تحت المظلة
النوم
الظلام
الوجه الآخر
الحاوي خطف الطبق
ثلاثة أيام في اليمن
يميت ويحيي
التركة
النجاة
مشروع للمناقشة
Неизвестная страница
المهمة
تحت المظلة
النوم
الظلام
الوجه الآخر
الحاوي خطف الطبق
ثلاثة أيام في اليمن
يميت ويحيي
التركة
النجاة
Неизвестная страница
مشروع للمناقشة
المهمة
تحت المظلة
تحت المظلة
تأليف
نجيب محفوظ
كتبت هذه القصص في الفترة بين أكتوبر وديسمبر 1967.
تحت المظلة
انعقد السحاب، وتكاثف كليل هابط، ثم تساقط الرذاذ، اجتاح الطريق هواء بارد مفعما بشذا الرطوبة، حث المارة خطاهم غير نفر تجمعوا تحت مظلة المحطة، وأوشكت الرتابة أن تجمد المنظر لولا أن اندفع رجل؛ اندفع راكضا كالمجنون من شارع جانبي، واختفى في شارع آخر على الجانب الآخر، تبعه على الأثر جماعة من الرجال والغلمان وهم يتصايحون: «لص ... أمسكوا اللص!» وما لبثت الضجة أن خفت رويدا حتى ماتت وتتابع الرذاذ، وخلا الطريق أو كاد، أما المتجمعون تحت المظلة فبعضهم ينتظر الباص والبعض لاذ بها خوف البلل. وبعثت ضجة المطاردة مرة أخرى، وتدانت في اشتداد وتضخم، ثم ظهر المطاردون وهم يقبضون على اللص، ومن حولهم الغلمان تهلل بأصوات رفيعة حادة. وعند عرض الطريق في المنتصف حاول اللص الإفلات؛ فأمسكوا به وانهالوا عليه صفعا ولكما، فمن شدة الضرب قاوم وضرب كيفما اتفق. وشدت أعين الواقفين تحت المظلة إلى المعركة. - يا لها من ضربات قاسية عنيفة! - ستقع جريمة أشد من السرقة. - انظروا .. الشرطي واقف في مدخل عمارة يتفرج. - بل أدار وجهه إلى الناحية الأخرى.
واشتد الرذاذ؛ فتواصل أسلاكا فضية برهة ثم انهمر المطر، خلا الطريق إلا من المتعاركين والواقفين تحت المظلة، نال الإعياء من الرجال فكفوا عن تبادل الضربات، ولكنهم أحاطوا باللص، وتبادلوا كلمات غير مسموعة معه وهم يلهثون. ثم انغمسوا في مناقشة هامة، لم يميزها أحد، دون مبالاة بالمطر. التصقت الملابس بأجسادهم، ولكنهم واصلوا النقاش بإصرار وبلا أدنى اكتراث بالمطر. ووشت حركات اللص بحرارة دفاعه ولكن لم يصدقه أحد. ولوح بذراعيه فكأنما يخطب، ولكن ضاع صوته في البعد وانهلال المطر. إنه بلا شك يخطب، وها هم يصغون إليه، تطلعوا إليه خرسا تحت المطر، وظلت أعين الواقفين تحت المظلة مشدودة إليهم. - كيف أن الشرطي لا يتحرك؟!
Неизвестная страница
لذلك خطرت فكرة؛ أن يكون الحدث منظر تصوير سينمائي! - لكن الضرب كان حقيقيا! - والمناقشة والخطابة تحت المطر؟
شيء طارئ جذب النظر، فمن ناحية الميدان انطلقت سيارتان في سرعة جنونية، مطاردة حامية فيما بدا، المتقدمة تطير طيرا، والأخرى توشك أن تدركها، وإذا بالمتقدمة تفرمل بغتة حتى زحفت فوق أديم الأرض، فصدمتها الأخرى صدمة عنيفة مدوية، انقلبتا معا محدثتين انفجارا، وسرعان ما اشتعلت فيهما النيران. وارتفع صراخ وأنين تحت المطر المنهمر، ولكن لم يهرع أحد من المحدقين به إلى بقايا السيارتين اللتين أدركهما الخراب على بعد أمتار منهم، لم يبالوا بهما كما لا يبالون بالمطر. ولمح الواقفون تحت المظلة آدميا من ضحايا الحادث يزحف ببطء شديد من تحت سيارة ملطخا بالدم، حاول النهوض على أربع ولكنه سقط على وجهه سقطة نهائية. - كارثة حقيقية بلا أدنى شك. - الشرطي لا يريد أن يتحرك! - لا بد من وجود تليفون قريب.
ولكن أحدا لم يبرح مكانه خشية المطر، وقد انهل انهلالا مخيفا، وقعقع الرعد، وانتهى اللص من خطابه، فوقف ينظر إلى مستمعيه بثقة واطمئنان؛ وفجأة راح يخلع ملابسه حتى تجرد عاريا، رمى بملابسه فوق حطام السيارتين اللتين أطفأ نيرانهما المطر، دار حول نفسه كأنما يستعرض جسمه العاري، تقدم خطوتين وتأخر خطوتين، وبدأ يرقص في رشاقة احترافية؛ وإذا بمطارديه يصفقون له تصفيقات إيقاعية، على حين تشابكت أذرع الغلمان وراحوا يدورون من حولهم في دائرة متماسكة؛ وذهل الواقفون تحت المظلة ولكنهم رغم ذلك استردوا أنفاسهم. - إن لم يكن منظرا تصويريا فهو الجنون! - منظر سينمائي بلا ريب، وما الشرطي إلا أحدهم ينتظر دوره. - وحادث السيارتين؟ - براعة فنية، وسوف نكتشف المخرج في النهاية وراء إحدى النوافذ.
فتحت نافذة في عمارة مواجهة للمحطة محدثة صوتا لافتا للنظر، لفتت الأنظار رغم التصفيق وانهمار المطر؛ ظهر بها رجل كامل الزي، فصفر صفيرا متقطعا، وفي الحال فتحت نافذة أخرى في نفس العمارة، فظهرت بها امرأة متأهبة الزينة والملابس، فاستجابت لصفيره بإشارة من رأسها، اختفيا معا عن أنظار الواقفين تحت المظلة، بعد قليل غادرا العمارة معا، سارا متشابكي الذراعين بلا مبالاة تحت المطر، وقفا عند السيارتين المهشمتين، تبادلا كلمة. أخذا يخلعان ملابسهما حتى تعريا تماما تحت المطر. استلقت المرأة على الأرض طارحة رأسها فوق جثة القتيل المنكفئ على وجهه، ركع الرجل إلى جانبها، بدأ غزل رقيق بالأيدي والشفاه، ثم غطاها الرجل بجسده ومضى يمارس الحب. وتواصل الرقص والتصفيق ودوران الغلمان وانهمار المطر. - فضيحة! - إن لم يكن تصويرا فهو فضيحة، وإن يكن حقيقة فهو جنون. - الشرطي يشعل سيجارة.
واستقبل الطريق شبه الخالي حياة جديدة، جاءت من الجنوب قافلة من الجمال، يتقدمها حاد ويقودها رجال ونساء من البدو، عسكرت على مبعدة قصيرة من حلقة اللص الراقص. شدت الجمال إلى أسوار البيوت ونصبت الخيام، وتفرقوا؛ فمنهم من تناول طعامه، أو راح يحتسي الشاي أو يدخن، وبعضهم غرق في السمر. ومن الشمال جاءت مجموعة من سيارات السياحة محملة بالخواجات، توقفت فيما وراء حلقة اللص، ثم غادرها راكبوها من الرجال والنساء، فتفرقوا جماعات تستطلع المكان في نهم دون مبالاة بالرقص أو الحب أو الموت أو المطر.
ثم أقبل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات مثقلة بالأحجار والأسمنت وأدوات البناء، وبسرعة مذهلة شيدوا قبرا رائعا، وعلى مقربة منه أقاموا من الأحجار سريرا كبيرا، فغطوه بالملاءات، وزينوا قوائمه بالورد، كل ذلك تحت المطر. ومضوا إلى حطام السيارتين فاستخرجوا منه الجثث، مهشمة الرءوس، محترقة الأطراف، وضموا إليها جثة المنكفئ على وجهه من تحت العاشقين اللذين لم يكفا عن ممارسة الحب، ثم رصوا الجثث فوق السرير جنبا إلى جنب، وتحولوا إلى العاشقين فحملوهما معا وهما لا ينفصلان فأودعوهما القبر، ثم سدوا فوهته، وأهالوا عليهما التراب حتى سووها بالأرض. استقلوا بعد ذلك اللوريات فانطلقت بهم في سرعة عاصفة وهم يهتفون بكلام لم يميزه أحد. - كأننا في حلم! - حلم مخيف، ويحسن بنا أن نذهب. - بل علينا أن ننتظر. - ماذا ننتظر؟ - النهاية السعيدة. - السعيدة؟! - وإلا فبشر المنتج بكارثة!
