ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم
بداية البحث
لا يعرفون القراءة
نداء الأم
أطفال الله
وجه البابا القديم
مرة واحدة في التاريخ
رئيس الأمن
Неизвестная страница
الزوجة الشرعية
الله مع الإمام
البودي جارد
وجه مزدوج
أول حروف الحب
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
خيانة مشروعة
وكل شيء بغتة
نشوة الحب
حين كان الحب أعمى
Неизвестная страница
معا في الخندق
الخوف الجماعي
حب إلى الأبد
الكاتب الكبير
الإمام متنكرا
الفيلسوف
الحب القديم
إحياء التراث
بنت الله مع الإمام
الإفاقة بعد النشوية
Неизвестная страница
الكاتب الكبير
دليل البراءة
القاضي
الشكوى
القوى العظمى
انتظار الأم
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
الحب المحرم
العشيقة
جواهر
Неизвестная страница
الأم والابنة
المحاكمة
ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم
بداية البحث
لا يعرفون القراءة
نداء الأم
أطفال الله
وجه البابا القديم
Неизвестная страница
مرة واحدة في التاريخ
رئيس الأمن
الزوجة الشرعية
الله مع الإمام
البودي جارد
وجه مزدوج
أول حروف الحب
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
خيانة مشروعة
وكل شيء بغتة
Неизвестная страница
نشوة الحب
حين كان الحب أعمى
معا في الخندق
الخوف الجماعي
حب إلى الأبد
الكاتب الكبير
الإمام متنكرا
الفيلسوف
الحب القديم
إحياء التراث
Неизвестная страница
بنت الله مع الإمام
الإفاقة بعد النشوية
الكاتب الكبير
دليل البراءة
القاضي
الشكوى
القوى العظمى
انتظار الأم
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
الحب المحرم
Неизвестная страница
العشيقة
جواهر
الأم والابنة
المحاكمة
سقوط الإمام
سقوط الإمام
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
Неизвестная страница
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء، حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات، قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي، حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العذرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
Неизвестная страница
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - إزاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الإهداء
Неизвестная страница
إلى:
شهربانو شيراز الإيرانية
وفاطمة تاج السر السودانية
وكوليت عيتاني اللبنانية
واعتدال محمود المصرية
وإلى جميع البنات والأولاد
في الطفولة وأول الشباب وآخره،
أهدي هذه الرواية.
ن. س.
تقديم
Неизвестная страница
وأنا طفلة كنت أرى وجه الله في أحلامي كوجه أمي شديد العدل، وكوجه أبي شديد الرحمة، لكن زميلتي فاطمة أحمد في المدرسة كانت ترى وجه الله في أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة، وكوجه عمها شديد الظلم.
واكتشفت وأنا طفلة أن وجه الله يتراءى لزميلاتي الأطفال كوجه الأب أساسا، وكوجه الأم أحيانا؛ فالمشكلة أن الله لا يرى بعين الأطفال ولا الكبار، وما من وسيلة لرؤيته إلا في النوم، وبالوجوه التي نراها لأقرب الناس لنا.
وقد حاولت أن أكتب هذه الرواية وأنا تلميذة بالمدرسة، لكني لم أعرف كيف أكتبها. الفكرة في رأسي والأحاسيس والشخصيات، لكن اللغة لا تساعدني. وعاشت معي هذه الرواية تطاردني، وزاد إلحاحها علي في السنين العشر الأخيرة، ترمقني عيون أشخاصها في اليقظة وفي النوم، وحين أسافر خارج الوطن أو داخله، وحين التقيت بشهربانو شيراز الإيرانية، وحكت لي عن اغتصاب ابنتها الطفلة في السجن، وحين التقيت بفاطمة تاج السر السودانية، ورأيت ابنها الغلام وزملاءه في جمعية مقطوعي الأيدي بعد تطبيق الشريعة، وبعد أن عشت ثلاثة شهور في السجن في مصر مع اعتدال محمود وغيرها من البنات، كانت هذه الرواية تطاردني، وكلما رأيت وجه أحد الحكام يطل من الصورة، أو رأسه يطل من تحت العمامة المقدسة أو القبعة العسكرية، أو عيونه ترمقني في الحلم وأنا نائمة، وكلما سافرت إلى لبنان ودوت في أذني قنابل حزب الله، ترد عليها من الناحية الأخرى قنابل حزب الشيطان، وحين سافرت إلى مكة وقرأت الإعلانات فوق الجدران أهلا بضيوف الرحمن، ومن وراء الجدار أرى الرجل والبنت كالغلام وثالثهما الشيطان، وفي قريتي كفر طحلة حين كنت أرى وجوه بنات عماتي الفلاحات، وفي القناطر حين رأيت وجوه القاتلات المؤبدات، وفي مشرحة كلية الطب ومستشفيات وزارة الصحة، وفي الأردن والسلط وشريط القنال حيث جبهة القتال، وفي وجوه الأطفال يشربون اللبن ويموتون بالخوف من الإشعاع النووي، أو يخافون الضوء كأنه الإشعاع، وفي وجوه الأطفال البنات المختفية وراء حجاب أسود، أو في احتفالات الأعياد ومهرجانات الانتخابات والاستفتاءات، أو في جلسات استحضار الأرواح وطرد الجان وظهور العذراء، ورش أثواب النساء المحجبات بصورة الصليب، وألسنة النيران تطل من قباب الكنائس ومنارات الجوامع، وظلت الرواية معي وأشخاصها تطاردني. وكلما جلست لأمسكها وأكتبها تفلت من بين أصابعي، وتنزلق كالزئبق، وخاصة شخصية الإمام؛ فهي شخصية زئبقية، اتبعت معي أسلوب الكر والفر والإقبال والإدبار. إذا اقتربت منها تبتعد، وإذا ابتعدت عنها تقترب. وشخصية المعارض الشرعي أيضا راوغت كثيرا، إلى حد أنني فكرت في حذفها والاستغناء عنها، لكن يد الإمام كانت تمتد وتجذبها إلى جواره يمسكها لا يريد حذفها، وإلا افتقدت الرواية الديمقراطية.
كانت شخصيات البنات والنساء أكثر ثباتا واستقرارا، لكن اسم بنت الله أثار في القلق ليالي طويلة، وحاولت أن أغير اسمها؛ فهو اسم ينتهك المحرمات في حد ذاته، فكيف تجرؤ فتاة أن تحمل اسما محرما (إلى جانب حملها جنينا غير شرعي)؟ وقد يباح في المسيحية أن نسمع اسم ابن الله وهو المسيح، لكن أن نسمع اسم بنت الله فهذا غير وارد تماما، لكن بنت الله سألتني في الرواية: ماذا لو كنت مريم العذراء، وولدت بنتا وليس ذكرا، ألا تكون ابنتي هي بنت الله ويسمونها المسيحية، وتصبح واحدة من الأنبياء؟
ووجدت صعوبة في تغيير اسم بنت الله؛ لأن الناس كانت تناديها بهذا الاسم منذ ولادتها حتى موتها رجما بالحجارة. وانتهى بي الأمر إلى ترك الرواية ونبذها تماما من حياتي، فكيف تفرض علي الشخصيات نفسها وأسماءها؟ وأغرب شيء أنني حين نبذتها وتركتها بدأت تأتي إلي وتسلم لي قيادها، تعطيني نفسها طواعية، وحين جلست إلى الورق وجدتها وكأنما هي تكتب نفسها بنفسها، ولم أحاول التدخل في حياة الشخصيات الخاصة أو العامة، إلا لأمنع بعض المحرمات اللغوية، أو انتهاك بعض القيم الإنسانية، وخاصة من جانب شخصية الإمام ذاته، ولم يكن في مقدوري أن أترك له السلطة المطلقة في الرواية كما في الدنيا، وقلت لنفسي: في روايتي على الأقل يكون لي بعض الحرية وبعض السلطة.
القاهرة، فبراير 1987م
بداية البحث
ليلة العيد الكبير، بعد المطاردة الطويلة وقبل أن يطلع الفجر، أصابني أحدهم من الخلف. كنت أجري في الظلمة أبحث عن أمي وليس معي إلا كلبي. أصابوني بالطعنة في ظهري. استدرت وأعطيتهم وجهي فإذا بهم يتلاشون، لا يستطيعون النظر إلى ضوء الشمس، ينامون النهار، وفي الليل ينهضون، لا يعرفون شرف المبارزة أو الحرب، وفي الظهر يضربون.
