعتقاد ورضى، وأجريناها على أقلامنا جزءا من تراثنا، وليس يحد من كمال الكامل أين يكون مصدره.

المدار في نموذج الإنسان الكامل عندهم هو أن يكون «عاقلا» بالتعريف الفلسفي الدقيق لكلمة «عقل»، فهي كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، ولكن ما أعسر أن تجد لها التحديد المحكم، ولئن كانت الفكرة كثيرا ما يوضحها نقيضها، فنقيض العقل هو «الهوى»، فماذا يميز أحكام «العقل» من أحكام «الهوى»؟ يميزها أن الحكم من النوع الأول هو في كل حالة معينة واحد لا يتعدد بتعدد الأشخاص، أو بتعدد النزوات عند الشخص الواحد، على حين أن الحكم من النوع الثاني يقبل التعدد بكلتا الصورتين؛ فإذا قال قائل إن العشرة نصفها خمسة، لم يكن ثمة مجال أمام غيره، ولا أمام نفسه أن يتنكر لهذا القول، مهما تكن ظروفه ومزاجه. وأما إذا قال قائل إن شروق الشمس أجمل من غروبها، كان هنالك احتمال أن يختلف معه سواه، بل أن يختلف هو نفسه مع نفسه إذا تغيرت حالته. والعلة في وحدانية الحكم العقلي، وفي تعدد أحكام الهوى في أن حكم العقل نقيضه مستحيل على الذهن أن يتصور حدوثه، وأما حكم الهوى فيمكن أن نتصور حدوث نقيضه.

ذلك استطراد أردت به أن أوضح للقارئ ماذا يراد حين يقال إن أساس الحكم لإنسان بالكمال عند المفكرين من أسلافنا، هو أن يكون مقيدا بعقله إزاء الأشخاص والأشياء والمواقف، وقد كان من الأفكار المألوفة عند هؤلاء المفكرين جميعا، فكرة جاءتهم من اليونان الأقدمين مع الترجمة التي نقلوا بها تراث أولئك اليونان، وهي أن يقاس كمال الشيء بأدائه للفعل الذي خلق من أجله، فشجرة البرتقال كمالها ليس هو نفسه الكمال بالنسبة إلى شجرة الورد، وكمال النمر أن يكون نمرا وكمال القط أن يكون قطا، ولا يجوز أن يحاسب نوع بكمال نوع آخر، وعلى هذا الأساس نفسه يكون كمال الإنسان مرهونا بجوهره، وجوهره هو العقل، فأفضل الناس هو أقدرهم على التزام أحكام العقل فيما يفعل وما يجتنب «من غير تلون فيه ولا إخلال به في وقت دون وقت» كما يقول ابن مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق».

ويجري ابن مسكويه - وغيره من مفكري العرب أجمعين - على نسق اليونان، فيحلل النفس الإنسانية تحليلا يردها إلى قوى ثلاث، ففيها الشهوة إلى إشباع حاجات للبدن، وفيها الغضب الذي يستثار دفاعا عن النفس، وفيها العقل، ولكل من هذه القوى فضيلته ورذيلته، فالفضيلة في الاشتهاء هي العفة وضدها هو الشره، والفضيلة في الغضب هي الشجاعة وضدها هو الجبن، والفضيلة في العقل هي الحكمة وضدها هو الجهل، وإذا اجتمعت هذه الفضائل الثلاث كان من اجتماعها فضيلة رابعة هي العدل. على أن القوى الثلاث التي ذكرناها، ليست كلها على درجة واحدة، بل فيها ما هو أعلى وما هو أدنى، والعقل أعلاها، وهو الذي من شأنه أن يلجم الغضب وأن يحد من الشهوة، ليقف كلا منهما عند الدرجة التي ترضاها الحكمة، كأنه هو القائد في مركبة يجرها جوادان - إذا استخدمنا التشبيه المعروف الذي صور به أفلاطون حقيقة الإنسان في حالة كماله - فهو يسوس الجوادين بالزمام في يده ليضمن للعربة اعتدال السير.

وإن الناس ليتفاوتون في الطرق التي يسوسون بها حياتهم وفق حكمة العقل، تفاوتا ليس له نظير في أفراد نوع آخر؛ لأن سائر ضروب الكائنات الحية تسير على قوانين طبائعها، ليس لها في ذلك اختيار فلا فرق يذكر بين نمر ونمر ولا بين قط وقط إذا ترك وطبيعته، أما الإنسان ففي فطرته أن يختار؛ ولذا فمن واجبه أن يكون مسئولا عن اختياره. ومن هنا جاء التفاوت الفسيح بين إنسان وإنسان في مقدار احتكامه للعقل حين يختار. ويذكر لنا ابن مسكويه في هذا السياق حديثا شريفا: «ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان.» كما يذكر كذلك هذا البيت من الشعر:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا

إلى المجد، حتى عد ألف بواحد

على أنني أحب ألا أمضي بالحديث عند هذه النقطة، دون أن أنبه القارئ إلى فكرة هامة، لو أفلتت من أيدينا فقد أفلت ركن ركين في بنية الفكر العربي، ألا وهي أنهم - أعني أسلافنا من مفكري العرب - لم يتصوروا قط أن يقتصر الإنسان على حكمة العقل دون أن يمدها إلى فعل يؤديه بناء عليها، فلا يكون العلم علما عندهم إلا إذا أعقبه العمل على أساسه.

وفي ظني أن هذه الإضافة جاءت لتميز المفكر العربي من سلفه اليوناني، برغم اشتراكهما في الطريقة التي حللوا بها النفس الإنسانية، «فالقوة العالمة» - على تعبيرهم - التي تتمثل فيما نحصله من معارف وعلوم، تكملها «القوة العاملة» التي تتمثل في تنظيم أمور الحياة وترتيبها.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم ابن مسكويه حين يقول: «إن ما يختص به الإنسان من حيث هو إنسان، وبه تتم إنسانيته وفصائله هو الأمور الإرادية.» كما نفهمه كذلك حين يحدد الخير بأنه «فعل» ما قصد به من وجود الإنسان، ويحدد الشر بأنه هو ما يعوق ذلك الفعل. وتطبيقا لهذه القاعدة لا يكون الخير أبدا فيمن «يتأمل» وهو ساكن، بل لا يكون الخير أبدا فيمن يملأ رأسه بثقافات الأولين والآخرين، ثم لا فعل بعد ذلك يؤديه على ضوء ما قد عرف. •••

وننتقل إلى علم آخر من أعلام الفكر العربي - هو الإمام الغزالي - لنجده يشارك في الأسس نفسها وفي الروح نفسها، فأول ما يلفت أنظارنا في هذا الصدد عنده، أن له لكتابين، أراد بكل منهما أن يكون قسيما للآخر كأنما أراد أن يعلن بألا حياة على أي درجة من الكمال إلا إذا اجتمع فيها قسط من ذينك القسيمين. وأما الكتابان اللذان أعنيهما فهما «معيار العلم» و«ميزان العمل»، ففي الكتاب الأول يضع للعلم حدوده ويقيم له الأسس التي تضمن له الصواب، وفي الكتاب الثاني يبين كيف يجيء العمل وفق ذلك العلم.

ويرى الغزالي - كغيره من المفكرين العرب - أن صورة الإنسان الكامل لا تتحقق لنا إلا إذا حللنا النفس الإنسانية أولا، فتراه يهيب بالباحث أن يعرف نفسه كأنه في ذلك سقراط، فيقول: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. كما يروي في هذا السياق حديثا شريفا: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه .» ثم يقرر لنا في السياق نفسه أن معرفة النفس ومعرفة الله أمران متلازمان: «ومن رحمة الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان على صغر حجمه من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم، ليتوصل الإنسان بالتفكير فيها إلى العلم بالله.»

لكنه إذ يحلل النفس إلى قواها، يأخذ بالتحليل نفسه الذي نقل إليهم عن اليونان، وهو أن يجعل فيها شهوة تطلب اللذة، وغضبا يطلب الغلبة، ثم عقلا يسوس السير ويضبط الخطى. فإذا أراد ذكر الفضائل جعلها أربعة، فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، ومن توافر هذه الفضائل الثلاث تنشأ الفضيلة الرابعة وهي العدالة ... هذا، ولم يدع الغزالي موضعا في كتابه إلا وأعاد فيه القول بضرورة أن يجيء «العمل» لاحقا ضروريا «للعلم» الذي تدركه القوة المفكرة، وإن يكن يجعل لهذين اللفظين معنى خاصا، فالعلم - عنده - هو علم بالإلهيات، والعمل - عنده - هو العبادة وفق ذلك العلم، لكن تحديده لهذه المعاني لا ينفي بنية الإطار الفكري الذي نتحدث عنه، وهو تصور الموقف مرتكزا على قطبين، هما العلم من ناحية وتطبيقه من ناحية أخرى، كائنا ما كان المعنى الذي يعطيه المفكر للعلم والمعنى الذي يحدد به نوع العمل. •••

تلك - إذن - هي الأسس النظرية لنموذج الإنسان الكامل عند المفكر العربي القديم: تحليل للنفس على نحو ما حللها به اليونان الأقدمون، وهو تحليل مؤداه أن تكون القيادة للعقل، هو الذي ينظم الرغبة والانفعال، دون أن تطمس رغبة أو أن يطفأ انفعال. لكن الفكر العربي لم يترك الأمر عند هذا الحد النظري المجرد، بل تناوله بصورة تفصيلية تصلح لهداية الناس في سلوكهم الفعلي. ونسوق مثلا لهذا التناول المفصل ما كتبه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فيما أطلق عليه اسم «الطب الروحي» أو «طب النفوس»، والذي أوحى له بهذا العنوان هو كتابه الذي كان قد ألفه في الطب الجسماني، فما لبث أن رأى أن الصورة لا تكمل إلا بكتاب آخر يؤلفه في طب النفوس ليصح الإنسان بالكتابين جسدا وروحا.

