383

وأما الكفرة لهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلا.

ولا تتردوا أيها السامعون ولا تشكوا في المذكور؛ إذ { كان } ورودكم وعرض النار عليكم من جملة الأحكام المبرمة الإلهية التي وجب { على ربك } يا أكمل الرسل وجوبا { حتما مقضيا } [مريم: 71] محققا بلا شبهة و تخلف اوجبها سبحانه على نفسه لحكم ومصالح خص سبحانه في سترها ولم يفش على أحد.

{ ثم } ثم الورود والوصول { ننجي } ونخلص { الذين اتقوا } عن محارمنا في النشأة الأولى اتقاء من سخطنا وطلبا لمرضاتنا { ونذر الظالمين } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا خالدين { فيها جثيا } [مريم: 72] لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلا، بل صاروا مزدحمين فيها مضيقين معذبين بأنواع العذاب أبد الآباد.

{ و } كيف لا يخلدون في النار، وهم من كمال غيهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم { إذا تتلى عليهم } في نشأة الاختيار { آياتنا } الدالة على تحيدنا وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بينت } واضحات في الإعجاز بلا ريب وتردد { قال الذين كفروا } بعدما عجزوا عن معارضتها وأفحموا على المقابلة معها، متشبثين بما عندهم من المال و الجاه والثروة والرئاسة، مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم { للذين آمنوا أي الفريقين } أي: أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع اللذات المتمكنون بجميع المرادات والشهوات، أم أنتم أيها الفقراء الضعفاء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا؟! { خير مقاما } أي: مرتبة ومكانا عند الله { وأحسن نديا } [مريم: 73] مجلسا ومنزلا عنده، ولولا أنا أفضل وأخير منكم عند الله، لما أعطانا ما أعطانا ولما منع عنكم ما منع.

ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها، رد عليهم وهددهم على الوجه الأبلغ الأتم، فقال على سبيل العبرة: { وكم } أي: كثيرا { أهلكنا قبلهم } في الأزمنة الماضية { من } أهل { قرن هم أحسن } وأكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين { أثاثا } أي: من جهة الأمتعة الدنيوية، وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء { و } أحسن { رءيا } [مريم: 74] أي: زينة وبهاء.

ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر، ولم يتفطنوا منها إلى توحيد الحق وصفائه، ولم يشكروا نعمه، بل أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية، فهلكوا واستؤصلوا { قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { من كان } منغمسا منهمكا { في الضللة } مجبولا عليها { فليمدد له الرحمن } وليمهله { مدا } مهلا طويلا، وليمتعهم تمتيعا كثيرا؛ أي: رغدا واسعا { حتى إذا رأوا ما يوعدون } على ألسنة الرسل والكتب { إما العذاب } العاجل لهم في النشأة الأولى بأن غلب المسلمون عليه، فقتلوهم وأسروهم، وضربوا الجزي عليهم مهانين صاغرين { وإما } تأتيهم { الساعة } بغتة { فسيعلمون } إذا بالعيان والمشاهدة { من هو شر مكانا } ومقاما عند الله { وأضعف جندا } [مريم: 75] أو أقل ناصرا ومعينا.

{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا } بعدما صار مال الكفار وبالا عليهم ومنالهم نكالا لهم { } الهادي لعباده المؤمنين { } إلى زلال عرفانه وتوحيده { } هداية ورشادا باقيا أزلا وأبدا بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة { } المقربة إلى الله، المستتبعة لأنواع الفضل والثواب { } يا أكمل الرسل { } عائدة وفائدة { } [مريم: 76] أي: منقلبا ومآبا؛ لأن مآل الأموال والجاه والثروة إلى الحسرة والخسران ومآل العبادات إلى الجنة والغفران.

[19.77-88]

ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر: { أفرأيت } أيها الرائي الباغي { الذي كفر } أنكر وأغرض واستكبر { بآياتنا } الدالة على عظمة ذاتنا وكما أوصافنا وأسمائنا { وقال } مقسما مبالغا على سبيل الاستهزاء والسخرية: والله { لأوتين } وأعطين في النشأة الأخرى أيضا إن فرض وجودها { مالا وولدا } [مريم: 77] مثلما أعطيت في هذه النشأة، هذا من غاية اغتراره ونهاية ذهوله وغفلته واعقاده كبرا وخيلا أنه حقيق بهذه المرتبة حيثما كان.

فرد الله سبحانه عليه على أبلغ الوجوه وآكده بقوله: { أطلع الغيب } أي: أبدعي هذا الطاغي التائه في تيه الغفلة والجهل علم الغيب واطلاع السرائر { أم اتخذ } واخذ { عند الرحمن } أي: من عنده على لسان نبي من أنبيائه أو ملك من ملائكته { عهدا } [مريم: 78] ليعطيه في الآخرة مالا وولدا؟! إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى وتأكدها بالحلف إلا بأحد هذين الطرفين.

Неизвестная страница