قبل أن أسقط وأنسى الحروف تساءلت: لماذا تتركون الجاني وتقتلون الضحية، ولا زلت في أول الشباب وأمي ماتت عذراء؟ قالوا: أمك ماتت مرجومة بالحجارة وأنت بنت الزنا. قلت قبل أن أنسى الحروف وأفقد الوعي: لم أكن بنت الزنا، وكانوا ينادونني في بيت الأطفال «بنت الله»، ومهما فقدت الذاكرة لا أنسى وجه أمي، تركتني منذ ولدتني لتحارب الأعداء، ماتت شهيدة الوطن. قالوا: لم تعرف أمك الولاء للوطن والله والإمام، وماتت كافرة مأواها النار. قلت قبل أن يخلو الدم من عقلي وتضيع الذاكرة: لم تكن أمي خائنة، وهرب منها أبي قبل أن أولد. قالوا: ومن هو أبوك؟ قلت: إنه الإمام. قالوا: اخرسي قطع لسانك.
قبل الموت حكموا عليها بقطع اللسان، كان الإمام يحكم بشريعة الله؛ رجم الزانية وقطع يد السارق، وقطع لسان كل من يردد إشاعة الموت بالإشعاع وإلقاء الخمور في النهر.
Неизвестная страница
ليلة العيد بعيدا عن عيون الإمام يهبطون إلى النهر ويشربون إلى حد فقدان الوعي، ثم ينهضون وقد عاد إليهم الوعي، يندمون، يطلبون المغفرة. يعفو عنهم الإمام ليلة العيد الكبير. تفتح أبواب السجون والمعتقلات، يخرج منها الموتى وشهداء الحرب والإشعاع والمرجومات والمقطوعو الأيدي والأرجل من خلاف، ويأتي دورها لتخرج إلى الحرية، لكن عيون الإمام تلمحها. تجري هاربة في الظلمة ومن خلفها كلبها، تكاد تفلت قبل طلوع الفجر لكن الطعنة تصيبها في ظهرها. قبل أن تسقط تتساءل: لماذا تتركون الجاني وتذبحون الضحية؟! وتتلاشى الأصوات، ويصبح عقلها بلون الظلام، وذاكرتها سوداء أو بيضاء بلا حرف إلا اسم أمها.
لا يعرفون القراءة
الظلمة داكنة، لا شمس ولا قمر، لا يعرفون هل هو الليل أم نهار مظلم في غابة كثيفة الشجر، ضوء خافت ينفذ يشبه الكشاف في يد الخفير أو رئيس الأمن. في الضوء يرون الجسم يركض جريا، يدركون من حركة الجري فوق ساقين اثنتين أنها إنسان وليست من ذوات الأربع، يرون أنها امرأة وليست رجلا؛ نهدان بارزان منتصبان فوق الصدر، شابة في أول الشباب، عظامها صغيرة، وبشرتها ناعمة كبشرة الأطفال، سمراء بلون طمي النهر، طويلة الوجه مسحوبة العينين كالإلهات القديمة، عيناها واسعتان والنني أسود كعين الليل، قدماها صغيرتان حافيتان لا تكفان عن الجري، يدها اليمنى تمسك شيئا طويلا يشبه الغصن، عارية كما ولدتها أمها، عورتها مختفية في الظلمة تحت ليل أسود أو ورقة داكنة الخضرة، جسمها يلمع في الضوء وهي تجري كالسمكة تشق الكون نصفين، وميض برق يظهر ثم يعود الليل كما كان، تختفي هي وكلبها وتكاد تفلت.
لكن الظلمة تنشق عن فرقة من عيون الإمام يتقدمهم رئيس الأمن، طابور من الرجال أجسامهم ضخمة يغطيها الشعر، يمسك كل منهم في يده اليمنى قطعة حجر أو آلة قتل مدببة، يجرون في إثر البنت. هي أقدر منهم على الجري، هي أدرى منهم بأسرار المكان، المكان مكانها حيث ولدت وحيث ماتت.
كادت تفلت لولا أنها توقفت تملأ صدرها بهواء المكان.
لم تطل دهشتي حين توقفت لأول مرة بعد الهزيمة في الحرب الأخيرة، منذ ماتت أمي، في منعطف طلعة الهضبة بين البحر والنهر، في الطريق من البيت إلى الجبهة، فلتت مني شهقة حين صعدت الهضبة، سقط الغصن من يدي وارتج قلبي، وهتفت بأختي التي كنت أعلم أنها قادمة بعدي. عشرون عاما منذ ولدت وأنا أحلم بهذه الطلعة، رائحة الهواء لم تغب عن ذاكرتي، أتذكر كل منعطف في الأرض، وهذه النخلات الثلاث، وشجرة الجميز، والهضبة فوق الوادي الأخضر، وهواء البحر. إنني أستنشق رائحة أمي. هذه الأرض وطني.
كادت تفلت لولا أنها توقفت لتملأ صدرها برائحة حياتها. أصابتها الطلقة في ظهرها. نفذت كالسهم من الظهر إلى القلب. سقطت إلى الأرض تنزف وإلى جوارها كلبها. فزعت العصافير وملأت صيحاتها الكون. ارتفع صياح الديكة والغربان. والحمير صعد نهيقها في السماء. شاركت الكلاب النباح. كان الفجر على وشك الطلوع. نهض رجال يرتدون جلاليب بيضاء ولحى طويلة سوداء. ركبوا مكبرات الصوت فوق المنارات، والقباب تتدلى منها أسلاك الكهرباء، وانطلق الصوت كالرعد يحث الناس على الصلاة ومبايعة الإمام ، ثم انقطع الصوت فجأة بانقطاع التيار الكهربائي. عاد الهدوء والصمت وظل الناس نياما، انتهت الجريمة في الظلام لم يشهدها أحد، لكن الكون شهدها والأشجار والهضبة بين البحر والنهر. ظلت محفوظة في قلب صخرة في بطن الأرض، العام وراء العام. ظلت تعيش على شكل صخرة وإلى جوارها كلبها، تحجر الجسم الحي (هذه حقيقة علمية. وفي التاريخ عاش أهل الكهف مع كلبهم في بطن الأرض ثلاثمائة عام).
لكنها بنت وحيدة وليس معها رفيق إلا كلبها (وأخوات قادمات من بعد)، والكون يشبه الكون الذي نعيش فيه اليوم، السماء والأرض والشجر والبيوت والنهر والبحر، قلت: أهو البحر الأبيض المتوسط، أهو نهر النيل؟ قالوا: الأسماء هنا تختلف، والزمن يختلف، لكن المكان واحد، والشمس واحدة، وسنابل القمح واحدة، والجاموسة سوداء البشرة لها أربع أرجل، أراها من بعيد وهي تهبط إلى النهر، تسبح في الماء وظهرها يلمع تحت أشعة الشمس، تغمض عينيها في راحة واستمتاع، تخرج من النهر تتمشى في استرخاء، تقف عند حقل البرسيم وتأكل، تمضغ على مهل وتهز ذيلها، ترهف أذنيها لصرير الساقية وترمق المرأة المربوطة بالحبل وعيناها معصوبتان، تدور مع الساقية ومن خلفها رجل في يده عصا من الخيزران، يلسعها على ردفيها كلما توقفت، أفلتت مني الشهقة كالدهشة، المرأة تدور في الساقية والجاموسة تتنزه. قالوا: القانون هنا العرض والطلب، ثمن الجاموسة في السوق أغلى من ثمن المرأة، يملك الرجل أربع نساء وليس له إلا جاموسة واحدة، والحقول الخضراء ممتدة كالشريط الطويل بحذاء النهر، طابور من الجاموس يسبح تحت الشمس، من وراء الشريط الأخضر الصحراء ثم جبل الرمال الأصفر، إذا ذهبت ناحية الهضبة هناك قطاع الطرق، الضبع والنسر كلاهما لا يأكل إلا الميت، لا يأكل اللحم الحي إلا ابن آدم، النمور تأكل الغزلان وتأنف لحم الإنسان. لحم الغزلان نادر، ولحم بني آدم كثير بلا عدد. التماسيح خائنة، والثعابين ملتوية ناعمة من السطح وسمها قاتل. لا يعرف الوفاء هنا إلا الكلاب. والظلمة لا تزال داكنة. حشرات على شكل بعوض أو جراد أو فئران. زواحف وكائنات تجري فوق أربع أرجل. أين الناس؟ لا أرى أحدا. البنت المقتولة اختفت، والقتلة اختفوا أيضا. قلت: ألا يوجد هنا بشر؟ قالوا: البشر هنا بالملايين، كالهوام في الجو، لا ترينهم بالعين المجردة. يعيشون في كهوف في بطن الأرض، بيوت على شكل قبور، يخافون الضوء، يتصورون أنه النار. يخافون شعاع الشمس، يظنون أنه الإشعاع النووي، شر قادم من وراء البحار، ترسله القوى العظمى في لبن الأطفال، أو غضب من عند الله، ولماذا يغضب عليهم الله؟ لا أحد يعرف. لا يعرفون جريمتهم. لا يعرفون كلمة الله؛ فهي كلمة مكتوبة، وهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا الكلمات، مجرد همهمات أو صيحات أو هتاف أو صراخ. قلت: ألا يمكن الحديث إليهم؟ قالوا: نعم، إذا عرفت لغتهم، وإذا ارتديت زي رجل أو أخفيت عورتك وراء حجاب. قلت بدهشة: أي عورة وأنا أرتدي ملابسي كاملة؟ وأشاروا بأصابعهم المدببة إلى وجهي. أصابني ذعر، وارتج لساني، قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: كلمة الله مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة، فكيف عرفتم كلمة الله؟ سكتوا طويلا، نظر بعضهم للبعض، رفعوا عيونهم نحو السماء، أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق قوس النصر. قلت: من هو؟ شهقوا بدهشة: ألا تعرفينه؟ صورته معلقة في كل مكان؛ في الشوارع، على الجدران، في الدكاكين، فوق أقواس النصر، اسمه «الإمام»، وهو في كل مكان. قلت: من يكون في كل مكان لا يكون في أي مكان. قالوا: بايعناه مدى الحياة، سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام.