في أثناء الحديث تربع فوق القبر رجل يرتدي روب القضاء. لم ير أحد من أين أتى! من عند الخواجات، أو من عند البدو، أو من حلقة الرقص، لم يعرف أحد! بسط صحيفة بين يديه، وراح يتلو نصا كأنما ينطق بحكم، لم يميز كلامه أحد؛ إذ غطى عليه التصفيق وضوضاء الأصوات بشتى اللغات والمطر. ولكن كلماته غير المسموعة لم تضع، فانتشرت في الطريق حركات كالأمواج الصاخبة في عنف وتضارب، نشبت معارك في محيط البدو، وأخرى في مواقع الخواجات، واشتعلت معارك بين بدو وخواجات، وجعل آخرون يرقصون ويغنون، وأقبل كثيرون حول القبر، وراحوا يمارسون الحب عرايا، وأخذت النشوة اللص؛ فتفنن في رقصه وأبدع، واشتد كل شيء وبلغ غايته؛ القتل، والرقص، والحب، والموت، والرعد، والمطر.
واندس بين الواقفين رجل ضخم؛ عاري الرأس يرتدي بنطلونا وبلوفر أسود، وبيده منظار مكبر، شق مكانه بينهم بعنف واستهتار، وجعل يراقب الطريق بمنظاره متجولا به بين الأركان. وتمتم: لا بأس .. لا بأس!
تعلقت به أعين المتجمعين تحت المظلة باهتمام: هو؟ - نعم .. هو المخرج.
وعاد الرجل يخاطب الطريق مغمغما: استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء!
Неизвестная страница
عند ذاك سأله أحدهم: هل سيادتك ...
ولكنه قاطعه بإشارة عدائية وحاسمة؛ فازدرد الرجل بقية سؤاله وسكت، ولكن آخر استمد من توتر أعصابه شجاعة فسأله: حضرتك المخرج؟
لم يلتفت إليه، وواصل مراقبته؛ وإذا برأس آدمي يتدحرج نحو المحطة فيستقر على بعد أذرع منها، والدماء تتفجر من مقطع العنق بغزارة. صرخ الرجال فزعا، أما الرجل فحدق بالرأس مليا، ثم غمغم: برافو .. برافو!
وصاح به رجل: ولكنه رأس حقيقي ودم حقيقي.
فوجه الرجل منظاره نحو رجل وامرأة يمارسان الحب، ثم هتف نافد الصبر: غير الوضع .. حذار من الملل!
ولكن الآخر صاح به: ولكنه رأس حقيقي، فمن فضلك فهمنا!
وآخر قال: كلمة واحدة منك تكفي لنعرف من أنت ومن هؤلاء.
وثالث قال بتوسل: لا شيء يمنعك من الكلام!
ورابع تضرع قائلا: يا أستاذ لا تضن علينا براحة البال.
ولكن الأستاذ تراجع في قفزة مباغتة، كأنما كان يداري نفسه خلفهم، ذاب الصلف في نظرة مترقبة، وتوارت نفخته، كأنما طعن به السن أو تردى في مرض. رأى المتجمعون تحت المحطة نفرا من الرجال ذوي هيئة رسمية يتجولون غير بعيد من المحطة كأنهم كلاب تشمم. واندفع الرجل راكضا مجنونا تحت المطر، انتبه إليه رجل من المتجولين فاندفع أيضا صوبه يتبعه الآخرون كعاصفة. وسرعان ما اختفوا جميعا عن الأنظار مخلفين الطريق للقتل والحب والرقص والمطر. - يا ألطاف الله! لم يكن المخرج كما توهمنا! - من يكون؟! - لعله لص. - أو مجنون هارب! - أو لعله ومطارديه ضمن المنظر السينمائي. - هذه أحداث حقيقية لا علاقة لها بالتمثيل. - ولكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة على نحو ما. - لا داعي لاختلاق الفروض. - فما تفسيرك لها؟ - هي حقيقة بصرف النظر ... - كيف أمكن أن تقع؟ - هي واقعة. - يجب أن نذهب بأي ثمن. - سندعى للشهادة عند التحقيق. - ثمة أمل باق.
Неизвестная страница
قال ذلك واتجه ناحية الشرطي وصاح: يا شاويش!
كرر النداء أربعا حتى انتبه إليه الرجل؛ فقطب متنحنحا، فأشار إليه يستدعيه قائلا: من فضلك يا شاويش!
نظر الشرطي إلى المطر متسخطا، ثم حبك المعطف حول جسمه، ومضى نحوهم مسرعا حتى وقف تحت المظلة، تفحصهم بقسوة متسائلا: ما شأنكم؟ - ألم تر ما يحدث في الطريق؟
لم يحول عينيه عنهم، وقال: كل من كان في المحطة استقل سيارته إلا أنتم، فما شأنكم؟ - انظر إلى هذا الرأس الآدمي. - أين بطاقاتكم؟
ومضى يتحقق من شخصياتهم وهو يبتسم ابتسامة ساخرة قاسية، ثم سألهم: ماذا وراء اجتماعكم هنا؟
تبادلوا نظرات إنكار، وقال أحدهم: لا يعرف أحدنا الآخر. - كذبة لم تعد تجدي.
تراجع خطوتين، سدد نحوهم البندقية، أطلق النار بسرعة وإحكام؛ تساقطوا واحدا في إثر الآخر جثة هامدة، انطرحت أجسادهم تحت المظلة، أما الرءوس فتوسدت الطوار تحت المطر.
النوم
هذه النخلة الوحيدة في الفناء الترب تذكر بحوش قرافة. يجرى ذلك في خاطره كلما مر عبر الفناء إلى باب البيت الخارجي، واعترضه صاحب البيت وهو يرش الأرض بالخرطوم، ناداه قائلا: أستاذ.
اللعنة! أبغض يوم عنده يوم يصبح على وجهه. عجوز ناعم، يفتر فوه أحيانا عن ابتسامة كشق في لحاء شجرة. - أنت شاب وحيد ولكنك مهذب طيب السمعة، لا شكوى من ناحيتك؛ فبالله ما معنى الجلسات التي تعقد في شقتك لتحضير الأرواح؟ - هل أستجوب عما يدور داخل شقتي؟ - نعم، إذا امتد أثره إلى من حولك، ثم إن لي حقا في مخاطبتك باسم صداقتي القديمة للمرحوم والدك.
Неизвестная страница
انطبع الامتعاض في صفحة وجهه، فقال صاحب البيت: لم أرك مرة واحدة في صلاة الجمعة! - وما دخل ذلك في موضوعنا؟ - المؤمن لا يهتم بهذه الألاعيب، هذا ما أعنيه.
ضحك الشاب ضحكة قصيرة، وقال: ولكن الاهتمام بذلك يعني الإيمان بالأرواح. - كلا. يعني الشك أولا وأخيرا.
فغير الحديث قائلا: أذكرك بجدار دورة المياه. - لا تتهرب، الحق أن هذه الجلسات تحدث بين السكان اضطرابا غير مستحب! - أنا لا أرتكب فعلا مخالفا للقانون، وأرجو أن الجدار ... - من الأفضل أن نبقى على وفاق.
ثم قال وهو يدفع بماء الخرطوم إلى بعيد: أما عن أي إصلاح فعليك أن تقوم به بنفسك.
ما أبغض أن يصبح على وجهه يوم العطلة! والطريق شبه خال كشأنه في بواكير العطلات، وثمة سقيفة من السحاب الثابت تمتد فوق الضاحية، واشتد عليه ثقل رأسه عقب ليلة لم ينم فيها أكثر من ساعتين، فبعد انفضاض حلبة التحضير قال لزميله مدرس التاريخ: يطيب الآن الحديث في المصير ...
وتقضى الليل دون أن يجنوا من النقاش ثمرة. وقال له صديق، ضاحكا وهو يغادر الشقة قبيل الفجر: خير حل أن تتزوج.
