415

[21.82-88]

{ و } كذا سخرنا لسليمان { من الشياطين من يغوصون له } البحار، ويخرجون منها نفائس الجواهر تتميما وتوفيرا بخزانته { ويعملون } أيضا { عملا دون ذلك } الغوص من بناء الأبنية الرفعية، والقصور المنيعة، واختراع الصنائع البديعة الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة { وكنا لهم } من قبل سليمان { حافظين } [الأنبياء: 82] مشغلين مشرفين إياهم، لا يمكنهم أن يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها على مقتضى أهويتهم وطباعهم.

{ و } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { أيوب } الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلاء، فصبر عليها فازداد ألمه، واشتد الأمر عليه واضطر إلى التضرع والتفزع، وبث الشكوى إلى الله، اذكر { إذ نادى ربه } مشتكيا إليه، مناجيا له، متضرعا إياه قائلا { أني مسني الضر } يا رب، وتنحوا عني أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي { وأنت } تبقى علي رحيما مشفقا؛ لأنك { أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83] فأدركني بلطفك؛ إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم، وقد بلغ الجهد غياته.

{ فاستجبنا له } دعاءه { فكشفنا } عنه { ما به من ضر } مؤلم مزعج { و } بعدما شفيناه وأزلنا عنه مرضه { آتيناه أهله } وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم، وأمواله التي تلفت بالحوادث والنوائب { و } زدناها امتنانا له وتفضلا عليه { مثلهم معهم رحمة من عندنا } إياه وزيادة إنعام وإحسان منا عليه { و } ليكون ما فضلنا به وأعطيناه { ذكرى } تذكرة وحثا { للعابدين } [الأنبياء: 84] الذين صبروا على مشاق التكاليف، ومتاعب الطاعات والعبادات؛ ليفوزوا بأفضل المثوبات، وأعظم الكرامات.

{ و } اذكر يا أكمل الرسل جدك { إسماعيل } ذا الصبر والرضا بما جرى عليه من القضايا { وإدريس } صاحب دراسة الحكمة المتقنة وأنواع المعارف والحقائق { وذا الكفل } المتكفل بعبادة الله في جميع أوقاته وحالاته، حيث لا يشغله شيء عن التوجه نحو الحق، قيل: هو إلياس، وقيل: زكريا، وقيل يوشع بن نون، وقيل: نبي آخر مسمى به؛ لأنه يتكفل صيام أيام حياته { كل } من هؤلاء السعداء المقبولين عند الله المقبولين { من الصابرين } [الأنبياء: 85] لقضاء الله، ونزول بلائه، كما أنهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه.

{ و } لذلك { أدخلناهم في } سعة { رحمتنا } امتنانا عليهم { إنهم من الصالحين } [الأنبياء: 86] المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم، الواصلين إلى درجة القرب واليقين. { و } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { ذا النون } صاحب الحوت، وهو يونس بن متى، واذكر قصته وقت { إذ ذهب مغاضبا } على قومه من أعمالهم حين وعظهم، فلم يتعظوا، فشق عليه الأمر، فغضب عليهم، فلم يكظم غيظه، فخرج من بينهم تفريجا لغضبه، وتوسيعا لصدره { فظن } بخروجه من بينهم { أن لن نقدر } وتضيق { عليه } ولا يمكننا حبسه وتضييقه وتغميمه في مكان آخر فهرب، ولقي البحر فركب على السفينة فسكنت الريح، فقال البحارون: إن ها هنا عبدا آبقا، فاقترعوا، فخرجت القرعة باسمه فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت { فنادى } وناجى ضريعا فجيعا مغمورا { في الظلمات } التي تراكمت عليه؛ إذ هو في بطن الحوت وكان الليل مظلما { أن } أي: أنه { لا إله } بعيد بالحق، ويستحق للعبادة استحقاقا ذاتيا ووصفيا { إلا أنت } يا من خضعت لك الرقاب، وانتكست دون سرادقات جلالك أعناق أولي النهى والألباب { سبحانك } ربي أنزهك عن جميع ما لا يليق بجنابك، ولا يليق لشأنك { إني } بواسطة خروجي عن قومي بغير إذنك ووحيك، مع أنك أرسلتني إليهم، وبعثتني بين أظهرهم نبيا ذا دعوة وهداية { كنت من الظالمين } [الأنبياء: 87] الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك، لذلك ضيقت الأمر علي يا ربي، وحبستني ولا مخلص لي من هذا المضيق إلا عفوك وكرمك.

وبعدما تاب إلينا، وتوجه نحونا مخلصا متضرعا، واستخلص منا مضطربا مضطرا { فاستجبنا له } وأجبنا دعاءه فأخرجناه من بطن الحوت { ونجيناه من الغم } العظيم والكرب الكبير { وكذلك ننجي } عموم { المؤمنين } [الأنبياء: 88] المخلصين الذين أخلصوا في إنابتهم ورجوعهم نحوننا من كروبهم وأحزانهم.

[21.89-91]

{ و } اذكر أيضا أخاك { زكريآ } الذي بلغ من الهرم والكهولة إلى حيث آيس ممن استخلفه من نطفته، وقنط عمن يقوم مقام من نسله، فشكا إلى الله وقت { إذ نادى ربه } متمنيا متحسرا آيسا: { رب } يا من رباني بأنواع الكرم إلى أن كبرت وأشرفت أركان جسمي إلى الانهدام، وأجزاء جسدي إلى الانحلال والانخرام { لا تذرني فردا } مطقوع الفرع، منسي الذكر بلا ولد يخلفني ويرث عني، ويحيي اسمي { و } إن جرى حكمك على هذا، أو مضى قضاؤك على ذا، فلا أبالي به؛ إذ { أنت خير الوارثين } [الأنبياء: 89] وأكرم المستخلفين.

وبعدما تضرع وتمنى ما تمنى { فاستجبنا له } عناية منا إياه وفضلا { ووهبنا له } من كمال جودنا { يحيى } المحيي لاسمه { وأصلحنا له زوجه } بل نفسه أيضا بعدما أفسدهما الدهر، وأخرجهما من قابلية الولاة والإيلاد، وصيرنا زوجته شابة ولودا بعدما كانت عجوزا عقيما؛ إظهارا لكمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا، وإنما فعلنا بالأنبياء المذكورين ما فعلنا بهم من كمال اللطف والكرم، ومحض الفضل والإحسان { إنهم } من كمال توجههم وتحننهم نحونا { كانوا } في جميع أوقاتهم وحالاتهم { يسارعون } ويبادرون { في الخيرات } ويسابقون إلى الطاعات المقبولة عندنا { و } مع ذلك { يدعوننا } في مناجاتهم بنا، وفي خلواتهم معنا { رغبا ورهبا } راغبين إلينا، راجين عفونا وغفراننا وراهبين عنا، خائفين منا صولة سطوة قهرنا وغضبنا { و } بالجملة هم { كانوا لنا } دائما { خاشعين } [الأنبياء:: 90] خاضعين متذللين مخبتين، ولذلك نالوا من الله بسبب خصائلهم هذه ما نالوا من جزيل العطاء، والفوز بشرف اللقاء والبقاء بعد الفناء.

Неизвестная страница