Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
مواضع الزلل الفكري عند الإنسان لا تكاد تقع تحت الحصر، يهمنا منها الآن موضع واحد، هو أن يتفق الناس على معان مجردة، فيحسبوا أن قد اتفقوا بذلك على التفصيلات الجزئية التي تقع تحت ذلك التجريد، فالناس جميعا متفقون - مثلا - على ضرورة «الطعام»، حتى إذا ما أخذوا يعدون لأنفسهم صنوفه اختلفوا ميلا ونفورا إلى أبعد درجات الاختلاف؛ حتى ليتقزز منهم نفر مما يجعله نفر آخر موضع الاحتفال والتكريم ... وقل شيئا كهذا في كل شيء: تقول للناس «فن» فلا تجد منهم أحدا ينفر من الفن، وكيف ينفر والفن في ثيابه وأواني طعامه وعلى جدران داره؟ لكن ادخل معهم في تفصيلات ما يعد فنا وما لا يعد، تجد منهم عجبا، فالفن التجريدي - مثلا - أو السريالي أو غيرهما من ضروب الفن الحديث، لا يلقى عند كثرة من الناس إلا هز الأكتاف الهازئة وإلا الضحكات المتعجبة الساخرة. وخذ ما شئت من معاني الدين والسياسة والاجتماع، تجد من الناس اتفاقا لا استثناء فيه ولا تردد، لكن أبدأ في ذكر التفصيلات والشروح التي تحملها تلك المعاني، فعندئذ تجدهم قد تفرقوا فرقا يباعد بينها ما يباعد بين القطبين، فإذا كان المجال مجال الدين كفر بعضهم بعضا، أو كان مجال السياسة قاتل بعضهم بعضا، أو كان مجال أوضاع اجتماعية اتهم بعضهم بعضا بالرجعية من فريق وبانحلال من فريق آخر.
وذلك لأن الفكرة المجردة من شأنها أن تمحو الفواصل والفوارق التي تميز المفردات العينية الجزئية المندرجة تحت الفكرة، فالقط والكلب والسبع والنمر والحمار والحصان والجمل ... كلها «حيوان»، والبرتقال والتفاح والتمر والرمان والموز والبطيخ ... كلها «فاكهة»، فقد تجد رجلين يتفقان - مثلا - على قيمة معينة يتصف بها الحيوان كله، أو تتصف بها الفاكهة كلها، حتى إذا ما نزلا إلى تفصيلات الحياة العملية وجدت أحد الرجلين يقتني في داره كلبا ووجدت الآخر ينفر من نجاسة الكلب ، أو وجدت أحد الرجلين يأكل البطيخ على اشتهاء، ووجدت الآخر يجتنبه لما يصيبه به من نفاخ، والحديث في هذا الباب أوضح من أن نمضي فيه.
وإنه ليندر جدا أن يكون الانتقال الفكري من عصر إلى عصر، انتقالا في المعاني العامة المجردة، كما تدل عليها ألفاظ عامة يتداولها الناس فيما بينهم من أحاديث ومعاملات، وإنما يكون الانتقال الفكري في تغير المضمونات التي يقصد إليها المتحدثون والمتعاملون بتلك الألفاظ العامة والمعاني المجردة. وبعبارة أوضح، نقول إنه لو كانت الألفاظ العامة والمعاني المجردة كئوسا ومضموناتها هي الشراب داخل تلك الكئوس، أو لو كانت أطباقا ومضموناتها هي الطعام في تلك الأطباق، فإن الكئوس أو الأطباق ليست هي التي تتغير من عصر فكري إلى العصر الذي يليه، وإنما الذي يتغير هو الشراب في الكئوس أو الطعام في الأطباق، وإلا فقل لي متى كان العصر الذي يتنكر «للفضيلة» بمعناها العام، أو «للعدالة» أو «للحرية» أو «لكرامة الإنسان» أو غير ذلك من المعاني الداخلة في هذا المضمار؟ فهذه ألفاظ تبقى ولا تزول، تجيء حضارة وتذهب حضارة، وتجيء ثقافة وتذهب ثقافة، وتجيء عقيدة وتذهب عقيدة، لكن تبقى ألفاظ «الفضيلة» و«العدالة» و«الحرية» و«الكرامة» إلخ مرفوعة الأعلام، فما الذي يتغير إذن بحيث نقول: ذهبت ثقافة وجاءت ثقافة؟ الذي يتغير هو المضمون الذي نعنيه، فقد تعني العدالة في عصر فكري معين أن يقتص المظلوم من ظالمه متى استطاع ذلك بشخصه، ثم يتغير العصر فتصبح العدالة أن يقف بين الطرفين قاض محايد، وهكذا في سائر المعاني.
ولهذا لن تجد في حياتنا الفكرية المعاصرة معنى مجردا واحدا، نشير إليه بلفظة عامة، إلا أن تجد ذلك المعنى المجرد نفسه وتلك اللفظة العامة نفسها - أو ما يرادفها - واردين في تراثنا الفكري القديم، فهل يكون معنى ذلك أن فكر المعاصرين هو نفسه فكر الأقدمين؟ سوف يكون الجواب أن «نعم» عند من يكتفون من الشراب بالكئوس الفارغة، ومن الطعام بأطباقه الخاوية، وهذا على أفضل الفروض؛ لأن الكأس الفارغة والطبق الخاوي أفضل منهما، وقد امتلآ بما لم تعد النفس تشتهيه. سيكون الجواب أن «نعم» عند من لا يفطنون إلى تيار الزمن كيف يجرف من العصور المتوالية لبابها الفكري، وإن أبقى لها القشور والأوعية التي كانت تحمل لها ذلك اللباب، وهو إذ يجرف ما يجرفه، فإنما يفعل ليجيء أبناء العصر الجديد فيضعوا في الآنية القديمة لبابا جديدا.