والذي قصد إليه الرازي بطب النفوس هذا هو أن يتعقب مصادر النقص الخلقي عند الإنسان، ليبين لقارئه كيف يكون أسعد حالا وأهنأ حياة إذا هو ملك زمام فطرته ووجهها على النحو الذي يهيئ له حياة متزنة معتزلة مأمونة العواقب. وهو يصف كتابه هذا في فاتحته بقوله: «هذه مقالة عملتها في إصلاح الأخلاق» - قاصدا «بالأخلاق» ذلك السلوك السوي السليم، وهو باتجاهه هذا إنما يذكرنا بجانب هام من جوانب الطب النفسي الذي شاع في عصرنا هذا وذاع وأصبحت له «عيادات» وتصدر عنه مئات المؤلفات، مع اختلاف في طريقة التناول تتناسب مع اختلاف العصرين.

ولقد فصل الرازي كتابه عشرين فصلا، كان أولها فصل في فضل «العقل» ومدحه، وها هنا نضع أصابعنا على مفتاح رئيسي من مفاتيح الشخصية العربية كما صورها تراثنا، إلا تكن هي الشخصية العربية كما وقعت بالفعل في مجرى التاريخ، فهي الشخصية التي تعلق بها النموذج والمثال، فنموذج الإنسان كما رسموه هو الإنسان الذي كان محكوما بعقله، لا بشهوته وغريزته، بل ولا بوجدانه وعاطفته، ولماذا تركوا الزمام للعقل لا للهوى؟ الإجابة عند الرازي - وغيره - أن ذلك أجلب «للمنافع» آخر الأمر، فقد تعود علينا الأهواء بإشباع لرغباتنا سريع، لا يلبث أن ينقلب علينا هما وغما، وأما فعل «نبنيه» على وزن نتائجه القريبة والبعيدة - وهذا هو نفسه العقل ومعناه - فالأرجح أن يكون مأمون العاقبة، فالعقل - كما يقول الرازي - هو «الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين»، «وبالعقل نتصور أفعالنا العقلية قبل ظهورها للحس، فنراها كأن قد أحسسناها.» وما دام أمره كذلك فقد «حق علينا ألا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا وهو الزمام مزموما، ولا وهو المتبوع تابعا، بل نرجع في الأمور إليه ... ولا نسلط عليه الهوى الذي هو آفته.» وأنا أترك للقارئ العربي المعاصر أن ينظر لنفسه ويحكم: إلى أي حد يكون زمامنا في أيدي عقلائنا، وإلى أي حد نترك هذا الزمام لأصحاب النزوة والهوى؟

وإذا كان الاحتكام إلى العقل هو أحد وجهي العملة - كما يقال - فلا بد أن يكون الوجه الآخر هو في قمع الهوى وردعه؛ لأن هذا مكمل ضروري لذاك؛ ومن ثم جعله الرازي موضوعا للفصل الثاني من كتابه، فلئن كان الإنسان بعقله مدركا للأمور إدراكا صحيحا، فهو بقمعه لهواه صاحب «إرادة»، والعقل من جهة، والإرادة من جهة أخرى، هما - كما نعلم - جانبان متلازمان: أحدهما له النظر والآخر عليه التنفيذ. وليس الأمر بالهين اليسير إلا على من تناول إرادته بالتدريب المتصل الدءوب؛ وذلك لأن ما سوف يقاومه الإنسان بإرادته تلك إنما هو طبع مغروز في جبلته. فانظر كم هو عسير على الكائن الحي أن يسير ضد طبيعته، فلعل هذه أن تكون هي «الأمانة» التي عرضت على الجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان (والكلام هنا من عندي لا من عند الرازي)، فلقد آثرت الجبال، ومعها سائر الطبيعة من جماد ونبات وحيوان أن تترك نفسها لقوانين ليست من صنعها، فهي تسير ولكنها لا تعرف: لماذا؟ ولا إلى أين؟ إلا الإنسان! يقول الرازي: البهائم واقفة عندما يدعوها إليه الطباع، على خلاف الإنسان الذي يسلك السلوك بعد روية عقلية فيخالف به ما يدعو إليه الطباع، «فإنك لا تجد بهيمة تمسك عن أن تروث أو تتناول ما تغتذي به، مع حضوره وحاجتها إليه، كما تجد الإنسان يترك ذلك ويقهر طباعه عليه، لمعان عقلية تدعوه إلى ذلك.»

بعد أن يفرغ الرازي من كلام طويل يوازن فيه بين لذة عاجلة يرضاها الهوى ولذة آجلة يفضلها العقل، تقرؤه فتحسب أنك إنما تطالع فصلا عند «بنتام»

Bentham

أو عند «جون ستيوارت مل»

Stewart Mill (من مفكري القرن الماضي في إنجلترا) ينتقل بك إلى أولى الصفات النوعية الخاصة التي لا تكون أبدا من صفات الرجال ذوي الهمم الشماء، ألا وهي العشق، أو الحب - بلغة يومنا - لأنه بلية يكفي فيها أنها تدعو العاشق إلى تذلل وخشوع، «فأما الخنثون من الرجال والغزلون والفراغ، والمترفون، والمؤثرون للشهوات ... فلا يكادون يتخلصون من هذه البلية.» وكأنهم بها يرتدون إلى حالة الطبيعة العمياء، فاقرأ هذا وأمام عينيك صورة لشباب «الهيبز» في عصرنا!

ولا نطيل الوقوف هنا لننتقل إلى نقيصة نفسية لا نبرأ منها إلا بتسليط العقل على الهوى، وتلك هي «العجب»، فكل إنسان هو بطبيعته محب لنفسه، وذلك يدعوه إلى «استحسان الحسن منها فوق حقه، واستقباح القبيح منها دون حقه ... فإذا كانت للإنسان أدنى فضيلة، عظمت عند نفسه، وأحب أن يمدح عليها فوق استحقاقه، وإذا تأكدت فيه هذه الحالة صار عجبا، ولا سيما إن وجد قوما يساعدونه على ذلك» ...

ومن بلايا «العجب» - كما يقول الرازي - أنه يؤدي إلى النقص في الأمر الذي يقع به العجب، لأن المعجب لا يروم التزيد في الباب الذي منه يعجب بنفسه ... فالمعجب بعمله لا يتزيد منه، لأنه لا يرى أن فيه مزيدا، ومن لم يستزد من شيء ما نقص لا محالة وتخلف عن رتبة نظرائه.

ومن العجب ينتقل المؤلف إلى الفصل السابع من كتابه في الحسد، ويحلل الحسد إلى عنصرين يجتمعان هما: البخل والشره، فالحسد أعم وأوسع من البخل على حدة، ومن الشره على حدة، إذ البخيل لا يحب أن ينال أحد مما يملكه شيئا، لكن الحسود يضيف إلى ذلك جانبا آخر، هو ألا ينال أحد خيرا، حتى ولو لم يكن ذلك مما يملكه هو.

ومحال على «عاقل» أن يكون «حسودا»؛ لأن الحسد والعقل ضدان؛ ذلك لأن الحسود لا يحسد البعيدين عنه، فهو لا يحسد من بالهند والصين - على حد تعبير الرازي - وإنما ينصب حسده على الأقربين منه، فإذا احتكمنا هنا إلى العقل، قلنا إنه إذا كان حمقا أو جنونا أن يحزن الحاسد لخير ناله البعيدون عنه، فإن حمقا مثله أن ينال الخير من هو بحضرته وقريب منه، إذ الأقربون هنا - كالأبعدين - في أنهم لم يسلبوه شيئا مما في يديه، ولا منعوه بلوغ شيء كان يقدر عليه.

واقرأ هذه العبارة النافذة من كلام الرازي في الحسد: «إنا نرى الرجل الغريب يملك أهل بلد ما، ولا يكادون يجدون في أنفسهم كراهة لذلك، ثم يملكهم رجل من بلدهم، فلا يكاد أن يتخلص ولا واحد منهم من كراهته لذلك ، هذا على أنه ربما كان هذا الرجل المالك - أعني البلدي - أرأف بهم وأنظر إليهم من المالك الغريب. وإنما يؤتى الناس في هذا الباب من فرط محبتهم لأنفسهم، وذلك أن كل واحد منهم - من أجل حبه لنفسه - يحب أن يكون سابقا إلى المراتب المرغوب فيها، غير مسبوق إليها، فإذا هم رأوا من كان بالأمس معهم اليوم سابقا لهم مقدما عليهم، اغتموا لذلك، وصعب، واشتد عليهم سبقه إياهم إليها، ولم يرضهم منه تعطفه عليهم، ولا إحسانه إليهم؛ لأن أنفسهم متعلقة بالغاية مما صار إليه هذا السابق، لا غير، لا يرضيهم سواه، ولا يستريحون دونه، وأما المالك الغريب، فمن أجل أنهم لم يشاهدوا حالته الأولى، لا يتصورون كمال سبقه لهم، وفضله عليهم، فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم، وقد ينبغي أن يرجع في مثل هذا إلى العقل.»

