Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
وإن الحديث ليطول بنا إذا تعقبنا الثقافات الإقليمية كيف كانت تتنوع بخصائص تميز إحداها عن سائرها، لكنه لا بد لنا من وقفة عند الثقافة العربية القديمة، لنسأل عن خصائصها البارزة المميزة؛ تمهيدا لانتقالنا بعد ذلك إلى الحديث عن الثقافة العربية المعاصرة ماذا نريد لها أن تكون. وأحسبني لا أضل طريقي إلى الصواب ضلالا بعيدا إذا زعمت أن المقدمة الأولى التي أستطيع أن أستخرج منها الخصائص الفرعية للثقافة العربية القديمة هي التعارض الحاد بين الذات والموضوع، فلا سبيل عند العربي إلى خلطه بين ذات نفسه من جهة، والأشياء في عالم الواقع من جهة أخرى، فهو هنا في ناحية وهي هناك في ناحية أخرى، وعليه بعد ذلك أن يحدد علاقته بها، أيجعلها علاقة الزاهد فيها التارك لها، أم يجعلها علاقة الغالب المنتصر المسيطر؟ إنه لا يدع نفسه تسري في الأشياء ، ولا يدع الأشياء تسري في نفسه، إنه بالنسبة إليها في عزلة ووحدة، ولكنه - وهذه هي النقطة الهامة الخطيرة التي أجازف فأقذف بها قذفا - ولكنه يستعيض عن «الأشياء» بألفاظ، ومن ثم جاءت حياة العربي في «لغته» أكثر مما جاءت في أشياء بيئية، ومن هنا أيضا كان للغة العربية ما كان لها من سيطرة عليه ومن جذب له، فكم ألف بحث أداره العربي حول لغته؟ وكم جعل العربي لغته منظارا ينظر خلاله إلى ما أراد النظر إليه؟ وإذا أراد تقويم قطعة أدبية فذلك إنما يكون بالنظر في ألفاظها وتركيب تلك الألفاظ قبل أن يكون بالبحث عن المضمون وما يستتر فيه من أضواء وظلال. إني لأذكر في شيء من الغموض قول أديب عربي حديث - لعله مصطفى لطفي المنفلوطي - حين قال إنه يفضل أن يقرأ وصفا جميلا لبستان، على أن يشهد البستان نفسه. وسواء قالها المنفلوطي، أو قالها سواه، أو لم يقلها أحد، ففي هذه العبارة صدق يكاد يجعل منها مفتاحا لخصائص الثقافة العربية كما كانت طوال العصور، والكلام هنا بالتعميم والإجمال لا بالتفصيل والتحديد.
إننا لنزداد لذلك فهما ووضوح رؤية، إذا وضعنا نصب أذهاننا هذه الحقيقة الآتية، وهي أن هنالك في حياة الإنسان عالمين يعيش في أحدهما أو في كليهما بنسب متفاوتة، عالم الطبيعة من جهة، وعالم الرموز (وخصوصا رموز اللغة) التي يبتكرها الإنسان ليشير بها إلى الطبيعة وأشيائها وكائناتها، فهناك الشجرة التي هي نبات، وهنالك إلى جنبها «الشجرة» التي هي كلمة تكتب أو تقال، فمن مجموع الأشياء يتكون عالم، ومن مجموعة الألفاظ والرموز يتكون عالم آخر، وقد تجد من الناس من يؤثر الخوض في العالم الأول، وقد تجد منهم من يؤثر السكنى في العالم الثاني، الأولون يعالجون الأشياء ذاتها بالرؤية واللمس والتشكيل، والآخرون يكتفون من الأشياء برموزها، فيكتبون ويستنبطون عبارة من عبارة ويشتقون لفظا من لفظ، ويئولون النصوص ويفسرون الأحاجي والمعميات، والزعم هنا هو أن المثقف العربي كان يفضل الإقامة في عالم اللغة أكثر جدا مما يطيل البقاء في عالم الأشياء.
