Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
وإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلا بد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه. فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا، الكلمة عندنا لصاحب القوة، القول النافذ لصاحب الجاه، الحق مع صاحب النفوذ. وإننا لنخدع أنفسنا عبثا ، إذا ظننا أن النظم الديمقراطية التي قد نصطنعها جادين مخلصين، تكفل لنا الديمقراطية محتوى ومضمونا، فالوعاء وحده لا يكفل لك نوع الشراب، وقد تكون صحاف ولا يكون ثريد. القانون عندنا يسن لمن لا يستطيع عصيانه، والنظام بيننا يقام لمن لا يقوى على هدمه. نعم، إن المواطنين جميعا سواء أمام القضاء، لكنهم ليسوا متساوين في أن تصل أصواتهم إلى مسامع القضاة؛ إنك صاحب رأي بيننا إذا كنت صاحب منصب، فعندئذ يتكلم الكرسي الذي تتربع عليه قبل أن يجري لسانك في فمك، عندئذ توزن كلماتك بموازين الذهب والجوهر، عندئذ يهرول إليك الصحفيون والإذاعيون لتنطق لهم بالدرر، الصحفي إلى جانبك والورقة والقلم في يده حتى لا تفلت منه درة، والإذاعي يدنو إلى شفتيك بسماعته حتى لا تتبدد في الفضاء حكمة. ويذهب عنك المنصب كما جاء، فتذهب عنك رجاحة العقل وإصابة الرأي وبلاغة الكلام.
إن الحدث في حياتنا يحدث، فنسأل: «من» أحدثه؟ قبل أن نسأل «كيف» حدث؟ وذلك لأن الفعل مرتبط بالإرادة - إرادة من بيده إرادة نافذة - وليس مرتبطا بالتسلسل السببي الذي يربط حادثة بحادثة أخرى سببت وقوعها أو اشتبكت معها في مركب واحد بوجه من الوجوه، فالمدار عند العربي هو للإرادة لا للفكر، فليس المهم أن «تعقل»، ولكن المهم هو أن «تريد» شريطة أن تملك القوة التي تنفذ إرادتك. كان ينبغي أن يكون الترتيب الطبيعي هو أن العقل العاقل فكرة صحيحة، فيسلمها إلى صاحب الإرادة ليخرجها بالتنفيذ إلى عمل، لكن هذا الترتيب الطبيعي للأمور قد انعكس على يدينا، فأصبح البدء للمريد، والبقية على العاقلين، ولما كانت الإرادة هي - بحكم طبيعتها - رغبة وهوى، كانت السيادة عندنا للرغبة والهوى.
قوام الأخلاق عندنا هو «الواجب» لا «السعادة»، ولطالما اختلف فلاسفة الأخلاق في أيهما أحق بأن يكون المدار: أنفعل الفعل لأن سلطة عليا قد «أوجبته» علينا، فلم يعد لنا محيص عن فعله، سواء أأسعدنا في حياتنا الدنيا أم أشقانا؟ أم نفعل الفعل لأن التجربة قد دلت على أنه يعود علينا بالحياة الطيبة؟ إنها إذا كانت الأولى، كان «الواجب» هو الواجب، مهما تغيرت ظروف العيش ومهما تطور المجتمع وتبدلت أوضاعه. وأما إذا كانت الثانية، كان من حقنا أن نغير من الفعل لنلائم بينه وبين ما يحقق لنا سعادة العيش ورخاءه. وأعود فأقول إننا من القائلين «بالواجب» المفروض علينا من صاحب السلطان، وكان المفروض أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل في المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر، بل إننا لنفزع - أو ندعي الفزع - إذا قيل لنا إنه لا بد في مجتمع متطور أن يتطور معيار الحكم الأخلاقي على الناس والأفعال، فنتج عن ذلك موقف مشحون بالمفارقات؛ إذ انسلخت دنيا الحياة الواقعة التي يتعامل فيها الناس بالبيع والشراء والزواج والطلاق وتربية الأبناء وما إلى ذلك من صنوف التعامل، انسلخت دنيا الحياة الواقعة هذه عن دنيا القيم الأخلاقية، فالفعل في ناحية والقول في ناحية أخرى. وقد ألفنا هذا الازدواج إلفا، توهمنا معه أنه هو طبيعة الأمور؛ ومن ثم كان النفاق الذي نقع فيه كل لحظة، لا نكاد نحسه أو نعيه، فلا يثير منا دهشا أن تنفرج الزاوية بين المدرسة بقيمها والبيت بفعله، وأن تكون هذه الزاوية أشد انفراجا بين المسجد والسوق.
