{ و } اذكر يا أكمل الرسل أختك العفيفة { التي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام، وصبرت على العزوبة بلا ميل منها، ولا دغدغة إلى الشهوة تقربا إلى الله بتحمل المشاق والمتاعب في طريق توحيده، وبعدما بالغت في الحصن والحفظ، وبلغت في العفة كمالها وغايتها { فنفخنا فيها } أي: أمرنا حامل روحنا؛ يعني: جبريل عليه السلام بأن ينفخ في جيبها { من روحنا } فنفخ فسرى إلى جوفها، فحبلت بعيسى عليه السلام وبعد وضع حملها { وجعلناها } أي: مريم { وابنهآ } عيسى { آية } أي: كل منهما آية عجيبة غريبة دالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، خارقة للعادة، وهي إيجاد الولد بلا أب، وإيلاد المرأة بلا لمس زوج، فصار هذا كرامة وإرهاصا لمريم، ومعجزة لعيسى - عليهما الصلاة والسلام - وعبرة { للعالمين } [الأنبياء: 91] من حسن حالهما ورفعة رتبتها وعلو شأنهما.
[21.92-100]
ثم قال سبحانه مخاطبا لجماهير الأنبياء والرسل وأممهم: { إن هذه } الملة التي هي ملة الإسلام، وطريق التوحيد والفرقان { أمتكم } أي: قدوتكم وقبلتكم وقصارى أمركم، والحكمة في جبلتكم وخلقكم ما كانت إلا { أمة واحدة } لا تعدد فيها أصلا { وأنا ربكم } الواحد الأحد الصمد الفرد { فاعبدون } [الأنبياء: 92] أيها الضلال المنعكسة من أسمائي وأوصافي، وتوجهوا نحوي بغاية التذلل والخضوع، ونهاية الانكسار والخشوع.
{ و } بعدما كانوا أمة واحد لا اختلاف فيهم أصلا { تقطعوا أمرهم } أي: أمر دينهم قطعا، وتحزبوا أحزابا فوقع النزاع { بينهم } فاختلفوا اختلافا كثيرا على سبيل المراء والمجادلة، ولا تبال بهم وباختلافهم وتحزبهم؛ إذ { كل إلينا راجعون } [الأنبياء: 93] رجوع الأمواج إلى البحر.
وبعدما اختلفوا وتعددوا: { فمن يعمل } منهم { من الصالحات } المرضية لنا المقبولة عندنا { وهو مؤمن } موقن بتوحيدنا، مصدق لرسلنا وكتبنا { فلا كفران } ولا تضييع منا { لسعيه } الذي سعى في طريقنا طلبا لمرضاتنا، بل { وإنا له كاتبون } [الأنبياء: 94] حافظون حارسون ما صدر عنه من الخيرات الموجبة للمثوبات، ورفع الدرجات، فنعطيه ما استحق له من الثواب بلا فوت شيء منها.
{ و } حفظنا وحراستنا { حرام } ممنوع منا محرم { على قرية أهلكناهآ } أي: أهلها قهرا وغضبا منا إياهم بسبب { أنهم لا يرجعون } [الأنبياء: 95] ولا يتوجهون إلينا، ولا يؤمنون بتوحيدنا ولا يصدقون بكتبنا ورسلنا، بل يكذبون وينكرون، وهكذا تتمادى حرمتنا ومنعنا أياهم إلى أن ظهرت أشراط الساعة ولاحت أمراتها.
{ حتى إذا فتحت } وفتقت { يأجوج ومأجوج } سدهما الذي شد بينهما وبين سائر الناس { وهم } بعد فتح السد، ورفع المانع من غاية عدوانهم مع الناس، وحرصهم على تخريب البلاد { من كل حدب } أي: تلال وجبال { ينسلون } [الأنبياء: 96] يسرعون إلى الناس كالذباب الجوع.
{ و } بعدما { اقترب } ودنا { الوعد الحق } الموعود المحقق الذي هو فتح السد وخروجهما من أشراطه وعلامته، وقامت القيامة { فإذا هي } أي: الشأن والقصة حين أنها { شاخصة } حائرة مدهوشة مضطربة { أبصار الذين كفروا } في النشأة الأولى بالله، وكذبوا بهذا اليوم، فيقولون حينئذ متحسرين خائبين: { يويلنا } وهلاكنا تعال فالآن وقت حلولك { قد كنا في غفلة } عظيمة { من } مجيء { هذا } اليوم في نشأتنا الأولى { بل كنا ظالمين } [الأنبياء: 97] خارجين عن مقتضى الحكم الإلهي، منكرين لهذا اليوم بعدما أخبره بوقوعه الرسل ونطلق به الكتب.
ثم خاطب سبحانه الكافرين الذين أشركوا بالله مع أنه سبحانه لم ينزل عليه سلطانا خطابا عاما شاملا للعابدين ومعبوداتهم فقال: { إنكم } أيها المشركون الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه { وما تعبدون من دون الله } من الأضلال والتماثيل التي اتخذتموها آلهة، وادعيتم استحقاقها للعبادة والإطاعة أنتم وهم كلكم { حصب جهنم } أي: حطبها ووقودها { أنتم لها واردون } [الأنبياء: 98] ورود الأنعام للماء.
{ لو كان هؤلاء آلهة } كما زعمتم واعتقدتم { ما وردوها } لأنهم ينقذونكم منها ألبتة، ولا هم آلهة لكنهم يردون النار، جميعا عابدا ومعبودا، فظهر أنهم ما كانوا آلهة، بل عباد أمثالكم { وكل } منكم ومنهم { فيها خالدون } [الأنبياء: 99] مخلدون معذبون دائما.
Неизвестная страница