اقرأ معي حديث الليلة السادسة في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وهي أمسية كان الحديث فيها عن خصائص الأمم، وكان المتحدث هو ابن المقفع، فأوجز الحديث عن العرب في قولهم إنهم «أهل بلد قفر ووحشة من الإنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله.» وهو إنما قال ذلك ليدل به على أن العرب خير الأمم جميعا، فهم لا ينقلون العلم عن أحد، إنما يعتمدون جميعا على ومضات بصائرهم، أي أن العربي لا يحيا «في» الأشياء، بل يحيها «معها»، وهو في انفصاله هذا عن الأشياء تراه يلحظها ويدون صفاتها كما يرصد الصانع عدته، لا كما يؤاخي الصديق صديقه «علموا أن معاشهم من نبات الأرض» - كما يقول ابن المقفع في السياق الذي ذكرناه - «فوسموا كل شيء بسمته ... ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء ... واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها فسلكوا بها البلاد.» أي أن أشياء الطبيعة عند العربي أدوات تستخدم للنفع ويجتنب بها الضرر، ولكنه يقف منها - قبل ذلك وبعد ذلك - موقف المعتزل المحايد، الذي لا يحب ولا يكره، أما الذي ينغمس فيه مرحا فرحا نشوان، أما الذي يعاشره متغزلا متعشقا مأخوذا بجماله هيمانا بفتنته، فهو «اللغة»، يتذوق ألفاظها وتراكيبها كأنه يتذوق طعاما يأكله وشرابا يشربه.
إن نظرة طائرة سريعة إلى الفن الإسلامي، كافية للتفرقة بين هذا الفن والفن اليوناني - مثلا - أو الفن الهندي، أو الفن الفرعوني القديم. الفن الإسلامي هندسي يقيم أشكاله من خطوط وزوايا ومربعات ومثلثات ودوائر، إنه لا يرسم كائنات الطبيعة وأشياءها لأن هذه الكائنات لا تمتزج بنفسه، ولا العربي الفنان يسعى إلى مزج نفسه بها، إنه إعلان من الفنان العربي بانفصال ذاته انفصالا تاما عن الأرض وكائناتها، إنه احتجاج على المتناهي ولياذ باللامتناهي؛ لأن عين الرائي إذ هي تتابع قطعة من «الأرابسك» لا تصدمها نهاية تفرض عليها الوقوف عندها، بل هي تسترسل في سلسلة الأشكال الهندسية إلى غير نهاية معلومة، وكذلك قل في قصيدة الشعر عند الشاعر العربي، لماذا يحددها «بوحدة» عضوية تحكم أولها وآخرها، لماذا لا يدع أبياتها - كوحدات التركيب الهندسي - تتعاقب إلى غير نهاية مفروضة محددة؟ وإنه لمما يزيد مسافة البعد بين المثقف العربي والأشياء، أنه لم يكن ينظر إلى هذه الأشياء على أنها مجسدة لقوانين، ولو فعل لازدادت عنايته بها - لا من أجل ذاتها - بل استخراجا للقوانين الخافية وراءها.
ولهذه النقطة الأخيرة عندنا أهميته البالغة؛ لأنك إذا نظرت إلى أشياء الكون على أنها كائنات مفردة لا تجمعها قوانين وقفت منها وقفتك من كثرة، لا وقفتك من كيان موحد، وبالتالي أحسست بدهرك وقد تحول إلى لقطات وومضات ولحظات، وإن هذه اليقظات - على وقدتها وسطوعها - من شأنها أن تحل فكرة المصادفة المفاجئة محل القانون الدائم، وفكرة العفوية التلقائية محل الخطة الطويلة المدى. •••
وأعود إلى استئناف الحديث فيما بدأت به، وهو أن الثقافات الإقليمية كان لها من الخصائص ما يميزها، واحدتها عن الأخريات، وقد نصيب الآن أو نخطئ في تشخيص الملامح الرئيسية لكل ثقافة على حدة، لكن المبدأ العام متفق عليه، والسؤال الآن هو: هل تبقى هذه الفوارق في عصرنا بكل ما فيه من وسائل النقل السريع؟ وإذا بقيت، فماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟
أما السؤال الأول فجوابه عندي هو أن وسائل النقل السريع في عصرنا لن يسعها أن تنقل إلا ما يمكن نقله، فهي تنقل الأفكار والأخبار، ولكنها لن تنقل نبضة من قلب إلى قلب، وإذن فستبقى الخصائص المميزة للثقافات المفردة، مهما اتسع النطاق المشترك بينها في حقائق العلم وفي قيم الأخلاق وفي عادات العيش وطرائق العمل والفراغ، إننا لا نقول بهذا إن بين الأمم فوارق بحكم الفطرة أو بحكم التكوين، لكنها فوارق تنشأ نتيجة لعوامل التاريخ، ولكل أمة تاريخها، ولكل أمة ماضيها الذي أصبح - أو يجب أن يكون - جزءا من حاضرها، فمثقفو اليوم بغير تراث ينظرون إليهم، هم حبات مفردة يعوزها الخيط الذي يسلكها في عقد واحد، وكذلك لو هبط علينا التراث بغير مثقفين يتناولونه تناولا خلاقا فيه مشاركة وإبداع ، يظل قشرة ولا لباب.