ومما يمحو الحسد عن النفس - هكذا يمضي الرازي في قوله - أن يتأمل العاقل أحوال الناس، فإنه سيجد أن حالة المحسود عند نفسه خلافها عند الحاسد، فلا يزال الإنسان يستعظم الحالة، ويتمنى بلوغها، حتى إذا بلغها لم يسر بها إلا مديدة يسيرة، بقدر ما يستقر فيها ويتمكن منها ويعرف بها، ثم تسمو نفسه إلى ما هو فوقها ... إنه عندئذ يصير بين هم وخوف، خوف من النزول عن الدرجة التي بلغها، وهم لما يتمنى بلوغه.

وينتقل المؤلف إلى حالة الغضب ووجوب دفعه؛ لأن الغضب إذا اشتد وأفقد الغاضب عقله، «فربما كانت نكايته في الغاضب وإبلاغه إليه المضرة أشد وأكثر منها في المغضوب عليه»، والحق أنه «ليس بين من فقد الفكر والروية في حال غضبه وبين المجنون كبير فرق.»

ثم يتناول الكاتب حالة الكذب وكيف يقضي العقل عند العاقل بوجوب اطراحه؛ لأن الكذب يدعو إليه الهوى؛ إذ كثيرا ما يكون الدافع إلى الكذب هو رغبة «الإنسان في التكبر والترؤس» - هذه عبارة الرازي - فيقول القول الكاذب إذا رآه مما يهيئ له الرفعة على سامعه، «وقد قلنا إنه ينبغي للعاقل أن لا يطلق هواه فيما يخاف أن يجلب عليه من بعد هما وألما وندامة، ونجد الكذب يجلب على صاحبه ذلك.»

إنني لألفت نظر القارئ إلى طريقة الرازي في التفرقة بين ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ إذ هو يجعل المدار كله على «المنفعة» في المدى البعيد لا على تطبيق المبادئ أيا كانت نتائجها في حياة الإنسان، ولما كان الفعل الواحد كثيرا ما يختلط نفعه بضرره، كان دور العقل هنا هو أن يوازن بين النفع والضرر، وأيهما يكون له الرجحان يحدد للإنسان طريق سلوكه إقبالا على الفعل المعين أو إدبارا عنه. وبعد هذه الملاحظة منا، اقرأ هذه الموازنة الطريفة في حالة الكذب: «ليس يصيب الكذاب من الالتذاذ والاستمتاع بكذبه - ولو كذب عمره كله - ما يقارب - فضلا عما يوازي - ما يدفع إليه - ولو مرة واحدة في عمره كله - من هم الخجل والاستحياء عند افتضاحه، واحتقار الناس» ...

ويجيء بعدئذ حديث المؤلف عن البخل، وها هنا نجد تفرقة غاية في اللطافة والدقة، وذلك أن البخل ليس دائما من فعل الهوى، بل منه ما قد يكون نتيجة روية عقلية وبعد نظر إلى المستقبل البعيد. ولما كان «العقل» هو مدار أحكامنا، كان البخل الذي نحاربه هو ذلك الجانب منه المبني عند البخيل على مجرد خوف من الفقر خوفا لا يقوم على أساس معقول؛ لأن ذلك من قبيل الهوى، وأما ما ينبني على تدبر العقل فهو مقبول.

ويمضي الرازي في تطبيق معيار العقل على ضروب النقص التي تفقد الإنسان صحته النفسية، فيتحدث عن حالة «الغم» ووجوب دفعها، وما الوسيلة لهذا الدفع إلا أن يحد الإنسان من رغباته وشهواته ومواضع حبه؛ إذ الغم هو في صميمه خوف عند المغموم من أن يفقد ما يملك، فلو درب نفسه على الاستقلال عن الأشياء بحيث إذا ضاع منها ما ضاع لم يحس مرارة ضياعه، كان بذلك قد أبرأ نفسه من علة الغموم.

وعلى هذا الأساس نفسه يحدثنا المؤلف عن حالات «الشره» و«السكر» و«شهوة الجنس» وما إليها من رغبات الجسد، التي لا تبلغ أبدا حد الإشباع، وإذن فالعلاج هو الوقوف منها جميعا موقف القصد والتوسط، فلا نئدها ولا نندفع وراءها إلى آخر المدى.

ويختم الرازي مقالته هذه عن طب النفوس بحديث عن الخوف من الموت وكيف يجب التخلص منه بتحكيم العقل: «فالإنسان ليس يناله من بعد الموت شيء من الأذى بتة؛ إذ الأذى حس، والحس ليس إلا للحي وهو في حالة حياته ... فإذا قيل: ليس في الموت لذائذ الحياة، قلنا: ليس بالميت حاجة إليها، ولا له إليها نزوع.»

ويلخص الرازي السيرة الفاضلة - أي صحة النفس - في سطرين، فيقول: «إن الإنسان إذا لزم العدل والعفة، وأقل من مماحكة الناس ومجاذبتهم، سلم منهم، وإذا ضم إلى ذلك الإفضال عليهم، أولي منهم المحبة، وهاتان الخلتان هما ثمرتا السيرة الفاضلة.» •••

ها نحن أولاء قد رسمنا خطوطا تصور نموذج الإنسان كما تمناه ثلاثة من أعلام الفكر العربي القديم، من الناحيتين النظرية والعملية: هم: ابن مسكويه، والغزالي، والرازي. ونريد أن نضيف إلى نموذج الإنسان في عمومه نموذجا رسمه مفكر رابع، هو الجاحظ، للإنسان وهو أمير أو وزير. ففي رسالة «المعاش والمعاد» التي وجهها إلى الوزير محمد عبد الملك الزيات (وقيل: إلى محمد بن أبي داود، الذي تولى على قضاء بغداد في عهد المتوكل)، ومن ذا يسعه أن يقرأ رسالة كهذه فيها نصح للوزير، دون أن يذكر رسالة مكيافلي التي ينصح بها الأمير

The Prince

فبينما المثل الأعلى للأمير في تصور مكيافلي هو أن يبلغ غايته بغض النظر عن الوسائل المؤدية إليها، من ظلم وغدر وكذب وخداع وما شئت من رذيلة، ترى الجاحظ يوصي وزيره بأن الحكم لا يستقيم إلا مع طائفة من فضائل، إذا جاوزها فقد ضل السبيل، لا بالنسبة إلى الأخلاق النظرية وحدها، بل كذلك بالنسبة إلى المنفعة المرجوة، سواء كانت منفعة في دنياه أو في آخرته، لا فرق بين الحالتين.

والمبدأ الأساسي عند الجاحظ في رسالته هذه - كما هو عند ابن مسكويه والغزالي والرازي جميعا - هو احتكام المرء إلى عقله دون الميل والهوى، على أن يفهم «العقل» بمعنى الطرق المؤدية آخر الأمر إلى نفع يرجح الضرر: «اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبع مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان.»

ويعقب الجاحظ على ذلك بعبارة كأنما أراد بها أن يشرح للوزير ما يقصد إليه حين يؤسس السلوك على «العقل»، وحين يترجم مثل هذا السلوك العاقل بأنه هو الذي ينشد أكبر النفع في نهاية الأمر، فيقول ما معناه إن العبرة هي في قدرة الإنسان على رؤية النتائج الأخيرة منذ أوائل الأمور، «واستشفافه بعقله ما تجيء به العواقب»، وبقدر تفاوت الناس في هذه القدرة يكون تفاوتهم في الفضائل، وأما إذا انتظر المرء حتى يقع ما يقع فيراه حين يقع «فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.» ثم ينصح الجاحظ وزيره بأن يحكم وكيل الله عنده - ويعني بذلك عقله - على هواه، ويلقي إلى عقله بزمام أمره.

وكذلك يوصي الوزير بالعدل، قائلا له: «اعلم أن الحكم في الآخرة هو الحكم في الدنيا، ميزان قسط، وحكم عدل»، ولعل من أركان العدل أن يحفظ الناس أقدارهم إذا قام بينه وبينهم معاملة، على أن تقاس هذه الأقدار على قدر البلاء والاستحقاق، محذرا إياه أن يركن في تقديره للناس إلى الهوى.

وينصح الوزير أن «اجلس في المحافل دون الموضع الذي تستحقه حتى يرفعك أهلها، فإذا تنافس القوم في حديث وعندك منه مثل ما عندهم فأمسك حتى يحتكموا إليك؛ لأنك إن نافستهم كنت واحدا منهم.»