وأوى إلى فراشه قلقا، ووجه محبوب يتراءى لعينيه، لا ينبغي أن تبقى النخلة وحيدة إلى الأبد. ولم كانت أمه تؤكد له دائما قبيل وفاتها بأيام بأن كل شيء يدعو للحمد؟ وجد الكازينو خاليا في تلك الساعة المبكرة، واتخذ مجلسه عند مدخل الحديقة الفاصلة بين الكازينو ومحطة الديزل. حياه الجرسون وجاءه بالجرائد، أعد له مع القهوة سندويتش فول، فبعد أن شبع ثقل رأسه أكثر وأكثر حتى عجب أين كان النوم وهو يستجديه في فراشه! وتذكر درس المفعول المطلق الذي سيلقيه غدا صباحا على تلاميذه، فتذكر بالتالي زميله مدرس التاريخ، قرينه في المناقشات الجنونية. - ولكن ما معنى ذلك؟ - أنت مدرس عربي، حسن! هل عرفت فعلا بلا فاعل؟ - اللغة بحر بلا حدود. - مات محمد. محمد فاعل، ولكن أي فاعل هذا؟ ولذلك فإني أبحث عما أريد خارج نطاق اللغة.
وجاء الجرسون لينظف الرخامة، فسأله: كيف تبرر مطالبتك الزبائن بأثمان الطلبات؟
ابتسم الرجل ابتسامة المعتاد لهذه الأسئلة الغريبة، ثم تناول قروشه ومضى، وقال هو لنفسه: «إنه يبتسم ابتسامة العقلاء، ومع ذلك فما لم نعرف كل شيء فستظل معرفتنا الأشياء الصغيرة القريبة ناقصة وغير مبررة.» ورنا إلى السحب حتى ابيض كل شيء في عينيه. ولكن البياض لم يثبت على حال، لعبت به يد ساحرة، تميع وتموج، واستحال لونا معتما بلا شخصية ولا شكل، واختفى قطار الديزل الواقف في المحطة أو ذاب في السحاب. وبدافع من رغبته في الهدوء المطلق مثل بين يدي بوذا في الحديقة اليابانية، وسمع صديقه مدرس التاريخ يقول وهو يشير إلى بوذا: «الهدوء والحقيقة والانتصار.» ثم أكد قوله مكررا: «الهدوء والحقيقة والهزيمة.» وجمع عزيمته على المناقشة، ولكن أوراق الشجر اهتزت بصرخة حادة؛ صرخة طفل أو لعلها صرخة امرأة، وخفق قلبه وانتعش بروح الغزل، وأراد أن يستشهد ببيت من عمر الخيام ولكن هيهات. وناداه صوت؛ التفت نحو مصدره، فرأى صديقه الآخر وقد بادره قائلا: «خير حل أن تتزوج.» وأطبق عليه وقع أقدام راكضة، وركض ليلحق بالديزل، فزلت قدمه وتهاوى من فوق الطوار. رباه كيف اكتظ المكان بهؤلاء! عشرات وعشرات وعشرات يقفون خارج سور الحديقة الصغيرة، وقوة من الشرطة تعسكر فوق طوار المحطة. حدث تحت السحاب الراكد! وها هو الجرسون راجعا من الزحام إلى الكازينو. وقد مال الرجل نحوه قائلا:حضرتك رأيت كل شيء طبعا!
فقطب متسائلا ومنكرا في آن، فواصل الرجل: سوف تدعى فورا إلى المحقق. - أي محقق يا هذا؟ - ارتكبت الجريمة في المحطة على بعد أمتار من مجلسك.
Неизвестная страница
تساءل ذاهلا: جريمة؟ - أين كنت يا سيدي؟ جريمة القتل فظيعة، ألا تعرف الآنسة «المولدة»؟ - المولدة! - قتلها شاب مجنون، الله ينتقم منه.
تقلص وجهه في ألم وذهول، وغمغم: قتلت! لا أصدق .. وأين هي؟ - حملوها إلى المستشفى لإسعافها، ولكنها ماتت في الطريق. - ماتت! - ألم ترها وهي تقتل على بعد أمتار منك؟
وبعد صمت عاد يقول: كيف لم ترها! أما أنا فكنت مشغولا في الداخل، ثم خرجنا على صوت الصراخ، كان الملعون يطاردها وهي تجري أمامه حتى طعنها في المكان الذي يقف فيه المحقق ... - والقاتل؟ - استطاع الهرب، حتى الآن على الأقل، شاب صغير، رآه ناظر المحطة وهو يثب فوق السور ويستقل دراجة بخارية، ولكن سيقبض عليه عاجلا أو آجلا.
اشتد تقلص وجهه بالألم حتى تقوض في مجلسه. ومضى الجرسون عنه وهو يقول: كيف لم تر الحادثة التي وقعت بين يديك؟
وأقبل شرطي فدعاه إلى لقاء المحقق، قرر أن يركز فكره المشتت مهما كلفه ذلك من عناء، نظر في ساعته فأدرك أنه نام ساعة على الأقل. ومضى مع الشرطي وهو يجر رجليه، بدأ السؤال كالعادة بالاسم والسن والعمل. - متى جلست في الكازنيو؟ - في السابعة صباحا على وجه التقريب. - ألم تغادر مجلسك طيلة الوقت؟ - كلا. - ماذا رأيت؟ حدثنا بالتفصيل من فضلك. - لم أر شيئا! - كيف؟ لقد ارتكبت الجريمة في هذا الموضع، فكيف لم تر شيئا؟ - كنت نائما! - نائما؟!
أجاب باستحياء: نعم. - لم توقظك المطاردة؟ - كلا. - ولا الصراخ؟
هز رأسه نفيا، وهو يعض على شفتيه. - ولا استغاثتها وهي تناديك باسمك؟
تأوه هاتفا: اسمي! - أجل، لقد نادتك مرارا، ورجح الشهود أنها كانت تجري نحوك مستغيثة بك.
حملق في وجهه بذهول، وتمتم في توسل: كلا! - هو الواقع.
أغمض عينيه ولم يعد يلقي بالا إلى المحقق أو أسئلته، حتى قال له هذا في ضجر: أجب .. عليك أن تجيب! - إني في غاية من التعاسة! - أكانت ثمة علاقة بينك وبينها؟ - كلا! - ولكنها نادتك باسمك. - نحن من ضاحية واحدة، ونقيم في شارعين متجاورين. - شهد شهود بأنهم كثيرا ما رأوكما تقفان متقاربين في انتظار الديزل؟ - توافق في المواعيد بحكم العمل ليس إلا. - أليس لاستغاثتها بك دلالة ما؟ - لعلها كانت تشعر بإعجابي بها. - إذن كانت هناك علاقة من نوع ما. - ربما ..
Неизвестная страница
ثم بانفعال قاهر: كنت أحبها .. كنت أفكر كثيرا في طلب يدها. - أولم تفعل شيئا في سبيل ذلك؟ - كلا .. لم أكن اتخذت قرارا بعد. - ووقعت الواقعة وأنت نائم؟ (أطرق في خزي أليم.)
والآخر .. أعني القاتل .. أليس لديك فكرة عنه؟ - كلا. - ألم تسمع عن علاقة لها بآخر؟ - كلا. - ألم تر أحدا يحوم حولها؟ - كلا. - هل لديك أقوال أخرى؟ - كلا.
ما زالت السماء محجوبة وراء سقيفة السحاب الجامد، وتساقط رذاذ دقيقة واحدة ثم انقطع. هام على وجهه طويلا.
انقضى النهار وهو يهيم على وجهه، كأنما يداوي أزمته الطاحنة بالحركة المرهقة، وصادفه مدرس التاريخ أمام الحديقة اليابانية، هز يده مصافحا وهو يقول: تعال نجلس سويا، بي رغبة في الحديث.
فقال بفتور: من غير مؤاخذة، لا رغبة لي في الأحاديث الميتافيزيقية.
مط الرجل بوزه آسفا، وتساءل: أحق ما يقولون من أن المولدة قتلت أمامك وأنت نائم؟
فسأله غاضبا: من أدراك بذلك؟
أجاب بنبرة المعتذر: سمعت به عند الحلاق! - أمن العجب أن ينعس إنسان متعب؟ وما ذنبه إذا قامت القيامة في أثناء ذلك؟
ضحك الزميل وقال ملاطفا: لا تغضب، ولكني لم أكن أعلم بالعلاقة بينك وبين المولدة. - أي علاقة؟! أنت مجنون؟! - أعتذر .. أعتذر .. هذا ما سمعتهم يقولونه في دكان الحلاق.
