تخيلت نفسي مقيما في هذا الخلاء، يوما بعد يوم بلا عمل ولا تسلية، وكلما تخيلت عجبت للمرح البسيط الصادق الذي يطالعنا في الوجوه. وغزاني شعور بالإكبار لا يقاوم.
رجعنا إلى اللوري الروسي، كابدنا الطريق في الإياب كما كابدناه في الذهاب، عدنا إلى صنعاء. دعينا إلى زيارة مندوب الحكومة المصرية. جلسنا في بهو استقبال فخم وشربنا المرطبات. وتكلم أهل العلم عن مستقبل اليمن الواعد بكل خير؛ عن الشباب الثائر المؤمن بالتقدم، عن التأخر الأسيف المتراكم من أبعد العصور. إيمان المسئولين اليمنيين بوجوب سير الإصلاح جنبا إلى جنب مع الحرب ودون تأجيل. ولدى عودتنا إلى الفندق وجدنا في انتظارنا وفدا من الأدباء الثائرين، جالسونا على الأسرة فشرق بنا الحديث وغرب، وكان لكل منهم مغامرة مع الإمام فراح يروي مغامرته.
الجندي
غادرنا الجبل على أثر قدوم قوة من المشاة لتحتله، نمت نوما عميقا في المعسكر، في الصباح منحنا عطلة قصيرة فقصدت قرية غراز. سرت في طرقاتها الضيقة فاستقبلني أهلها ببسمات إنسانية كنت في نهم إليها، لاعبت الأطفال حيثما وجدتهم، وشربت القهوة في مقهى ريفي كالكوخ. أذهلني جمال النساء؛ جمال العيون بصفة خاصة يبعث الدفء في القلوب التي أذابها المطر. صادفت في تجوالي بئرا وقفت حولها أم وابنتاها يملأن الجرار. تلكأت عندهن؛ فنظرت إلى الأم بحنان ذكرني بأمي التي لم أودعها. - مصري؟ - نعم يا خالة. - يخليك لأمك.
سررت وابتسمت الفتاتان، اجتاحني شعور عائلي وتذكرت قريتنا بإسطنها. قلت: نحن نحبكم.
وإذا بصوت عال يقول في غير جدية: ما شاء الله!
أديت التحية للضابط، فقال مقطبا: ماذا تفعل؟ ألا تعرف التعليمات؟
وابتعدت من فوري والمرأة تقول له شبه غاضبة: أفزعته يا رجل!
عند الظهر صدرت الأوامر بالتحرك إلى قرية البيضا على بعد ثلاثة كيلومترات من صعدة، ولدى مشارف الموقع الجديد هاجمناه على شكل كماشة تتقدمنا ثلاث عربات مدرعة، وثار الضرب من الجانبين كأعنف ما يكون، اشتد الضرب علينا بغزارة وشت بضخامة القوة التي تتصدى لنا. انطلق الرصاص من مركز المراقبة، من أسوار القلعة، ومن أكثر من كمين، انفجرت قنابل وراءنا وبين صفوفنا، وصدر الأمر بالانسحاب ونحن نقاتل، انسحبنا مقاتلين بعنف، انغرزت إحدى سياراتنا المدرعة في حفرة وتعذر عليها المسير. انهمر عليها الرصاص كالمطر فلم يجرؤ أحد ممن فيها على رفع رأسه وتوقف الدفاع، أحاط بها العدو من كل جانب ونحن نقاتل مقهقرين لا نستطيع أن نمد لها يدا، ثم أطبق عليها الأعداء بالبلط والخناجر.
ساعات مرت دون أن تتوقف العملية دقيقة واحدة، أنهكنا التعب. قل زادنا من الطعام والذخيرة والماء، وضاعف من إرهاقنا إحساسنا بالقذارة ونحن نتقلب في الطين. الساعات تمر بثقلها فوق أجسادنا وأرواحنا، وساءلت نفسي حتى متى أحتمل العناء الذي يفوق البشر؟
Неизвестная страница