Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
فالوقفة الصحيحة - إذن - هي أن ما بقيت ظروفه على حالها تبقى مبادئه مثلا عليا للحاضر كما كانت للماضي، وما تغيرت ظروفه تتغير مبادئه، فالموروث عن الأسلاف هو لنا بمثابة نقاط ابتداء، نبقي بعضها ونحذف بعضها بحسب ما تقتضيه حياتنا العصرية. ولنضرب على ذلك أمثلة موضحة:
كانت لأسلافنا مبادئ معينة فيما يعد شعرا وما لا يعد شعرا، وفيما يكون أدبا من النثر وما لا يكون أدبا، وقياسا على هذه المبادئ يعمل النقاد، وليس في وسعي الآن أن أتتبع تلك المبادئ تفصيلا لأقترح ما لا يزال يصلح منها وما لم يعد صالحا لعصرنا، وحسبي قاعدة واحدة أذكرها - اجتهادا مني وربما كنت فيه على خطأ - وهي أن الأدب العربي القديم بكل شعره ونثره لم يكن يتطلب من صانعه إلا أن يصوغ في لفظ جميل حقيقة معلومة من قبل، فليس فيه كشف جديد ينكشف لقارئه، تقرأ المقامة - مثلا - لا ابتغاء الوقوع على تحليل للطبيعة البشرية، بل تقرؤها لترى كيف نسق اللفظ وكيف رصع كما تنسق قطع العاج وترصع على أبواب المساجد ومنابرها. نعم، لم يكن المبدأ هو أن ينظم الشاعر أو أن يكتب الكاتب كاشفا للخبيء من طبع الإنسان ولا محللا للمعقد الغامض، بل ينظم ذاك ويكتب هذا ليقيم البرهان على غزارة علمه باللغة وعيونها. بالطبع كانت هناك استثناءات قليلة أراد فيها الكاتب أن يقول شيئا - مثل الجاحظ - ولكن القاعدة العامة هي أن الأديب يكتب ليتمزز القارئ بجرس اللفظ وحسن ترتيبه وتنسيقه، لا ليعلم منه القارئ عن حقائق الدنيا ما لم يكن يعلم. كان هذا هو المبدأ في الأدب نظما ونثرا، فهل يجوز أن يظل هو مبدأ الأدب في عصرنا الذي تحتم علينا زحمته ألا نضيع من وقتنا دقيقة واحدة دون أن نكتب للناس لنزيدهم علما بما ليس يعلمون؟
وهذا مثل آخر، لعله أفدح خطرا، فقد كان «المبدأ» في نظام المجتمع أن يكون الحاكم هو صاحب السلطان وهو في الوقت نفسه صاحب الرأي، ولم يكن ثمة من غضاضة على النفوس أن يملي ولي الأمر في حكومة الناس ما يتفق ومذهبه هو ليكون هو المذهب لا مذهب سواه عند المحكومين، بعبارة أخرى كان رأي السلطان هو سلطان الآراء، وليس لأحد بعد قول القابض على سيف القضاء من قول، وبهذا المزج العجيب بين قوة الحكم وسداد الرأي، بحيث يكون الأقوى هو الأصوب، ورثنا مزجا عجيبا بين ولاية الحكم وزعامة حتى لم نعد نتصور أن تكون هذه بغير تلك.
وأكتفي هنا بذكر مثل واحد من تاريخنا الفكري، هو ما يسمى «بالمحنة » الخاصة بالرأي في القرآن، أقديم هو أم حادث؟ فهل تصدق أن الخليفة المأمون - وهو الذي اتسع أفقه العقلي ليقبل التراث اليوناني كله علما وفلسفة، لم يضق به أن يترجم إلى العربية - هل تصدق أن الخليفة المأمون هذا هو الذي أرسل إلى وزيره إسحاق بن إبراهيم ليمتحن القضاة والمحدثين؛ ليخرج منهم من ضلت به السبيل فوصف القرآن بأنه أزلي قديم، فما دام أمير المؤمنين على رأي بأن القرآن حادث ومخلوق، إذن فالقائلون بالرأي المعارض هم - كما ورد عنهم في رسالة المأمون التي أشرنا إليها - «... من حشو الرعية وسفلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ... (وهم) أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ... لضعف آرائهم ونقص عقولهم ... فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة ... وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس ... إلخ إلخ» (الطبري، ج8، ص631 وما بعدها).
وكان من بين الأئمة الذين امتحنوا أحمد بن حنبل، كما سبق أن أشرنا في فصل سابق ... ونعيد فيما يلي نص محاكمته: - ما تقول في القرآن؟ - هو كلام الله. - أمخلوق هو؟ - هو كلام الله لا أزيد عليها. - ما معنى قوله «سميع بصير»؟ - هو كما وصف نفسه. - فما معناه؟ - لا أدري، هو كما وصف نفسه ...