نداء الأم
في طفولتي وأنا نائمة كان الله يزورني، وله صوت حنون كصوت أمي. وحين سمعت دوي الطلقات ورأيت صورة الإمام تسقط بدأت أجري. لم أكن أخاف الموت؛ فالموت أمره سهل إذا حدث في لحظة خاطفة؛ فصل الرأس عن العنق بضربة سيف، اختراق الرصاصة القلب بطلقة واحدة. أما الموت البطيء فهو الرعب الحقيقي؛ يربطونني بالحبال داخل حفرة في الأرض، يقذفونني بالحجارة حجرا وراء حجر، يوما وراء يوم، خمسين يوما أو مائة أو ألفا، وإن مات جسمي فلن تستسلم روحي. يرهقهم الرجم بالأحجار قبل أن أموت، تنزف أيديهم الدم قبل أن تفرغ شراييني، تمتص روحي ذرات التراب والرمل، يتحول جسدي إلى صخرة يرتد عنها الحجر. ومن بعيد أرى الصخرة منتصبة فوق الهضبة بين البحر والنهر، واقفة في الظلمة تنتظرني، منذ ولدتني وهي واقفة تنتظرني، عشرون عاما وهي لا تزال منتصبة وظهرها مرفوع، صوتها كالهمس، كحفيف الهواء والشجر، كالنداء الخافت ينبعث من بطن الأرض: بنت الله، تعالي. كانوا يسمونني بنت الله، وكلبي اسمه مرزوق، رافقني منذ ولدتني أمي، ظل معي حتى النهاية، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يقرأ كلمة الله، لكنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة، يعرف أنني بريئة من دم الإمام. وكيف أقتله وهو أبي المجهول، ولولاه (بالإضافة إلى أمي المجهولة) ما كان وجودي؟ لم يعرف أحد أنني ابنته إلا أمي ومرزوق. رآها وهي راكعة فوق الأرض تنشج ببكاء مكتوم، ورآه وهو يخرج هاربا في الظلمة. عرف وجهه وحفظ ملامحه، أصبح كلما رأى صورته معلقة في الجو ينبح بصوت عال. لم يفهم الناس نباحه؛ فالناس لا تعرف لغة الكلاب، لكن الكلاب تفهم لغة البشر، ولها مثل البشر ذاكرة تحفظ التاريخ. وظل مرزوق يحفظ شكله وهو يخرج هاربا. جرى خلفه وأمسكه من الخلف. مزق سرواله من فوق الإلية اليسرى، واستقرت قطعة من القماش الدمور بين نابيه. لونها كاكي كملابس عساكر الجيش، ورائحتها عرق وعطر رخيص. ترك القطعة وراءه وانطلق يجري خائفا من الكلب، قدماه وهو يجري لهما وقع مسموع، في كعب حذائه حدوة من الحديد. لم يكف عن الجري ووجهه نحو السماء، أمله في الله كبير، انصرني يا رب على أعدائي وحقق لي آمالي. عيناه الجاحظتان مملوءتان بالآمال العريضة. شفتاه سميكتان فيهما نهم لامتلاك الكون. عرش في السماء وعرش في الأرض. قصر يطل على البحر في الصيف، وقصر الشتاء في الجنوب، وقصر في الجنة تجري من تحته الأنهار وغلمان وحور. طرف لسانه جاف وظمؤه شديد. فمه مفتوح يلهث ويجري بلا توقف . حرمانه قديم منذ الطفولة لا يهدأ، ورغبة الامتلاك كالمرض المزمن لا تشبع، والأمل في الله بغير حدود. علامة الإيمان فوق جبهته دائرة محفورة مرسومة، في يده اليمنى مسبحة حباتها صفراء، فوق ردفه الأيمن الجراب الطويل داخله السيف، يده اليسرى فوق الردف الأيسر تخفي الثقب في السروال.
Неизвестная страница
اختفى في الظلمة يتمتم بآيات الحمد لله. أنفاسه تفوح بالخمر وعرق امرأة فقيرة. ارتفع نباح مرزوق في الليل، لم يسمعه أحد. كانت صواريخ العيد تدوي في الآذان، والإمام يخطب في مكبرات الصوت. يبدأ باسم الله وينتهي بالصلاة على النبي. يتفرقون بعد الخطبة ويختفون في البيوت، في رءوسهم نشوة النصر، وفي حلوقهم مرارة الهزيمة. يظهر في الشوارع رجال يحملون السكاكين، كل منهم ينادي بصوت عال: جزار. ويعم الصمت والوجوم، ثم يرتفع من كل بيت صراخ الضحية، ودخان كثيف، ورائحة شواء اللحم. بعد الأكل يرتدون الملابس الجديدة، وأحذية في كعبها حديد كالحدوة. يدبون فوق الأرض حامدين الله على النعم. في اليد اليسرى مسبحة، وفي اليد اليمنى حجر. حان موعد رجم الشيطان.
ربطوها بالحبال، صنعوا من حولها دائرة، تسابقوا في الرماية وإصابة الهدف، نقطة الوسط فوق علامة الشيطان، الفائز الأول له وسام الشرق وقصر صغير بجوار قصر الإمام وحوريات.
الأرض من تحتها باردة، رائحة تراب في أنفها، مربوطة في الأرض، صدرها مكشوف، الركبتان والذراعان مفتوحتان، في أذنيها صوت الطبول، صواريخ العيد، ضحكات الأطفال والبالونات الملونة. تفتش في وجوه الأطفال عن وجه ابنتها، تلمح الوجه الصغير الشاحب، تلوح لها بيدها وتنادي بصوت كالحفيف: بنت الله، تعالي.
منذ ولدتني أسمع نداءها مع حركة الهواء وأوراق الشجر. صوتها في ذاكرتي نقش فوق الحجر. واقفة في الظلمة بلا حركة، صخرة على شكل تمثال، متشحة بغلالة سوداء تخفي معالم الجسم. من حولها دائرة ضوء مجهولة المصدر. يداها الكبيرتان فوق صدرها، تخبئان شيئا عن الكون. أصابعها منقبضة على موضع القلب. ملامح الوجه ثابتة في ارتخاء. وهبت حياتها دون مقابل. ألم الاكتشاف في العينين. الصدمة راحت ولم يبق إلا الحزن، كالضوء أو الرؤية الجديدة للكون. جسمها نحيل بريء من اللحم، كالروح أو الخيال، بلا حاجة إلى حركة أو لغة. ملموسة باليد داخل كتلة من الهواء. رأسها مرفوع. فقدت كل شيء ولم تخسر نفسها، على شفتيها ابتسامة. عرفت السر وهتكت حجب السماء. عذابها محفور فوق عظام الوجه. عيناها واسعتان مملوءتان بالبريق، ترقبان انطفاء الضوء الأخير.
