ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم للأستاذ يحيى حقي
تعلمت الحب
لعله الحب
شيء جديد
نسيان
هذه المرة
المقامر
شيء آخر
Неизвестная страница
ضعف
الماضي
تحت الملاءة
لن أكون رخيصة
أحلام
لست أنا
زوجي، لا أحبك!
كلنا حيارى
ثمن الكتابة
الإهداء
Неизвестная страница
تقديم للأستاذ يحيى حقي
تعلمت الحب
لعله الحب
شيء جديد
نسيان
هذه المرة
المقامر
شيء آخر
ضعف
الماضي
Неизвестная страница
تحت الملاءة
لن أكون رخيصة
أحلام
لست أنا
زوجي، لا أحبك!
كلنا حيارى
تعلمت الحب
تعلمت الحب
تأليف
نوال السعداوي
Неизвестная страница
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
Неизвестная страница
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم، في بداية الربيع يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
Неизвестная страница
22 مارس 2017
الإهداء
كلما أمعنت النظر في مشاكل حياتنا زدت اقتناعا بأننا في حاجة إلى مزيد من الحب والرحمة؛ فالحب يجعل الحياة مقبولة بما يثيره فينا من أحاسيس، والرحمة تلطف الحياة برقتها وخيرها.
والحب الذي أنشده ليس هو الحب العادي بين رجل وامرأة، أو أب وولده، فهذا حب لا فضل لنا فيه وكلنا فيه سواسية، ولكني أنشد الحب الذي نبذله لغيرنا دون أن نأخذ شيئا، اللهم إلا تلك السعادة النفسية التي تعلمنا كيف نقبل الحياة بما فيها من خير وشر، فنحب الأخيار، ونعطف على الأشرار حتى يتلمسوا السبيل إلى أن يكونوا أخيارا.
فإلى من يرى في كل صباح يشرق على العالم فرصة جديدة لمزيد من الحب والرحمة أهدي هذا الكتاب.
نوال السعداوي
تقديم للأستاذ يحيى حقي
قد لا يرضى علي أساتذة النقد حين يرونني وأنا أتناول بترحيب قصة بقلم واحدة من بنات حواء أجعل أول همي لا أن أتدبر شكلها ومضمونها والمذهب الذي تنتسب إليه، بل أن أعرف أكان حديثها حديث المرأة عن المرأة فأفرح به، أم حديثا يعتنق لغة الرجل ومنطقه فأقول علينا ضاعت الفرصة وعليها؟ فأنا وليد مدنية ألفت وهامت بأن تصف المرأة بأنها لغز، هيهات لذكاء الرجل الفطن أن يسبر غوره! كل ما يعرفه منها أو يكتبه عنها نوع من الرجم بالغيب، وضرب من الحدس والتخمين، قد يكون في هذا الوصف كثير من الوهم الغافل أو النصب المتعمد.
ولكنه هو هذا الذي استقر في الأذهان من فرط تردده على الألسن. وقد دارت حول هذا المعنى قصص كثيرة، فكيف لا أفرح حين تفتح لنا المرأة بيدها نافذة نطل منها على أسرارها، سنجد أكبر المتعة حين تحدثنا عن المرأة في نفسها وفي غيرها، بل سنجد متعة أيضا حين تتحدث المرأة عن الرجل، فنحن نحب أن نرى صورتنا في مرآتها، ولعل هذه الصورة هي التي تعنينا قبل الصورة التي نراها لنا في مرآة ترفعها يد الرجل أو يدنا نحن.
فلما فرزت مجموعة الدكتورة نوال - وهي من خمس عشرة قصة - وجدت هذا المطلب الذي أهيم به متوفرا لحسن الحظ في غالبيتها العظمى؛ إذ أقامت على حديث المرأة عن المرأة ثماني قصص، ووصفت المرأة مع الرجل في قصتين، ووصفت الرجل وحده في ثلاث قصص، فهي مجموعة نسائية دما ولحما. •••
Неизвестная страница
وتنطق المجموعة بوضوح أن الدكتورة نوال حين اهتدت إلى طريقها الصحيح اعتزمت أن تنبري لتقدم لنا جوانب مختلفة من غريزة المرأة وطبعها، وعاهدت المؤلفة نفسها أن تقول الصدق بشجاعة قد يتهيبها كثيرات غيرها من بنات جنسها؛ فما تهربت أو لجأت إلى المواربة، ولا قصدت الدفاع أو الاتهام، فليست المرأة كما رسمتها ملاكا خالصا أو شيطانا خالصا، بل اكتفت بوصف إحساس المرأة بنفسها وبالرجال وبالعالم الذي تعيش فيه. كتبت كل هذا بأسلوب مهذب ليس فيه أقل دمامة أو خدش للحياء، فإذا بنا نجد المرأة عندها شديدة الانتباه لمعركة الجنس الدائرة بين الرجال والنساء، تقف المرأة في هذه المعركة في أغلب الأمر موقفا سلبيا وتحس أنها فريسة مطاردة، انظر بطلة «قصة تحت الملاءة» إنها تعد على أصابعها تحت الملاءة عدد الرجال الذين طاردوها فإذا بعددهم يبلغ عشرين رجلا (أرجو أن يكون هذا العدد رقما قياسيا!) وانظر كيف تصف صورة الرجال المتحككين بالمرأة في عين تلك المرأة، إنها ترى لهم صورة مقززة. وانظر إلى هذه الطبيبة الشابة التي تتنكر للطب لأنه عجز عن شفاء أمها وأبيها وترتد إلى معدنها الأصيل - معدن الفنانة الهائمة بمشاكل القلوب (قصة كلنا حيارى). ولكن المرأة في أحوال قليلة تملك نفسها وتحاول أن تكون هي التي تقبل وهي التي تختار، ولكنها تتقدم في حذر وتهيب.
وكذلك في بعض صور المرأة عند الدكتورة نوال نجدها مترددة بين الضعف والقوة، وبين الصدق والكذب، فهي ضعيفة في يد الرجل؛ يخونها فإما تتحمل وحدها عار الحمل سفاحا ولا ينقذها منه إلا الانتحار (قصة أحلام)، وإما تنحدر إلى مزالق الرذيلة، لا لعيب فيها بل بسبب هذه الخيانة (قصة هذه المرة)، وهي أحيانا قوية تطغى شخصيتها على شخصية الرجل بل ترسم للحب هدفا أسمى من هدفه (قصة لن أكون رخيصة)، سنجد شابا ضعيفا يهرب من فتاة لا لشيء إلا لأنها أقوى منه (قصة ضعف)، وفتى خجولا مضيعا في الحياة لا يجد نجاته إلا على يد امرأة قوية (قصة لعله الحب)، سنجد كاتبا مغرورا بنفسه وشهرته تقابله امرأة قوية فتكشف زيفه (قصة شيء جديد). المرأة أحيانا تجمع بين الضعف والقوة في وقت واحد؛ هذا هو حال بطلة قصة نسيان، وهي تصدق فتصارح زوجها بأنها أحبت رجلا غيره (قصة زوجي لا أحبك) وتكذب وهي تلفق لنفسها الأعذار وهي ذاهبة لموعد غرام (قصة نسيان).