وإنما أوردت هذه النتفة من محاكمة ابن حنبل لنلمح فيها كيف اضطر إمام كهذا كان ينبغي ألا يكون لولي الأمر الحاكم شأن برأيه؛ لأنه أثبت أنه من أصحاب الرأي، حتى وإن لم نتفق معه فيه، أقول: لنلمح كيف اضطر إمام كهذا أن يتحفظ في إجاباته حتى لا يقع به مكروه العقاب، ومع ذلك فقد وقع به المكروه.
وأكتفي بهذا القدر من قصة المحنة، فهذه القصة ليست موضوع الحديث، وإنما هي لمحة عابرة أذكرها لأدل بها على «مبدأ» كان قائما، وهو أن يكون صاحب الحكم هو صاحب الرأي. والسؤال الذي يهمنا الآن هو هذا: هل يجوز «للعربي» المعاصر أن يبقى على مبدأ كهذا في حياته الفكرية، لكي يجيء استمرارا للسلف؟ إنه لو كانت «المبادئ» حقائق ثوابت لوقفنا أمامها لا حول لنا ولا حيلة، فما كان لا بد أن يكون والأمر بعدئذ لله، لكن المبادئ فروض تتغير إذا تغيرت الظروف، فربما لاءم السلف أن يجتمع السيف والرأي في يد واحدة، لكن هذا الجمع لم يعد اليوم يلائم أحدا. •••
وهذا مثل ثالث: كان المبدأ في التعليم أن يكون مداره إعادة الموروث وتحليله وشرحه، فكان العالم هو من ازداد إلماما بالتراث وقدرة على فهمه وشرحه وتحليله وإعرابه، فإذا حفظ التلميذ عن شيخه كل هذا، جاز له أن يكون بدوره شيخا لتلميذ يحفظ عنه، فنتج عن ذلك أن كان مفهوم العلم هو الدراية بما ورد في الكتب، حتى وإن جهل «العالم» كل شيء عن الطبيعة وظواهرها. إن أحدا لم يكن يتصور مجرد تصور أن يكون «التعليم» تعليما لمعالجة الطبيعة، بحيث ينصب العلم على الزراعة وتركيب الآلات وهندسة المدن، فذلك حتى إن وجد شيء منه، كان متروكا «للخبرة» ينقلها الحرفي الكبير إلى الحرفي الناشئ، ولا شأن «للعلم» به، ونحن لا نذكر هذا لننتقص من شأن الأقدمين، بل نذكره لنؤكد أن هؤلاء الأقدمين كانوا يصدرون عن «مبدأ» في تصورهم للعلم والتعليم، فإذا جئنا نحن في عصر تغيرت ظروفه على النحو الذي نرى، فهل يجوز أن نبقى على المبدأ نفسه؟
قد يقال: لماذا نذكر شيئا كهذا ولم يعد لذكره مبرر، بعد أن نشأت عند العرب المحدثين جامعات فيها كليات للطب والهندسة والزراعة وغيرها! لكنني لا أظن أني أفجأ القارئ بجديد لا يعلمه، إذا قلت إننا ما زلنا - حتى في هذه الكليات العلمية - نجري على المبدأ القديم نفسه، وهو أن يحفظ التلميذ عن الشيخ، وليس ثمة من فرق بعيد بين أن يكون المحفوظ هو ألفية ابن مالك أو كتابا في الكهرباء؛ لأن المدار في كلتا الحالتين هو الحفظ الذي يمكن التلميذ من «تسميع» ما حفظه أمام شيخه، وبعد ذلك يسأل السائلون لماذا لا نسهم في دنيا العلوم بإضافات جديدة إلا القليل الذي يمكن تجاهله؟ والجواب واضح، وهو أن «المبدأ» القديم في العلم والتعليم لم يغيره مبدأ جديد.
لقد بدأت حديثي بداية نظرية، فانتهيت به إلى نهاية عملية، بدأته بتحليل نظري «للمبادئ» يكشف عن حقيقتها وعن طبيعتها، وانتهيت إلى نظرات في التحول من قديمنا إلى الحديث، بأنه لا تحول إلا إذا بدأناه من الجذور: من المبادئ، نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى فنستبدل مثلا عليا جديدة بمثل كانت عليا في أوانها ولم تعد كذلك، ولا ضير علينا في شيء من هذا، فأسلافنا قد صنعوا الصنيع نفسه، استبدلوا مبادئ بمبادئ، وأفكارا بأفكار، ومثلا بمثل، ولا نريد سوى أن نكون خير خلف لخير سلف.
Неизвестная страница