وأغلق حارس الإمام آخر أبواب القصر. تمتم بآية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان. دب السكون في الليل. نام الإمام ونامت عيونه، الشياطين نامت، والملائكة نامت، والآلهة نامت، وأوراق الشجر نامت، وهي لا تزال واقفة تتلفت حولها. لا أحد يراها. انثنى جسمها وكاد رأسها يلامس الأرض. انتزعت من صدرها الشيء المخبوء. ساوت الأرض بكفها الكبيرة الحانية مثل كف الله. أبعدت قطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم، وأرقدتني.
كنت نائمة. وجهي شاحب يطل من فتحة ثوب أبيض. عيناي مغمضتان. صدري يعلو ويهبط في أنفاس الأطفال العميقة. يدي تطل من فتحة الكم مفتوحة الكف. ابتهال في النوم كالنداء الصامت. خلعت شالها الصوفي الأسود وحوطتني. لامست يدي إصبعها فأمسكته بأصابعي الخمس لا أتركه. تركت إصبعها في يدي طويلا بطول الليل، بطول النفس العميق في صدر الأم، ثم بدأت تسحبه شيئا فشيئا، والدم ينسحب من قلبي قطرة قطرة. ارتج جسدي لحظة الانفصال، وصحوت من النوم. رأيتها واقفة تطل علي، رأسها في السماء وعيناها نجمان يلمعان في الليل، ثم استدارت، ظهرها مرفوع، خطوتها واسعة، لا سريعة ولا بطيئة، تحرك ذراعيها في الهواء كأنما تملك الهواء. ابتعدت شيئا فشيئا ثم اختفت دون أن ينقص حجمها.
أطفال الله
حين دوت الطلقات رأيته يسقط، وفي لحظة السقوط تغير وجهه. أصبح له وجه آخر. ليس هو الوجه الذي عرفته؛ وجه غريب لم أره من قبل. ليس وجه رجل ولا أب ولا إمام، ليس وجه إنسان ولا حيوان، كالوجه المخيف في كوابيس الطفولة، وحكايات الجدة العجوز أرضعتني مع اللبن حكايات العفاريت والجان. جدتي الحقيقية لم أرها مثل كل الأطفال في ذلك البيت. أطفال كثيرون بلا أم ولا أب ولا جدة، يسمونهم أطفال الله، وأنا اسمي بنت الله. لم أكن رأيت الله وجها لوجه. تصورت أن الله هو أبي، وأمي هي زوجة الله. وفي النوم أرى أمي واقفة تنتظر الله. الليل مظلم والناس نامت وهي واقفة، وأنا راقدة ورأسها عال في السماء. عيناها مليئتان بالضوء وصوتها كالهمس: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأسير حافية نحو الصوت. يأتي من بعيد من وراء الباب. أفتح الباب وأنظر، لا أحد. أسير في الممر الطويل حتى نهايته، لا أحد. باب آخر مغلق لا ينفتح. النافذة مفتوحة تطل على الفناء. أصعد إلى النافذة بقفزة واحدة. أسير على حافة الجدار. أمد ذراعي أمامي وجسمي يحفظ توازنه. حركتي خفيفة كالريشة. قدماي لا تلامسان الأرض. كالروح بغير جسد أسير على الحافة دون أن أقع، ثم أقفز في الفناء فوق يدي وقدمي كالقطة. أتوقف في الظلمة أتسمع الصوت. من وراء الباب يأتيني الهمس. باب من الخشب طلاؤه أخضر بلون الزرع، مفتوح عن شق صغير ينفذ منه ضوء. - من هناك في الظلام؟ - أنا. - مين انت؟ - بنت الله. - تعالي يا بنت الله.
أدخل إلى الغرفة الصغيرة نصف المعتمة. زوجة الحارس واقفة وراء الباب. يداها ممدودتان نحوي بلون الأرض. جلبابها أسود واسع. رأسها مربوط بمنديل أبيض. عيناها واسعتان تلمعان. وجهها ناعم كصدر الأم. أنفاسها تعلو وتهبط في نشيج خافت. ثدياها مملوءان باللبن. الحلمة السوداء منتصبة نافرة، تضغطها بين إصبعين تعتصر الألم. قطرات اللبن تتساقط قطرة قطرة. فراش طفلتها إلى جوارها خال. زوجها نائم شخيره مسموع. وجهه مليء بالتجاعيد والشعر، متكور تحت بطانية منحولة الوبر. رأسه يطل من تحتها منحول الشعر. جفناه مغلقان انفتحا فجأة ورآني بين ذراعيها. حملق في وجهي بعينين حمراوين، وصاح: ليست بنتي، بنت مين هي؟ قالت إنها بنت الله. ارتفع كفه في الهواء وسقط على وجهها: يا زانية يا بنت الزانية. •••
فتحت عيني في الظلمة. أسرة كثيرة تطل منها رءوس الأطفال. إلى جواري سرير طفلة من عمري اسمها نعمة الله، أقول لها أختي. شعرها أسود ناعم يطل من تحت الغطاء. عيناها مفتوحتان. أنفاسها متقطعة كالنشيج، تهمس بصوت خافت: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأنام إلى جوارها. تحوطني بذراعيها وجسمها يرتعد: أنا خائفة. ماذا تخافين؟ أخاف الله. لماذا؟ لا أعرف. ألا تخافين الله؟ أنا بنت الله، فهل أخاف من أبي؟ تلف ذراعيها حولي، وتحت أذني قلبها يدق. صدرها ناعم كصدر الأم. ننام متعانقتين حتى الفجر. قبل شروق الشمس توقظني: بنت الله، عودي إلى سريرك.
Неизвестная страница
كانت الأوامر مشددة. النوم له موعد محدد وجرس، لا أحد يغادر السرير بعد النوم. إذا ضبطت اثنتان في سرير واحد فالعقاب شديد. غرفة التأديب في الفناء الخلفي. سمعت عنها قصصا مخيفة. أمام بابها يقف رجل طويل ضخم. رأسه يلمع تحت الشمس بغير شعر. وجهه عريض يغطيه الشعر. عيناه ضيقتان غائرتان. في يده اليمنى عصا طويلة، وفي اليد اليسرى مسبحة صفراء.
في الليل تحوطني أختها بذراعيها. تنشج بصوت مكتوم وتحكي قصة أمها. زارها الله في الحلم وحملت منه مثل مريم العذراء. ارتدت ثوبا واسعا لتخفي ارتفاع البطن. ولدتها في الليل بعد أن نام الناس، لكن عيون الأم رأتها. ربطوها بالحبال ورجموها حجرا حجرا. قلت لها وأنا أعانقها: إذا كان الله هو السبب، فلماذا يقتلونها؟ ولا تعرف نعمة الله الجواب. يغلبني النوم دون أن أعرف السر. في الحلم يتراءى لي الله على شكل رجل. واقف في الظلمة ويده اليمنى خلف ظهره. رأسه يلمع تحت الضوء بغير شعر ووجهه يغطيه الشعر. يرتعد جسمي تحت الغطاء وعيناي مغلقتان. يحرك يده اليمنى خلف ظهره، يرفعها أمامي ويفتح أصابعه. ليس في يده العصا. يهمس بصوت ناعم: بنت الله، تعالي. يقترب مني حتى يلامسني بيده. أتحسس كفه الكبير الحاني. بشرته ناعمة كصدر الأم. أضع رأسي على صدره وأغمض عيني. يده تربت على وجهي، ثم تهبط لتربت على صدري وبطني. رجفة غامضة تهزني وقشعريرة. يهمس بصوت ناعم: لا تخافي، أنا الله وسوف تلدين المسيح.
أصحو من النوم والدنيا ظلام. جسمي مبلل بالعرق وله رائحة الله. الرجفة لا تزال والقشعريرة. يدي تزحف فوق بطني أتحسس الحمل. شيء في أحشائي يتحرك كالجنين. قلبه يدق تحت يدي مع دقات قلبي. الظلمة كثيفة والفجر لم يطلع. ضوء خافت يتسلل من شقوق النافذة. السقف عال رمادي، يتدلى منه سلك النور. فوق السلك ذباب أسود ناعم. رءوس الأطفال سوداء صغيرة تطل من تحت الأغطية. أختي نائمة وشعرها يغطي وجهها. أغمضت عيني لأنام. رائحة الله في أنفي. صوته كالهمس في أذني، يده خلف ظهره، لكني لم أعد أخاف؛ فهو لا يحمل العصا، ويده ناعمة كصدر أمي. ما زال يقترب مني بخطوات بطيئة. وجهه يظهر تحت الضوء. ليس الوجه الذي رأيته. عيناه حمراوان فيهما شرر، وأصابع يده غليظة حديدية تلتف حول عنقي. أحاول الجري وجسمي مربوط في الأرض. أفتح فمي لأنادي على أمي، صوتي لا يطلع، وفي أذني الدوي.