مضى في سبيله الذي لا هدف له، اللعنة، ستنتفخ الشائعات كالمناطيد. ولن ترد قوة الجميلة اليانعة إلى الحياة، حسرة لا دواء لها. واستغاثتها اليائسة ارتطمت بجدار النوم، ولكنها نفذت بطرق سحرية إلى آذان الضاحية. أيتها التعيسة، إني أتعس منك. وقال له بائع السجائر وهو يعطيه العلبة: لا بأس عليك يا أستاذ، البقية في حياتك.
Неизвестная страница
اللعنة! لا يبدو أن أحدا يجهل الواقعة، وها هم يقدمون له العزاء مسلمين بداهة بعلاقته بها، ها هي الخطبة تعلن بعد الوفاة، وربما تمادت الظنون وراء ذلك.
ورماه البدال بنظرة ذات معنى، ما البدال! يخيل إليه أن الأعين كلها تتعقبه، إنه في الواقع مطارد، متهم، مجرم. إنه مسئول عن الاستغاثة الضائعة لا مفر. وغدا في المدرسة تنهال عليه الأسئلة. الجحيم الحقيقي ستندلع نيرانه في حوش المدرسة، تخبط طويلا، تلقى أقوالا كثيرة كلها مثيرة مؤلمة، إنه حديث الضاحية، لا حديث للضاحية إلا الجريمة والنوم، «قبض على القاتل وهو تلميذ بالثانوي.» إذن قتلها العبث وجنون العيال «كان القاتل يحبها ولكنها لم تشجعه.» لذلك بدت له دائما رزينة وجادة. «من المؤكد أنها كانت تحب مدرس اللغة العربية.» يا للحسرة! شغل عن إسعادها بجلسات تحضير الأرواح ومنعه من إنقاذها النوم. «قال في التحقيق إنه كان نائما، أليس عجيبا ألا يوقظه الصراخ والمطاردة والاستغاثة!» إنه لعجيب حقا، ولكنهم لا يعلمون أنه قضى الليل في تحضير الأرواح وأحاديث المصير، اعتصر الألم قلبه فتجرعه سما بطيئا، واضطر أخيرا إلى الرجوع إلى البيت وهو كاره. كان المساء يغشي حجاب السحاب بغلالة معتمة، وجد صاحب البيت يقتعد أريكة تحت النخلة الوحيدة، استقبله بلطف وقال: تبدو متعبا، أرجو ألا يكون حديثي معك في الصباح قد ضايقك؟
هز رأسه نافيا، فخفض الرجل صوته وهو يسأله: أحق ما يقال؟
فقاطعه بحدة: أجل .. قتلت المولدة على بعد أمتار من مجلسي في الكازينو وأنا نائم، هذه هي المعجزة الثامنة! - لم أقصد يا بني أن ...
فقاطعه مرة أخرى: ولم أسمع استغاثتها، وفي قول آخر أني سمعته ولكني تناومت ...
أقبل عليه الرجل معتذرا متأسفا، وأخذه من ذراعه فأجلسه إلى جانبه قائلا: كان المرحوم والدك صديقي، لا تؤاخذني يا بني!
ومضت فترة غير قصيرة في صمت وحذر، ثم استأذن في الانصراف، فأوصله الرجل حتى الباب الداخلي، وهناك همس في أذنه: أكرر الرجاء فيما قلته لك في جلسات تحضير الأرواح.
استلقى على الفراش، وهو من العناء في غاية، ثم غمغم مغمض العينين: ما أحوجني إلى نوم طويل؛ طويل بلا نهاية!
الظلام
كثيف الظلام كأنه جدار غليظ لا يمكن أن تخترقه عين، لا شيء يرى ألبتة، إنهم يجتمعون في عدم، ولا صوت إلا قرقرة الجوزة، والجوزة تدور حتى تتم دورتها في الظلام، فترجع إلى المعلم بطريقة ميكانيكية. وكثيرا ما كان المعلم يقول: إني أرى في الظلام، اعتدت ذلك لطول معاشرة السجون والخلاء.
Неизвестная страница
إذن فهو يراهم على حين أنهم لا يرونه ولا يرون شيئا، وبسبب الظلام يعيش كل منهم في عالم خاص به مغلق الأبواب عليه. يجيئون من أماكن مختلفة، متباعدة ومتقاربة، لا يدري أحد عن الآخر شيئا، يشدهم إلى هذه الحجرة داء واحد، والمعلم يدعوهم واعدا إياهم بالأمان والستر، وكلما دعا أحدهم قال له: في عزبة النخل داري، وفي حوشها الخلفي فيما يلي الحقول شيدت حجرة مرتفعة، معزولة عن الأرض بلا موصل يفضي إليها، ستصعد إليها على سلم خشبي سرعان ما يطرح تحت أكوام التبن، فهي حصن لا يكبس، ولها من الظلام حولها حصن آخر.
أجل، ها هم معلقون في الهواء، غائصون في الظلام، كأنما يعيشون في الزمن الذي لم تكن الأعين قد خلقت فيه بعد، وكل يد تلامس اليد المجاورة عند تناول الجوزة ولكن يد من هي؟ أي شخص وأي هوية؟
ويضحك المعلم ويقول: نحن مدينون للظلمة بالسلام الذي ننعم به، صدقوني فإنني رجل مجرب.
لم يتوقع يوما أن يناقشه أحد خشية أن يفضحه صوته لدى آخر ممن يكفنهم الظلام. وكان يقول لهم: لو تعارفتم على ضوء شمعة لتبادلتم أحاديث لا نهاية لها. ولاحتد الخلاف بينكم، ولانقلب المجلس جحيما لا يطاق، وطالب اللذة لا يحب ذلك، أما أنا فأمقته مقتا.
وندت من الظلام همس ضحكات مكتومة، فقال: أعرف بينكم أناسا مختلفي الأديان والآراء، وها أنتم تمضون وقتا طيبا في سلام بفضل الظلام والصمت.
ند الهمس من جديد، لعلهم يسخرون كعادتهم ولو في سرهم. يا لها من طريقة طريفة لمعالجة التفرقة الدينية والفكرية! يسخرون وهم لا يعرفون للحجرة التي يترددون عليها شكلا إلا مس الشلت والحصيرة المفروشة بينها! وهو يسعل كثيرا، ثم يقول بصوت كالقرقرة: إن أحدكم قد يلقى جليسه في مكان فلا يعرفه، قد يكون زميلا في مصلحة أو عضوا في أسرة، قد يريد له الخير أو يضمر الرغبة في قتله، كل ذلك طريف للغاية !
إنهم جميعا غارقون في الإثم، وحامل الإثم جبان؛ ولذلك فهم يكتمون الضحكات فتضغط وتمط في صوت فحيح زاحف في الظلمة. ويضحك عاليا ويقول: إني أعرفكم جميعا، الاسم والعمل والمكانة، أما أنا فلا يهمني شيء، لا يكبل الإنسان مثل حرصه المضحك على حسن السمعة، وما سر الحرية التي أتمتع بها إلا السجن والخلاء وسوء السمعة!
يا له من صوت كالقرقرة. ونبرة لا تخلو أبدا من السخرية والثقة بالنفس، وسوء سمعته جدير بتخويف الناس من مجلسه لولا دبلوماسيته في معاملة السلطات، وعنده يجد المصاب ما لا يجد عند غيره من الصنف والطمأنينة. ويقبع في الظلام محتكرا الكلام والرؤية. ومرة قال ضاحكا: إنكم جميعا من السادة، لكم منزلة تخافون عليها، أما الفقراء فلا يخافون على شيء؛ ولذلك فلا مكان لهم عندي، ولذلك فهم لا يؤمنون بالظلام والصمت.
هذا الرجل رغم حقارته ذو مكانة يؤمن بها المصابون بالأدواء. يتلقون أياديه بامتنان، ولا ينتشلهم من العدم إلا عيناه المحطمتان لجدار الظلمة؛ وهو أحدب، مغضون الوجه، قصير القامة، نيف على السبعين، ولكنه ذو حيوية شيطانية. ويسألهم ضاحكا: لم لا تجعلون من حياتكم كلها امتدادا جميلا لهذه الجلسة؟
ثم قال وكأنه يجيب على سؤاله: ستقولون العمل .. الأسرة .. الواجب.
Неизвестная страница
وضحك ساخرا، ثم واصل قائلا: لكنه لا شيء إلا الظلام والصمت!
وتنقضي فترة طويلة في صمت، ثم يعود قائلا: إني أسخر منكم بالكلام الفارغ، وأنتم تسخرون مني في قلوبكم بالصمت، وهذا يعني أنكم لا تتعلمون، أما أنا فقد حققت لنفسي المعجزة، رغم أنف الدنيا، فلا أسرة لي ولا عمل، إذ إن الموزع في الحقيقة لا عمل حقيقي له، وفي غمرة الذهول وجريان الأيام على وتيرة واحدة تبدو لي الحياة طويلة كثيفة مثقلة بالملل فلا أخاف الموت، من منكم لا يخاف الموت!