وهو إذ يذكر له الفضائل الأساسية، يتفق فيها مع غيره ممن ذكرنا أو لم نذكر، وكذلك الأمر حين يحذره من الرذائل المذمومة التي من شأنها أن تزيل عنه السلطان، ومن أهمها الكذب والغضب والجزع والحسد، وله في هذه الرذائل كلام بلغ غاية الجودة ونفاذ البصر. ثم هو يفرق له بين طريقة يعامل بها عدوه وأخرى يعامل بها صديقه، فعليه مع العدو أن يحصن عنه أسراره، وأن ينتهز له الفرصة فيظهر حجته عليه، وأن يظهر له الاستهانة به، لكن يستبطن الحذر منه والاستعداد له. أما مع الصديق فيوصيه قائلا: «... لا تكونن لشيء مما في يدك أشد ضنا، ولا عليه أشد حدبا، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء ... فإنما هو شقيق روحك ... ومستمد رأيك، وتوأم عقلك، ولست منتفعا بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة ... ثم لا يزهدنك في الصديق أن ترى منه خلقا أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟»

واقرأ هذه الإرشادات المتوالية التي يوجهها الجاحظ لوزيره، واجعل صورة مكيافلي ماثلة أمامك في كل ما تقرره للجاحظ هنا، لتعلم مدى البون بين ناصح وناصح، فبينما يقول مكيافلي لأميره: إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين، يقول الجاحظ لوزيره أن يحذر الافتئات على حق إنسان لضعفه، بل إن سمو الحكم هو في أن يغلب الحاكم نفسه ليكون في نصرة الضعيف، فالحلم - مثلا - كما يقول الجاحظ حلمان، أشرفهما حلمك عمن هو دونك، والصدق صدقان، أعظمهما صدقك فيما يضرك، والوفاء وفاءان، أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه، تلك هي - كما يقول - أركان الدين، وهي كذلك أركان الدنيا. ويستطرد الجاحظ مرشدا للوزير: احذر المفاخرة بالأنساب ... اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجرئ عليك أهل الدناءة، وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين، «وأنا أوصيك بخلق قل من رأيته يتخلق به ... ألا يحدث لك، انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانة به ... ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللا وإيثارا على نظراته في الحفظ والإكرام» ... •••

تلك صور للإنسان الأكمل صورها السالفون، فإن يكن عسيرا على الطبع أن يجربها في معاملات الحياة الواقعة، فلا أقل من أن نرفعها أمام الأبصار نموذجا، وإن القوم ليعرفون بمثلهم العليا كما يعرفون بتاريخهم الواقع، قد يعابون بهذا ويمدحون بذاك، لكن الجانبين معا يكونان الصورة الحق، إذا أردنا الإنصاف. (ب) الإنسان العربي، كيف يواجه الطبيعة؟

ماذا يكتب الكاتب العربي ، حين تكون الثقافة القومية عنده هي موضوع النظر، سوى أن يلتمس لها موضعا بين ثقافات عصره، فتسايرها بما يجعلها متفقة مع روح العصر، وتخالفها بما يحفظ لها كيانها المتميز؟ وأما المسايرة فأدنى درجاتها أن نشارك أبناء عصرنا همومهم ومشكلاتهم، بحيث تكون المسائل الرئيسية المطروحة للبحث هي نقطة الالتقاء التي يجتمع عندها المفكرون جميعا، كل بوجهة نظره، فالذي يجعل العصر الفكري المعين عصرا واحدا ليس هو أن تتفق إجابات المفكرين عن الأسئلة المطروحة، بل هو أن تكون الأسئلة المعينة الواحدة مطروحة للجميع، أما أن يكون موضوع البحث الرئيسي في هذا الركن من أركان العالم هو كذا، وفي ذلك الركن هو كيت، فعندئذ لا يكون الركنان كائنين في عالم واحد بالمعنى التاريخي، برغم أنهما واقعان في عالم واحد بالمعنى الجغرافي لهذه العبارة. وانظر نظرة الطائر إلى عصور الفكر المتعاقبة، تجد أن سقراط وأفلاطون وأرسطو يكونون عصرا فكريا واحدا؛ لأن المسائل الرئيسية الموضوعة عندهم للبحث واحدة، لا لأنهم اتفقوا في الرأي حولها. وتجد جماعة المتكلمين في تاريخ الفكر الإسلامي يكونون مدرسة واحدة ويعيشون معا في عصر فكري واحد؛ لأن أمهات المسائل التي عرضوها للنظر واحدة عندهم جميعا على وجه التقريب، لا لأنهم أجابوا كلهم عنها بجواب واحد، وكذلك قل في جماعة الفقهاء وجماعة الفلاسفة، وكذلك أيضا قل في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث منذ النهضة إلى يومنا، فكان للقوم في كل قرن من زمان مسائل رئيسية تنشأ، فيختلفون في حلولها، لكن يتفقون في جعلها موضوع البحث والنظر، فيكونون بهذا الاتفاق أبناء عصر فكري واحد ... وعلى هذا الأساس نفسه، نقول إن المفكر العربي في عصرنا إنما يساير عصره الفكري، لا بكونه يردد الإجابات التي يجيب بها سواه في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم، بل هو يساير عصره بأن يشارك زملاءه المفكرين في مشكلات بعينها أنشأتها لهم جميعا ظروف العصر الواحد وحوادثه.

تلك هي المسايرة، وأما كيف يجيء الاختلاف بما يحفظ لثقافتنا العربية كيانها المتميز الفريد، فذلك واضح فيما أظن، فالأمة العربية تتكلم لغة خاصة بها، ليست هي الإنجليزية ولا الفرنسية، ولألفاظ اللغة وطرائق تركيبها جذور عميقة في طريقة الإنسان عندما يتناول الطبيعة من حوله بكل ما فيها ومن فيها. فانظر - مثلا - في اختلاف لغة عن لغة في التعبير عن الزمن، تجد فروقا شاسعة في اللفتة العقلية عند أصحاب اللغتين، فقد يكون موضع الاهتمام عند فريق هو أن تجيء «الأفعال» في اللغة دالة على الضبط الزمني بين حادث سبق وحادث لحق، على حين يكون موضع الاهتمام عند فريق آخر هو مضمون الأحداث لا ترتيبها الزمني، أو انظر إلى اختلاف لغة عن لغة في العناية بأن يجيء ترتيب الألفاظ دالا على ترتيب أجزاء الفكرة، فاللغة التي لا تتغير أواخر كلماتها في الإعراب تعتمد كل الاعتماد في تنظيم الفكرة على ترتيب اللفظ، وأما اللغة التي تتغير أواخر كلماتها في الإعراب فأكثر مرونة وحرية؛ لأنها تستطيع أن تقدم وأن تؤخر، معولة في فهم الفكرة، لا على ترتيب لفظها، بل على شكل أواخر كلماتها، ففي الأولى دقة العلم وفي الثانية ليونة الشعر، الأولى أقرب إلى الآلات الحاسبة الحديثة التي تسير عملياتها في طريق واحد لا اختيار فيه؛ ومن ثم تأتي دقة النتيجة، والثانية أقرب إلى الكائنات الحية، لها أن تختار أكثر من طريق ما دام الهدف واضحا أمامها.

أقول: إن الكاتب العربي إذ يشارك معاصريه همومهم، فهو قمين أن يختلف في طريقة التفكير وطريقة الحل، اختلافا يحفظ له كيانه المتميز أولا؛ لأن له لغته الخاصة بكل ما تؤدي إليه تلك اللغة من أسلوب في تناول المشكلات، وثانيا لأن لأمته وضعا خاصا وضعتها فيه ظروف التاريخ الحديث، ذلك أنها غلبت على أمرها أمدا طال هنا وقصر هناك، والذي غلبها على أمرها كان إما حامل سلاح لم تحمل هي مثله، وإما حامل علم لم تحمل هي ما يشبهه، فإذا ما أزاحت عن كاهلها هذا العبء وأخذت تحمل السلاح وتحمل العلم ما استطاعت إليهما من سبيل، فهل يعقل - والحالة هذه - أن ينظر الغالب والمغلوب إلى مسألة بعينها، فينظرا إليها بعين واحدة ؟ أئذا أخذت الغالب القديم نظرة تشاؤم إلى المستقبل بعد أن فقد سلطانه وهيلمانه، يلزم أن ينظر المغلوب إلى المستقبل بهذا التشاؤم نفسه مع أنه في سبيله إلى أن يكون ذا هيلمان وسلطان؟ أئذا نظر شباب الغالب القديم إلى آبائه فيئس من حكمتهم التي بليت، وخرج عليهم مثل هذا الخروج الجامح الذي نشهده كل يوم أشكالا وألوانا، يلزم أن ينظر شباب الأمة التي هي في طريقها إلى الخروج من محنتها إلى آبائه نظرة اليأس نفسها مع أن الآباء هنا هم الذين حملوا لهم ألوية النصر في المعارك؟ إنه ليكفي الكاتب العربي أن تكون أحداث العصر قد ألقت في وجهه شيئا اسمه إسرائيل، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكتاب من الجماعات التي اقترفت في حقه هذا الجرم، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها.