ما هذا الصوت؟ صواريخ العيد؟ زغاريد أم صراخ؟
وجه البابا القديم
سمعت الطلقات بأذني ورأيت الإمام يسقط. وجهه كان معلقا في السماء يعكس شعاع الشمس. دوى الصوت كالرعد وتحول الضوء إلى إشعاع نووي. أصبح وجهه ناحية الأرض بلون التراب. فوق المنصة كان وجهه مضيئا كوجه الله. انقلب عند السقوط وأصبح داكن اللون كوجه الشيطان. لم أكن رأيت الشيطان من قبل وجها لوجه، لكني رأيته في الحلم وحكايات الجدة العجوز. نتجمع حولها في الليل قبل جرس النوم. تحكي لنا عن الشياطين وأرواح الجان. كنت لا أزال في بيت الأطفال، لا أعرف وجه أمي ولا أبي. وجه الله أراه في النوم مزدوج الوجه، ناعما كصدر الأم من ناحية، ومن ناحية الأخرى مخيفا يغطيه الشعر. يتجسد لي دائما على شكل رجل؛ أول رجل رأيته في حياتي. كان الأطفال يسمونه «البابا». يظهر فجأة. لا أراه داخلا أو خارجا من الباب الخارجي. يقف وسط الفناء فاتحا ساقيه كأنما انشقت عنه الأرض أو سقط من السماء. عضلات وجهه لا تتحرك. رأسه بغير شعر يلمع تحت الضوء، وجهه يغطيه الشعر ولحيته طويلة. يرتدي قميصا أبيض مفتوحا عند الصدر. يطل من فتحة العنق شعر كثيف أسود. عظام صدره كبيرة، والثدي عريض مشدود العضلات بغير لحم. فوق كل ثدي نقطة سوداء كالحلمة الضامرة، يشف سوادها من تحت القميص الخفيف. حول خصره حزام عريض من الجلد، يضغط بطنه في عظام الظهر. ردفان ضامران داخل سروال من الجلد. عظام ساقيه بارزة مقوسة تحت الركبة. فخذاه متقلصان كفخذي النمر، يلتقيان أسفل بطنه في ورم صغير بحجم الليمونة.
لم تكن يده اليمنى تخلو من العصا، واليد اليسرى تقبض على ذراع طفل أو طفلة. يجرها خلفه إلى غرفة التأديب. يغلق عليها الباب ثم يعود إلى الفناء. يجلس على الكرسي الخيزران وينادي على الأطفال. نتجمع من حوله فوق الدكك الخشبية، وتبدأ حصة الدين. يقرأ بصوت بطيء غليظ. يد تمسك العصا، واليد الثانية تمسك كتاب الله:
قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد . أغمض عيني وأنام. أرى النفاثات في الحلم على شكل نسور سوداء تحلق في الجو. أصحو على صوته كهدير الطائرة النفاثة، يسأل: ما عقاب السرقة؟ ويهتف الأطفال في نفس واحد: قطع الذراع. وما عقاب الزنا؟ ويرن صوتنا في الفناء: الرجم بالحجارة حتى الموت. ويدب الصمت حتى يسمع كل منا أنفاس الآخر. نعمة الله جالسة إلى جواري، ترمقني بعينين تتسعان لذعر العالم: ما هو الزنا؟ وأغمض عيني كاتمة أنفاسي هاربة في النوم، ثم أصحو على صوته يقرأ مرة أخرى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له ... . وتقترب مني نعمة الله حتى يلتصق رأسها برأسي، وتهمس في أذني: ألم يلد الله المسيح؟
صوتها كان خافتا كزفير يخرج من الصدر، لكن عينه الغائرة اتجهت نحونا، وارتفع صوته في الجو: من التي تكلمت؟ ولم أعد أسمع شيئا إلا صوت العصا تلسع الهواء، ورأيت خروف العيد مربوطا من ساقه الأمامية بحبل في الأرض. يشد ساقه محاولا الخلاص ويمأمئ بصوت عال. عيون الأطفال تتجه خلسة ناحية الخروف. آذانهم تتابع الصوت البطيء الغليظ يقرأ القصة. في النوم زار الله الأب وأمره أن يذبح ابنه. أمسك الأب عنق الابن ووضع فوقه السكين.
Неизвестная страница
وانكمش الأطفال متكورين بعضهم داخل البعض فوق الدكة الخشبية. امتدت العصا طويلة لامعة كالسكين، واستقرت فوق عنق فضل الله، جالس إلى جواري متكور حول نفسه كالجنين. يده في يدي باردة مثلجة وأظافره زرقاء. ركبتاه مرفوعتان فوق الدكة عاريتان، يشد عليهما طرف جلبابه الدمور. وجهه خال من الدم. الدكة الخشبية من تحته تهتز. صوت الصرير كالأسنان تصطك بالبرد. أمسكت يده في يدي وتساءلت بصوت غير مسموع: ماذا فعل الابن ولماذا يذبحه أبوه؟ لكنه سمعني. كان يسمعنا قبل أن ننطلق ويرانا دون أن نراه، وصاح بصوته العالي: الأب لا يسأل الله لماذا، والابن لا يسال الأب لماذا، طاعة الله واجبة، وطاعة الأب أو الزوج من طاعة الله.
رفع العصا من فوق عنق فضل الله، وأشار بطرفها المدبب إلى الخروف المربوط، وقال: هذا هو ضحية العيد الكبير نذبحه ونأكل لحمه؛ لأن سيدنا إبراهيم أطاع الله، ولأن إسماعيل أطاع أباه. وانتهت حصة الدين، واختفى من الفناء كما ظهر، ولم ينهض فضل الله من مكانه فوق الدكة. ساقاه مشلولتان. رأسه بين ركبتيه.
دق جرس النوم. نهضت من فوق الدكة ونهض معي فضل الله. جلبابه من الخلف ملتصق بجسمه، ومكانه فوق الخشب مبلل. مسحته بكفي قبل أن يراه أحد. فاحت رائحة البول في أنفي. جففت يدي في جلبابي واختبأت في دورة المياه. من النافذة رأيت من بعيد غرفة التأديب، ومن خلفها تطل قبة الكنيسة ومنارة الجامع. شجرة كبيرة تحجبها عن الضوء، وتلقي عليها غلالة سوداء تخفي معالم الجدران، وتضفي عليها مسحة غامضة، شبه إلهية كأنها في العالم الآخر. بابها خشبي أصفر اللون، مقبضه معدني أبيض تعلوه بقع سوداء كالدم القديم.
عيناي ثابتتان فوق المقبض، لم يتحرك ولم تخرج نعمة الله. أغمضت عيني ونمت ثم صحوت. لا زال الباب مغلقا. إلى جواري فضل الله. أخرج الرغيف من تحت جلبابه. نفذت رائحة الخبر إلى أنفي. لم آكل منذ حصة الدين. جلسنا فوق النافذة متعانقين. جلبابي يفوح برائحة بوله، وفي جلبابه رائحة عرقي. نعمة الله لم تخرج من غرفة التأديب. همست بصوت غير مسموع: سأقتله حين أكبر.
كأنما كانت تسمعنا أذناه. انشقت عنه الأرض وظهر أمامنا طويلا عريضا كالمارد. عضلات وجهه متقلصة. الشعر يطل من فتحة القميص منتصبا. عضلات الصدر مشدودة، وحلمة الثدي نافرة. ساقاه مفتوحتان كفكي المقص. عيناه ثابتتان علينا، ونحن راقدان فوق النافذة. أنفه يتشمم الرائحة، والفتحتان الكبيرتان تتسعان داخلهما الشعر الأسود.
وجاء دوري وأسلمت له نفسي كأنه الله، يقودني حيث شاء إلى قدري المحتوم، ثم صحوت من النوم. وجدت نفسي في السرير من تحتي البلولة، وخيط دافئ يسري ناعما فوق ساقي كالعرق. تحسسته بإصبعي من تحت الغطاء، ثم قربت يدي إلى عيني تحت الضوء، كان إصبعي مبللا بالدم الأحمر.
