فالحق هو الذي لا يكون باطلًا وليس الحق ما كان قائله أوربيًا، فانظر أبدًا إلى ما قيل ودع من قال.
ثم إنك سترى مدينة كبيرة وشوارع وميادين ومصانع وعمارات، فلا يهولنّك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسَك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من رُوّاد باريس. واعلم أنها إن تكن عظيمة وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من أواسط إفريقيا ولا بلدك من قرى التُّبَّت (١)، وإنما أنت ابن المجد والحضارة، ابن الأساتذة الذين علّموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناسًا، ابن الأمّة التي لو حُذف اسمها من التاريخ لآضَ تاريخ القرون الطويلة صحفًا بيضًا لا شيء فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخُ تاريخَه سواهم ... فمَن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك بنت الدهر، لما وُلد الدهر كانت شابة وستكون شابة حين يموت الدهر.
لا، لا أفخر بالعظام البالية ولا أعتز بالأيام الخالية، ولكن أذكره لك لأهزّ فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيّعًا ... إن هذه القوى الكامنة في عروقك نائمة في دمك، فليَفُرْ هذا الدم وليَثُرْ ويضطرم لتظهر ثانية وتعمل عملها.
_________
(١) كذا ضبطها الصحيح، وعامة الناس يخطئون فيلفظونها بكسر التاء والباء. انظر مقالة «طاقة أفكار: تصحيح أخطاء شائعة» في كتاب «كلمات صغيرة» (مجاهد).
1 / 56