والكاتب العربي قمين كذلك أن يخالف المفكرين المعاصرين إذ يشاركهم النظر في الأمور المطروحة للبحث، لا لأنه مختلف بحكم لغته - أي بحكم أسلوب تفكيره - ولا لأنه قد وضع في ظروف سياسية واجتماعية شاذة فحسب، بل لأنه أيضا يرث تاريخا غير التاريخ الذي يرثه الآخرون، فهذا التاريخ يحمل إلينا على موجة تقاليد، قد نقبلها وقد نرفضها وقد ندخل عليها تعديلا، لكننا في جميع هذه الحالات منشغلون بها انشغالا ينعكس على طريقة النظر. هكذا يساير الكاتب العربي عصره إذ يسايره، وهكذا يتخذ لنفسه موقفا فريدا إذ يختلف عن معاصريه بما يحفظ له شخصيته وكيانه. •••

ومن المسائل المعروضة في المناخ الفكري لعصرنا، مسألة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ما حقيقتها وعلى أين نحو تكون؟ وليس الموضوع ابن اليوم، فهو من الموضوعات القليلة التي ما انفكت قائمة تتحدى المفكرين، ويكون لكل عصر طريقته في معالجتها، مستضيئا بمبادئ مما يكون قائما شائعا عندئذ، فقد يكون من هذه المبادئ الأولية الشائعة في عصر معين أن كل ما في الكون حياة وأحياء، وأنه ليس في الكون الفسيح جماد موات. وإذن فالإنسان بالنسبة إلى بقية الكائنات الحية درجة عليا في سلم متدرج، يختلف إدراكه عن إدراكها في درجة الوضوح فقط، لا في أنه هو وحده المدرك وبقية الكائنات صماء بغير إدراك. وقد تكون المبادئ الأولية الشائعة في العصر المعين نقيض ذلك، بأن تفترض أن كل ما في الكون - إنسانا وغير إنسان - مجموعات ذرية، تجتمع على صورة ما فتكون كائنا معينا، ثم تجتمع على صورة أخرى فتكون كائنا آخر، وإذن فالإنسان بالنسبة إلى بقية الكائنات في هذه الحالة تشكيل بين صنوف منوعة من تشكيلات المادة، له خصائصه التي يمكن أن تقاس بالعلم وتضبط قوانينه، وقد تكون المبادئ الأولية الشائعة هي رفض هذا التجانس بين الإنسان وغيره - حيوانا أو جمادا - فلئن كانت النظرة الأولى قد جانست بينهما في الحياة والإدراك، والنظرة الثانية قد جانست بينهما في عناصر التكوين المادية، فالنظرة الثالثة تأبى أن تجانس بينهما في شيء، وتجعل الإنسان في منزلة وحده دون سائر الأحياء والأشياء، ولكل نظرة من هذه النظرات نتائجها التي تظل تتسع حتى تشمل أوضاع الحياة جميعا.

فلما جاء عصرنا هذا الذي نحياه، وجد مسرح الفكر في هذا الموضوع لا يكاد يشغله إلا أصحاب نظرة ازدواجية تقابل بين الإنسان في طرف والطبيعة في الطرف الآخر، لكنه سرعان ما تبين أن مثل هذه النظرة قد لا تتسق مع الفيزياء النووية التي تسود عصرنا، ولا مع النظريات القائمة بالنسبة إلى تطور الأحياء، فأخذ فلاسفته يميلون شيئا فشيئا إلى أن يحلوا ضربا من الوحدانية بين الإنسان والطبيعة محل الازدواجية القديمة، على اختلاف بينهم في الطريقة التي يوحدونها بها، ففريق يختار في هذا التوحيد تعقيلا للطبيعة، أي أن يجعل الطبيعة عاقلة في سيرها كالإنسان سواء بسواء، وفريق آخر يختار تطبيعا للعقل، أي أن يجعل العقل ظاهرة كأية ظاهرة أخرى في الطبيعة، يبحث بالمنهج العلمي نفسه الذي تبحث به سائر الظواهر.

لكننا نريد مزيدا من الشرح، لنرى بعد ذلك أي موقف يحسن بالمفكر العربي أن يقفه من الأمر، فيساير الزملاء في موضوع البحث، وينفرد دونهم بوجهة النظر؟

كانت المواجهة الأساسية بين الإنسان والطبيعة، التي ظفرت بالعناية من فلاسفة الغرب بصفة عامة، وفي القرون الحديثة البادئة في عصر النهضة الأوروبية بصفة خاصة، مواجهة الذات العارفة بالشيء المعروف، فالإنسان يدرك ما حوله ثم يتصرف على أساس إدراكه، وسؤالهم الرئيسي هو: كيف يتاح للإنسان أن يدرك ما يدركه؟ أبالحواس يدركه؟ أم بالعقل المحض، أم بأداة أخرى لا هي مرهونة بحاسة ولا عقل، كالحدس مثلا؟ (الحدس هو المصطلح الفلسفي لما قد نسميه «البصيرة»)، وكان هذا السؤال يتضمن فيما يتضمنه أن الذات الإنسانية وهي التي تعرف، والطبيعة المحيطة بالإنسان، وهي التي تعرف (بضم التاء وفتح الراء) جوهران مختلفان، قوام الذات روح وقوام الطبيعة مادة، وفي إدراك الروحاني للمادي صعوبات تحتاج من الفلاسفة إلى توضيح، ما دام الطرفان - الطرف العارف والطرف المعروف - على هذه الدرجة كلها من الاختلاف.

والعجيب أنه لا الأقدمون، ولا فلاسفة العصور الوسطى، قد تنبهوا تنبها كافيا لما ينطوي عليه هذا الموقف العرفاني من مشكلات نظرية، فلم يقفوا عنده لا طويلا ولا قصيرا، إذ افترضوا افتراض التسليم بأن الجهاز الإنساني من حواس ومن عقل قادر على أن يصور لنا الأشياء والحوادث كما هي في عالمها الخارجي، حتى ظنوا أن ما في «الأذهان» يصور ما في «الأعيان» تصويرا حرفيا - كما قد يقال - فيكون الشيء أو الحدث الذي وقع، محاذيا لفكرتنا الذهنية عنه محاذاة تامة، ففكرتي عن القلم الذي في يدي صورة دقيقة للقلم نفسه. وجاءت النهضة الأوروبية بما حملته معها من مجموعة العلماء الأفذاذ، وفي طليعتهم جاليليو ونيوتن، وبما ساير هؤلاء العلماء من فلاسفة كبار، مثل ديكارت وجون لوك، وعندئذ فقط تنبه المفكرون - علماء وفلاسفة على السواء - للمشكلة الكامنة في هذه المقابلة بين الأذهان والأعيان. •••

ولعل جاليليو كان أول من صاح بالنذير، إذا أشار إلى أن الصفات التي نعرف بها الأشياء، ليست كلها في الأشياء، بل منها ما هو في الأشياء ومنها ما خلقناه نحن بعقولنا خلقا، وأطلق على الصنف الأول الصفات الأولية، وعلى الصنف الثاني الصفات الثانوية. وكان تقسيما غاية في الأهمية والخطورة؛ لأنه مهد الطريق بضربة واحدة أمام إقامة علم موضوعي لا دخل للذات الإنسانية فيه. وذلك لأنه - هو وكل من جاءوا بعده - جعل العلم مقصورا على الصفات الأولية التي هي في الأشياء نفسها ، وأخرج من مجال العلم الصفات الثانوية التي تنتحلها الذات من عندها انتحالا. فلو كان الذي بيدك برتقالة - مثلا - فشكلها الكري وثقلها وعددها صفات في البرتقالة نفسها، وأما لونها الأصفر وطعمها عند مذاقها فصفات ابتكرها جهازك الإدراكي ابتكارا؛ ومن ثم فلا شأن للعلم الموضوعي به. نعم، قد ينبعث من البرتقالة موجات «ضوئية» ذات أطوال تترجمها عينك وأعصابك ودماغك «لونا أصفر»، فإذا أراد العلم أن يبحث، فبحثه ينصب على موجات الضوء، لأعلى اللون الأصفر. وهكذا قل في سائر الصفات الأولية التي هي من اختصاص العلم لموضوعيتها، وسائر الصفات الذاتية التي تخرج من دائرة العلم لذاتيتها.

ولقي هذا التقسيم اهتماما كبيرا من رجال العلم والفلسفة جميعا إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ لأنه في الحقيقة تقسيم يرسي الدعائم القوية لعلم فيزيائي يقوم بأقل درجة ممكنة من تدخل الذات وخصوصياتها بكل أنواعها، حتى لقد ألفنا - إلى يومنا هذا - التقسيم إلى الموضوعي والذاتي، إلفا يتعذر معه أن تمحوه. كما يحاول بعض فلاسفة عصرنا هذا جهدهم كله أن يمحوه؛ لأنه لم يعد تقسيما يتفق مع معطيات العلم الفيزيائي نفسه، في صورته الذرية الجديدة.

وكلنا يعرف وقفة ديكارت المشهورة، التي ميز فيها بين الذات من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فالأولى فكر خالص والثانية امتداد خالص، فهو حين قال قولته التي لم يعد بين المثقفين مثقف لا يحفظها، قولته: «أنا أفكر، فأنا إذن موجود» أراد بها أن «الأنا» أو «الذات» قوامها فكر، قوامها عقل، وهي تدرك نفسها بنفسها، ولا تحتاج في إدراكها هذا إلى برهان. وواضح أن هذه «الأنا» المفكرة لا يداخلها شيء من مادة حتى ولا بدنها نفسه لأن البدن مندرج مع بقية العالم الطبيعي، وليس هو من دنيا الفكر الخالص. وبهذه الأنا المفكرة، يستطيع أن يبرهن على كل موجود آخر مما يقوم على وجوده برهان عقلي. من ذلك وجود الله، ووجود الطبيعة ... على أن ما يهمنا نحن من هذا كله، هو هذا التباعد بين طرفي العارف وموضوع معرفته.

