أما الرأي الثالث فيخالف الرأيين السابقين في تأكيده أن الآلات - مهما ارتقت - إنما هي أداة طيعة في خدمة الإنسان، وستظل كذلك على الدوام، وأصحابه يعيبون على المتشائمين والمتفائلين من تجاهلهم لدور الإنسان في توجيه مسار التكنولوجيا، وإنكارهم لذلك البعد الاجتماعي الذي يتحكم في طريقة استخدام الإنسان للآلة، سواء لمصلحته أو ضد مصلحته؛ فالتكنولوجيا المنبثقة عن العلم والمتداخلة معه هي - قبل كل شيء - ناتج إنساني اجتماعي، ولن يصبح لها ذلك الاستقلال الذاتي المزعوم إلا في ضوء نظرة خيالية مغرقة في التشاؤم أو التفاؤل، لا تقيم وزنا لتأثير المجتمع في نوع الإنجازات العلمية التي تحقق فيه، ولا تدرك أن العلم والتكنولوجيا إنما هما حصيلة جهد مجتمع كامل وثمرة معارفه وأنشطته كلها، وأن نوع المجتمع الذي يظهر فيه العلم هو الذي يحدد ما إذا كان هذا العلم سيسير في اتجاه عدواني أم في اتجاه يستهدف إسعاد الإنسان.
وغني عن البيان أن الرأي الثالث هو الذي يعد - في نظرنا - تعبيرا عن الوضع الحقيقي للتكنولوجيا في العالم المعاصر، وفي ضوء هذا الرأي يستطيع المرء أن ينقد الرأيين السابقين بسهولة.
ولنبدأ أولا بالرأي المتشائم؛ فقد يبدو للوهلة الأولى أن القائلين بهذا الرأي هم من السذج أو ضعاف النفوس الذين يرتعدون خوفا من تقدم التكنولوجيا الحديثة، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك؛ فهم في الواقع يمتدون بخيالهم إلى المستقبل الذي يستشفون معالمه من خلال تلك البوادر التي بدأت تظهر في الحاضر، وهم يؤمنون بأن العقل البشري الذي انتقل في مائة سنة من الآلات الحديدية الضخمة القبيحة ذات الفعالية المحدودة إلى العقول الإلكترونية الصغيرة عظيمة الكفاءة، قادر على أن يصل بالآلة - بعد مائة سنة أخرى مثلا - إلى مستوى قد يصبح مهددا بالفعل، وإذا كان في تفكيرهم ضعف فهو لا ينصب على تصورهم لمستقبل التكنولوجيا بل على تصورهم لعلاقة هذه التكنولوجيا شديدة التقدم بالإنسان.
ذلك لأن هؤلاء المتشائمين ينظرون إلى التكنولوجيا بوصفها قوة لها استقلالها الذاتي وتطورها الخاص الذي يسير في طريقه غير عابئ بالإنسان، ومن هنا يشيع بينهم الخوف من أن يأتي وقت تستولي فيه الآلات - بعد أن يزداد تطورها وتشعر بقدرتها الفائقة - على العالم وتبيد الإنسان على أساس أنه كائن لم يعد له داع، بحيث تسود العالم أجهزة باردة جامدة لا تعرف العواطف أو المشاعر. أي إن وجهة نظرهم هي أن ذلك الجهد الهائل الذي ظل الإنسان يبذله طوال تاريخه لكي يحقق سيطرته على الطبيعة، سوف يصل إلى الحد الذي ينقلب فيه على الإنسان؛ بحيث يصبح الإنسان ذاته عبدا للقوى التي أطلقها على أمل أن يستعبد بها الطبيعة، وكأن الطبيعة هنا تنتقم لنفسها من قهر الإنسان لها طوال عصره الحديث، وهذا الاتجاه الفكري الذي يسير فيه هؤلاء المتشائمون ينطوي كله على الاعتقاد أو على الافتراض الضمني القائل أن هذه الآلات تحكم نفسها بنفسها، وتسير تلقائيا في طريقها الخاص، وهو اعتقاد يتجاهل البعد الإنساني في التكنولوجيا، ويتأمل التطور التكنولوجي بنظرة أحادية الجانب.
وحين يبدي هؤلاء المتشائمون جزعهم من أن يأتي اليوم الذي تستعبد فيه الآلة مبدعها - وهو الإنسان - فإنه وهكذا فإن التحليل في الواقع يعبرون - دون أن يشعروا - عن نظرة متشائمة إلى طبيعة الإنسان نفسه؛ ذلك لأنهم يسقطون وحشية الإنسان وهمجيته وعدوانيته على الآلة التي هي بطبيعتها سلبية محايدة، والتي لا تفعل إلا ما نأمرها به، وقد يكون هذا الإسقاط تعبيرا عن ضمير مثقل بالشرور والذنوب، وقد يكون محاولة للتهرب من مسئوليتنا عن الفوضى التي نشيعها في العالم نتيجة لإخفاق نظمنا الاجتماعية الفاسدة، بحيث نلقي باللائمة على الآلة بدلا من أن نلوم أنفسنا. وأيا كان الأمر، فنحن في كل حالة نبدي فيها تشاؤما بمستقبل الإنسان وطريقة توجيهه لمجتمعه، نتستر على عيوب نظمنا الاجتماعية باتهام العلم والتكنولوجيا، مع أنهما بريئان من كل ما ندينهما به.
الحقيقة لموقف هؤلاء المتشائمين ليس هو أن الإنسان سيصبح عبدا للتكنولوجيا التي اخترعها، بل إن التكنولوجيا ستصبح شيئا مخيفا؛ لأنها ستكون عبدا خاضعا لإنسان تسود العدوانية سلوكه.
ولسنا في حاجة إلى التوقف طويلا عند رأي المتفائلين؛ إذ إن هذا الرأي - بقدر ما يعتمد على «التطور الذاتي للتكنولوجيا» من أجل حل جميع مشكلات الإنسان - ليس إلا الوجه الآخر للعملة بالنسبة إلى الرأي المتشائم، وكل ما قلناه من قبل في نقد هذا الرأي الأخير ينطبق عليه، ولكن من الجانب المضاد بطبيعة الحال؛ فليس من حقنا أن نغرق في التفاؤل إلى حد الاعتقاد بأن الآلة قادرة على تحقيق السعادة للبشر، أو تخليصه من الشقاء والمعاناة «بجهودها الخاصة» أو «بتطورها التلقائي»؛ إذ إننا بذلك نعفي أنفسنا من مسئولية إصلاح أوضاعنا، ونلقي بهذه المسئولية على الآلة، مع أن الإنسان وحده هو القادر على حل المشكلات التي أوقع نفسه فيها، مستعينا في ذلك - طبعا - بالتقدم التكنولوجي.
ولقد لخص أحد الرواد العظام للتكنولوجيا في عصرنا الحاضر - وهو نوربرت فوربرت فينر
N. F. Wiener
5
Неизвестная страница