وقد وصفت الدكتورة نوال كل واحدة من نسائها وصفا جميلا جعلنا نحس بهن وننفذ إلى ضمائرهن. •••
واللون الغالب على هذه المجموعة ليس هو التفاؤل أو التشاؤم، بل نوع من الإشفاق والحسرة (حتى حادثة الانتحار في قصة «أحلام» لا تكون إلا أضغاث أحلام)؛ فالدنيا عند الدكتورة نوال كحديقة الملاهي يركب الناس فيها مراجيح دائرة: موسيقى وأنوار وضجة وبهجة، ولكن ركاب هذه المراجيح أغلبهم فرادى يدورون ويدورون دون أن تتريث المرجيحة لحظة حتى يتم لقاء وتزدهر من بذرته زهرة جميلة؛ فالدكتورة نوال تلح على الناس إلحاحا شديدا أن يفيقوا لأنفسهم من هذا الدوران المدوخ فإنهم لو فعلوا لتكشف لهم في الدنيا والناس جوانب غير قليلة من الجمال والخير، حتى في نفوس ومواقع لا يظن فيها الجمال. هذا هو شأن الطبيبة الشابة التي تذهب للريف فلا تعمى عن طيبة بعض أهله (قصة تعلمت الحب)؛ فهذه القصص المتفرقة تصدر عن نظرة إنسانية شاملة. •••
هناك صفة إذا تحققت في القصة تضاءلت بعدها نداءات المطالب الأخرى، هي أن تكون مقروءة، أن يجوس القارئ خلالها فلا يشعر بتعب أو ملل أو نكد أو إرهاق، لا يكربه تعقيد والتواء وحشو ومبالغة. وأشهد أن هذه الصفة قد تحققت في أغلب قصص هذه المجموعة، ثم أعجبني فيها ما رأيته من محاولة رفع أسلوب السرد إلى مستوى المعالجة الفنية، يتجلى هذا في بدايات القصص، وهي دائما أحسن من خواتيمها؛ فالكلمات مختارة باقتصاد لا فضول فيه، ثم هناك محاولة طيبة أيضا لاصطناع تعبيرات خاصة غير منقولة ولا مقتبسة من مألوف الكلام، يدل على أن الدكتورة نوال تصوب للدنيا وللناس نظرة مستقلة غير مقلدة مما يبشر لها بمستقبل نير، إنها لا تهيم بالدمامة بل تتطلع إلى الجمال والخير.
وما السر في هذا كله إلا أنها صاحبة نفس معتدلة حساسة فنانة. ومما أعانها على الصدق أنها عرفت كيف تنتفع بتجربة تعيشها - وهي ممارسة تطبيب مرضى الصدور - شأنها في ذلك شأن الدكتور مصطفى محمود، فدخلنا معها العيادات، وعرفنا حكايات الأطباء والممرضات، وما أكثر وأسهل رواية حكاية الأطباء والممرضات. وذهبنا معها للريف إلى وحدة مجمعة، بل يخيل إلي أن المحامية في قصة تحت الملاءة قناع تختفي وراءه طبيبة، كأنما خشيت الدكتورة نوال من معرة التكرار، وما هو عيب إذا التزمت الصدق. •••
إذا جاريت النقاد قلت للدكتورة نوال بصراحة إن بعض قصصها قد خرج عن شكل القصة إلى شكل اللوحة، عمادها الوصف والتسجيل أو الاكتفاء بإيراد خبر؛ قد يكون رسما لذيذا ولكنه فاقد النمو والحركة. ولست أخاصم هذا النوع لو سمي باسمه خصاما شديدا، فإنني أجد بعضا منه في مؤلفات بعض كبار الأدباء السابقين - كديكنز وتشيكوف - ويكون عذر قبولها هو غناؤها بالأفكار وبراعتها في الصياغة والصنعة، لعلهم كانوا يلجئون إلى كتابة هذه اللوحات كلما أطبقت عليهم مطالب القصة وشروطها، ولكني أحب على كل حال لكل قصاص أن يفطن لما يكتب ويدرك الفرق بين اللوحة والقصة ويحاسب نفسه وهو يتلمس طريقه، فإذا كان هذا حاله فقد أمنا عليه ورجونا له أن يهتدي إلى نور أعم يكشف له طريقه في المستقبل، وإلا فلنا العذر أن نخشى عليه من أن تنزلق قدمه وهو غافل. ولا يظنن الكاتب أن النقاد لا يغفرون له ما يغفرونه للأدباء الكبار، وأحب له أن يفهم من هذا أن خير رد له على النقاد هو أن يملك أولا قدرته واعتدال صنعته، ثم له بعد ذلك أن يتبهنس كما يشاء.
تعلمت الحب
هبطت بي العربة السريعة في الطريق الزراعي المترب، واختفت العمارات العالية والمداخن السوداء وظهرت بشائر الريف، ورأيت حقول «الذرة» تقترب من جانبي الطريق، بعضها أخضر وبعضها أصفر، يتخللها النخيل الطويل الهزيل، وسحبت زجاج النافذة إلى أسفل لأشم رائحة الريف بما فيها من تراب وزرع وماء، تلك الرائحة العجيبة التي أعشقها، والتي أشمها أحيانا في القاهرة حينما أمر في ليالي الخريف بعربات «الذرة المشوي» أو عندما تأتي إحدى القريبات من الريف فأشم حولها رائحة الفطير، أو حينما تأتي عربة الرش في ليالي الصيف وتندي شارعنا بالماء.
وطلبت من السائق أن يتمهل، وجذبت أنفاسا طويلة فامتلأ صدري بهذه الرائحة الحبيبة، وانتشيت وذاب بعض الوحشة التي أحسستها وأنا أفارق القاهرة، وشعرت كأنني أعود إلى وطني، إلى أصلي، كأنما أزحف بجسمي على الأرض السوداء المبللة بالماء وأتحسسها بلساني لأرتوي منها وأغمس رأسي في شقوق الأرض أشم باطنها وأضع خدي الملتهب على سطحها الرطب.
Неизвестная страница
وطافت برأسي فكرة أصل الإنسان: ماذا كان؟ حيوان من خلية واحدة يزحف على هذه الأرض! أو قطعة طين من هذا الطين الذي يغطي الأرض؟ وتنبهت فجأة وقد أحسست أن العربة وقفت، ورأيت عددا كبيرا من الفلاحين يحيط بالعربة، وسمعت أصواتا خشنة تقول: «الست الدكتورة وصلت.»
وهنا صحوت من غفوتي وتذكرت أنني الست الدكتورة التي وصلت، وأنني قدمت من القاهرة لأتسلم عملي اليوم بوحدة طحلة المجمعة.
ونزلت من العربة، وما إن استقرت قدماي على الأرض حتى رأيت رجالا بالجلاليب ونساء بالطرح ينحنون على يدي يقبلونها، وقادوني إلى البيت المخصص لي في مظاهرة حارة من آلاف التسليمات والترحيبات.