وبرغم حقارته، برغم ما يثيره في النفوس من سخرية خرساء، فقد مس وترا حساسا، ولكن من يصدق أنه لا يخاف الموت؟ ولم إذن بنى هذه الحجرة المعزولة في الهواء والخلاء؟
وفي ذات ليلة قال لهم بثقة: في هذه الحجرة خلاصة مركزة لحكمة الحياة.
وكف عن الكلام طويلا؛ وإذا بالجوزة تتوقف عن الدوران، ظنوه ينشد شيئا من الراحة بخلاف عادته، وانتظروا فطال بهم الانتظار في الصمت والظلام، انتظروا وانتظروا، ولكن لم يجد جديد، استهلكوا قدرتهم على الانتظار، تنحنح بعضهم استحثاثا له على العمل، ولكن دون جدوى. هل نام الرجل؟ هل أغمي عليه؟ هل مات؟
وأقربهم إلى موضعه مد يده متحسسا مكانه، ثم همس بقلق: ليس الرجل في مكانه!
وألصقهم بالباب قام ليفتحه، ولكنه همس في اضطراب: الباب مغلق بإحكام.
واضطر أحدهم إلى رفع صوته قائلا: لا بد من وجود نافذة، فليفتش عنها كل فيما يليه من الجدار.
ومضت فترة في التفتيش، ثم تتابعت الأصوات: لا توجد نافذة .. لا توجد نافذة!
واستهانوا بالستر فقرروا إشعال أعواد الثقاب ليتبينوا موقفهم، ولكن أحدا لم يجد علبة ثقابه .. علبة السجار بمكانها أما الثقاب فلا أثر له! لا يمكن أن يقع ذلك مصادفة. سرق الثقاب! ولكن من السارق؟ ولم سرقه؟ وماذا يراد بهم؟ ونادوا المعلم؛ نادوه بأصوات غاضبة، نادوه بأصوات رعدية، ولكن لا مجيب، لا مجيب على الإطلاق، ولا صوت. - أين ومتى ذهب؟ - من أي منفذ تسلل؟ - ما معنى اختفائه؟ - كيف؟ ولم سرق الثقاب؟ - لعله ذهب لقضاء أمر فدهمه حادث. - ولم أغلق الباب؟ - ولم سرق الثقاب؟ - أهزر وراء ذلك أم شر؟ - نحن مهددون في الظلام.
Неизвестная страница
وعادوا ينادون الرجل فترتطم أصواتهم بالجدران الصماء، بحت حناجرهم، وكلت قبضاتهم من دق الحيطان، وأطبق عليهم اليأس في الظلام، ما عسى أن نفعل؟ هل ننتظر إلى ما لا نهاية؟ نستسلم حتى يتقرر مصيرنا؟ وما مصيرنا؟ هل جن الرجل؟ استكانوا إلى مقاعدهم فوق الشلت وهم في نهاية من الإعياء، كأنهم جروا شوطا قطع منهم الأنفاس، أو خاضوا معركة مزقت الأوصال، حتى الخوف باخ تحت وطأة التلبد الذي أخلفه الوهن. وتثاءب شخص بصوت مسموع فجرى التثاؤب من فم إلى فم. وتساءل صوت: ترى هل سرقت علب الثقاب وحدها؟
وفتشت الأيدي الجيوب حتى صاح أحدهم: بطاقة الشخصية! لا أثر للبطاقة.
وتتابعت الأصوات : وبطاقتي أيضا! - النقود موجودة أما البطاقة فلا أثر لها. - ما معنى هذا اللغز؟
وأكثر من شخص أراد معاودة النداء فخذله صوته، وعاد التثاؤب يتردد في نغمة ممطوطة مسترخية، ثم ساد في الظلام صمت ثقيل كأنه النوم أو الموت.
وإذا بصوت يشق الظلام متسائلا في هدوء: كيف حالكم؟
تردد الصوت في الظلام وحده ولكن دون رد فعل، فعاد يتساءل مرتفعا درجات: هوه .. كيف حالكم؟
وندت حركة ضعيفة في الظلام أعقبها صوت يقول بنبرة فازعة للأمل: المعلم! .. من؟ .. المعلم؟
واستبقت الأصوات مرددة: المعلم .. المعلم .. فعاد الصوت يتساءل متهكما: كيف حالكم؟ - تسأل عن حالنا! .. أنت! .. أي دعابة سمجة؟ - كيف حالكم، هذا ما أسأل عنه. - أين كنت يا رجل؟ - أنا لم أبرح مكاني. - ألا زلت مصرا على العبث بنا؟ - صدقوني فأنا لم أبرح مكاني طيلة الوقت. - كذاب .. تحسسنا موضعك فلم نجد لك أثرا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا. - أيها المكابر .. لقد ناديناك حتى بحت أصواتنا، ودققنا الجدران حتى كلت أيدينا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا، صدقوني، وكنت طيلة الوقت بينكم. - ما زلت متوهما أنك قادر على العبث بنا! - صدقوني .. لم أفعل شيئا سوى أن أخذت بطاقاتكم وعلب الثقاب. - ها أنت تعترف .. كف عن العبث .. لم نكن نعرف أنك نشال ماكر. - بل أخذتها وأنتم نيام. - نيام! - أجل وأنتم نيام. - لم يغمض لأحد منا جفن. - بل نمتم ساعة كاملة على الأقل، أنجزت فيها مهمتي. - أنت مطالب بأن تفسر لنا سلوكك الشاذ. - طيب .. خطر لي أن أقوم بتجربة فذة .. خدرتكم بخلطة عجيبة من ابتكاري! - إنك تهذي! - ستفقدون ذاكرتكم قبل طلوع الفجر. - رد إلينا مسروقاتنا، وافتح الباب. - واستغرقتم في النوم ساعة كاملة تبعا للخطة، ثم استيقظتم، وتثاءبتم، وندت عنكم همسات لا معنى لها، ثم تكلمت أنا. - لن يجدي خداعك. - نمتم ساعة بدليل أنني أخذت ما أردت أخذه منكم وأنتم لا تشعرون. - لكنني تحسست مكانك بيدي فلم أجدك. - لم يكن باستطاعتك أن تحرك يدك. - ودققنا الجدار، ونادينا بأصوات كالرعد. - عجزتم عن ذلك كما تعجزون عنه الآن، ولكنكم توهمتم أفعالا لم تخرج في حقيقتها عن نطاق رءوسكم، كانت أفعالكم كالظلام الذي يلفكم لا وجود حقيقيا لها. - ألا ترى أننا غير مستعدين للهزل؟ - ستفقدون الذاكرة قبل الفجر، لن يعرف أحدكم نفسه، فضلا عن الآخرين! - ألا ترى؟ - لذلك استوليت على بطاقاتكم، لن يعرف أحدكم نفسه، وهيهات أن يعرفه أحد. - اغسل رأسك بماء بارد .. أسرع! - غدا صباحا لن يوجد منكم أحد، ستختفون كما اختفت بطاقاتكم! - هل جننت يا رجل؟ - ليكن، ماذا جنيتم من عقلي؟ فلتجربوا جنوني، وسوف أخدر نفسي بابتكاري العجيب، ومن حسن الحظ أنني لا أملك بطاقة من الأصل، فلنشكر للظلام والصمت والليل أياديها. - يا مجنون! يا مخرف! - ستفقدون القدرة على الكلام كما فقدتم القدرة على الحركة، سوف ألحق بكم، أعدكم بذلك. انطرحوا جثثا فوق الشلت فغدا سيستقبلكم الخلاء أجسادا فتية مبللة بندى الحقول.
وساد الصمت. لم ينبس أحدهم بكلمة، وترددت أنفاس نوم عميق. وجعل ينقل بصره من واحد لآخر، ثم تنهد بارتياح متمتما: مبللة بندى الحقول.