مرة واحدة في التاريخ
أصابتني الطلقة من الخلف وأنا أجري ومن خلفي مرزوق. قبل أن أنسى الحروف وأفقد التاريخ تذكرت. كنت أرتدي ملابسي كاملة، ورأيتهم يشيرون بأصابعهم إلى وجهي: عورتك هي هذا. وارتج جسدي رغم الموت. قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: لكنها كلمة مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة. سكتوا طويلا. نظر بعضهم إلى بعض. رفعوا عيونهم نحو السماء. أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق أقواس النصر. قالوا: سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام. وتذكرت قبل أن تضيع الذاكرة، قلت: وأنا أيضا زارني الله في المنام. قالوا: الله لا يزور امرأة ولا يظهر لها في الرؤيا. قلت: زار الله مريم العذراء وهي امرأة. قالوا حدث ذلك مرة واحدة في التاريخ، والله منزه عن التكرار. قلت: زار الله النبي محمدا وظهر في الرؤية لإبراهيم، فلماذا لا يكرر الزيارة للإمام؟ سكتوا طويلا. نظر بعضهم للبعض. رفعوا عيونهم نحو الصورة المعلقة في السماء، وقالوا: إنه رأى الله وهم لم يروا الله.
رئيس الأمن
الظلمة داكنة كأنما انطفأت الشمس، وهي تجري هاربة ومن خلفها كلبها يجري. يحرك بأقدامه الأربع تراب الأرض. يلهب التراب عيون الإمام وهم يجرون خلفها، ومن خلفهم كلابهم تنبح، ويخرج رئيسهم من جيبه منديلا حريريا من أجود الأنواع، ويمسح عينيه وزجاج النظارة. منذ منحه الإمام المنصب واللقب وهو يرتدي النظارة السوداء، يرى الناس والناس لا تراه، يرقب حركة عيونهم دون أن يروا حركة عينيه؛ فهو رئيس الأمن، واجبه حماية أمن الإمام وأعضاء حزب الله. وفي الصف الأول يقف عن اليمين لا يفصله عن مقعد الإمام إلا جسد الإمام ذاته، وعن اليسار يرى الكاتب الكبير واقفا إلى جوار المعارض الشرعي. يطل القلم من جيبه العلوي. عينه اليمنى على العرش، واليسرى تتجه إلى شرفة الحريم. وفي الصف الثاني صفوف الوزراء تتلاصق أكتافهم وأقدامهم وأيديهم فوق قلوبهم مربوطة من خلاف، والأجانب واقفون صامتون بوجوه لامعة وأحذية براقة، ونساؤهم إلى جوارهم في شرفة الحريم، وكبيرات نساء الدولة تتوسطهن الزوجة الشرعية، ترتدي وجه الملاك وفوق صدرها وسام الشرف.
Неизвестная страница
يرمقها بطرف عين ويراها وهي ترمق الكاتب الكبير بعيون مشتعلة، وهو يبادلها الإشعاع بإشعاع، والإمام عيناه شاخصتان نحو الله، والمعارض الشرعي عينه اليمنى على العرش، وعينه اليسرى على رئيس الأمن. يتبادلان الابتسام، وفي الليل يشربان نخب الصداقة والولاء. صديقان لدودان؛ واحد في حزب الله، والثاني في حزب الشيطان، وكلاهما شرعي أنجبته الإرادة العليا، كالأخوين غير الشقيقين أمهما واحدة، والأب رجلان عدوان تجمعهما الكراهية وحب امرأة واحدة.
كنت واقفا في الصف الأول والهتاف يدوي مع مدافع العيد، والإمام شاخص نحو السماء، وأنا شاخص من تحت النظارة السوداء أرقب عيون الناس. ألتقط الحركة قبل أن تقع، وألحظ اليد قبل أن ترتفع، والإصبع قبل أن يدوس على الزناد. أعرف وجوههم واحدا واحدا، وأرى رءوسهم وهي تندس بين الرءوس. ملامحهم محفوظة في درج مكتبي داخل الملفات رجالا ونساء، ولمحتها وهي واقفة خلف الصفوف تخفي رأسها وراء الرأس أمامها، وعرفتها على الفور. وجهها نحيل شاحب كوجه أمها، زانية بنت زانية، لا تتحرك إلا تحت الأرض مع الأحزاب السرية والمعارضة غير الشرعية. فقيرة معدمة لا تملك إلا جسمها، تبيعه بثمن طعامها. ذهبت إليها مرة وأنا شاب . فتاة صغيرة كالطفلة. قبل أن أبدأ الجولة الأولى قالت: أخرج قروشك. قلت: ألا تثقي في؟ قالت: أنت من النوع الذي يأكل من عرق النساء. وانعقد لساني كيف عرفت الطفلة حقيقتي وانكشف عنها الحجاب؟ وأخرجت من جيبي القروش ووضعتها في الدرج. صعدت فوقها المرة وراء المرة حتى أعياها الجهد فنامت. دسست يدي في الدرج، سحبت إيرادها، وخرجت قبل أن تصحو. جمعت القروش العام وراء العام، وبنيت بيتا من الطوب الأحمر ثلاثة أدوار. تزوجت بنت الوزير ودخلت حزب الله. لم أر زوجتي قبل الزواج، محجبة طاهرة لا تنكشف على الرجال. تزوجتها على عهدة الوزير وسنة الله والرسول. اشتريتها بمهر عال، ودخلت عليها بعد حفل كبير بحضور الإمام. ظلت ملاءة العرس بيضاء من غير سوء. قلت لنفسي: سبقني إليها غيري وعوضي على الله. شرف الوزير فوق شرفي، والله غفور رحيم، ولست فوق الإله. ضربتها حتى اعترفت بالإثم، ثم غفرت لها كما يغفر الله. أصبحت معبودها وهي عابدتي. تعشق موضع رأسها عند قدمي. أملكها ولا تملكني، وأرفضها فتعشقني، ولا أعشق إلا من ترفضني. كنت أسمع أمي تقول لأبي: أنت ظلي فوق الأرض، إذا هربت منك تبعتني تجري خلفي. وسمعت الإمام يقول: لا يشغل بالي إلا من يعارض أمري بغير أمر مني. وألمح عينيه من تحت نظارتي السوداء تتجهان نحوها وهي واقفة خلف الصفوف. عيناها مليئتان بالرفض، وعيناه يملؤهما العشق. وقلت لنفسي: لن يقتلك سواها، وفي التاريخ لم يسقط أعظم الملوك إلا بسبب امرأة ساقطة.
الزوجة الشرعية
الهتاف يدوي «الله معك» يرج أذنيها، يتدلى منها قرط الماس. يهتز مع دوي الصوت ومن حوله الإشعاع ملايين الأضواء، وعنقها الأبيض كالرخام يرتج ومن حوله عقد اللؤلؤ الحر خمسة أدوار، وفوق صدرها الوسام على شكل «بروش» يعكس الضوء كقرص الشمس، وأصابعها تحوطها الخواتم والفصوص كالنجوم تملأ الكون بالضياء، وهي واقفة في شرفة الحريم ومن حولها كبيرات نساء الدولة، يرتدين وجوها مشدودة، وثيابا حريرية مرتخية، وعوراتهن مختفية تحت حجاب مستورد من أجود الأنواع، وهي واقفة في الشرفة عنقها مشرئب نحو زوجها الإمام، وعنقه مشرئب نحو الله. قلبها تحت ضلوعها يدق، وفوق القلب تحت النهد صليب محفور في الجلد فوقه المسيح مدقوق بالمسامير. رفعت يدها ورسمت فوق صدرها الثالوث، الأب والابن والروح القدس: احفظيه من أعدائه يا ستنا العذراء. أستغفر الله. احفظه يا رب ويا رسول الله؛ فأنا تركت المسيح من أجل الحب، تركت اسمي واسم أبي، أهلي وبلدي وديني، وألقيت بهم جميعا في البحر. كنت مرهقة أغسل الصحون وأتنفس في القطارات تحت الأرض هواء تنفسه قبلي الملايين. أبتسم في الوجوه والوجوه لا تبتسم لي. أذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وأدعو المسيح لينقذني من الفقر. عشرون عاما ولم ينقذني الأب أو الابن أو الروح القدس، ثم جاء الإمام وأنقذني. رأيته جالسا فوق العرش، ووقعت من أول نظرة في الحب. حملني بين ذراعيه وارتفع رأسي في السماء. عرفت الجنة فوق الأرض. آمنت بالله والرسول. حدائق وقصور وخدم وحشم وأنهار من العسل والخمر. أرفع رأسي والرءوس من حولي تنخفض. يبتسمون في وجهي ولا أبتسم. أمشي أمام الوزراء ومن حولي الأضواء. أفتتح المستشفيات وملاجئ الأطفال. اسمي في التاريخ محفور بحروف من النور. زوجة الإمام ليس لها شريكة فوق العرش، ولا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو جاه.