ودخلت البيت، ووجدتني داخل صالة كبيرة منسقة في وسطها منضدة كمائدة الطعام وضعوا عليها حقائبي! - ده بيت لطيف فعلا، مين اللي رتب الفرش ده؟
وسمعتهم يقولون في صوت واحد: «محمود.» - محمود مين؟
وأشاروا إليه، كان رجلا ريفيا جاوز الخمسين من عمره، قصير القامة يلبس جلبابا ليس له لون معين، وطاقية صفراء من الصوف، وكان شكل وجهه غريبا علي، فيه قبح شديد منفر، أنفه كبير على قمته شعر أسود قصير، وعيناه مدفونتان في حفرتين شديدتي الضيق، وأهدابه متلاصقة كأنها لزجة، وشفته العليا أعرض من السفلى على عكس الناس.
وأدرت وجهي عنه بسرعة، وطلبت منهم أن ينصرفوا لأستريح. وانصرفوا جميعا إلا هو ذلك المحمود، رأيته يأخذ حقائبي ويقول بلهجة ريفية: الشنط دي نطلعها فوق يا ست الدكتورة؟
وكدت أقول له دعها وانصرف، ولكني كنت متعبة فعلا وفي حاجة إلى بعض الملابس التي بداخل هذه الحقائب فقلت له: «أيوه، طلعها فوق.»
وأخذ الحقائب وصعد السلم، وكان البيت مكونا من طابقين: طابق علوي فيه حجرة النوم والحمام، وطابق سفلي فيه حجرة الطعام والمطبخ.
ووضع محمود الحقائب بجوار الدولاب وتراجع إلى الوراء وهو يقول: الست الدكتورة تطلب إيه للغدا؟
Неизвестная страница
ونظرت إليه ورأيت وجهه، كان قبيحا، لكني لم أشمئز منه كالمرة الأولى، وكنت أريد أن ينصرف لأستريح فقلت: «لا أنا مش حاتغدى دلوقت، روح انت يا محمود.»
ولكنه لم ينصرف وقال لي كأنه يعزمني في بيته على الغداء: «لا مش ممكن إزاي سعادتك تقعدي من غير غدا والسفر متعب.»
كنت أسمعه وظهري له لأتفادى دمامة وجهه، لكني أحسست أن في صوته شيئا مألوفا لدي، كأنما سمعته قبل اليوم.
واستدرت إليه، ورأيت وجهه، واهتزت عيناي على ملامحه لا ترغبان في الاستقرار على شيء منها، وقلت له في عزم وغضب : «أنا مش حاكل دلوقت!»
وانصرف، وزحزحت السرير بجوار النافذة، وألقيت جسمي عليه، ومددت ساقي، وثنيت الوسادة تحت رأسي لأتمكن من رؤية المزارع من خلال النافذة وأنا نائمة، وأغمضت عيني وأنا أجذب نفسا عميقا هادئا.
آه! ما أجمل الاسترخاء! وما أشق أن أساق في تيار متدفق، لا أتوقف لأن كل ما حولي لا يتوقف: الساعة تدق دائما، والعربات والقطارات تجري بسرعة وتصفر، وحياة المدينة الجارفة - حياة القاهرة - بنهارها وليلها وعملها ولهوها تبتلع اليوم، وتجعلني أتلفت حولي في قلق وأقول: هل من مزيد، هل يصبح اليوم أربعين ساعة؟
ومددت ذراعي وساقي وتثاءبت في تراخ شديد.
آه! ما أحلى التوقف بلا ساعة وبلا زمن! اليوم أمامي طويل عريض، بلا مواعيد، والأرض الواسعة الخضراء حولي جميلة بلا مواصلات، والناس الطيبون قريبون مني في أية لحظة يلبون طلباتي.
ووضعت يدي تحت رأسي وتمطيت، أنا هنا ملكة، ملكة نفسي قبل كل شيء.
وسمعت طرقا على الباب فقمت من فراشي ونزلت وأنا أحس أنني خفيفة كالريشة، وفتحت الباب، ودخل محمود بوجهه القبيح، لو لم يكن له هذا الوجه المنفر؟! إنه الشيء الوحيد الذي يتلف مزاجي في هذا الهدوء.
Неизвестная страница
وسمعته يقول: يا ست الدكتورة الغدا جهز. - غدا؟! هو أنا طلبت غدا؟ - أنا قلت مش معقول حضرتك تفضلي من غير غدا، ودي حاجة بسيطة مش قد المقام يا ست الدكتورة.
ودخلت امرأة ريفية تحمل على رأسها صينية كبيرة مغطاة بفوطة بيضاء نظيفة، ووضعت الصينية على المائدة وانصرفت، وأخذ محمود يرتب الأطباق، ويعد الأكواب، وما إن تأكد أن كل شيء في مكانه حتى تراجع نحو الباب في حركة خفيفة وقال: تطلبي حاجة تاني يا ست الدكتورة؟
ولا أدري بم ذكرتني لهجته، وكأنما سمعتها قبل اليوم، ورفعت عيني إليه ورأيت وجهه. ولأول مرة تبينت عينيه، كانتا سوداوين ضيقتين فيهما نظرة مألوفة لدي كأنما رأيتهما من قبل، من سنين بعيدة، ربما وأنا طفلة، وأحسست كأنه قريبي، وقلت له وأنا أبتسم: لا، كتر خيرك يا عم محمود.
ورن صدى «عم محمود» في نفسي ، لماذا قلت له عم محمود؟ لست أدري، لكني لم أستطع أن أقول له محمود «حاف» كالمرات السابقة.
وأكلت بشهية تشبه الشهية التي كنت آكل بها وأنا في العاشرة من عمري حينما كنت أعود من المدرسة وألقي حقيبتي وأجري لألحق بكرسي على المائدة، وما إن يمتلئ فمي بالطعام حتى أسمع أمي تهتف بي كعادتها من المطبخ: غسلتي إيديك يا آمال!
وتذكرت أنني لم أغسل يدي، فقمت وغسلتهما، والتهمت بقية الطعام ثم نمت، نمت أيضا بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة، ولم أستيقظ إلا في الصباح التالي لأجد كل شيء مشرقا متألقا.
الشمس الدافئة تدخل إلى نصف السرير وحقول الذرة تلمع وتهتز مع النسيم الوادع، ونظرت من النافذة التي تطل على الوحدة فوجدت المرضى الفلاحين يقفون أمام حجرة الكشف متجمعين، ولمحت التومرجية - النساء والرجال - بملابسهم البيضاء يروحون ويجيئون في مباني الوحدة، وأحسست بالنشاط والحماسة فلبست المعطف الأبيض ونزلت مسرعة.
وعلى باب حجرة الكشف وجدت عم محمود يلبس ملابسه البيضاء النظيفة ويبدو فيها «تومرجي» متمرنا قديما وليس الفلاح الذي رأيته أمس.
وبدأت الكشف، ودخل المرضى واحدا واحدا بنظام دقيق وعم محمود يروح ويجيء بينهم في حماس غريب، يحمل على الأم طفلها، ويحمل على الرجل ملابسه، وعيناه ببريقهما العجيب تتبعان كل شيء باهتمام شديد. وانتهى الكشف وذهبت إلى حجرة الغيار حيث وجدت كل شيء معدا، الحقن معقمة، والعمليات وغيرها جاهزة، وبعد حجرة الغيار صعدت إلى القسم الداخلي، فوجدت العنابر نظيفة تلمع، وأسرة المرضى مرتبة، والملاءات بيضاء، وكل شيء يدعو إلى السرور والدهشة.