وجاءت حياتنا الفنية انعكاسا لهذه النظرة الشاملة، التي تعلي من شأن الخارج على حساب الداخل، فالمعيار يهبط عليك من عل، ولا ينبثق من طويتك، فكانت الأولوية في حياتنا الفنية كلها - بوجه عام - هي لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون، فالرسوم أشكال هندسية، والقصائد تفعيلات موزونة. وتسربت هذه «الشكلية» إلى مناشط الحياة جميعا، فما دمت قد حافظة على «الشكل» المقبول - عند القانون أو الشرع أو العرف - فقد أديت واجبك، بغض النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لباب الفعل نفسه وما يؤدي إليه من نتائج ضارة أو نافعة. المعول عندنا على «المظهر» لا على الحقيقة، فاظهر للناس في أوضاع الغنى تكن غنيا، وفي أوضاع الحرية تكن حرا، وفي أوضاع العالم تكن عالما، المهم هو أن يسلم «الشكل» من الشوائب، وهذا - بالطبع - يحتاج إلى مهارة وبراعة ، ولهذا كان السذج منا، الذين يتعالون على «الشكل» بحثا عن المضمون وحقيقته، سراعا إلى السقوط فالموت. •••
جذور يجب أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد، فإذا ما خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتنبت لنا نبتا آخر. وكما كانت سلسلة الصفات التي لم نعد نريدها مرتبطة بعضها ببعض، بحيث كانت الحلقة منها تستتبع التي تليها، فمن انفصام السماء عن الأرض نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة وفي المجتمع الإنساني على السواء، وعلت الإرادة على الفكرة، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة هي واجبات مفروضة، وبات الفن شكلا بغير مضمون. أقول إنه كما كانت تلك السلسلة من الصفات المبعدة متصلة الحلقات على النحو الذي رأينا، فكذلك سلسلة الصفات التي نريد لها أن تضاف.
ولسنا نرى ما يمنع أن نبقى على هذه الثنائية فيما يختص بعلاقة الإنسان بربه، لكننا نوجب أن تضاف ثنائية جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وأعني بها ثنائية العلم والحرية، لكنه قول يحتاج إلى شرح وتفصيل:
هذا العالم بيت والإنسان ساكنه (ويساكنه في البيت نفسه كائنات أخرى لا شأن لنا بها الآن)، ومن حق الساكن أن يستخدم أثاث البيت على الوجه الذي يراه نافعا ومؤديا، لكنه لكي يستخدم هذا الأثاث، لا بد من أن يعرف ما هو؟ وكيف ينتفع به؟ وهذه المعرفة إذا ما أحكمت كانت هي «العلم» - العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات. وإنه لحديث طويل أن نفصل القول تفصيلا في الخطوات التي ينبغي للباحث العلمي أن يخطوها في سبيل علمه بالطبيعة وكائناتها، فحسبنا الآن أن نسوق كلمة «العلم» وكأنها واضحة المدلول.
لكن «علم» الإنسان بالطبيعة وظواهرها وتفاعلاتها، يستوجب أن يكون هذا الإنسان نفسه «ذاتا» عارفة عالمة باحثة منقبة. هنالك ذات تعلم وموضوع يعلم، ومهما زعمنا الصلة الدامجة لهذين الطرفين في كائن واحد، فما يزال هناك هذان «الطرفان»، الذات العارفة والموضوع المعروف، الإنسان والعالم، كطرفي العصا، والعصا واحدة.
إلى هنا والأمر أوضح من أن يذكر، لكن النتيجة التي تلزم عن هذه القسمة ليست واضحة دائما ، وأعني ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره، وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن، وتستجمل وتستقبح ما شاءت لها أهواؤها وميولها.
فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هو ما نريده للمواطن العصري. وبالتقيد بحقائق العلم يتشابه الناس على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم، وبالحرية في انطلاق الذات وراء طبيعتها يختلف الناس، فردا عن فرد أولا، وأمة عن أمة ثانيا. حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية فذلك «علم»، والعلم واحد للجميع، وأما حين أتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن»، والفن منوع بتنوع الأفراد والأمم. العلم موضوعي والفن ذاتي، والخلط كل الخلط في أن أفسد العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يملى عليه من خارج. وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر.
Неизвестная страница