الوجه الآخر
Неизвестная страница
زارني عثمان بعد غياب طال بسبب خدمة طويلة في الأقاليم. تعانقنا بحرارة، تذاكرنا عهدا ماضيا امتد من الطفولة مارا بالشباب حتى الكهولة. وقد عاد ليشغل وظيفة هامة رئيسية في جهاز الأمن عقب انتصارات خطيرة أحرزها في مطاردة المجرمين. وبعد أن شرق بنا الحديث وغرب سألني: هل ترى رمضان؟
توقعت هذا السؤال طيلة الحديث. حدثني قلبي بأنه آت لا ريب فيه، وأجبت بأمانة: أجل، بين حين وآخر. - ما زلتما صديقين؟ - أجل. - أليس غريبا أن تظلا صديقين وأنت المربي الفاضل؟ - الأمر لا يخلو من غرابة ولكنها عشرة عمر، ثم إنه يلقاني إذا جاء كشخص أليف مستأنس كأنما لا يمت بصلة إلى الشخص الآخر المثير للفزع. - لا أتصور ذلك! - ولكنها حقيقة، وعلاقته بي هي العلاقة الإنسانية الوحيدة في حياته، فلا عجب أن يحرص عليها. - قد يدهمك بغدره على غير انتظار. - لا سبب يدعو إلى ذلك البتة!
تنهد بحزن عميق، وشاركته مشاعره؛ إنه شقيقه، وهو يمثل نقطة سوداء دامية في حياته وحياة أسرته؛ نشآ في بيت واحد . نشأنا في حارة واحدة تحت ظل جيرة حميمة .. ولكن رمضان كان دائما ريحا هوجاء تعصف الوجوه بالطين والتراب. وسألني: هل تستطيع أن تهيئ لي لقاء معه في بيته؟
تفكرت مليا في قلق، فعاد يقول بإلحاح: لا بد من ذلك، إني مسئول عن الأمن، وأنت أدرى بما في موقفي من حرج! - ولكنه ... أعني ... - ولكنه يمقتني، ويسيء بي الظن، غير أنه سيثق في كلمتك! - أعدك بالسعي إلى تحقيق رغبتك، ولكن عدني بالتزام الحلم إلى أقصى حد مهما لقيت من استفزاز. - ليس في نيتي طبعا أن أعرض بيتك المنعزل في الضاحية الهادئة للفضيحة .. إني أعطيك كلمة شرف، وأنت أدرى بقدرتي على ضبط النفس. - وقد وعدتك! - تبدو غير متحمس؟ - فعلا. - وتراه لقاء عقيما؟ - أي نعم. - ولكن لا بد منه! - أي نعم.
وتبادلنا نظرة طويلة حزينة، وتلبدت سماؤنا بغيوم الذكريات المتجهمة، الصداقة الحميمة وقوى الهوس الصبياني التي انقلبت مع الزمن شرا كاسرا. وقال بنبرة كئيبة: لم أكن أتخيل أنه سيتردى إلى هذه الدرجة من الحضيض! - ولا أنا، ولو أن العمر والتجربة ومزاولة التربية لم تدع لي مجالا واسعا للدهشة. - وكم أرقتني أنباء تدهوره وأنا بعيد عن العاصمة! - لم يكن في الوسع صنع شيء. - لا أشك في أنك حاولت الإصلاح ما وسعك ذلك. - طبعا، ولكن النصيحة تؤجج ناره، فتجنب الحديث الشائك. - واحتفظت بصداقته رغم ذلك؟! - كان الذي بيننا أعمق من أخوة حميمة، ثم إن الإنسان الذي يجيء لمقابلتي إنسان آخر، طيب المعشر، عامر بأجمل الذكريات، يفيض بالود قلبه. - وكيف تفسر ذلك؟ - إن الحية الغادرة لا تخلو من عواطف أمومة! - ولكنك تعلم أنه وحش قذر وعار إنساني! - لن أدافع عن نفسي؛ فإني صديقه كما أنك شقيقه. - لا زلت أعجب أنك لم تقطعه!
داريت ابتسامة كئيبة، وقلت: إنه ليس كائنا من جنس آخر غير جنسنا، الحكاية أنه أسير الأهواء التي وفقنا إلى كبحها. - هو الفرق بين المدنية والوحشية. - إني لا أدافع عن انحرافه!
ولذنا بالصمت مليا، ثم عاد يسأل: هل زرت مخبأه في الجبل؟
تساءلت بدوري ضاحكا: هل تبدأ التحقيق معي؟
فضحك ضحكة فاترة ولم ينبس، فقلت: لا أدري شيئا عن هذا المخبأ المزعوم.
فقال بامتعاض: اعتداء، برمجة، بلطجة، مخدرات، عربدة، سرقة ونهب، هتك أعراض. - أما المبالغات فقد خلقت منه أسطورة! - إني أعرفه من المهد، وأنت كذلك! - أي نعم. - كنا ثلاثة، وكنا واحدا! - أجل. - انظر كيف انشق وانحرف! - يا للأسف! - شرير بطبعه. - الأفضل أن نقول: إن ثمة معاملات صادفته داخل البيت وأخرى في الطريق. - لا هذه ولا تلك يمكن أن تبرر هذا المصير الأسود. - أنا لا أدافع عنه، ولا جدوى من ذلك!
Неизвестная страница
نهض وهو يقول إنه آن له أن يذهب، ذكرني بوعدي. ثم ودعني وانصرف. •••
وقلت لرمضان ونحن نحتسي الشاي بعد العشاء: أحدهم يروم مقابلتك.
حدجني بنظرة ثاقبة، نظرة ينفذ بها إلى باطن محدثه إذا تشمم وراء كلماته أمرا. وقال متهكما: إن تكن امرأة فأهلا وسهلا بها!
وأدركت أنه أدرك ببساطة: إنه رجل، ومن رجال الأمن.
فقال مقطبا: توقعت ذلك مذ علمت بعودته إلى العاصمة. - هذا يقطع بحسن ظنك به.
فتقلص وجهه غضبا - وما أسرع انفعالاته - وقال: اللعنة! إنه مثال العقل كما يقولون، ولعله ازداد مع الأيام ثقل ظل! - لا شك أن وراء رغبته بواعث طيبة. - منذ المهد وهو يود القضاء علي! - كان يود لك أن تسلك في الدنيا مسلكه. - العقل .. الاتزان .. الاعتدال .. النظام .. الاجتهاد .. الأدب، إنه رمز الموت في عيني!
يا للذكرى، شد ما تبادلا المقت. وبازدراء متقزز كان عثمان يقول عنه «عاصفة مجنونة .. نزوة بلا ضابط .. ثور هائج معصوب العينين .. مجموعة من الأكاذيب والخرافات.» شد ما تبادلا المقت، ولكن من الغريب أنني أحببتهما معا. عثمان كان الرفيق الذي شجعني على الدرس والخلق والوطنية، وأما رمضان فكنت أهرع إليه ليروي ظمئي المكبوت إلى الانطلاق والأسطورة والغاية. وقلت له: إنه أخوك على أي حال. - ماذا يريد مني؟ - ليس من الصعب أن نتخيل. - لعلها مكيدة!
فقلت محتجا: كلا .. ألف مرة كلا. - العقل يعني الحكمة، والأنانية، والجبن. - لك أن ترفض إذا شئت! - يجب أن يعرف أنني لا أخشاه. - إذن فلنحدد موعدا؟ - ولكني لن أقع كذبابة. - والرأي؟ - لعله يريد أن ينتقم! - لقد انقضى الماضي واختفى، وهو اليوم زوج وأب سعيد.
تذكرت عروس عثمان الأولى التي هربت مع رمضان موقعة بالأسرة زلزالا، وكيف عاملها بعد معاشرة أسبوع بوحشية حتى اضطرت إلى الاختفاء مجللة بالعار واليأس. وعدت أقول: لقد مضى ذلك وانقضى، ولك أن ترفض إذا شئت.
فتفكر مليا، ثم قال: ادعه .. وسوف أحضر متأخرا بعد أن آخذ حذري. •••
Неизвестная страница
وجاءنا رمضان ونحن ندخن في حجرة المكتب، ووقف عثمان لاستقباله، فالتقيا وجها لوجه بعد فراق ربع قرن من الزمان، نظرت إليهما باهتمام محموم وقلبي يخفق، تقابلا بوجهين جامدين لم يتحركا باختلاجة عاطفية واحدة، وتصافحا مصافحة رسمية باردة، وقال عثمان: أشكرك على قبول دعوتي.
وجلس عثمان على مقعده، على حين جلس رمضان إلى جانبي على الكنبة، واقترحت أن أنصرف، ولكنهما أصرا - معا - على استبقائي. وقال عثمان مخاطبا أخاه: لا أظنك تجهل السبب الذي دعوتك من أجله؟
قال رمضان ببرود: صارحني بما لديك. - طيب، نحن نعمل الآن في مدينة واحدة، ويحسن بنا أن نتجنب - ما وسعنا ذلك - وقوع المأساة. - المأساة؟
لم يخدع بتجاهله إذ كان على يقين من إدراكه لما يعنيه؛ ولذلك واصل حديثه قائلا: عندي اقتراحان.