واستدرت لمن حولي من التمورجية وسألت: «مين اللي نظف هنا؟»
Неизвестная страница
فقالوا في صوت واحد: «عم محمود.»
إنه يفعل كل شيء، ويحب أن يفعل كل شيء.
ونزلت واتجهت إلى بيتي، وعند الباب سألني عم محمود بلهجته المألوفة: حضرتك تحبي تتغدي إيه؟!
ونظرت إليه، إنه أيضا لا ينسى شيئا، وأطلت النظر إلى عينيه، فرأيت فيهما شيئا عجيبا لم ألحظه من قبل، شيئا ربما رأيته من قبل، في عيني أبي أو أمي، حنان غريب.
وتذكرت لهجته ، وعرفت لماذا أحسست أنني سمعتها من قبل، إنها تشبه لهجة أمي، أو أبي.
وناولته جنيها وأنا أقول: فرخة سمينة يا عم محمود وعليها أي حاجة، كفاية شوية شوربة، واوع تنس تحط فيها «ضرس الساقية» وضحك، وضحكت.
وذات صباح نزلت إلى الوحدة كعادتي فوجدت المرضى غير منتظمين ككل يوم والوحدة مهملة، وصفقت وناديت عم محمود وجاءني تمورجي آخر يقول: عم محمود غايب النهاردة يا ست الدكتورة، يلزم خدمة؟
ونظرت إليه، أحسست بفرق هائل بينه وبين عم محمود. - نظم العيانين دول بسرعة، وخلي حد من التمورجية يكنس الطرقة، وواحد تاني يجهز الغيار وعمليات الفتح، يلله بسرعة دخل العيانين واحد واحد.
وكان يوما قاسيا علي، أحسست في كل لحظة من لحظاته أنني أفتقد شيئا ضخما، المرضى يدخلون بلا نظام، وحجرة الغيار لا تصلح لشيء، والتمورجية على كثرتهم يروحون ويجيئون بغباء شديد وبلا نتيجة.
وانتهى العمل بعد أن تعبت وبح صوتي، وذهبت إلى بيتي، وعند الباب تلفت كالتائهة حولي كأنما أبحث عن شيء مفقود، عن الحنان.
Неизвестная страница
ووجدتني أسرع إلى العربة دون أن أدخل بيتي، وأركب فيها وأنا أقول للسائق: «اطلع يا أسطى محمد بسرعة، على بيت عم محمود!»
وأحسست بالفرح وأنا أراه، وكنت على وشك أن أرتمي على صدره وأقبل جبهته كما أفعل مع أبي أو أمي، لكني تراجعت وتذكرت أنني الست الدكتورة وهو عم محمود التمورجي. - ما لك يا عم محمود؟ انت عيان صحيح؟ - أبدا يا ست الدكتورة شوية حمى خفيفة، سعادتك تعبت نفسك وجيتي لغاية داري، ده شرف كبير، هو احنا قد المقام؟ - مقام إيه يا عم محمود، مفيش فرق بين الناس وبعض.
وخرجت هذه الكلمات من فمي وحدها دون مجهود، كلمات أحسست أنها صادقة وليست كتلك المجاملات الشاقة التي ألفتها في القاهرة، وشعرت أنني لا أجد فرقا بيني وبين عم محمود، بل أحسست أنني أحبه، ذلك التمورجي الفلاح الذي يلبس جلبابا ليس له لون وطاقية صفراء ويرقد على الحصيرة، وأحب أيضا زوجته الفلاحة التي تلبس ملابس سوداء وتجلس إلى جواره على الأرض، وأحب أيضا طفله الذي يسيل لعابه على ذقنه ويلعب في التراب بيديه.
وفي اليوم التالي، وجدتني أتفرس في وجوه المرضى وكأنني أراهم لأول مرة، وخيل إلي أنني أرى في كل رجل منهم عم محمود، وفي كل امرأة منهن زوجة عم محمود، وفي كل طفل منهم طفل عم محمود، ورأيت عيونهم جميعا مليئة بالحب والحنان، وأحسست أنه يربطني بهم عاطفة جديدة قوية، وسمعتني أقول للتمورجي الذي أمرته بتنظيمهم والشخط فيهم: حاسب يا حسنين شوية، بلاش شخط في العيانين، دول ناس زينا برضه.
وحينما عدت إلى فراشي في تلك الليلة أحسست براحة غريبة تسري في كياني، وسعادة دافئة تتمشى في جسمي، وأغمضت عيني ليستقبل قلبي حبا جديدا.
وتنفست بهدوء وأنا أحس أن متاعب الدنيا كلها تذهب عني شيئا فشيئا مع أنفاسي الهادئة، والقاهرة، بصخبها وضجيجها وبسكانها المتخشبين كأنهم الآلات أو التماثيل، تتلاشى من إحساسي، والمستشفى الكبير الذي كنت أعمل فيه هناك ذاب من ذاكرتي، حتى حبي، حبي الذي تركته خلفي في القاهرة أصبح الآن لا شيء في رحاب ذلك الهدوء القوي الذي يغمرني، وفي غمرة تلك العاطفة الجديدة التي عرفتها. آه، قلتها وأنا أمد ساقي، لقد وجدت سعادتي.
وجدت حبي، إنه هنا، في كل شبر من هذه الأرض الخضراء الوادعة، وفي كل عين من هذه العيون الحانية الدافئة، وفي كل قلب من هذه القلوب الطيبة البريئة.
لعله الحب
منذ سنين طويلة، في كلية تجمع البنات والأولاد بعد فرقة عشرة أعوام أو أكثر في مدارس الابتدائي والثانوي، تجمعهم في تلك السن الحادة من عمر الإنسان، تلك الفترة الطائشة المعلقة بين الطفولة الساذجة والشباب الناضج - المراهقة - فترة قصيرة سريعة لاهثة تتأرجح من العمر في الهواء لا ترسو على قدمين.
وفي فناء هذه الكلية الواسع ترى أسراب البنات يمشين بعضهن وراء بعض في سرعة وخوف كأنما ستخطف الحدأة إحداهن!
Неизвестная страница
وترى الولد منهم يبحلق حواليه كالمذهول، يكاد يلتهم بعينيه كل بنت يراها، ويهمس بصوت خافت وبلهجة ريفية خشنة في أذن زميله: «الله يا وله! ده بنات الجامعة حلوين قوي!»
ويظل الأمر في الشهور الأولى من الدراسة معلقا هكذا بين البنات والأولاد، يتباعدون عن عمد ويتقاربون عن عمد، ويتخابثون في اختلاس البسمات والتقطيبات، وينتهي النصف الأول من الدراسة، ويبدأ شهر أبريل، ويختفي الهواء البارد وتختفي معه المعاطف الواسعة والأكمام الطويلة.
وتسطع الشمس، وتسري حرارة الربيع في السماء والأرض فتظهر الفساتين الهفهافة بلا أكمام والصنادل المفتوحة، ويكون الثلج قد ذاب بين البنات والأولاد، وتبدأ تحيات الصباح والإيماءات والإشارات وتبادل البسمات، وكشاكيل المحاضرات!