وكان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك هو أول فيلسوف يجعل هذا الموقف ذا الطرفين موضوعه الرئيسي الذي لا يكاد يكون له موضوع سواه. وعن طريقه هو، شاعت التفرقة الحادثة بين الصفات الأولية التي هي موضوعية في الأشياء، وبين الصفات الثانوية التي هي ذاتية في الإنسان. ثم كان بعد ذلك ما كان من تاريخ الفلاسفة إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، فليس منهم واحد لم يتناول هذه التفرقة - في عملية المعرفة - بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، إلا أنهم تناولوها على وجوه مختلفة ليست هي موضع اهتمامنا في هذا المقام، إلا واحدا، ظهر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكانت له في الموضوع وقفة بلغت من العمق حدا جعله طرازا من الفلاسفة فريدا، وأعني به عمانوئيل كانط

Kant .

فلقد عاد «كانط» إلى القول بأن ما في الطبيعة يقابل ما في العقل، ولكن على أساس جديد لم نألف مثيلا له فيمن سبقوه جميعا، وذلك لأنه جعل الطبيعة التي هي موضوع العلم الطبيعي بجميع أقسامه، من صنع العقل وصياغته، فما يصوغه العقل في قوالبه المجبولة في فطرته (ويسمون هذه القوالب «مقولات») يصبح عند الإنسان «طبيعة» خارجية يقيم علمه على أساسها، وأما البقية التي تبقي، أعني ما ليس يجد سبيلا إلا تلك القوالب العقلية، فهو «الأشياء في ذاتها» - بمصطلح كانط - التي لا يعلم عنها الإنسان شيئا سوى أنها هناك، فما يزال - حتى في هذه الحالة - الطرفان قائمين يواجه أحدهما الآخر، فعقل من جهة، وطبيعة من جهة أخرى، يحاول الأول أن يعرف الثانية بما أعد في فطرته من أجهزة الإدراك.

ويتركنا «عمانوئيل كانط» والعالم بين أيدينا شطران، أحدهما حقيقي خارجي لا نعرفه لأنه لا ينساق في أجهزتنا العقلية، والآخر ظاهري؛ بمعنى أنه هو الظواهر التي تلقطها حواسنا بحكم استعداداتها الإدراكية، ثم تحيلها إلى مقولات العقل ينسجها مفهومات وقضايا، فلئن كان العالم الطبيعي الذي هو مجال الفكر العلمي، خلقا خلقناه لأنفسنا بعقولنا، أو قل إنه بناء أشرف على تصميمه وتشييده العقل الإنساني، فإن هذا العالم الطبيعة الذي أسلس للعقل قياده، ليس هو كل الحق، بل بقي من حقيقته جانب فوق متناول الإنسان، هذا إذا اقتصر الإنسان على عقله النظري.

فيجيء هيجل

Hegel

ليتمم هذه العملية - عملية تعقيل الطبيعة إلى آخر شوطها - فهو يتفق مع سالفه «كانط» في أن مهمة الفلسفة الأولى هي أن تجعل العالم معقولا - أي جاريا مجرى القوانين العقلية - لأن ذلك يجعل العالم والذات العاقلة التي تدركه حقيقة واحدة متجانسة، لكنه يختلف عن سالفه في رفضه أن يفرق بين الحقيقي والظاهر، بأن يقول - كما قال كانط - إن الأشياء في ذواتها ممتنعة على إدراكنا، وإننا لا ندرك بالحواس والعقل إلا ظواهرها. يرفض هيجل هذه التثنية التي تجعل المعرفة العقلية مقتصرة على وجه من الكون دون وجه قائلا إن الكون كله «معقول» لا فرق بين باطن وظاهر، بل إن العالم الواقعي والفكر العقلي المنطقي اسمان على مدلول واحد، فالواقعة هي فكرتها، والفكرة هي واقعها، كل ما هنالك من فرق هو أن الجانب الواقعي بمثابة التعبير الذي يفصح عن فكرته العقلية. •••

ونسرع الخطى حتى لا يطول بنا الطريق، لنصل إلى فلاسفة العلوم في عصرنا هذا، وفي مقدمتهم «وايتهد»

Whitehead

و«رسل»

Brtrand Russel ، فتراهم - على ضوء الفيزياء الحديثة وما تقتضيه - يرفضون الازدواجية التي تشق الطبيعة نصفين، نصف قائم في الواقع، ونصف آخر ماثل في أذهاننا عن النصف الأول، وليس النصفان متشابهين، فكأننا إذ نزعم معرفة الطبيعة الخارجية لا نزيد على كوننا نتلقى مؤثرات منها، لنطهوها «معرفة» في أذهاننا طهوا يجيء في نهاية الأمر وفق مزاج الطاهي، بغض النظر عن حقيقة المؤثرات الأولى التي جاءت إلينا عن طريق حواسنا. يرفض فلاسفة العلم المعاصرون هذه الازدواجية، ويضعون «المعرفة» في صورة أخرى تجعل الخط موصولا بين الشيء الخارجي وبين فكرتنا الداخلية عنه، ويسمون هذا الخط الموصول «خطا نسبيا» حيث لا يكون في هذا الخط الموصول فاصل يفصل الأصل الذي بعث مؤثراته فينا، عن الصورة التي تكونت عنه في عقولنا. وبذلك تنسد الفجوة الفاصلة بين الطبيعة الخارجية وبين الذات العارفة، فافرض - مثلا - أنك تبصر ضوءا آتيا إلى عينيك من مصباح، فليس تحليل الموقف هنا هو أن «شيئا» قائما في الخارج هو الذي نعرفه، وأن ذاتا في الداخل هي التي تؤدي عملية المعرفة، بحيث يكون هنالك فاصل بين الشيء من جهة وفكرتنا عنه من جهة أخرى، بل إن أشعة الضوء تنبعث في موجات تعرفها الفيزياء، حتى تصل إلى العين، وهنا يواصل خط الأحداث سيره بغير قطيعة فاصلة بين خارج وداخل، كل ما في الأمر أن نوع الأحداث يتغير حين يسير خط الأحداث في طريقه من جهازنا العصبي وإلى الدماغ. الأمر كله أحداث تعقبها أحداث، وهذه بدورها تتلوها أحداث، حتى تنتهي العملية التي نقول عنها إنها «معرفة»، مع ملاحظة هامة وخطيرة، لعلها من أبرز ما يميز الفلسفة المعاصرة كلها، وهي أنه لم يعد أمامنا «طبيعة» هناك و«عقل» هنا، يختلفان جوهرا، بل أصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من جنس واحد، هو «الأحداث» - أو قل هو الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا - والقسمة بينهما هي قسمة في التخصصات العلمية وحدها، فالفيزيائي يختص بالأحداث التي تقع في مسار الضوء بادئا من المصباح واصلا إلى العين، والفسيولوجي (عالم وظائف الأعضاء) يختص بالأحداث التي تقع على طريق الأسلاك العصبية، وعالم النفس يختص بآخر الطريق، حين يقال عن تلك المرحلة من مراحل السير، إنه «فكرة» الإنسان عن شيء رآه.

لكن عصرنا في الوقت نفسه، يشهد ضربا آخر من الفلسفة يقر هذا الاتصال الملتحم بين الذات العارفة والشيء الذي تعرفه، ويرفض أن يكون بين الطرفين فاصل يضيق أو يتسع، لكنه يتصور هذا الاتصال على صورة أخرى، أخذ بها «هوسرل»

Husserl

في فلسفته التي يطلق عليها اسم «الفينومينولوجيا» - أو تحليل الظواهر - فلقد ثار هوسرل هذا وأتباعه - ولنلحظ هنا أن الوجوديين المعاصرين جميعا من أتباعه بطريق مباشر أو غير مباشر - ثار على التقليد القديم الذي كان يقتضي الفصل بين ذات الإنسان العارفة والأشياء التي تعرفها، فهو تقليد نشأ عن فهم خاطئ لطبيعة العقل؛ إذ صوروه وكأنه صندوق يحتوي على صور ذهنية وأفكار، ومن هنا أخذوا يسألون: من أين لهذا الصندوق محتواه ؟ وما العلاقة - من تشابه أو تباين - بين ذلك المحتوى وبين العالم الواقع؟ وحقيقة الأمر عند هوسرل هي أن العقل ما هو إلا «مشير إلى كذا ...» أو «قاصد نحو كذا ...» أو «ملتفت إلى ...» ولأضرب لك مثلا موضحا، فأقول: افرض أنك رأيت رجلا سائرا متجها إلى ...» إلى مكان لا تدريه، فتسأله: إلى أين؟ فهل أنت في هذه الحالة تفرق بين سير الرجل واتجاهه؟ أم إنهما عندك شيء واحد؟ إن سيره هو اتجاهه، إنه إذا أجابك عن سؤالك إلى أين؟ بقوله لست أدري، ضحكت منه؛ لأنه لا يعقل أن «يتجه إلى ...» ثم لا شيء! وهكذا «العقل» في فاعليته، هو «اتجاه نحو ...» هو «وعي ب ...» فإذا وجدت إنسانا يدعي أنه «يفكر» لكن أفكاره لا تنتهي إلى «شيء» فاعلم أنه كان حالما أو عابثا. ومن هنا تأتي الركيزة الأولى في فلسفة هوسرل - اصطلح بعض كتابنا على تسميتها بالظواهرية أو الظاهراتية، ولكن أخشى استخدام أي من هاتين الكلمتين مخافة أن يختلط الأمر باتجاه فلسفي آخر وهو أيضا معاصر، واسمه الإفرنجي فينومينالزم؛ أي الرأي بأن الإنسان لا يدرك من الأشياء إلا مجموعة ظاهرات تظهر للحواس ولا شيء وراء ذلك. أقول إنه من هنا تأتي الركيزة الأولى في فلسفة هوسرل، وهي «القصدية»، ويعني بها أن كل وعي هو وعي بشيء، كل فكرة هي فكرة عن شيء، وهكذا. لقد أخذ هوسرل على ديكارت قولته: «أنا أفكر ...» دون أن يذكر لنا في أي شيء يفكر؛ لأن الفكر بغير شيء يتعلق به ضرب من المحال.