فتساءل رمضان وهو يرمقه بتحد: أولهما؟ - أن تسلم نفسك معلنا توبتك، ولعل ذلك يخفف من عقوبتك. - وثانيهما؟ - أن تبتعد عن طريقي بالوسيلة التي تختارها.
ضحك رمضان ضحكة هازئة ولاذ بالصمت. انتظر عثمان مليا، ثم تمتم: الحق أني لم أتوقع خيرا. - إذن فلم دعوتني؟ - لكي أبرئ ذمتي.
قطب رمضان غاضبا، وقال: طالما رغب كلانا في القضاء على الآخر! - هذا حق فيما يتعلق بك. - وفيما يتعلق بك أيضا، ولكن كان لك أسلوبك الخاص. - لا جدوى من الجدل، والأفضل أن تفكر فيما عرضته عليك. - لن تظفروا بدليل ضدي ولا شاهد. - أنصحك بألا تطمئن إلى ذلك. - جرب حظك إذا شئت. - سأجربه بلا أدنى تردد.
بدهتني حقيقة طريفة. إنهما كانا يقتتلان طيلة العمر ومذ كانا في المهد، لم يجد جديد سوى أنهما سيتلاقيان وجها لوجه، سيكتشف كلاهما عما قريب أنه كان يقاتل شقيقه أو جزءا من نفسه.
نهض رمضان قائما، لوح بيده محييا، ومضى عابسا عصبي الخطوات. •••
بدأت المعركة بين الشقيقين عقب ذلك الاجتماع بأيام، دهمت قوات الأمن جميع الأماكن المشبوهة في المدينة والجبل والخلاء. قبض على جميع من ظن أن لهم بالرجل علاقة من الرجال والنساء، واستجوبوا بعنف فتتابعت الاعترافات، وتضاعف عدد المقبوض عليهم بعد أن ثبت أن أعوانه منبثون في أماكن لا حصر لها كالملاهي والأندية والمقاهي والمصالح الحكومية، حتى أماكن العبادة لم تخل منهم. وتدفقت القوات بكل ثقلها في مطاردة عنيفة جللت المدينة بطابعها الإرهابي؛ فذكرت الناسين بأيام الطوارئ وليالي الغارات، فتشت العيون السيارات والتاكسيات والناقلات، ومسحت الكشافات زوايا الجسور ومنعطفات الطرق والخرابات، وطوفت القوارب الشراعية فوق سطح النيل، واقتحمت الخلوات على العاشقين. ومكالمة تليفونية عابثة كانت خليقة بأن تحرك فرقة كاملة من الشرطة وتزلزل عمارة آمنة، وندبة في أنف رجل بريء أو بروز غير عادي في جبهته قد تجر عليه من الويلات ما لم يكن يحلم به. ولم يكن من النادر أن تند عن ركن من الطريق صيحة، تعقبها أصوات أقدام راكضة، ثم تنطلق رصاصات، فيخلو الطريق في ثوان، وتنقض على أديمه مطاردة عنيفة لا تنتهي إلى شيء. وأظلت المدينة سحابة قاتمة تقطر رعبا. •••
Неизвестная страница
تابعت أخبار المعركة باهتمام لم أشعر بمثله من قبل، وكنت على يقين من الخسران الشخصي مهما تكن نتيجة المعركة، فلا مفر من أن أفقد أحد أحب رجلين إلى قلبي، وموقف الحياد بينهما لا يهضمه ضميري؛ فلا بد من الانحياز إلى عثمان، غير أن عواطفي تمردت علي واقتتلت بمرارة ومزقتني تمزيقا؛ فكلما أحرز رجال الأمن انتصارات حاسمة داخلتني كآبة، وأشفقت من خلو عالمي من رمضان ومرحه وأساطيره ومغامراته في دنيا الجنس والتحدي، وكلما فاز الرجل في مطاردة ونشر الرعب من حوله وهدد أخاه انقبض قلبي، واستشعرت خوفا من تسلط قوى الهدم والعربدة وتمكنها من تقويض دعائم الأمن والحضارة، وانبهم أمري على نفسي، ولم أعد أدري أي رجل أكون! ولا ماذا أروم؟ ولا كيف أبلغ التوازن المنشود؟ هكذا تابعت أنباء المعركة باهتمام وانفعال وخجل وحيرة. •••
وانتهت المعركة إلى خاتمتها المحتومة، وطلعت علينا الصحف ذات صباح بصورة رمضان وقد خر صريعا مضرجا بدمه. انقضت المطاردة الجهنمية وأيام القلق ولياليه، رنوت إلى الصورة طويلا حتى شعرت بالدمع يدب في أعماق عيني. وحنقت، امتلأت بالحنق، ولكني لم أدر علام أحنق، وازدحمت مخيلتي بالقوى الكونية المدمرة كالزلازل، والبراكين، والأعاصير، والشهب، والفياضانات، والجراثيم. ولم أدر هل أتذكرها على سبيل التشفي أو لأعرف موضعها بين الخير والشر؟
وزارني عثمان بعد ذلك بأيام، كان كل شيء في الدنيا قد انقلب رأسا على عقب، في دنياي على الأقل، وبخلاف العهد وجدت نحوه نفورا مرضيا بذلت قصاراي لأروضه وأهذبه. وشعرت في ذاتي بعديد من الشخوص تتصارع وتتجاذب بعنف جنوني، جلسنا على مقعدين متقاربين وهو يطالعني بنظرة ثقيلة تنم عن روح ميت. وفصل بيننا صمت غامض لا يريد أن ينقشع، وأخيرا تململ في مجلسه قائلا: إرادة الله، ولا راد لإرادته.
فقلت - أو قال لساني بلا وعي: إني أرمل وحيد، وقد امتلأ البيت بالأشباح.
تفحصني بقلق، ثم قال: إنك لا تبدو كما عهدتك. أأنت مريض؟! - لا أشكو إلا من الأشباح. - أنت لا تعني ما تقول!
فقلت - وأنا أضحك ضحكة رجل نسي تماما كيف يسيطر على نفسه: عشت عمري متوهما أن سلوكك كان المثل الذي قادني إلى طريق النجاح حتى تبوأت مكاني المرموق في عالم التربية! - لعلك تبالغ. - فعلا، إني نجحت بفضله هو، هذه هي الحقيقة. - هو؟ - الرجل الذي عبأت قوى الأمن لقتله! - حديثك يقلقني! - شبح من الأشباح أكد لي ذلك! - عزيزي! - صه ... وقال لي أيضا: إن رمضان انطلق من قاعدة لا يمكن الدفاع عنها، ولكنه اتبع أسلوبا رائعا، أما نحن - أنا وأنت - فلنا قاعدة لا يمكن الهجوم عليها، ولكننا نتبع أسلوبا سمجا ميتا. - لا أفقه لقولك معنى! - من العسير فهم لغة الأشباح. - صديقي .. إنك في حاجة إلى نوم عميق. - إني في حاجة إلى يقظة مجنونة. هكذا قالت الأشباح! - جئتك بعد أن أضناني الغم. - وسقوني جرعات ضخمة من شراب الأعاصير .. وقالوا: لي إن من يهدم مدينة خير ممن يحافظ على جدار قديم.
ونهضت فجأت ورحت أتمشى في الحجرة متوكئا على عصا، فهتف بي: إنك تعرج!
فأشرت إلى ركبتي، وقلت: التهاب أصابني صباح اليوم المشئوم! - زرت طبيبك؟ - كلا سأجد دوائي عند الأشباح.
اربد وجهه باليأس، فهتفت متشفيا: سأنبذ التربية والقواعد والطقوس، ابتعت لوحة وعلبة ألوان وأقلاما وفرشاة، سأعمل مصورا؛ مصورا أعرج، وقد جئت بامرأة عارية كنموذج!
وأزحت الستار عن باب الحجرة المجاورة فتبدت عارية، وهي تنظر إلينا بهدوء وتحد! ردد عينيه عثمان بينها وبيني في ذهول، فصحت ضاحكا: لعلك تسألني عما أدراني بقواعد الرسم وأصوله؟ حسن، لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.