ويتطور الأمر يوما بعد يوم، وتقل الكلفة بين الأولاد والبنات، وتبدأ مراحل الزمالة والصداقات، وتختفي أسراب البنات التي تمشي وحدها، ويختلط الأولاد والبنات، وتكتب مجلات الطلبة مقالات عن الروح الجامعية، وفوائد الاختلاط وتغيير التقاليد القديمة و... و...
كل شيء في الكلية يتطور ويتغير إلا «سعيد»، يجلس كعادته في أول مقعد في أول صف على اليمين، ونظارته البيضاء السميكة تهتز إلى اليمين وإلى الشمال مع حركات الأستاذ الكبير، والقلم الحبر في يده والكشكول مفتوح أمامه، ومن حين إلى حين ينكفئ برأسه حتى يكاد يلتصق أنفه بالورقة، ويكتب.
ولم يكن لسعيد صديق ولا صديقة، حتى في فترات الراحة بين المحاضرات كان يجلس على أريكة بعيدة في الفناء، وينكفئ على المحاضرات يراجعها، وتمر عليه زمر الطلبة تمطره بتعليقات ساخرة معظمها حقد على جده واستقامته، أكثر مما هي سخرية من انطوائه.
كانت كل الكلية ضده، تتهكم عليه، وتحكي عنه الأمثال والنوادر، إلا واحدة، فتاة طويلة نحيفة، لونها أصفر شاحب وعيناها السوداوان الواسعتان تنسحبان إلى أعلى كالصينيات، كانت هي الأخرى وحيدة، تدخل وتخرج مع الطلبة في صمت وهدوء لا يحس بها أحد.
وذات يوم كانت تجلس في قاعة المحاضرات حينما سمعت وراءها همسا عاليا، كان بعض الطلبة يتنافرون ويسخرون من سعيد، ووجدت نفسها تهمس في أذن سعيد: «ولا يهمك!»
ومن ذلك اليوم وإحسان تحرص على أن تجلس بجوار سعيد، تأتي كل صباح مبكرة وتحجز له مكانا بجوارها، وحينما يحضر سعيد ويجلس تبتسم له وتقول له في رقة: «صباح الخير يا سعيد.»
ويحمر وجه سعيد ويتلعثم ويفتح حقيبته ثم يغلقها ثم يفتحها ثم يقول بصوت منخفض: «صباح النور يا آنسة إحسان!»
Неизвестная страница
وبعد أيام قليلة تعود سعيد على أن يرد تحية الصباح دون خجل شديد، وأصبح هو وإحسان حديث الكلية، يجلسان في المحاضرات معا ويخرجان إلى الفناء معا، وينفردان على الأريكة البعيدة ويراجعان المحاضرات، ويكملان ما فيها من نقص. وكان سعيد بطيئا في الكتابة، بطيئا في الفهم، وإحسان سريعة كالآلة الكاتبة، تختزل الكلمات وتفهم المحاضرات بمجرد سماعها؛ ولهذا ارتاح سعيد لهذه الصداقة. لم تعد الكلية شبحا مخيفا ثقيلا، ولا الطلبة «عفاريت» تلاحقه لتسخر منه وتشد منه حقيبته وتنفخ في قفاه. ولم تعد المحاضرات كالطلاسم في نظره، ولا الأساتذة عمالقة بالنسبة له أو جبابرة يركبون في حناجرهم أجهزة ذرية للكلام!
أصبحت علاقة سعيد بإحسان أكثر من صداقة، أصبحت حاجة ملحة لم يعرفها سعيد إلا حينما غابت إحسان عن الكلية ثلاثة أيام كاملة. نظر إلى جانبه في المدرج فلم يجدها، خيل إليه أن ليس مقعدا واحدا خاليا بجواره وإنما خرابة كبيرة إلى جواره، وشعر بالوحشة والخوف، وكأن الطلبة والأساتذة سينقضون عليه كالوحوش، وأخذ يفكر ماذا يفعل؟ هل يذهب إليها في بيتها؟ لقد أعطته العنوان على قصاصة ورق ذات يوم. وأخرج الورقة الصغيرة من جيبه يحملق فيها، كيف يقدم على عمل جريء كهذا، وجلس على الأريكة البعيدة وحده يشد شفته السفلى كعادته كلما تورط في أمر من الأمور.
وأخيرا وقف وتأبط حقيبته وقرر الذهاب إليها. إنه بدونها ضائع وحيد ضعيف أعزل، كأنما هي التي تحوطه وتكلؤه برعايتها وتحميه، وسار في الطريق يستمع إلى وقع حذائه على الأرض، ويرى المارة كأنهم أشباح متحركة.
وأحس في أعماقه بشعور قاتم غريب، يشبه نفس الشعور الذي أحسه حين مات أبوه وهو طفل صغير، شعور باليتم والضياع، رغم ما كانت تعوضه أمه من حنان ورعاية، وكانت لا تزال شابة في الخامسة والثلاثين. وتذكر دموعها ذات ليلة وهي تنام إلى جواره في السرير، ولم يكن قد رأى أمه تبكي من قبل ، حتى حينما مات أبوه لم ير لها دموعا، ولم يدهش «سعيد» لأنه هو نفسه لم يكن يحب أباه، كان يخافه ويرتجف كلما سمعه يرغي ويزبد في البيت، وتتكهرب معدته وتتقلص، ويشعر برغبة في القيء والبكاء معا.
بل إنه ليذكر أنه قال لأمه مرة بعد موت والده: «يعني أفرح يا ماما وأنت كمان تفرحي، فيه واحدة ست قالت إنك فرحانة عشان حتورثي سبعين فدان، فدان يعني إيه يا ماما؟»
ولم تقل أمه شيئا، أخذت تربت على ظهره حتى استغرق في النوم، ولم يفهم سعيد شيئا إلا بعد سنوات قليلة. وكانت الليلة التي رأى فيها دموع أمه لأول مرة، كانت تنام بجواره على السرير كعادتها تكلمه عن أشياء كثيرة وتحكي له القصص، ثم رآها تسكت وتمسح دموعها بمنديلها، ونظر إليها في دهشة وهو يقول: «إيه ده؟ إنت بتعيطي يا ماما؟»
وأفهمته أمه ليلتها وهي تبكي أن رجلا يريد أن يتزوجها، لكنها رفضته لأنها صممت على أن تكرس حياتها لابنها، وأفهمته أيضا أنهما ورثا عن أبيه سبعين فدانا وبيتا؛ ولذا فهي ليست في حاجة إلى الزواج، وأن كل من يتقدم لها لن يكون إلا طامعا في هذه الثروة.
واحتضن سعيد أمه بكل قوته، وأطبق عليها ذراعيه الصغيرتين وقال لها وهو يبكي: «أنا باحبك يا ماما، الناس كلهم وحشين، أنا مش بحب حد غيرك إنت بس.»
وسمع أمه تقول له وهو يغالب النوم: «خليك شاطر يا سعيد وخد بالك من المدرسة عشان ما حدش يسبقك.»