الله معك. لا زال الهتاف يدوي في أذنيها وهي شاخصة ناحيته وهو شاخص الناحية الأخرى. مدافع النصر تضرب، ومع كل ضربة قلبها يضرب. حاملات الصواريخ تحلق فوق رأسه العاري إلا من طاقية الإمام، وصدره مكشوف بغير قميص الوقاية، واقف فوق المنصة ولا شيء يحميه إلا الله ورسوله. احفظيه من الشر يا ستنا مريم. تلعثمت واستغفرت. لسانها يذكر الله والرسول، وقلبها يذكر المسيح. احفظه يا رب من أعدائه، من الحاسدين والحاسدات من شر النفاثات في العقد، وأولهن زوجته القديمة. مختفية وراء الصفوف تخبئ في جلبابها ورقة السحر، مطوية فوق صدرها على شكل حجاب، تدعو الله أن يسخطه على شكل قرد. احفظه يا رب من كيد النساء إن كيدهن عظيم. وابنته غير الشرعية تضمر له الموت منذ ولدت، تخفي رأسها بين الرءوس وفي يدها اليمنى شيء طويل كآلة القتل.
ضربات قلبها تدوي في أذنيها مع دوي الهتاف. ما هذا الصوت؟ طلقات رصاص؟ عيناها الزرقاوان بلون البحر ترى وجهه يسقط فجأة من السماء إلى الأرض، والوجوه من حوله تختفي، وذرات تراب تملأ الجو بالعفار، وتفتح عينيها لتصحو من النوم، لكن عينيها الزرقاوين مفتوحتان، وهي ليست نائمة وليست جالسة، وليس من تحتها كرسي العرش. اختفى هو الآخر، أو انقلب رأسه إلى أسفل وأرجله الأربع إلى أعلى. رسمت الصليب على صدرها. ماذا حدث يا أمنا العذراء مريم؟ وأغمضت عينيها حين رأت وجه أمها كبيرا مدورا كقرص الشمس: الأم والابنة والروح القدس. أستغفرك يا رب: الأب والابن والروح القدس.
الله مع الإمام
سمعت الطلقات بأذني وكنت رافعا عيني نحو عرش السماء. هي لحظة واحدة غفلت فيها عن عرش الأرض. انتهز غفلتي وأطلق النار. لم أر وجهه ولم أعرف من هو على وجه التحديد. واحد من أعضاء حزب الشيطان. أعرفهم وجها وجها وأعرف رئيسهم. كان مهملا منسيا، فأخرجته من الظلمة إلى النور. منحته الوجوه من العدم وأصدرت الأمر، فأصبحت رئيس المعارضة الشرعية. قلت له: تعارض كل القرارات إلا قراراتي؛ فأنا الحاكم الوحيد فوق الأرض والرئيس الأعلى لحزب الله، وأنت لك قصر في ميدان الحرية، ومعونة شهرية، وجريدة يومية، ومقعد في مجلس الشورى والبرلمان.
رأيته يبتسم ووجهه أشرق. كان زميلي في المدرسة، يغمض عينيه ويحلم بصورته منشورة في الصفحة الأولى. حلم يتكرر كل يوم، وأنا مثله يراودني الحلم ذاته، والصفحة الأولى لا تنشر إلا صور رؤساء الدول، أو رؤساء الأحزاب، أو صور السفاحين والسفاحات والحاملات السفاح. وفي المدرسة كان يجلس إلى جواري وسرواله من الصوف الغالي، وسروالي مثقوب من الخلف أخفيه بيدي. أبي كان فلاحا فقيرا يراني في الحلم خفيرا في بلاط الإمام. أبوه كان غنيا سافر للتعلم وراء البحار. عرف اللغات الأجنبية، وارتدى ملابس الأفندية. تزوج امرأة تؤمن بالمسيح ولا تعرف العربية، شقراء بيضاء الساق، يشف بياضها من تحت اللحم كحوريات الجنة. أرمقها بعين محروم لم يعرف في حياته المرأة.
عرفت من النساء كثيرات، لكن الفقر يحوطني كجلدي، والخوف من الجوع يلازمني، ومهما أكلت لا أشبع، ومهما أمنت المستقبل لا آمن، وكل يوم أرى صورتي منشورة في الصحف، معلقة في كل مكان تحت الأضواء، وأغمض عيني ليراودني الحلم القديم؛ أن أجلس على عرش الأرض والسماء. منذ الطفولة وأنا نائم أرى الله. له وجه أبي مليء بالتجاعيد؛ خطوط الزمن والجدري القديم. فوق النني الأسود في عينه اليمنى نقطة بيضاء بقايا الرمد الصديدي. يرتدي جلباب الفلاحين وطاقية رأس منحولة الصوف. يناديني بصوت أبي الجهوري: يا إمام. وأقول: نعم يا ربي. سأعطيك الرزق بغير حساب في الدنيا والآخرة بشرط واحد، وأقول: ما هو يا ربي؟ يمد يده نحوي قابضا على شيء. أصابعه سمراء مشققة كأصابع أبي. يفتح أصابعه وأرى المسبحة حباتها صفراء، ثلاث وثلاثون حبة، إذا حركت الحبة الواحدة ثلاث مرات يكون عددها تسعا وتسعين. مع كل حبة اذكر اسما من أسمائي. هذا هو أمري، ومن لا يطيعك عليك بهذا. ما هذا؟ وشد من جراب طويل في جلبابه سيفا لامعا، وكاد بوزه الحاد يدخل صدري. تراجعت إلى الوراء، وفي حركة التراجع فتحت عيني وصحوت من النوم. رأت أمي وجهي شاحبا وفي قلبي رعدة. قالت: ما لك يا ابني وجهك ليس هو وجهك؟ قلت لها: رأيت الله. قالت: خير، فلماذا ترتعد؟ قلت: كان معه سيف، وكاد السيف يخترق صدري. بصقت في فتحة جلبابها الأسود وقالت: إنه الشيطان وليس الله. انهض واغتسل وصل ليغفر الله لك.
