Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
قلنا: إن الفاعلية الفلسفية هي في صميمها حفر تحت أرض الواقع الفكري، لعلنا نصل إلى الجذور الدفينة، التي عنها انبثق ذلك الواقع، وليست الفاعلية الفلسفية هي أن يقبع الفيلسوف في عقر داره، يعتصر الأفكار في ذهنه اعتصارا مبتور الصلة بما هو كائن. وإذا كان ذلك كذلك، فهل من شك في أن لنا اتجاهات ثقافية تميزنا بها وما زلنا نتميز؟ وهي اتجاهات لم تتحجر عبر الزمان لتثبت على صورة واحدة، وإلا فلو كان أمرها كذلك، لكان فيما صنعه أسلافنا ما يكفينا أبد الدهر، لكن لا، فاتجاهاتنا الفكرية - مع احتفاظها بأسس ثابتة وأصول - تربط ماضينا بحاضرنا، وتجعل منا أمة عربية واحدة ممتدة على التاريخ، إلا أنها بالإضافة إلى هذه الأسس والأصول، تنمي فروعا تساير بها تغيرات العصر، فماذا يصنع صاحب الفكر الفلسفي، إلا أن يفرغ لتحليل هذه الحياة الثقافية العربية المعاصرة ليرتد بها إلى منابتها فتكون هذه المنابت هي ما قد يسمى بالفلسفة العربية المعاصرة ، على غرار ما صنع أسلافنا بالنسبة إلى ثقافتهم وإلى مشكلاتهم الفكرية في عصرهم؟ فلقد كانت مشكلاتهم الرئيسية هي أن يوازنوا بين ما نزل به الوحي من حقائق، وبين ما كان العقل الإنساني قد أنتجه قبل ذاك، ليروا أين يلتقي هذان المصدران، وأين يفترقان. وكانت النتيجة الأساسية التي انتهوا إليها من تحليلاتهم، هي أن المصدرين كليهما تنبثق منهما حقيقة واحدة بعينها، وإذن فلا تناقض ولا تعارض بين ما تقتضيه العقيدة الدينية، وما يقتضيه العقل بمنطقه.
وأما نحن في عصرنا، فقد نشأت لنا صراعات فكرية جديدة، تولدت عن ظروف العصر ومناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي، وما نزال نعانيها في حدة، هي طريقة اللقاء التي توائم فيها بين علوم حديثه، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزاما علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته، بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها، منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث، هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى.
والمتتبع لحياتنا الفكرية خلال المائة والخمسين عاما الأخيرة، يستطيع أن يرى في وضوح كيف تشققت صفوفنا إزاء هذا اللقاء الفكري، فانشعبنا ثلاث فرق، ما زالت بادية إلى يومنا هذا، ففريق منا آثر أن يعتصم بالتراث الماضي وحده، وأن يغلق نوافذه دون العلم الحديث الوارد إلينا، حتى لقد كانت لفظة «العلماء» - إلى عهد قريب جدا - لا تطلق إلا على من ألم بالتراث الفكري وحده. وفريق آخر ذهب إلى النقيض الآخر، وارتمى في أحضان العلم الوارد، مغلقا نوافذه دون تراثه حتى كان الواحد من هؤلاء لا يكاد يحسن قراءة العربية نفسها. وفي ظني أن كلا الفريقين قد اختار لنفسه أسهل السبل؛ إذ ما أيسر على الفريق الأول أن يعبر عصور التاريخ، قافلا إلى وراء، ليجعل من نفسه نسخة مكررة مما كان، وكذلك ما أيسر على الفريق الثاني، أن يعبر البحر الأبيض المتوسط، لينهل من موارد العلم في أوروبا، بحيث يجعل من نفسه نسخة مكررة مما هو كائن هناك، وكلا هذين الفريقين لا يصنع لنا ثقافة عربية معاصرة، لأنه إذا كان الفريق الأول عربيا فليس هو بالمعاصر. وإذا كان الفريق الثاني معاصرا، فليس هو بالعربي، وإنما العسر كل العسر هو ما تصدى له فريق ثالث، ما زال يتحسس خطاه على الطريق؛ بغية أن يصوغ ثقافة فيها علم الغرب، وفيها قيم التراث العربي جنبا إلى جنب، لا، بل متضافرين في وحدة عضوية واحدة. ولو استطاع ذلك لوفق في إنتاج ما نحن بحاجة إليه. وإذا وضعنا المشكلة في عبارة مبسطة قلنا إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان.
