كرسي الملك فحصلت الكناية بذلك عن الملك ولا استواء ولا عرش.
ويظهر لي تأويل رابع، وميزانه في سورة الحق ماتع، وهو أن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، مركب دال على هيئة جلوس الملك على العرش، وتلك هيئة عظيمة في عقول السامعين فقد عرف العرب ملوك الفرس وملوك الروم وتبابعة اليمن ودخلت وفودهم إليهم، وتحدَّثوا بعظمتهم في سوامرهم ونواديهم حتى تقرر في أذهان أهل الصناعة اللسانية منهم ما لهؤلاء الملوك عند جلوسهم على عرضهم من العظمة المفرطة والجلالة البالغة، فجاء في هذه الآية تشبيه عظمة الله تعالى التي لا تصل العقول إلى كنه هيئتها، بهيئة عظمة هؤلاء الملوك تشبيهًا مقصودًا به التقريب وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها في معنى الهيئة المشبهة استعمال الاستعارة التمثيلية. وقد تقرر في علم البيان أن التمثيل هو أعلى أنواع الاستعارة؛ لابتنائه على التشبيه المركب الذي هو أبدع من التشبيه البسيط وقد نشأت عنه أمثال العرب كما هو مقرر، وعلى هذا الوجه فالمراد بالاستواء وبالعرش مثل المراد به في التأويل الثالث، وإنما ترجح عندي كون الآية استعارة تمثيلية وليست بكناية وإن كانت الكناية تجيء بالمركب نحو قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
لوجهين: أحدهما: اعتبار رشاقة المعنى فإن الكناية تنبني على صحة إرادة المعنى الصريح وذلك أصل الفرق بينها وبين المجاز المرسل الذي علاقته اللزوم، فقولهم: طويل النجاد، لا يفهم منه السامع إلا أن له نجادًا طويلًا، وأن ذلك يلزمه طول القامة، وأن المتكلم ما أراد إلا الإخبار عن طول القامة، فالسامع يظن أنه طويل النجاد حقيقة، وكذلك جبان الكلب، ومهزول الفصيل، ألا ترى أن قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
لا يفهم منه السامع إلا أن الشاعر شبك بالرمح جَسدًا لعلمه بأنه لا يشك ثيابه بالرمح لقصده تخريق ثيابه، بل إنما أراد أنه شك جسده، ولما كان شك الجسد لا يكون إلا مع شك الثياب صح التكني عنه بشك الثياب والمقصود شك الجسد، أي: طعنه، وهنا لا يحصل المعنى الكنائي إلا مع المعنى الأصلي، وقد يكون المتحدث عنه لا نجاد له ولا كلب له ولا فصيل إلا أن ذلك أمر قلما يعلمه السامع.
1 / 14