أحبت نفيسة الدكتور رشيد، أحبته بقوة، وتغلغل حبه في أعماقها، واحتل أمكنة كثيرة من نفسها وحياتها حتى أحست أنه كل شيء في دنياها، وأنه لو غاب عنها لما ترددت في الانتحار دون تفكير، وصدقت في غمرة نسيان نفسها كل ما كان يقوله لها من كلمات الحب والهيام.
وتساقطت حبات العرق من جبهتها على أنفها وخديها وذقنها، وتساقطت معها دموع من عينيها وانحدرت إلى رقبتها، فأخرجت من جيب فستانها منديلا وجففت أنفها، إنها لا تعرف لماذا تركها الدكتور رشيد دون أن يبدي لها أعذارا مفهومة، وإنما ألقى بها فجأة بعيدا عنه كما تلفظ مصاصة القصب بعد مصها في عرض الطريق.
وانتبهت وهي تدخل منديلها في جيبها إلى صوت بالقرب منها، فرفعت رأسها لترى سيارة طويلة تقف أمامها، وبداخلها رجل يشير لها بيده أن تدخل، ونظرت إليه بقوة وجرأة تتأمله ثم رشقته بنظرة احتقار بالغة، أودعتها كل ما كانت تشعر به في تلك اللحظة من احتقار لنفسها وللدكتور رشيد ولأمها ولأبيها وكل سكان هذه الأرض. ونظرت بين ساقيها لتطمئن على الحقيبة ثم رفعت عينيها فلم تجد العربة، ورأت سيلا من العربات ينثال في سكون الليل كرذاذ المطر، وفي كل عربة رجل وامرأة يضحكان في سعادة.
ولم يأت الأتوبيس الذي سيحملها كالذبيحة إلى حارة شق التعبان، ومدخل البيت المظلم، والسلالم المتهدمة، ورائحة حجرة الكرار والطبيخ البايت، والسقف والعنكبوت والصراصير، وابن عمها الجزماتي والأسطى متولي المكوجي، وأحست أن قلبها يخفق ويديها ترتعشان، لا يمكن أن تعيش في هذه البيئة يوما واحدا، لا تستطيع أن تنظر إلى أصابع ابن عمها الغليظة المشققة بعد أن أحسست لمسات الدكتور رشيد الرقيقة الحنون، ولن تطيق رائحة ملابس «الجزماتي» بعد أن خدرتها أنفاس الدكتور المعطرة، لا، لن تطيق شيئا من هذا!
ورفعت رأسها إلى السماء في تحد، أحست أنها يجب أن تتحدى هذه الظروف السيئة التي تحيط بها، وأن تختار لنفسها حياة أخرى، فيها نظافة، وليس فيها حرمان ولا هموم، وهزت كتفيها مستخفة بحزنها ودموعها، وأطلقت ضحكة قصيرة ساخرة فيها شيء من الهستريا، وأخذت تدندن أغنية مرحة كان يغنيها الدكتور رشيد معها.
وأحست كأن كابوسا ثقيلا ينزاح عن صدرها فجأة، وأن السحابة القاتمة التي كانت تغشي عينيها اختفت تماما، وأحست براحة، راحة عجيبة تصحب دائما الشعور بفقدان الضمير.
وابتسمت لنفسها ابتسامة جديدة وقالت بصوت عال: «يا سلام! ده أنا كنت عبيطة!» •••
بعد أيام قليلة وعلى نفس محطة الأتوبيس كانت تقف ممرضة جديدة من نوع خام قوي! وبين ساقيها حقيبة ملابس صغيرة، يداها مضمومتان إلى صدرها، ونظراتها التائهة الدامعة تعلو وتهبط مع الطريق الأملس، الذي تنزلق عليه العربات الأنيقة مارقة كالسهام، وفي كل منها رجل وامرأة يضحكان في سعادة.
وداخل إحدى هذه العربات كانت «نفيسة» تجلس وبجوارها رجل تضحك له، وكانت ضحكتها طلقة مجلوة تخرج من بين أسنانها البيضاء رنانة كرنين صندوق فارغ، يبدو أنها لم تنس نفسها هذه المرة في غمار الحب.
المقامر
Неизвестная страница