Обновление арабской мысли
تجديد الفكر العربي
Жанры
إن فرنسيس بيكون حين أراد أن يعين ضروب الوهم التي تضلل الإنسان عن الفكر الصحيح، جعل بينها ضربا أطلق عليه اسم «أوهام المسرح» - ولقد كان بيكون أديبا فيلسوفا، أو فيلسوفا أديبا، يصوغ أفكاره في صور مجسدة شأن الشعراء في صياغة اللفظ - فهو هنا قد اختار صورة «المسرح» ليكثف بها ما يعنيه إذا ما زعم لنا أن للموتى تأثيرا قويا في نفوسنا، يكاد يلهينا عن حقائق الأمور بما يحدثه فينا من الإيهام. إن النظارة في المسرح يشهدون الممثلين في أثواب الملوك أو الصعاليك، وفي أدوار المحسنين الأبطال أو المسيئين الأنذال، فسرعان ما ينسون أنهم إنما يشهدون رجالا «يمثلون» الملوك أو الصعاليك، مع أنهم ليسوا بملوك ولا بصعاليك في حيواتهم الحقيقية الواقعة. إن المحسن البطل على المسرح قد يكون في حقيقته أبشع الأشرار خسة ونذاله، كما قد يكون المسيء النذل على المسرح في حقيقة حياته الرجل الطيب المحمود الخصال، لكن هؤلاء النظارة لا يلبثون إذا ما انطفأت الأنوار، وانزاح الستار، وبدأ الممثلون يدخلون أمامهم ويسلكون بما يسلكون وينطقون ما ينطقون، حتى ينسوا نسيانا تاما أنهم في مسرح وأن من أمامهم ليس هو الحقيقة الواقعة بالنسبة إلى أشخاص الممثلين في دنياهم الحقيقية الواقعة.
وهكذا قل في أمر الإنسان إذا ما وجد نفسه حيال فكرة أو عبارة قالها رجل قضى منذ زمن، لكنه ترك وراءه شهرة وسمعة تملأ النفوس بالرهبة، فقد يجد هذا الإنسان عندئذ أن من المتعذر جدا عليه النجاة من سحر هذه الرهبة، وأن أيسر السبل وآمنها من الزلل هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك هو أن يتقبل كل ما قد تركه له سلفه ذاك ذو الشهرة والسمعة، وهيهات أن تجد من الناس من تبلغ به الجرأة أن يفض عن الصندوق المسحور ختمه السحري، ليفتحه فإذا هو من الداخل خواء أو ما يشبه الخواء. وما أكثر ما حكت لنا جداتنا قصصا عن حجرات مسحورة ملغزة، حين يقال لساكن قصر ورد ذكره في القصة إنه حر في استخدام الغرف جميعا إلا غرفة مغلقة محرمة عليه، فيتركها مؤمنا أنها لا بد مشتملة على ما تعجز قدراته دون مواجهته والتصرف فيه.
إن للزمن جلالا أيما جلال، فأين هو الذي يستطيع الوقوف أمام أطلال الماضي - وهي أطلال - هازئا ساخرا؟ أين هو الذي يستطيع أن يعبث بجثث الموتى كما يعبث بقطع من الصخر الجماد؟ إن أوغل الماديين في النزعة المادية لا يملك إلا أن يتأثر بجلال القدم، برغم علمه التام أن القدم ينبغي أن ينقص من قيمة الشيء لا أن يزيدها، لو كان الأمر كله أمر مادة ومنفعة؟ فانظر إليه كم يدفع في نسخة من كتاب قيم هلهلته الأيام، وكم يدفع في نسخة من هذا الكتاب نفسه وقد أخرجته المطابع صباح اليوم؟ إنه يدفع في النسخة الأولى أضعاف أضعاف ما يدفعه في النسخة الثانية؛ لأنه يتوهم أنه إنما يشتري بماله - بالإضافة إلى الكتاب - امتدادا زمنيا له عنده قيمة يعوض بها مدى حياته القصير.
ذلك كله واقع ولا سبيل إلى نكرانه، وإن الخروج عليه والتصدي له إنما يجيئان بعد مغالبة الإنسان لنفسه ولفطرته، وهذه المغالبة لأهواء النفوس وميول الفطرة هي ما نحن بحاجة إليه، حين يتبين أن تقويم القديم بأكثر من قيمته النفعية لا يقتصر على إشباعه لرغبة رومانسية في نفوسنا، بل يقف في سبيل سيرنا عقبة تحول دون التقدم نحو ما نريد أن نتقدم نحوه من تغيير للفكر وتبديل لأوضاع الحياة.
فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ، فعندئذ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات في العلم والمعرفة. لقد كان العامل الأول في النهضة الأوروبية هو تحول الناس من حالة الاكتفاء بما كتب الأقدمون، إلى كتاب الطبيعة المفتوح لكل من أراد منهم أن يقرأ علما جديدا؛ ذلك أن العصور المظلمة كلها، ومن بعدها العصور الوسطى كلها - وهذه وتلك قد امتدتا مع الناس نحو عشرة قرون وقعت بين القرنين الميلاديين الخامس والخامس عشر على وجه التقريب - أقول كانت تلك العصور تدير ثقافتها وفكرها على صحف مكتوبة - بعضها مقدس بحكم العقيدة الدينية وبعضها الآخر مكسو بالجلال والرهبة بحكم أنه تراث هبط إلى الناس من أسلافهم الميامين - ولم يكن على المفكر عندئذ إلا أن ينكب على تلك الصحائف انكبابا، حتى يحللها لفظا لفظا، ويكشف لنفسه عمن كمن وراء اللفظ؛ ولذلك لم يكن ذلك المفكر بحاجة إلى الخروج من الدير أو من الصومعة أو من الدار أو من المكتبة أو من الجامع، ما دامت هذه محتوية على ما يريد مطالعته من صحف - مقدسة أو غير مقدسة - ليستوعب مضموناتها، فإذا كان مفكرا من الطراز الممتاز، أضاف إلى هذا الاستيعاب «شرحا» جديدا لتلك المضمونات التي طالعها.
وأترك للقارئ أن يقدر لنفسه كم هي النسبة في تراثنا العربي للكتب التي تروي نقلا عن الآخرين: تارة تختار، وتارة تؤرخ، وطورا تصنف. فكأنما الطهاة الذين أعدوا الطعام قلة لا تتجاوز العشرة أو العشرين، ثم تكاثرت حول المائدة ألوف تتسقط الفتات المتناثر، كل يأخذ من هذا الفتات ما وسعت حفنتاه؟ وإني لألقي ببصري الآن إلى رفوف مكتبة عربية زاخرة: فهذا كتاب في طبقات الشعراء، وهذا في طبقات النحاة، وهذا في طبقات الأدباء، وهذا في طبقات الأطباء، وهذا في طبقات الحفاظ، وهذا في طبقات الفقهاء، وهذا في طبقات المفسرين، وهذا في طبقات الشافعية، أو في طبقات الحنابلة، وهلم جرا. وأترك تصنيف الطبقات لأنظر إلى ركن آخر، فإذا بالعين تقع على الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع، والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر.
اجترار من اجترار بعد اجترار. قلت لنفسي، وأنا أقلب النظر في منوعات من «التراث»: لماذا لا تفحص مجلدا أو مجلدين من هذه «الكواكب» و«الدرر» لترى ماذا كان يكتب «العلماء» الذين تؤرخ لهم هذه الكتب التي لا تكاد تقع تحت الحصر. وأخذت أستعرض ضروب المؤلفات وصنوف الأعمال التي جعلت من أصحابها «علماء» استحقوا أن تفرد لهم هذه التواريخ كلها، فلم أخرج إلا بما يؤيد فكرة عندي سابقة كنت حصلتها من انطباعات متناثرة على مر الزمن، وهي أنه - باستثناء أصول قليلة جدا فيها أصالة وابتكار - هنالك هذه الألوف من المجلدات التي لا تضيف حرفا واحدا جديدا، فهي شروح، وشروح للشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق. وإني لأستسمح القارئ في أن يصبر معي خمس دقائق، يقرأ فيها هذه القائمة من المؤلفات، التي نقلتها لتكون أمامنا نموذجا لنتاج حقبة زمنية في تاريخنا الفكري، ولن أذكر أسماء مؤلفيها - إذ ماذا يجدي في هذا اليباب المتجانس أن تسمى كثبان الرمل بأسماء تميزها كثيبا من كثيب؟ - لكنني سأضعها مجموعات مجموعات، كل مجموعة منها تنتمي إلى أحد «العلماء» البارزين في عصرهم:
الإسعاد بشرح الإرشاد، الدرر اللوامع بتحرير شرح جمع الجوامع، الفرائد في حل شرح العقائد، المسامرة في شرح المسايرة ...
حواش على تفسير البيضاوي، حواش على حاشية شرح التجريد، حواش على التلويح، شرح على آداب البحث.
شرح على جمع الجوامع، تعليق على الروضة، تعليق على المنهاج، الدر النظيم في أخبار موسى الكليم.
Неизвестная страница