نطق القاضي الحكم بالإعدام، وجرائهما ثلاث؛ الفتنة والعار والكفر. وقبل تنفيذ الحكم والصلاة على روحها الغائبة، قالوا بصوت حنون: ماذا تريدين قبل أن تودعي هذه الدنيا؟ قالت: أريد محاكمة علنية ومحاميا شرعيا. قالوا: عندنا معارض شرعي، ولم نسمع عن محام شرعي.
وذهبوا وعادوا وفي أيديهم المعارض الشرعي. وقف أمامها ورأسه ملفوف بعمامة بيضاء، دليل الولاء للعدل، ونجمة حمراء فوق الصدر، الشعار الرسمي لحزب الشيطان. وقال بصوت رخيم: أفندم؟ قالت: أنا بريئة بغير ذنب، وبغير أم وبغير أب و... وقاطعها باضطراب: بغير أب؟ قالت: نعم. قال: هذا بلاء من عند الله،
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . أتعرفين هذه الآية؟ لا أعرفها. قال باندهاش: إنها آية مشهورة جدا، الآية الخامسة والثلاثون من سورة الأنبياء، ألا تعرفينها؟ قلت: لا أعرفها. قال: جهلك بهذه الآية إثم كبير، وعليك حفظ الآية عن ظهر قلب قبل الموت لتدخلي الجنة بدل النار.
وضع يده في جيب سرواله الغالي من أجود الأنواع، وأخرج ورقة وقلما له غطاء من الذهب. أمسك القلم بأطراف أنامله الناعمة كأنامل الزوجات الشرعيات، وكتب بخط يده على الورقة حروفا دقيقة سوداء:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . وأغلق القلم بالغطاء الذهبي ولفه ثلاث مرات، ثم وضعه في جيب سرواله الغالي، وخرجت أنامله الخمسة من جيب السروال ناعمة بيضاء من غير سوء، وقال بصوت رخيم: رددي هذه الآية ثلاث مرات في اليوم قبل الأكل وبعده، وفي اليوم الثالث تجدين نفسك في الجنة بإذن الله.
أمسكت الورقة بأصابعها كالطفلة تمسك قشة في مهب الريح، وحفظت الآية عن ظهر قلب ترددها الليل والنهار. ومن الشق كالثقب في الباب رأتهم يحفرون لها الحفرة في الأرض، وربطوها بالحبال وهي تردد: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وسمعتها آذان الإمام، وكانت له آذان في كل مكان، وقال غاضبا: حتى كلام الله تخطئين في تلاوته؟ قلت: ما الخطأ وهي آية في القرآن؟ قال: كل الأخطاء مغفورة إلا الخطأ في كلام الله؛ فهذه إحدى الكبائر. قلت: وما هو الخطأ في الآية؟ قال: ألا تعرفين الآية الصحيحة؟ قلت: لا أعرفها. قال: الآية الصحيحة هي:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . وأنت تعكسين الآية وتقولين: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وهذا خطأ جسيم في حق الله؛ لأن بلاء الله يكون بالشر وليس بالخير . قلت: لم أعرف الآية الصحيحة. قال: ومن أين لك بالآية الخاطئة؟ قلت: من المعارض الشرعي. قال: أنت كاذبة، والمعارض الشرعي لا يخطئ في كلام الله. دق الإمام الجرس بطرف إصبعه الصغير، فظهر المعارض الشرعي على الفور، رأسه ملفوف بالعمامة البيضاء، وفوق صدره النجمة الحمراء، وقال: أفندم؟ سأله الإمام عن الآية الخاطئة، وأنكر المعارض الشرعي صلته بالمرأة، وقال: أنا لا ألتقي إلا بالنساء الصالحات. وصدقه الجميع من أعضاء حزب الله والشيطان، ولم يصدقوا المرأة الآثمة. أخرجت من صدرها الورقة المكتوبة بخط يده. قالوا: هذا ليس خط يده، وهذه جريمة أخرى، وهي التزوير في آيات الله والأوراق الرسمية. قلت: أقسم لكم أنه كتبها أمامي بقلم له غطاء من الذهب. قالوا: ماذا قلت؟ غطاء من الذهب؟ قلت: نعم، رأيته بعيني. قالوا: أتتهمين المعارض الشرعي بالاختلاس؟ قلت: لا أتهمه بشيء، ولكنه ... وقالوا: ألا تعرفين أن المعارض الشرعي معين بأمر الإمام؟ قلت: لا أعرف، ولكني أريد أن أقول ... وقالوا: وماذا تقولين بعد هذا الذي قلته بلسانك الآن؟ وهذا دليل جديد على أن لسانك هو مصدر الإشاعات، ووجب قطعه من جذوره وفق الشريعة. •••
كانت أذناها قد كفت عن سماع الأصوات، وظلت ثابتة في مكانها بغير حراك، عيناها تلمعان كالنجمين في سماء سوداء، ورأسها مرفوع نحو الله، وإلى جوارها كلبها مرزوق، مرفوع الرأس مثلها، وأذناه منتصبتان مرهفتان يسمع أصواتهم ويتعرف على وجوههم، وينبح بصوت عال حين يرى وجه الإمام. يشده من الخلف من السروال، يمسكه بأسنانه لا يتركه، وهم يشدونه بعيدا عنه دون جدوى. أطلقوا عليه الرصاص في ظهره. سقط إلى جوارها يقبض بين أسنانه قطعة من السروال الغالي من أجود الأنواع.