ومن يومها وسعيد يحس بالنفور من الناس والكراهية لهم، خيل إليه أنهم وحوش تريد أن تخطف منه أمه، وتستولي على بيتهما وأرضهما، حتى زملاؤه في المدرسة لم يحبهم، ولم يشاركهم اللعب والمرح، كان يجلس وحده ويضع حقيبة كتبه على ركبتيه، ويراقبهم وهم يمرحون. وأصبح يحب المذاكرة؛ فهي ليست إنسانا حتى يكرهه، وأصبحت هي عمله وهوايته وتسليته حتى وصل إلى الجامعة.
Неизвестная страница
ولم يعرف سعيد كيف تسربت هذه الذكريات إلى نفسه وهو سائر في الشوارع يبحث عن بيت إحسان، وكانت أول مرة في حياته يغير الطريق الوحيد الذي يمشي فيه، الطريق من بيته إلى الجامعة وبالعكس. وأحس أنه تائه غريب وسط عالم واسع ليس له فيه أحد، لكن احتمال عثوره على بيت إحسان شجعه على المسير، وراح يدخل في شارع ويخرج من شارع ويسأل، وأخيرا وصل إلى بيتها، وأخذ يبحث عن جرس ولم يجد، فنقر بأصابعه في وجل على الباب، وخفق قلبه حين سمع صرير الباب وهو ينفتح، وتظهر طفلة صغيرة ووجهها نحيل وملابسها قذرة، رمقته بنظرة خائفة حادة من عينين واسعتين غائرتين وسألته بحدة: «عاوز مين؟»
فقال لها وهو يمسح جبهته وأنفه: «الآنسة إحسان موجودة؟»
وردت عليه الطفلة بسرعة: «أيوه.»
وجرت إلى الداخل وسمعها تقول بصوت رفيع: «أبله إحسان فيه واحد راجل عاوزك.»
ثم رأى «إحسان» نفسها أمامه في فتحة الباب، وكان يظن حتى هذه اللحظة أنه أخطأ العنوان، ورأى في عينيها مسحة غريبة من الحزن لم يرها من قبل في الكلية، كانت تلبس رداء واسعا أصفر، وشعرها ملموم داخل منديل أبيض، وبدت طويلة نحيلة شاحبة، بل أكثر طولا وشحوبا مما كانت في الكلية، وصافحته بيد باردة، ودخل وراءها إلى حجرة صغيرة فيها بعض الكراسي.
وجلس أمامها ينظر إلى أرض الحجرة ثم قال في تلعثم: «حبيت أطمن عليكي، قلت يمكن تكوني عيانة، قلت لازم برضه أسأل، قلت لازم ...»
كان مرتبكا، وكلماته متقطعة متكررة، كان خائفا كأنه أخطأ التصرف، وتهور في الاهتمام بها، ولم يعرف أتلومه أم تعنفه، أم تطلب منه الخروج، لكنه سمعها تقول في هدوء وعلى وجهها ابتسامة ضعيفة: «أشكرك يا سعيد، أنا توقعت برضه إنك ح تسأل عني.»
وأعاد صوتها إليه اطمئنانه، إنه نفس صوتها الممتلئ الحاني الذي يحتويه في الكلية ويحميه ويؤنسه ويشجعه، وقال يحاول أن يستعيد هدوءه: «أنا مش عارف، الحقيقة قلت لازم أشوف إنت غبت ليه، يمكن ...»
وبلع ريقه وسكت ونظر إليها، كانت تجلس بجواره وعيناها شاردتان تفكر في شيء بعيد، وأخذ يتأملها، رأى صدرها يعلو ويهبط، ولمح لها نهدين صغيرين بارزين يظهران ويختفيان تحت الرداء الواسع، وأحس بسخونة تلسع رأسه وصدره، وشعر برغبة في أن يقترب منها أكثر، ويحوطها بذراعيه، ويدفن رأسه في صدرها ويبكي، لكنه لم يتحرك من مكانه، وإنما اغرورقت عيناه بدمعة كبيرة ابتلعها بسرعة، وقال لإحسان وهو يحاول مداراة شعوره: «على فكرة أنا جبت لك محاضرات النهارده عشان تنقليها.»
وقالت في إعياء وعيناها منكسرتان: «أشكرك يا سعيد.» ورأى لأول مرة منذ عرفها أنها ضعيفة، وأنه يستطيع أن يساعدها. وشعر بفرحة جديدة تغزو قلبه كأنه بلغ سن الرشد وأصبح رجلا.
Неизвестная страница
وقضى سعيد يومين آخرين في الكلية بلا إحسان، لكنهما لم يكونا كاليوم الأول، اطمأن عليها وتلاشى معظم ضعفه ويتمه، وقال لنفسه وهو عائد إلى بيته: «أنا رجل قوي مثل كل هؤلاء المتغطرسين.» وعادت إحسان إلى الكلية، واستقبلها بحرارة، وضغط على يدها، وسارا جنبا إلى جنب في فناء الكلية، حتى وصلا إلى مكانهما المعتاد وجلسا: إزيك النهاردة؟ - الحمد لله.
وسكتا طويلا، ثم قال سعيد وهو ينبش بحذائه في الأرض: مين اللي فتحت لي الباب؟ أختك؟ - أيوه.
وسكتت لحظة ثم قالت: «أظن ما كنتش تتصور إني فقيرة كده؟»
قال بسرعة: «أبدا، أبدا عمري ما فكرت في حاجة زي كده.»
وغابت عنه في شرود طويل، ثم قالت كأنها تكلم نفسها: «كان بابا موظف كويس، وبعدين فجأة جاله شلل ونام في السرير.»
ولمعت عيناها بدموع حبيسة ثم قالت: «مسكينة أمي، ليل نهار تعبانة، إحنا ثلاثة، أخويا الكبير وأنا واختي الصغيرة، أخويا في كلية الطب وبيشتغل بعد الضهر في شركة أدوية، وانا كمان باشتغل في شركة بعد الضهر.»
وكان سعيد يجلس ويستمع إلى صوتها وهي تتكلم في دهشة، ولم يستطع خياله الساذج الذي لا يعرف سوى بيته وكليته أن يتصور أن هناك أناسا يتألمون ويشقون من أجل رغيف العيش على هذه الصورة، وأن في الدنيا هموما وأعباء كثيرة. لقد كان يظن أن الاستذكار هو العبء الوحيد الموجود في هذا العالم، فإذا به يجد «إحسان» تحمل أعباء أخرى أخطر من الاستذكار بكثير. وكان يظن أن كل فرد من الناس يسكن فيلا أنيقة، مثل فيلته، ويطل على شارع نظيف مثل شارعه، ويجد في الصباح إفطارا، وفي الظهر غداء، وفي المساء عشاء، وله حجرة نظيفة وفراش مريح، وأم حنون ترعاه، وتعطيه من النقود ما يريد، وله خدم يغسلون ملابسه ويلبون طلباته.
كان يظن أن هذه أشياء عادية تخلق عند كل الناس كما تخلق لهم أذرع وأرجل. وتذكر منظر الحارة القذرة التي تسكن فيها إحسان، وبيتها الصغير المتهدم، وأختها المسكينة ذات النظرات الجائعة الخائفة. والتفت ناحية إحسان، ورآها تجلس شاحبة نحيلة شاردة، وشعر برغبة في أن يمسك يدها ويضغط عليها ويقول لها: «معلش يا إحسان، بلاش تزعلي نفسك، تعالي عيشي معايا، أنا عندي بيت وعندي سبعين فدان، وعندي فلوس كتيرة قوي.»