أقول ذلك وأنا على علم بمدى التحفز الذي يتحفز به كثيرون، دفاعا عن تراثنا الفكري، ظنا منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين فأخرجوا لفظا من هنا ولفظا من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك؛ ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد - وأعني القيم المحمودة الشريفة - قد وردت كلها في تراثنا، وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين، فإن قال المحدثون «حرية» و«مساواة» و«علم» و«عدل»، أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء، لقد سبقناكم بكذا قرنا من الزمان إلى «الحرية» و«المساواة» و«العلم» و«العدل» وغيرها من القيم الرفيعة. ويفوتنا دائما أن نتروى حتى نستوثق من أن كئوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم، ولم تستبدل به شرابا جديدا، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظا ومعنى، وشكلا ومضمونا. •••
ولأضرب مثلين في شيء من التفصيل، لأوضح ما أريد:
إن من علامات هذا العصر المميزة، أنه عصر «العلم» المقترن ب «العمل»، حتى لتجد فلاسفة عصرنا منصرفين بكثير من عنايتهم وجهدهم نحو تحليل العلاقة بين العلم والعمل تحليلا ينتهي ببعضهم إلى القول بأن العلم والعمل موصول أحدهما بالآخر، فإذا وجدت «علما» مزعوما لا يجيء بمثابة الخطة الدقيقة لعمل يؤدى، فقل إنه ليس من «العلم» في شيء إلا باسم زائف، وأن هذا الفريق من الفلاسفة المعاصرين لينكرون أشد إنكار أن يكون هناك ما يجوز تسميته ب «العلم النظري» الذي لا صلة له بدنيا التطبيق، بل إنهم ليتطلبون من العلماء إذا حددوا مصطلحاتهم العلمية، أن يحددوها بما يسمونه «تعريفا إجرائيا»، أي أن يحددوها بالجوانب العلمية التي تنطوي عليها تلك المصطلحات، فإذا وردت في لغتهم ألفاظ رئيسية لا تشير إلى «إجراءات» فعلية معينة رفضوا مشروعيتها من الناحية العلمية، وإننا لنقول عن عصرنا إنه عصر «التكنيات» (التكنولوجيا)، وما الأجهزة التكنية هذه إلا «الأفكار» العلمية وقد برزت إلى دنيا العمل.
فإذا قال قائل عن عصرنا إنه عصر «العلم» و«العمل» كان لقوله معنى محدد بمضمونات العصر ومفهوماته، ف «العلم» - من ناحية - هو العلم الطبيعي، و«العمل» - من ناحية أخرى - هو تطبيق العلم بالأجهزة التكنية على اختلاف مجالات العلوم وتطبيقاتها. إن كلمة «علم» بهذا المعنى المحدد لم تدخل اللغة الإنجليزية نفسها إلا في الثلث الأول من القرن الماضي (وأعني كلمة
Science )؛ مما يدل على أن ما قد سبق ذلك من علم لم يكن به كل المقومات التي تميز علم العصر الراهن. وإني لأذكر في هذا الصدد - وعلى شفتي ابتسامة إشفاق وأسف - أن أحد كتابنا المرموقين قد وقع على هذه الحقيقة الغربية في بعض ما قرأ - وكان ذلك منذ أعوام قلائل - فأسرع إلى صحيفته يكتب مفاخرا هذا العصر المتعجرف المغرور بتراثنا، فمنذ كذا قرنا من الزمان - هكذا قال الكاتب - وتراثنا مليء ب «العلم» اسما ومسمى، وها هي ذي إنجلترا لم تعرف «العلم» إلا منذ أقل من مائة وخمسين عاما. ولو تريث كاتبنا لحظة ليراجع معنى الكلمة في الحالتين، لوجد الفرق بين المعنى الذي كان والمعنى الذي استحدث هو - كما قلت - كالفرق بين القطبين، فاللفظ واحد - في العربية - والمضمون مختلف. •••
وأعود إلى تراثنا العربي، وبين يدي لفظتا «علم» و«عمل» الدالتان على جانبين يميزان العصر الحاضر وثقافته، فأجدني مع أبي حامد الغزالي في كتابه «ميزان العمل»، وأقرأ، فإذا هو يبدأ فيضع الأساس الذي يريد أن يقيم عليه البناء، وهو أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل ... ولو تعجلت النتائج كما يتعجل المتعجلون، لقلت من فوري: الله أكبر! ماذا أبقى القرن الحادي عشر للقرن العشرين من علامات ومميزات؟ لكني تريثت حتى أرى بأي المعاني استخدمت كلمة «العلم» وكلمة «العمل»؟ ثم لا ألبث أن أجدني في مجال من القول لا يتصل أدنى صلة بما يراد اليوم حين يقال «علم» و«عمل». وحسبي أن ألخص النتيجة التي انتهى إليها الغزالي من بحثه، وهي «أن العلم المقصود هو العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية، من حيث إنها مرتبة بقدر الله، لا من حيث ذواتها؛ فالمقصود الأقصى العلم بالله»، وأما العلم فمقصود به - أساسا - مجاهدة الهوى، حتى تزول الحوائل التي ربما أعاقت الإنسان عن العلم بالله.
Неизвестная страница