القوى العظمى
كنت رافعا رأسي نحو السماء رافعا يدي نحو ملايين البشر يهتفون لي حين دوت الطلقات، ورأيت وجهي يسقط من فوق رأسي العاري تحت مقعد العرش. أخفيه في الأرض بعيدا عن عيون الناس. أستبدل به الوجه الآخر له ملامح الإمام، وأنهض مرة أخرى فوق المنصة. لم يلحظ أحد السقوط ولا النهوض، لكن العالم من حولي ليس هو العالم، وفوق صدري لا أرى النياشين ولا الأوسمة، ولا نجمة العدل مشبوكة بالدبوس، ولا خاتم الحكم في إصبعي، ولا أحد حولي من أعواني، ولا أعضاء حزب الله أو الشيطان، حتى زوجتي الشرعية اختفت، وأنا وحدي لا أحد معي، ومن حولي أرض كالصحراء، والنهر على مدى البصر تطل من ورائه هضبة خضراء. قلت أنا في العالم الآخر، وهذه هي الجنة تلوح من بعيد. حلقي جاف منذ الطفولة، والظمأ شديد، وثقتي في دخول الجنة مائة في المائة مثل ثقتي بالله. في جيبي توصية من النبي وبعض صكوك التوبة من بنك الإيمان، أخرجتها كلها من جيبي لحارس الباب رضوان عليه السلام. كان أميا لا يقرأ الحروف المكتوبة. قلت له: أنا الإمام. وألقيت عليه إحدى خطبي المعروفة. لم يفهم شيئا؛ فهو لا يتكلم اللغة العربية. تركني عند الباب أنتظر طويلا تحت شمس حارقة ورأسي عار. سألته: ما بالك لا تحفل بخطبي وكان يحفل بها الناس في كل أنحاء العالم؟ هز رأسه علامة عدم الفهم، ثم لمحت وجه امرأة يقترب من بعيد. تصورت أنها أمي فأسرعت نحوها. لم تكن أمي. كانت زوجتي القديمة. توسلت إليها أن تتوسط لي لدى رضوان. قالت: لن تشفع لك إلا زوجتك الجديدة. قلت: وأين هي؟ عليك بها. ورأيت المنادي ينادي: يا أهل الآخرة غضوا أبصاركم حتى تمر زوجة الإمام. ومرت امرأة بيضاء ملامحها أجنبية في عمر ابنتي، ولها ملامح زوجتي الشرعية، فسلمت عليها وقلت لها: لقد كتبت في الدنيا خطبا كثيرة، كنت أبدؤها باسم الله، وأختمها بالصلاة على النبي، فحق لي بذلك دخول الجنة. وأشارت إلى الصليب فوق صدرها، وقالت: المسيح ومريم العذراء، ألم يرد ذكرهما في القرآن؟ قلت: توسطي لي لديهما. وأشارت إلي أن أتبعها فتعلقت بذيل فرستها. ولم تكن الفرسة تمشي على الأرض لشدة الزحام وكثرة إشارات المرور. رأيتها تطير في الجو لها أجنحة من الفولاذ، ورأس صغير مدبب كرأس صاروخ في آخر طراز. قلت: ما هذا؟ قالت: أنعم الله عليك بطائرة جديدة بدل الفرسة القديمة. ركبت في مقعدي في الصف الأول وإلى جواري رئيس الأمن. ومن شق الباب لمحت وجه قائد الطائرة، مستدير أبيض مليء باللحم ونقط سوداء كالنمش، ولهجته أجنبية. رحبت به كعادتي مع مندوبي القوى العظمى، وقدم لي قطعة من الكافيار في صحن من الفضة، وزجاجة خمر معتقة من أجواد الأنواع. عند الإقلاع جاءنا صوته من سقفها بعون الله، وانبعث من سقف الطائرة لحن راقص وأصابع امرأة تطرقع بالصاجات. تعرفت على وجهها وقلت: جواهر؟ قالت: من هي جواهر؟ قلت: كانت في «بيت السعادة»، وكنت في سن البراءة والطيش. اهتزت الطائرة فربطنا الأحزمة على البطون، وعاد الصوت من السقف يقرأ القرآن، ويدعو الله أن يحمي الطائرة من السقوط أثناء الهبوط، وانزلقت عجلات الطائرة فوق أرض خضراء ملساء ناعمة كالسندس، وقلت: وصلنا الجنة؟
Неизвестная страница