لكنه لم ينطق بحرف واحد، لم يتحرك لسانه في فمه، كان يريد منها أن تتكلم، أن تشجعه كما كانت تشجعه دائما، لكن إحسان ظلت صامتة. كانت تحس أنها بعد أن كشفت حالتها أمامه أصبحت ضعيفة عاجزة فقيرة، تحتاج إلى شفقته وعطفه. لم تعد إحسان القوية التي تدافع عنه وتساعده وتقويه، وسألت نفسها أتراها أحبته؟ ولم تعرف الجواب، كانت تشفق عليه من انطوائه، وتآمر الطلبة عليه، أرادت أن تساعده وتحميه، تماما كما تفعل مع أبيها المشلول المريض، لكنها الآن عاجزة عن أن تمنحه شيئا، لقد زال عنه انطواؤه وخجله وضعفه، وأصبح مثل باقي الرجال، وخيل إليها أنه بصمته هذا يعبر عن استيائه لفقرها، ربما كان يظن أنها غنية، ربما كان يطمع فيها، ربما، ربما.
ولم تطق إحسان مزيدا من الظنون؛ فوقفت وأمسكت حقيبتها، ونظرت إليه ثم قالت وهي تعطيه يدها: «طيب يا سعيد أنا مروحة البيت.»
Неизвестная страница
وصافحته وانصرفت، ووقف ينظر إلى ظهرها، وشعر برغبة في أن يجري خلفها، ويمسكها من يدها ويقول لها: لا تذهبي، لا تتركيني، إني أحبك، تعالي نعش معا، لكنه تسمر في مكانه كالتمثال وظل يتابعها بنظراته حتى اختفت في الشارع الواسع.
وفي اليوم التالي غيرت إحسان مكانها في المدرج، بعيدا عن سعيد ولم تقل له صباح الخير ، ولم تحاول أن تسلم عليه بعد المحاضرة.
وكثر همس الطلبة: إحسان وسعيد اتخانقوا، زعلوا، يا عيني! شوفوا سعيد رجع غلبان تاني! لكن ليه؟ إيه السبب؟ لعلها لم تحبه، لعله لم يحبها، لعل ...
وكان سعيد يسأل نفسه: إيه السبب؟ ولا يجد لديه الجرأة ليذهب إلى إحسان ويسألها، إنها تتجاهله، لعلها كانت لا تحبه، لعلها أحبت شخصا آخر، لعل ... لعل ...
وتفككت علاقتهما، واتسعت الفرقة بينهما، وتراصت بينهما كالمتاريس كلمة «لعل»، هي تقول «لعل»، وهو يقول «لعل»، وطلبة الكلية يقولون «لعل». ولم يعرف أحد الحقيقة أبدا، حتى بعد أن تخرجوا واشتغلوا، وكبروا، وتزوجوا، وأنجبوا، لم يفهموا الحقيقة. وكلما جاءت سيرة الكلية وأيام زمان وسنين المراهقة والحب الأول، و... و... يبتسمون في سخرية ويقولون لأنفسهم: كانت أوهام، كلام فارغ، طيش.
وينظرون إلى أبنائهم في حذر ومكر ليكتشفوا مقدار ما ورثه أبناؤهم من هذه الأوهام، وهذا الطيش.
شيء جديد
في صباح كل يوم كان يسير في الشارع من بيته إلى مكتبه، وفي أول كل ليلة كان يسير في الشارع من بيته إلى حيث يغيب حتى منتصف الليل.
وكانت له شخصية كل شيء فيها يوحي بالإهمال والفتور؛ مشيته البطيئة، وخطواته الطويلة وهو يحرك ذراعيه وساقيه بلا اكتراث كأن الأرض من صنعه، وجفناه المتدليان على حافتي عينيه في تكاسل من لا يهمه أن يرى شيئا لأنه عرف كل شيء، وبذلته الرمادية البسيطة كأنها بلا خياطة، من تحتها ياقة قميصه مفتوحة بلا ربطة عنق، والسيجارة، أو نصف السيجارة، في فهمه دائما تحترق وحدها ببطء دون أن يدخنها، كأنه نسيها أو أشفق من أن يضغط عليها، فتركها تنهار وحدها بين شفتيه.
كل يوم وكل ليلة يسير في هذا الشارع أربع مرات، نصفها ذهاب ونصفها إياب، ولا شيء فيه يتغير، هو هو، بالأمس كاليوم كأول أمس، سائر كأنه نائم، سارح في ذهابه وإيابه، حتى تظن من فرط إهماله أنه لا ينظر أبدا إلى المرآة، لولا تلك الوسامة الغريبة التي يتميز بها قوامه وملامحه.
Неизвестная страница
حتى كانت ليلة من ليالي الصيف، واللون الرمادي الذي يصحب أول الليل يغلف كل الأشياء بضوء خافت، لا هو نهار ولا هو ليل، ونوافذ البيوت والعمارات مغلقة «بالشيش» وقد لفظت من الحر كل سكانها إلى الشوارع والكباري والكازينوهات. الضجة كلها في الخارج، لكنه كان في بيته، لم يلبس بذلته ويخرج ككل ليلة.
كان بالبيجاما البيضاء الخفيفة، مستلقيا على أريكة بجوار السرير، ولأول مرة يبدو متحمسا رغم أنه لا يمشي ولا يتحرك، وكان حماسه في عينيه، ارتفع لأول مرة الجفنان المتدليان، وظهرت عيناه بنيتين قاتمتين تغرقان في بياض محمر، لهما نظرات متكبرة، فيها لمعة عميقة تروح وتجيء في ثبات وبطء تحت حاجبين كثيفين.
كل شيء فيه تغير، وكل ملامحه تحمست، إلا السيجارة التي احترق نصفها في فمه مهملة كما هي في مكانها، تلوذ متهالكة بطرف شفتيه، كأنه أراد أن يبقيها هكذا من فرط غروره ليتحدى بها ذلك الحادث الجديد الذي سلبه رغما عنه إهماله وفتوره.
ودارت عيناه الحمراوان في اهتمام حول محتويات الشقة، كأنه يتأملها لأول مرة، ولا يعجبه نظامها. وكان لشقته طابع خاص يشبه إلى حد كبير شخصية صاحبها، في نظامها المهمل طبيعته المغرورة، وفي ذوقها البسيط أناقته المتكبرة.