Неизвестная страница
ورميت عينيه المحملقتين بنظرة متحدية، وقلت بهوس: لقد أضعت أيامي في صحبة العقلاء، سألهو بالأشياء العميقة، سأنصب شراعي في مهب العاصفة، سأسحق مقتنياتي، وأقذف بها للرياح، سأعرض عن العقلاء الشرفاء، وليجرفني الدوار، فليكونوا سعداء نافعين، ولأكن مجنونا مخربا، وليتقبلني الشيطان، وتسألني عن القواعد والتقاليد فأقول لك: إنه لن يعرقلني شيء، سأقبض على الأدوات وأدمر كل شيء.
ومضيت بعزم نحو الفتاة العارية، وأسدلت الستار ورائي.
الحاوي خطف الطبق
قالت لي أمي: آن لك أن تكون نافعا.
ودست يدها في جيبها وهي تقول: خذ هذا القرش واذهب لتشتري الفول، لا تلعب في الطريق، وابتعد عن العربات.
تناولت الطبق ولبست قبقابي، وذهبت وأنا أترنم بأغنية. وجدت زحاما أمام بياع الفول؛ فانتظرت حتى عثرت على منفذ إلى الطاولة الرخامية، وهتفت بصوتي الرفيع: بقرش فول يا عم.
سألني بعجلة: فول خالص، بزيت، بسمن؟
لم أجد جوابا، فقال لي بخشونة: وسع لغيرك.
تراجعت مسحوبا بخجلي وعدت إلى البيت خائبا، فصاحت بي أمي: راجع بالطبق فارغا، دلقت الفول أم ضيعت القرش يا شقي؟
فتساءلت محتجا: فول خالص، بزيت، بسمن، لم تخبريني! - يا خيبة، ماذا تأكل كل صباح؟! - لا أعرف! - خيبة .. خيبة، قل له فول بزيت!
Неизвестная страница
مضيت إلى البياع، وقلت له: بقرش فول بزيت يا عم.
سألني مقطبا نافد الصبر: زيت حار، زيت طيب، زيت زيتون؟
بهت فلم أحر جوابا أيضا، فصاح بي: وسع لغيرك.
رجعت مغيظا إلى أمي، فهتفت داهشة: عدت كما ذهبت، لا فول ولا زيت.
فقلت بغضب: زيت حار .. زيت طيب .. وزيت زيتون .. لم لم تخبريني؟ - فول بزيت يعني فول بزيت حار. - إيش عرفني؟ - انت خيبة، وهو رجل متعب، قل له بزيت حار.
ذهبت مسرعا، وهتفت بالبياع وأنا على مبعدة أمتار من دكانه: فول بزيت حار يا عم.
وقفت ورأسي بحذاء الطاولة الرخامية وأنا ألهث. وكررت بانتصار: فول بزيت حار يا عم.
دس المغرفة في القدر قائلا: ضع القرش على الرخامة.
وضعت يدي في جيبي فلم أعثر على القرش، فتشت عنه بقلق. قلبت الجيب ظهرا لبطن ولكني لم أجد له أثرا؛ استرد الرجل المغرفة فارغة وهو يقول بقرف: ضيعت القرش، أنت ولد لا يعتمد عليك.
نظرت فيما تحت قدمي وحوالي وأنا أقول: لم أضيعه .. كان في جيبي طول الوقت. - وسع لغيرك، وقل يا فتاح يا عليم.
Неизвестная страница
عدت إلى أمي فارغا، فصرخت في وجهي: يا خبر أسود، أنت يا ولد عبيط؟ - القرش. - ما له؟ - ليس في جيبي. - اشتريت به حلوى؟ - أبدا والله. - كيف ضاع؟ - لا أعرف. - تقسم على المصحف أنك لم تشتر به شيئا؟ - أقسم ... - جيبك مثقوب؟ - أبدا. - ربما تكون أعطيته للبياع في المرة الأولى أو الثانية؟ - يمكن. - ألست متأكدا من شيء؟ - أنا جائع.
ضربت كفا بكف، وقالت: أمري لله، سأعطيك قرشا آخر، ولكني سآخذه من حصالتك، وإذا عدت بالطبق فارغا سأكسر رقبتك!
وذهبت جريا وأنا أحلم بفطور لذيذ، وعند المنعطف المفضي إلى حارة البياع رأيت حلقة من الصبيان والأطفال، وسمعت تهليل أفراح. ثقلت قدماي وشد قلبي إليهم، على الأقل ألقي نظرة عابرة. اندسست بينهم، فإذا بالحاوي يطالعني، غمرتني فرحة مذهلة، نسيت نفسي تماما، استمتعت بكل قوة بألعاب البيض والأرانب والحبال والثعابين، ولما اقترب الرجل ليجمع النقود تراجعت هامسا: «لا نقود معي.» انقض علي متوحشا، تخلصت منه بصعوبة، جريت ولكمته تشق ظهري ، ولكني سعدت للغاية، وذهبت إلى البياع وأنا أقول: بقرش فول بزيت يا عم.
جعل ينظر إلي ولا يتحرك، فكررت الطلب، فسألني بغيظ: هات الطبق. - الطبق! أين الطبق؟ سقط مني وأنا أجري؟ خطفه الحاوي؟ - أنت يا ولد عقلك ليس في رأسك!
عدت أفتش في الطريق على الطبق المفقود؛ وجدت موضع الحاوي خاليا، ولكن أصوات الأطفال دلتني عليه في حارة قريبة. درت حول الحلقة، لمحني الحاوي، فصاح بي مهددا: ادفع أو فاذهب أحسن لك.
فهتفت بيأس: الطبق! - أي طبق يا ابن الشياطين؟ - رد إلي الطبق. - اذهب وإلا جعلتك طعاما للثعابين.
إنه سارق الطبق، ولكني ابتعدت عن مرمى عينيه اتقاء لشره، ومن القهر بكيت، وكلما سألني مار عما يبكيني قلت له: «خطف الحاوي الطبق.» وانتبهت من كربي على صوت يقول: «اتفرج يا سلام.» نظرت خلفي فرأيت صندوق الدنيا قائما، ورأيت عشرات من الأطفال تهرع إليه. وتتابع وقوف المشاهدين أمام عيني الصندوق، وراح الرجل يشرح الصور بإغراء: «عندك الفارس الهمام، وست الكل زينة البنات.» جفت دموعي وتطلعت إلى الصندوق بشغف، نسيت الحاوي تماما والطبق، لم أستطع مقاومة الإغراء، دفعت القرش ووقفت أمام العين إلى جانب بنت وقفت أمام العين الأخرى، تسلسلت أمام ناظري صور الحكايات الخلابة. ولما عدت إلى دنياي كنت فقدت القرش والطبق ولم يعد للحاوي من أثر، لم أفكر فيما فقدت، واستغرقتني صور الفروسية والحب والصراع، نسيت جوعي، حتى المخاوف التي تتهددني في البيت نسيتها. تراجعت خطوات لأستند إلى جدار أثري كان يوما ما مبنى لبيت المال ومقرا للقاضي، واستسلمت بكليتي للأحلام. حلمت طويلا بالفروسية وزينة البنات والغول، وتكلمت في حلمي بصوت يسمع، ولوحت بيدي بأكثر من دلالة، وقلت وأنا أدفع بالحربة الخيالية: خذ يا غول في قلبك.
وجاءني صوت رقيق قائلا: ورفع زينة البنات خلفه فوق الحصان.
نظرت إلى يميني فرأيت الصبية التي زاملتني في الفرجة؛ تبدت في فستان متسخ وقبقاب ملون وهي تعبث بضفيرتها الطويلة، وفي يدها الأخرى حبات بيضاء وحمراء من «براغيث الست» تستحلبها على مهل. تبادلنا النظر، مال قلبي إليها، فقلت لها: نجلس لنستريح.
بدت مستسلمة لاقتراحي، فأخذتها من ذراعها ودخلنا من بوابة الجدار الأثري، فجلسنا على درجة من سلمه الذي لا يفضي إلى شيء؛ سلم يرتفع درجات حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن. جلسنا صامتين جنبا إلى جنب، قبضت على يدها، وجلسنا صامتين لا ندري ماذا نقول. وتناوبتني مشاعر غريبة وجديدة ومبهمة، قربت وجهي من وجهها، فشممت رائحة شعرها الطبيعية تخالطها رائحة ترابية وعبير أنفاس ممزوج بشذا الحلوى. قبلت شفتيها. ازدردت ريقي الذي اقتبس مذاقا حلوا من ذوب براغيث الست، أحطتها بذراعي دون أن تنبس بكلمة، وأقبل خدها وشفتها، فتسكن شفتاها عند تلقي القبلة ثم تعودان إلى استحلاب الحلوى. وقررت أخيرا أن تقوم، قبضت على ذراعها بجزع وأنا أقول: اجلسي.
Неизвестная страница