وأما السؤال الثاني فهو مربط الفرس، وجوابه هو ما يثير في نفوسنا القلق والحيرة، ماذا نريد لخصائص الثقافة العربية المعاصرة أن تكون؟ والجواب الذي ألقي به هنا راجيا أن يكون موضوعا للمراجعة وموضوعا للتصحيح، هو أن نبني على أساس تقليدنا الثقافي طابعا جديدا، يبقى على الأساس، لكنه يضيف إليه، فإذا كنت قد أصبت حين زعمت أن «روح» تراثنا الثقافي، هو إيثار السكنى في عالم اللفظ على معالجة الأشياء والفتنة باللغة في ذاتها حتى لتصرفنا - أو تكاد - عن دنيا الكائنات والحادثات التي ما جاءت اللغة إلا لتكون رموزا مشيرة إليها، فإنني أود لو أننا احتفظنا بهذا الحس الجمالي نحو اللغة، ثم أضفنا إليه حسا آخر، يجاوز اللغة إلى ما عداها، يجاوزها إلى دنيا الطبيعة والحوادث. إن الماء السائغ الزلال لذيذ حين يطفئ الظمأ، لكنه لو زاد على هذا الحد فقد يؤدي إلى شرق أو غرق، وكذلك اللغة الجميلة الفاتنة، يكون لها سحرها ما دمنا نقف منها عند حدود فنونها، لكنها تنقلب إلى ما يشبه المخدر إذا جعلناها حجابا يحجب عنا ما وراءها. وإذن فلا بد للثقافة العربية المعاصرة أن تضيف إلى اللغة الجميلة لغة «قبيحة» - وأنا أتعمد هذه المغالاة في اللفظ لألفت النظر - نعم، لا بد أن تضيف ثقافتنا العربية المعاصرة إلى الجانب الجميل من اللغة، لغة شائهة قبيحة ينفر منها النظر والسمع، فيسرع الإنسان إلى مجاوزتها إلى دنيا الوقائع الكائنة على أرض الحوادث.
إنه إذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة أخرى أمرا متعذرا في جميع الحالات، فهي لا شك أكثر تعذرا إذا أردنا ترجمة ما يكتبه مثقفونا بلغتنا العربية الجميلة؛ وذلك لأن هؤلاء المثقفين تفتنهم الألفاظ وجرسها، فيقفون عندها ويطيلون الوقوف، فينتهي بهم الأمر إلى غير حصيلة فكرية يمكن نقلها بالترجمة إلى لغات أخرى، فلكي تكون لنا رسالة فكرية نسهم بها في عالمنا الصخاب بمذاهبه ودعاواه، فلا بد أن يكون لدينا ما نقوله، أي أنه لا بد أن نجعل من اللغة أداة لا غاية في ذاتها، فنضيف بذلك «فكرا» إلى «أدب».
على أن هذه الخطوة التي أقترح أن نخطوها من اللفظ الجميل إلى اللفظ الدال، من جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، هذه الخطوة قد خطونا جزءا كبيرا منها في الأدب الحديث حين انتقلنا من فسيفساء المقامات إلى شخصيات القصة ومواقفها، ومن كتب الأخبار المنشورة إلى المسرحية وحوارها، ومن قصيدة الطبل إلى قصيدة الخبرة، أما في مجال الفكر فما زالت طاحونة اللفظ هي صاحبة الدوي الأعلى، مع أننا نعيش في عصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره، وهي نفسها القضايا التي كنا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري فيمدنا هذا التراث بزاد دسم يغنينا عن هذه الزوابع اللفظية التي نثيرها في الجو حتى تمتلئ بعثيرها الخياشيم فتفقد قدرتها على الحس والتمييز.
Неизвестная страница