وقام عن الأريكة فجأة، جاءته فكرة نقل تمثال المرأة العارية من مكانه بجوار السرير، ووقف قليلا أمام التمثال يتأمله. كان هو أول شيء يسترعى انتباه أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فتقف أمامه تتأمل النهدين البارزين في صلابة، والخصر الضامر اليابس، وتنظر خلسة إلى نهديها وتتحسس خصرها. ويبتسم هو لنفسه في مكر خبيث؛ لقد تعمد أن يضع هذا التمثال الناعم الرشيق والمبدع في نعومته ورشاقته، ليطفئ غرور أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فيستمتع بكل ضعفها وكل أنوثتها دون شوائب، لكنه الليلة تراوده فكرة نقل التمثال من جوار السرير، هذه المرأة الجديدة القادمة الليلة ربما لا تراه في مكانه هذا، يغلب على ظنه أنها لن تدخل معه حجرة النوم. ووضع يده على التمثال يتحسسه ثم بدأ يزحزحه وهو يتلفت حوله لا يعرف أي مكان يختاره له. وابتسم لنفسه في مكر شديد وهو يضعه برفق بجوار المكتبة الزجاجية في الصالة، وجلس على الكرسي الكبير المواجه لها وراح يتأمل منظر التمثال وهو يقف عاريا رشيقا بجوار صفوف الكتب المتراصة وراء الزجاج.
وابتسم، إنها ستجلس حتما على الكرسي، إنه يفهمها ويستطيع أن يخمن تصرفاتها.
ودارت عيناه الحمراوان مرة أخرى حول محتويات الشقة، وامتقع وجهه قليلا. إن الشقة تبدو منظمة ونظيفة أكثر من اللازم، ويظهر عليها واضحا الانتظار والاهتمام الساذج. وقام بسرعة على غير عادته وفتح أحد الأدراج وألقى منه بعض المجلات على الأرض، ودخل المطبخ وأحضر فنجان القهوة التي شربها في الصباح ووضعه دون أن يغسله على المنضدة في وسط الصالة، وفتح صفيحة القمامة، وجمع منها بعض أعقاب السجائر، ثم ملأ بها المطفأة ووضعها على يد الكرسي الخشبية.
وعاد وجلس على الكرسي الكبير يتأمل المنظر، وابتسم في مكر، إنه يفهم المرأة الجديدة، إنها تختلف عن كل النساء اللائي عرفهن. لقد أثارها منه شيء واحد فقط هو إهماله، مشيته المستهترة، ونظرته المتكبرة في إطراقها معرضة عن كل شيء، ونص السيجارة التي ينساها بين شفتيه كأنه تائه عن نفسه، أو ضائع عن وجوده.
لم تثرها جاذبيته التي فتن بها كل امرأة من قبل، وكانت جاذبيته كالصواريخ يطلقها على النساء الآمنات من بعيد، وهو مستلق على ظهره يتثاءب ويتمطى وفي يده ورقة وقلم. كان كاتبا وأديبا مشهورا، يكتب بطريقة ماكرة يثير بها النساء وكأنه لا يثيرهن، ويختار كلماته ومعانيه بذكاء غير مألوف، فتأتي كتاباته خليطا مقنعا من المثالية والإباحية، والطيش والعقل، والقوة والضعف. يكتب فيودع كلماته كل رجولته بتناقضها، ويترك سطوره على الورق لها وهج وفيها لهيب يقنعان الناس بأن الأبيض يمكن أن يكون أسود، والأرض يمكن أن تكون فوق، والسماء تحت، ولا شيء في ذلك يبدو غير طبيعي. كانت هذه هي جاذبيته، التي عرفها وصقلها.
وأصبحت لياليه محجوزة، ككراسي سينما مترو في أول عرض، في كل ليلة يعتصر بذراعيه العريضتين جسد امرأة، وشفتاها بين شفتيه ترددان عن ظهر قلب كتاباته، وفي بعض لياليه كان يحس أنه إله فعلا، وأحيانا يتواضع فيكتفي بأن يكون ملكا للأرض ويترك للسماء إلهها، لكنه الليلة لا يحس أنه إله أو حتى ملك، هذه المرأة الجديدة لها عينان سوداوان واسعتان كعدستي المنظار المكبر، تستقر نظراتهما اللامعة الكاشفة في جوفه كأنها سكين حاد يشطر داخله كالبطيخة شطرين، فيحس أنه ينزل عن عرشه، ويقف بجوار الناس الذين يسميهم عاديين.
Неизвестная страница
وحينما دقق إليها النظر لأول مرة، من حيث لا تراه، رآها تجلس بشعرها الأسود الناعم يميل إلى الوراء قليلا، تضع ساقا على ساق وتنقر بأناملها المسحوبة على حافة الكرسي.
ولم يدر لماذا بدت كل الوجوه حولها باهتة كأنها مرسومة بالقلم الرصاص أو ممسوحة بالأستيكة وملامحها هي مرسومة بالحبر! كانت تمتد عند أنفها العالي الدقيق وتستدير عند شفتيها الممتلئتين، وكانت في جلستها تبدو ذات قوام ممشوق، كتفاها العاريتان من الأمام والخلف، وصدرها المحبوس داخل فستان السهرة الضيق، وخصرها النحيل، وساقاها الممتلئتان تحت ذيل الفستان الخفيف، وكل ما في جسمها يميل إلى استدارة جذابة مثيرة، وعيناها السوداوان اللامعتان بنظراتهما القوية المتوهجة التي تعيد أجرأ المفتونين إلى رشده.
ورآها بعد ذلك كثيرا، وحينما سمعها تتكلم لأول مرة بهت. كان صوتها يجمع بين الضدين العنيفين في شخصيتها، منتهى الرقة والضعف، ومنتهى المنطق والعقل. وهو لا يحب المرأة التي تتكلم، ويكون كلامها معقولا، إنه يريدها بلا منطق، بلا عقل، المرأة في رأيه لم تخلق لها شفتان لتقول شيئا سليما، وإنما لتهذي، لتهرف، لتفتح فمها وتقول أي شيء، أو لا تقول شيئا، وعليه هو أن يقفل فمها بشفتيه.
ورغم ذلك كان يحب أن يسمعها وهي تتكلم، ويتحرق شوقا إلى شيء فيها لا يدريه، لكن منطقها العنيد كان يقف دائما بينه وبينها.
لهذا كان حضورها إليه الليلة مثيرا، مع أنه تعود ألا يثيره شيء، وملامحه المتكبرة الزاهدة في كل شيء مشتاقة ومتلهفة إليها، وعيناه الحمراوان تدوران على محتويات نفسه من الداخل والخارج في قلق تشوبه لذة جديدة منعشة.
وأخيرا دق جرس الباب ودخلت هي، كانت تلبس ثوبا رماديا بسيطا ، وتضع على رقبتها «إيشارب» خفيفا أحمر يلهب لونها الأسمر المحروق وخديها البارزين. وخطت إلى داخل الصالة، في رشاقة طبيعية، وجلست على الكرسي الكبير المجاور لمكتبه في بساطة كأنها تجلس على مقعد في الأتوبيس.
وكانت عيناها تبتسمان في كبرياء عنيد، وفي نظراتها رغم ذلك سحر غريب جامع للسذاجة والذكاء معا، وابتسم في حذر، وهو يثبت عينيه في عينيها ويقول لها بصوت جعله متزنا: «أهلا وسهلا.»
وابتسمت ابتسامة جريئة، وقالت وهي تنظر إلى جبهته العريضة: «أهلا بك.»
ولم يقل شيئا بعد ذلك، أحس من لهجتها الجادة ونظرتها الجريئة أنها مسلحة أكثر من اللازم.
وسمعها بعد دقائق تقول: «فين الحاجات اللي عندك وعاوز تفرجني عليها؟»
Неизвестная страница