لقد فشل الغرب نفسه - وهو صانع العلم الحديث - في أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم - والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه - لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحيرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلو إلى نفسه ويصغي إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علم يحصله أو مال يكسبه، أو قوة يستبد بها ويطغى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يضاف إليها شيء آخر، هو القيم الخلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانا بالعمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانا بالطول والعرض.
وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين - بين مقتضيات العلم ومقومات الإنسان - والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا ، نحن أبناء الأمة العربية اليوم، وننتظر صاحب الفكر الفلسفي الأصيل النافذ؛ ليغوص إلى أعماقنا الثقافية، فيستخرج لنا الصيغة المنشودة التي نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسة فيها. وذلك هو ما حاوله الإمام محمد عبده، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر في بلادنا، كل بطريقته الخاصة، فحين حاول محمد عبده وضع تراثنا الديني في ضوء العصر الراهن، فإنما أراد أن يلتمس طريقة إلى هذا التوفيق الذي نبتغيه، وحينما حاول العقاد أن يدافع عن الإسلام بدحض ما يقوله عنه خصومه مستخدما في ذلك ثقافته الأوروبية وثقافته العربية ممتزجتين في مركب واحد، فإنما أراد أن يجمع بين الثقافتين على صعيد مشترك، وحين أراد طه حسين أن ينقد أدب العرب الأقدمين على ضوء من الفكر الحديث، فقد أراد بدوره أن يصنع الصنيع نفسه، وعندما كتب الحكيم عددا كبيرا من مسرحياته وحاول فيها أن يعانق بين الروح والمادة، وبين الأزلي والحادث، فقد أراد أن يصل بذلك إلى الغاية نفسها. وهكذا تستطيع أن تتعقب أعلام الفكر في تاريخنا الحديث والمعاصر، فتجد كل واحد منهم قد أراد بطريقته الخاصة أن يضفر ثقافة الغرب الحديث وثقافة التراث العربي في جديلة واحدة. وإني لألاحظ في هذا الصدد أن ثمة كثيرين من رجال الفكر عندنا قد بذلوا جهودا مشكورة في المجال الثقافي، لكنهم لم يبذلوها في سبيل هذا الجمع بين الثقافتين، فذهب بهم النسيان - أو سوف يذهب - بأسرع مما كانوا يظنون. •••
لكن هذه الأمثلة التي ذكرتها، هي أقرب إلى عالم الأدب والأدباء، منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي الذي كنت أعنيه في أول الموضوع، فهل في وسع الفلسفة أن تسهم في ذلك بنصيب؟ وعلى أية صورة يمكن أن يكون إسهامها؟ الحق أننا - نحن المشتغلين بالفلسفة في الجامعات العربية - قد انصرفنا في معظم الحالات إلى الدراسات الأكاديمية التي نعرض بها موضوعات ومذاهب، عرضا هو أقرب إلى التاريخ، منه إلى التكوين الجديد المبتكر لقضايانا الفكرية، تكوينا يجيء - كما قلت - كاشفا عما هو مضمر في نفوسنا من مبادئ ومثل؛ ومن ثم كانت لنا في الفلسفة مؤلفات عربية، لكن لم يكن لنا فلسفة عربية، نجري على فلكها، وندور حول مدارها. وإني لأتقدم فيما يلي بمحاولة - هي غاية في التواضع - أحاول أن أرسم بها تخطيطا أوليا مختصرا، لما قد يصح أن يكون أساسا لفلسفة عربية نقيمها، تعبيرا عن وجهة نظرنا، المنبثقة عن جذور ثقافية غائرة في أعماق نفوسنا.
فأحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأ راسخا، عنه انبعثت - وما تزال تنبعث - سائر أحكامنا في مختلف الميادين، هو مبدأ، لو عرضته على الناس في لغة واضحة صريحة، لما وجدت منهم أحدا يحتج أو يعارض، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما، هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث أو قل هما السماء والأرض، إن جاز هذا التعبير. ولكي نضع هذه النظرة الثنائية وضعها المفهوم، نقول إن الفلاسفة - على مر العصور، وفي مختلف الثقافات - حين أرادوا أن يضموا أشتات المعارف والقيم في مبدأ واحد يجمع شملها، كانوا في ذلك على أربعة أوجه رئيسية؛ فمنهم من جعل الوجود كله كائنا واحدا متجانسا جميعه في أنه روح صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها مادية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها روحية في جوهرها. ومنهم من جعل الوجود كله كائنا واحدا متجانسا جميعه كذلك، ولكنه متجانس في أنه مادة صرف، فإذا وجدنا فيه كائنات نظن أنها روحية، وجب أن نترجم حقيقتها إلى لغة تجعلها مادية في جوهرها. ومنهم من شطر الوجود شطرين، كل منهما متجانس لكنه مستقل عن الآخر، وذلك بأن شطره إلى روح ومادة معا، لكن هؤلاء الثنائيين قد يجعلون هذين الشطرين على مستوى واحد من الأصالة والأولوية، فلا الروح خلقت المادة ولا المادة سبقت الروح، بل هما أزليان معا، يتلاقيان في الكائنات كما نراها. ومن الفلاسفة فريق رابع يرد الوجوه إلى كثرة من عناصر، لا داعي لتجميعها تحت مبدأ واحد أو مبدأين. وأما نحن، فأحسب أننا أميل بفكرنا إلى الثنائية - كما ذكرت - غير أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي، فهو الذي أوجده، وهو الذي يسيره، وهو الذي يحدد له الأهداف.
وقد يقال هنا: ألم تكن الفلسفة الأفلاطونية - وما جرى مجراها - ضربا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ فنقول: نعم، ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حدا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودا حقيقيا بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد متفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا وأجناسا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حد سواء. وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرة متميزة فريدة، تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى، ثم نقسم عالم الأفراد هذا، إلى كثرة من عناصر بالنسبة إلى أفراد الناس - على الأقل - لأنها نظرة تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحر المسئول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعي، فكأنما هي نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، الثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، لتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، إحداهما تفرقة تمييز الخالق من مخلوقاته بشرا كانت تلك المخلوقات أم غير بشر، ثم تفرقة أخرى تميز - في عالم المخلوقات - بين البشر وسائر الكائنات، وذلك لتجعل للإنسان - دون سائر الكائنات - ضربا من الإرادة الحرة المسئولة، التي لا تخضع للقوانين الطبيعية كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة - أمانة الحرية - في شجاعة وإقدام، فهي أمانة عرضت على الجبال، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.
ومن هنا ترانا لا نطمئن بالا حين يقال عن الإنسان إنه ظاهرة تخضع كلها للتقنين العلمي، ونحرص على أن نبقي منه جانبا يستعصي على ذلك التقنين؛ لأنه جانب مريد خلاق، مسئول عن خلقه وإرادته، يبتكر الفعل ابتكارا، قد يغير به تسلسل الأسباب والمسببات كما يتصوره العلم الطبيعي.
ومن هنا كذلك كان من غير المقبول عندنا، أن يقال إن الأخلاق مدارها - في نهاية الأمر - منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها، أرادها لنا الله، وعقلناها، فالفعل عندنا يعد فاضلا في ذاته بغض النظر عن نتائجه، أهي ضارة بصاحب الفعل أم نافعة له؟ وبعبارة أخرى، فإننا نقيم الأخلاق على أساس الواجب، لا على أساس الفائدة، وهذا لا ينفي أن الواجب قد يجيء مصحوبا كذلك بنتائج نافعة، فوق كونها واجبا، لكنه واجب يؤدى قبل أن نفكر فيما يترتب عليه من ضر ونفع.
Неизвестная страница