مكتشف السيبرنطيقا - الحدود التي لا ينبغي أن يتعداها إيماننا بقدرات الآلة أو خوفنا من طغيانها بقوله: «أعط ما للإنسان للإنسان، وما للعقل الإلكتروني للعقل الإلكتروني.» وكان يعني بذلك أن الإنسان يظل له دوره الهام والأساسي في عصر التقدم التكنولوجي المذهل، وأن أرقى أنواع الآلات تظل على الدوام أداة طيعة في يد صانعها، وتتجه - إن خيرا وإن شرا - في نفس الطريق الذي يريدها الإنسان أن تسلكه.
الفصل الخامس
لمحة عن العلم المعاصر
(1) الأساس النظري
كان العلم الأوروبي عند مطلع العمر الحديث علما ميكانيكيا في المحل الأول؛ فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها، وبفضلها تحققت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السابع عشر والثامن عشر، والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي؛ أعني أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحو إذا استطعت أن تنظمها في نسق تكون فيه كل منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة، بل إن الكون كله كان في نظر فلاسفة العصر الحديث آلة ضخمة تسير في عملها بانتظام الساعة الدقيقة، وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صنع متقنا منذ البداية، ويظل يسير في طريقه بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذين صنع بهما.
وكانت أهم العوامل المؤدية إلى دعم هذه النظرة الآلية إلى العلم: إمكاناتها التطبيقية الهائلة التي بلغت قمة نجاحها بظهور الآلة البخارية وبداية عصر جديد من عصور الإنتاج البشري، وكان من الطبيعي أن يواكب هذا النجاح إيمان بأن فكرة الآلية تنطبق على كل شيء حتى على الأجسام الحية، بل وعلى الإنسان نفسه. وفي القرن الثامن عشر كان فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين من أقوى دعاة هذا الفهم الجديد للعلم، ومن هنا كانت حملتهم على كل أشكال التفكير الغيبي والميتافيزيقي، ودعوتهم إلى فهم كل الظواهر بنفس المنهج الذي ثبت نجاحه في العلم. وظل هذا الاتجاه مستمرا طوال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، وكان الناطق باسمه هو الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت»
Auguste Conte
الذي نادى بفلسفة ترتكز على التجربة الدقيقة، ولا تعترف إلا بالمعرفة المستمدة من الملاحظات والتجارب العلمية، وأكد أن المرحلة العلمية التجريبية هي أعلى المراحل التي يصل إليها العقل البشري عند نضوجه، وأنها هي التي ينبغي أن تحل محل كل ألوان التفكير الأسطوري واللاهوتي والميتافيزيقي التي سادت في العصور الغابرة.
وقد أدى ظهور نظرية التطور على يد دارون - في أواسط القرن التاسع عشر - إلى إعطاء هذا الاتجاه الآلي دفعة قوية؛ إذ إن هذه النظرية فسرت تطور الأنواع الحية وتنوع صفاتها بمضي الزمن تفسيرا آليا بحتا، لا دخل فيه إلا للعوامل الطبيعية الخاصة بالتكيف مع البيئة، وكان معنى ذلك أن مبدأ الآلية لا يسري على الظواهر الطبيعية فحسب، بل ينطبق على الأحياء بدورهم، وقد عبر الطبيب الفرنسي المشهور «كلود برنار»
Claude Bernard
Неизвестная страница