ونحن إذا ربطنا الأواصر بين الوعي وما يعيه، بطل السؤال القديم: هل أفكارنا تطابق الواقع أو لا تطابقه؟ وذلك لأنني إذ أكون على وعي بهذا القلم الذي في يدي بصرا ولمسا، فقد أصبحت أنا والقلم حقيقة واحدة إبان لحظة الوعي به، فإذا سألني سائل: ما الذي يدلك على أن القلم موجود فعلا؟ أجبته: لأني أراه وألمسه. وفي هذا الجواب ما ينبغي أن يقطع كل شك بعد ذلك، فليس عالمي منفصلا عن وعيي به؛ لأني طالما أعيه فأنا أعيشه. إن التحليل النظري وحده هو الذي يفتت الحقيقة؛ إذ الحقيقة كما نعيها أمر آخر غير تحليلها، فربما نظرت إلى وردة حمراء، فيقول لي التحليل إن هذا الذي تراه وردة واحمرار أضيف إليها. لكن الذي أراه في الحقيقة ليس حاصل جمع الوردة على لونها مع التفرقة بين المفردات التي جمعت، بل هو وردة حمراء دفعة واحدة، وفي لحظة وعيي بالوردة الحمراء، لا نكون اثنين، بل نكون كيانا واحدا.

ومن هنا تبطل التفرقة القديمة بين صفات أولية كائنة في الأشياء نفسها، وصفات ثانوية هي من صنع عقولنا - تلك التفرقة التي سادت القرن السابع عشر بصفة خاصة، وكان لها أثرها البعيد في دنيا الفيزياء عندئذ - إذ قصر العلم نفسه على الصفات الأولية وحدها، ولم يكن له شأن بالصفات الثانوية، على اعتبار أنها جانب ذاتي يدل على صاحبه ولا يدل على العالم الموضوعي. أما على يدي هوسرل فهذه التفرقة غير مفهومة ولا مقبولة، فإدراكي للوردة الحمراء، وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة الوعي بها، ليس فيه ما هو أولي وما هو ثانوي، ليس فيه ما هو موضوعي وما هو ذاتي، هو لحظة حية لا تقبل التحليل؟ ليس في العالم الخارجي وردة تبعث موجات ضوئية، وفي الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية إلى لون أحمر. لا ليس الأمر هكذا، بل إن وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالأشياء حقائقها هي ظواهرها في وعينا، وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه «عقل». واختصارا فقد ضمت فلسفة تحليل الظواهر عند هوسرل، ما كانت الفلسفة عند سواه قد بعثرته أشتاتا بعضها خارج وبعضها داخل. •••

هذه «عينات» موجزة مما يقوله مفكرو الغرب، لو طرحوا على أنفسهم مشكلة المواجهة التي يواجه بها الإنسان الطبيعة، ما عناصرها؟ وإنهم ليطرحون هذه المشكلة بالفعل، كما طرحها أسلافهم، لكنهم ربما ازدادوا بها اليوم عناية واهتماما، فماذا يقول مفكر عربي لو أراد المشاركة في البحث والرأي؟ هب جماعة من أولئك الفلاسفة جلست على مائدة للحوار، وأجلست معها مفكرا عربيا سمع ما دار بينهم من نقاش حول علاقة الإنسان بالطبيعة، ثم طلب منه أن يدلي هو الآخر برأيه، شريطة أن يصدر فيه عن ثقافة عربية أصيلة غير مجلوبة له من هنا أو هناك، فماذا تراه قائلا؟

أحسبه يبدأ الحديث باعتراض يتناول به الأسس والجذور، فزملاؤه من فلاسفة الغرب، لم يستوقف أنظارهم شيء في العلاقة بين الإنسان والطبيعة بمقدار ما استوقفتهم عملية «المعرفة» كيف تتم للإنسان حين يكتسب عن بيئته علما؟ فإذا اتسع معهم نطاق البحث، جاءت السعة بمثابة الفروع المشتقة من ذلك الأصل والأساس، الذي هو «المعرفة» كيف يرتبط بها الطرفان، الإنسان العارف والطبيعة التي هي موضوع معرفته؟ أقول إنني أظن أن صاحبنا العربي يبدأ حديثه باعتراض على أساس البحث والنظر؛ لأنه - على ضوء ثقافته التقليدية العريقة - يرى أن العلاقة الأساسية الأولى، التي يواجه الإنسان بها الطبيعة التي حوله، ليست هي علاقة العارف بموضوع معرفته بل هي علاقة الفاعل بما ينصب عليه فعله، أو قل إنها ليست علاقة العقل بالمعقول بل هي عنده أولا علاقة الإرادة بالفعل المراد.

الطبيعة في الثقافة العربية مسرح للحركة والنشاط والفاعلية، أكثر منها موضوعا للنظر المجرد، وحتى المعرفة العقلية النظرية إنما ينظر إليها على ضوء الثقافة العربية على أنها فاعلية أريدت، فالإرادة لها الأولوية المنطقية، عنها تتفرع سائر الجوانب. ويكفي أن نقول إن القرآن الكريم هو كتابنا الذي نهتدي به، لنقول بالتالي إنه مصدر التشريع، أي مصدر القوانين والأوامر والنواهي، وهي كلها من قبيل الفعل لا من قبيل الفكر المجرد. ولقد وردت في هذا الكتاب الكريم مجموعة من القيم - الأسماء الحسنى قد ينظر إليها على أنها دالات على قيم - المنظمة للسلوك: سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان، وسلوكه مع سائر الكائنات. وكل هذا هو بالنسبة للسالك «طبيعة» تحيط به، ويراد له أن يتصرف إزاءها على خير الوجوه.

ولقد تبدو مجموعة القيم السلوكية هذه، منوعة مفرقة إلى درجة ربما غابت معها الوحدة التي تضمها جميعا في نسق واحد مرتب، فيه الأعلى وفيه الأدنى، بمعنى أن تكون هنالك قيمة - أي معيار أو مقياس للسلوك - أعم وأشمل من قيمة أخرى، وبحيث تأتي هذه الأخرى بمثابة النتيجة المتفرعة، وفي هذه الحالة تكون مهمة الفيلسوف العربي - بدل أن يتناول أفكارا عقلية ليرى كيف جاءت وعلى أي نحو تنساق في بناء واحد - أن يتناول قيما ليرى كيف يتصل بعضها ببعض اتصال الأعم بالأخص، لتكون في النهاية مرشدا عمليا لسلوك الإنسان في محيطه الاجتماعي والطبيعي على حد سواء. وإن وحدانية الله نفسها لا أظنها تفهم فهما جيدا إلا إذا استتبعت في ذهن من يفهمها وحدانية في مجموعة القيم، أعني تنسيقا لها، من شأنه أن يسدد السالك نحو الهدف، إذ لو كانت متنافرة متناقضة فيما بينها، لأدت بالسالك إلى تمزق وتشتت وضلال، بل إن كلمة «الإسلام» نفسها تتضمن تسليم الإنسان إرادته لإرادة الله، أي أن يجعل إرادته في خدمة ما أراده له الله من فعل يؤديه.

فإذا كان محور المواجهة بين الإنسان وما يحيط به عند مفكري الغرب هو «العلم»، فمحور المواجهة عند المفكر العربي هو «الأخلاق»، وأنا أستعمل هذه الكلمة هنا «لتعني مبادئ السلوك الصحيح تجاه مختلف المواقف، على أن المواقف «الاجتماعية» أولى عنده بالنظر والتقنين، فمن أهم الإضافات التي أضافتها الثقافة العربية - صادرة في ذلك عن العقيدة الإسلامية - تنظيمها لأخلاقية الفعل، بعد أن كانت الأخلاقية قبل ذلك مقصورة على النية والضمير. ولنلاحظ هنا أن أخلاقية الفعل لا تنفي أخلاقية الضمير، بل تضاف إليها لتزيد عليها، فبدل أن تصفو النية ثم يقف الإنسان عند هذا الحد، تطالب أخلاقية الفعل بنقل النية إلى فعل يؤدى. أخلاقية النية تجعل من الفرد الإنساني فردا ممتازا في فرديته، وأما أخلاقية الفعل فتخرج الفرد من فرديته لتجعله مواطنا صالحا، أي لتجعله عضوا نافعا في جماعة. في أخلاقية الضمير ليس هنالك من حكم إلا الضمير نفسه، إذا استراح ورضي عن صاحبه كان صاحبه سعيدا راضيا، وحسبه جزاء أن يرضى عن نفسه لأنه أرضى ضميره، ولا عبرة عندئذ لوقعه على الناس الآخرين، وأما في أخلاقية الفعل فلا يكفي أن يستريح الضمير ويرضى ليكون الفرد ساميا، بل لا بد أن توضع النية الحسنة على محك الفعل، ومحك الفعل عادة هو الآخرون، هو المجتمع، هو الإنسانية، وبغير هذا الطرف الخارج لا تتم للموقف أخلاقيته.

وإذا أنت أمعنت النظر قليلا في ذلك، ألفيت نتيجة هامة تلزم عنه، هي ضرورة الوجود الاجتماعي ليكمل الفرد؛ وبذلك تكون الثقافة العربية الأصيلة قد أضافت هذا البعد الاجتماعي إلى حياة الأفراد، لا ليكون عرضا من أعراضها، بل ليكون ضرورة للوجود الإنساني المتكامل. ومن هنا كانت عزلة الزاهد أو المتصوف شيئا لا ينسجم مع الروح العربية، انسجامه في الثقافات الأخرى. ولما كان تنظيم الفعل في مجتمع يحتاج إلى «قانون» يضع له الحدود، كان التشريع، أو كان «الفقه» ورسم الحدود لما يجوز وما لا يجوز للإنسان أن يفعله، من أهم وأعظم نتاج الثقافة العربية. وأكرر مرة أخرى، أن احتكام الفاعل إلى قانون أو شرع، لا ينفي احتكامه إلى ضميره بل يضيف إليه، فالاكتفاء بمحكمة الضمير وحدها، قد لا يلزم الإنسان بالانغماس في حياة العمل. إن العلاقة بين الحالتين هي كالعلاقة بين آلة ننظر إليها وهي ساكنة، ثم نختبر صلاحيتها وهي تعمل، فلا تتحقق الحالة الثانية إلا إذا تحققت قبلها الحالة الأولى. لكن العكس غير صحيح، أي إنه قد يكتفى في الآلة بحالة سكونها، فلا ندري ماذا تكون في دنيا العمل، وهكذا قل في أخلاقية الضمير وحده، ثم أخلاقية الفعل المبنية على موافقة الضمير. •••

الفعل وديناميته، لا العلم المجرد في ثباته وسكونه، هو حجر الزاوية من البناء الإنساني من وجهة النظر العربية. وأحسب أن ذلك قد انعكس في اللغة العربية وطرائق بنائها، فهي تبدأ الجملة ب «الفعل» وتعقب عليه بالفاعل، على خلاف اللغات الأوروبية التي تبدأ جملتها بالفاعل، ثم تلحقه بالفعل. نحن نقول «جاء» زيد أكثر مما نقول «زيد» جاء ، وهم يعكسون، ولما كان الفعل ينم في الأغلب عن إرادة، ثم لما كانت الإرادة توشك أن تنحصر في الإنسان دون سائر الكائنات في العالم المخلوق، كانت المواجهة التي تشغل الثقافة العربية، ليست هي مواجهة الإنسان بعقله للطبيعة بخصائصها ابتغاء الوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية، وإنما هي مواجهة الإنسان بإرادته للمجتمع الإنساني في فاعليته، وأوجه نشاطه، ابتغاء المشاركة في فعل موحد يوصل إلى أهداف ترضى عنها القيم العليا. فقطب الرحى عند فلاسفة الغرب هو إحكام للعقل، وقطب الرحى عند المفكر العربي هو قيم السلوك، والخير كل الخير في أن تضم هذه إلى تلك، فإذا كان الغرب ينقصه ما يكمله فنقصه في القيم التي تدمج الفرد في جماعة الإنسانية دمج التعاطف والتعاون، وإذا كان العربي ينقصه ما يكمله، فنقصه في قضايا العلوم التي هو الوسيلة للسيطرة والإمساك بزمامها. ولا عجب أن شهد التاريخ الفكري حركتين سارتا في اتجاهين متضادين، فمن إقليمنا سارت ديانات إلى الغرب وانتشرت، بما تحمله تلك الديانات من رسالة القيم، ومن إقليمهم سارت إلينا علوم، بما تحمله تلك العلوم من وسائل التصرف في ظواهر الطبيعة.

لقد تميزت ثقافة العربي - أبرز ما تميزت به - بالشعر وغيره من فنون الأدب التي تستطيع أن تدرجها مع الشعر في مقولة فنية واحدة، وما الشعر؟ إنه - في صميمه - تعاطف مع كائنات الدنيا، ومعايشة لها. إن الشاعر لا يقف - كما يقف العالم - من الأشياء على مبعدة لينظر إليها في ذواتها دون أن يسقط ذاته هو عليها. كلا، بل الشاعر يتعمد أن يرى نفسه في ماء البحر وفي نجوم السماء وفي زرع الأرض، وكأنما هي جميعا أفراد معه في أسرة واحدة. فتأمل معي هذه المفارقة العجيبة: إذا نظر العلماء إلى الإنسان حولوه إلى شيء ليبحثوه بحثا علميا موضوعيا، وإذا نظر الشعراء إلى الأشياء حولوها إلى أناسي يتبادلون معها الحديث! وذلكم هو نحن في نظرتنا ... الطبيعة بغير ناس لا تكاد تشغلنا، والناس عند المفكر الغربي يكادون يتحولون إلى طبيعة.

وأستطيع أن أستثني من تيارات الفلسفة المعاصرة تيارا واحدا، بين نظرته ونظرتنا وشائج قربى، هو تيار الفلسفة الوجودية في شعبتها المؤمنة - فللوجودية شعبتان: مؤمنة وملحدة - لأنها فلسفة (بشعبتيها معا) تركز على أن يكون الإنسان فاعلا حرا مسئولا عن فعله، فلا تغني نفس عن نفس في مسئولية الفعل شيئا. وأما التيارات الأخرى جميعا، يقرأ عنها العربي المنقوع في ثقافة عربية أصيلة، فيحس كأنه في جو غريب عنه، يحس كأنه يتنفس دخانا لا هواء طلقا. ولكاتب هذه السطور تجربة حية في ذلك، فقد انتهت به ثقافته «الإنجليزية» في ميدان الفلسفة إلى اختيار أحد التيارات العقلية العلمية، واعتقد في صلاحيته، هو تيار التجريبية العلمية - أو الوضعية المنطقية - وكتب في شرحه الكتب والفصول، لكنه لحظ عن كثب كيف كانت تصادف تلك النزعة التحليلية العقلية غير أهلها، فإذا تحدث في الوجودية أو في فلسفة برجسون مثلا، فهنا ترهف الآذان لتسمع.

لقد رأى إمام من أئمة الفقهاء المسلمين - هو ابن تيمية - أن معرفة الله من حيث هو ماهية، مستحيلة على الإنسان، وأنه لا سبيل أمام الإنسان لمعرفة الله إلا بمعرفة إرادته التي كشف عنها لأنبيائه، والتي ينحصر واجب العباد في طاعتها، وما إرادة الله إلا مجال القيم التي يراد لسلوك الإنسان أن يسير على مقتضاها. ولما كان هذا السلوك المراد يغلب أن يكون ذا صلة بحياة الآخرين في المجتمع، كانت فكرة «الأمة» ذات أهمية بالغة، والذي يجعل من مجموعة الناس أمة واحدة، ليس هو أنهم يعيشون على رقعة جغرافية واحدة، ولا أنهم يستدبرون تاريخا مشتركا، ولا أنهم يتكلمون لغة واحدة، بل هو - عند ابن تيمية - المشاركة في «فعل»، وبهذه المشاركة، يجاوز كل فرد حدود نفسه، لينفتح على الآخرين الذي هم شركاؤه في فعل واحد. وليس بي حاجة إلى ذكر الموقف الراهن ل «الأمة العربية» إزاء الوجود الإسرائيلي، تأييدا لرأي ابن تيمية، فالأمة العربية في هذه الحالة لا تتوافر لها صفة «الأمة» إلا وهي في حالة فعل مشترك.

لقد كدنا ننسى أن موضوع المحاورة الذي اجتمع من أجله جماعة من مفكري العصر، هو مشكلة بلغت حدتها في عصرنا، وهي علاقة الإنسان بالطبيعة حين يواجهها، ما أصلها وما فصلها؟ وكدنا ننسى كذلك أننا افترضنا وجود مفكر عربي مع تلك الجماعة، ليشارك بالرأي من وجهة نظر عربية أصيلة، فماذا عساه يقول على سبيل الإضافة المفيدة. فزعمنا أنه يغير من زاوية النظر، فالمواجهة عندهم مواجهة للطبيعة تنتهي بعلم، والمواجهة عنده مواجهة للمجتمع الإنساني تنتهي بالقيم، فيدرك كل من الفريقين بأي طابع يتميز، وما الذي ينقصه ليكتمل الإنسان إنسانا.

Неизвестная страница