Неизвестная страница
أمي كانت تصلي الفجر قبل أن تذهب إلى الحقل، وتعود بعد المغرب لتصلي العشاء. أبي لم أره يركع ركعة واحدة، وفي رمضان يأكل ويشرب ويدخن الشيشة، ويوزع لياليه بين أربع زوجات بغير عدل، يعطي الزوجة الأخيرة ثلاث ليال، وأمي ليلة واحدة، وأسمعه يقول: يغفر الله الذنوب جميعا إلا أن نشرك به. إله واحد في السماء هو الله، وحاكم واحد فوق الأرض هو الإمام. قبل أن يموت زار قبر الرسول في مكة، ثم عاد يرتدي عباءة بدل الجلباب، وسمعته يقول: زيارة قبر النبي تمسح الذنوب ولا يبقى منها شيء. ومات أبي طاهرا بغير ذنوب. وقبل أن تموت أمي قلت لها: لماذا لا تزورين قبر الرسول لتلحقي بأبي في الجنة؟ قالت: باع أبوك المحصول ولم يعطني شيئا، ليس معي ثمن التذكرة إلى مكة. ولم تمسح أمي ذنوبها. مسحت دموعها بكفها وقالت: إذا فتح الله عليك يا ابني أبواب الرزق، فاشتر لي تذكرة إلى قبر النبي. قلت: هذا وعد يا أمي لن أنساه. ونسيت الوعد ونسيت وجه أمي. مضت السنة وراء السنة، عشرون سنة دون أن أراها. كانت تسكن في بيت بعيد في أقاصي الجنوب، وأنا أرفع رأسي ناحية السماء، لا أرى إلا الله وأعضاء حزب الله. نسيت أن هناك حزبا آخر هو حزب الشيطان، ولولا أمري ما كان له وجود ولا شرعية. قلت لنفسي: إذا لم يكن هناك شيطان بين الناس فلن يكون هناك خوف، وإذا لم يكن هناك خوف فلن يبقى حاكم ولا إمام فوق العرش، وهو يلعب في مجلس الشورى دور المعارضة. يقول لا أمام الناس، وفي أذني يقول نعم. ورث عن أبيه الأرض والمال ولم يبق أمامه إلا الشهرة ودخول التاريخ. زار الرسول في قبره وأطلق على نفسه اسم الحاج. قلبه خال من الإيمان، وزوجته لا تعرف التوحيد. ترسم الصليب على صدرها وتركع للثالوث، الأب والابن والروح القدس، بيضاء كالشهد، ممشوقة كالغصن، تتكلم سبع لغات. يتفاخر بها أمام الناس، وتجلس إلى جواره في الحفلات. زوجتي كنت أخفيها تحت الحجاب، وفي الشارع تمشي ورائي. لا تكتب ولا تقرأ كتاب الله. ناقصة العقل مملوءة بالشحم. رأسها صغير وردفها ثقيل. مخلوقة من ضلع أعوج بلا حسب ولا نسب. تزوجتها قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق، جمعنا الفقر كالرباط المقدس، وبعد اعتلاء العرش لم تعد الزوجة القديمة تناسب حياتي الجديدة. وفي مجلس الشورى قالوا: الإمام له الحق في بيت جديد، وزوجة جديدة، وعباءة جديدة من أجود الأنواع. وجاءوا لي بالصوف المستورد الغالي، وزوجة مستوردة من أجود الأنواع، بيضاء كالشهد، وعيون بلون البحر، تتكلم لغات الأرض. قالوا: هذا حق الإمام؛ فهو أفضل الرجال، وزوجته أفضل النساء، لا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو مال. تصاحبني في رحلاتي وتنوب عني في الافتتاحات. ترتدي الزي الرسمي وتهتف مع الجماهير في الحفلات. وفي أعياد النصر تتلقى فوق صدرها الوسام، وفي الهزائم تلبس زي الممرضات، تقدم لمشوهي الحرب «البونبون»، وتغني مع أرامل الشهداء والشهيدات. ومن فوق أقواس النصر ترفرف صورة الإمام، وعيناي مرفوعتان نحو السماء، رأيت الله وانكشف عني الحجاب. أتمتم بآيات الحمد وبين الشفتين ابتسامة تتسع لحب الشيطان، وتدوي في أذني الهتافات فأحرك يدي اليمنى في الهواء، وتنحني شفتي السفلى فوق ذقني بتواضع الأنبياء، وأنا واقف فوق المنصة ممشوق القوام مرتديا وجه الإمام. فوق جبهتي علامة الإيمان، وفوق صدري وسام النصر. عن يميني رئيس الأمن، وعن يساري كاتبو الكبير ثم معارضو الشرعي. ومن خلفنا صفوف الوزراء ومندوبو القوى العظمى والكبراء.
الله معك. دوى الهتاف من حناجر الرجال والنساء وتلاميذ المدارس بزي الكشاف، والبنات بملابس الممرضات، والجنود بالسراويل الكاكي، والعمال بالبدل الزرقاء، والفلاحين بالجلاليب والطواقي، وفرق الفنون الشعبية بالراقصات والصاجات. يرتفع الهتاف والأناشيد ودقات الطبول وصواريخ العيد تملأ الدنيا بآلاف الألوان. تنطلق في السماء حمائم السلام، تتلوها الطائرات حاملات القنابل من نوع انتهى مفعوله منذ مائة عام، وفي أذنيه يسري الهتاف «الله معك»، وعيناه نحو الله تسألان: إذا كنت معي يا رب، فلماذا الهزيمة، ولماذا تحجب عني سر القنبلة النووية؟ لماذا تعطي السر لأعدائنا الكفار وتحرم عبيدك المؤمنين المخلصين؟ أستغفرك فأنت لا تسأل عن الحجج والعلل، هذه إرادتك وليس لي أن أعارضك؛ فالمعارضة ضررها أكثر من نفعها. وكنت أظن أن هذا الشيطان الواقف إلى جواري سيلعب دور المعارض الشرعي في حدود إرادتي العليا، ويضع على صدري وسام الحرية والديمقراطية، لكنه افترى وتكبر وملأ الصحف بصورته فوق صورتي. يبتسم في وجهي كالملاك، ومن الخلف يصوب لي الضربات. يقف إلى جوار القوى العظمى في الحفلات ، ويصوب إلى شرفة الحريم النظرات.
زوجتي الجديدة درست علم السياسة وراء البحار، ولها نظرية في الحكم وترويض الرجال. قالت: امسك العصا من الوسط ولا تضرب طول الوقت. أربت على الكتف مرة بحنان الأم، والمرة الثانية أضرب فوق الرأس. وأنا وأنت نتبادل الأدوار؛ فإذا ضربت أنت جئت أنا باسمة كالملاك، وإذا تهاونت أنت أو تنازلت أمسكت أنا العصا واللجام. قلت لها: عليك بالمعارضة وأعضاء حزب الشيطان. قالت: سأروض الرجال منهم؛ فالرجل طفل بريء وإن رفع راية العصيان، والمرأة هي الحية والشيطان وإن تلفعت بالحجاب ودخلت حزب الرحمن. قلت: أعدائي كلهم رجال يضمرون الحقد منذ الطفولة، وبين النساء ليس لي أعداء إلا اثنتان؛ زوجة قديمة خلعتها عني مع جلبابي القديم، وابنة غير شرعية جاءت في نزوة طيش مع الخمر. قالت: زوجتك القديمة مكسورة الجناح وليس منها خطر، لكن ابنتك تضمر لك السوء، ولن يشفي غليلها إلا القتل. قلت: لا تقتل البنت أباها وإن اغتصبها كالذئب، وهي تحبني وتعترف لي بالولاء. قالت: أنت تحبها والحب أعمى، وأنت واقف تحت الضوء، وهي خلف الصفوف في الظلمة تنتهز الفرصة لتصوب الضربة. قلت: لن يضربني إلا عضو من حزب الشيطان، أو مأجور من الأحزاب السرية، أو عدو من خارج البلاد. قالت: أعداؤك كثيرون، وكلما رفعك الله زاد أعداؤك، ولا تخرج إلى الشارع بدون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي إذا انطلق الرصاص. قلت: أستغفر الله العظيم. يا لك من كافرة لم تنزعي عن صدرك الصليب، ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح، وآمنت بك وبالله والرسول، ولكني أخاف عليك من أعدائك، والوقاية خير من العلاج. قلت: لست ذاهبا للقاء الأعداء، سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزاء، قلوبهم تفيض بالحب والولاء، وأصواتهم تهتف بحياتي إلى الأبد، ألا تسمعين الهتاف يا امرأة؟
البودي جارد
لم يكن البودي جارد (الحارس الجسدي باللغة العربية) يعرف شيئا عن أمور الحكم أو الخلافة، كانت مهمته محددة ، وهي الوقوف بجوار الإمام مرتديا وجه الإمام المطاط وجسده الممشوق، ولم يكن في قدرة أحد إلا الله ورئيس الأمن أن يكتشف الإمام الحقيقي من الإمام المصنوع، وأذن «البودي جارد» كانت تشرئب مرهفة؛ فإذا ما سمع طلقة نارية قفز بخطوة واحدة أمام الإمام، يستقبل الرصاصة في صدره نيابة عنه، وفي سعادة طاغية يموت فداء الوطن، وفي عنقه مفتاح الجنة معلقا داخل السلسلة. يفتح باب الجنة ويدخل مع الأنبياء والشهداء، وتحصل زوجته على لقب أرملة الشهيد، ويصرف لها معاش مضاعف ووسام من الدرجة الثالثة.
في كشوف خدم الإمام كان له لقب رسمي: «البودي جارد.» ولا يمكن لأي رجل أن ينال هذا المنصب؛ فهو منصب رفيع خطير أخطر منصب في الدولة، يقتضي الإخلاص للإمام والإيمان به مائة في المائة دون تفكير يؤدي إلى التردد، والتردد ولو للحظة خاطفة قد يودي بحياة الإمام. إذا انطلقت الرصاصة وتردد «البودي جارد» في الموت نيابة عن الإمام، فهذه كارثة أكبر الكوارث. «عدم التفكير على الإطلاق» كان هو المؤهل الأول للحصول على هذا المنصب. ويختار الإمام بنفسه البودي جارد، يتقدم المرشحون للوظيفة على شكل طابور. يمرون أمامه وهو جالس على الأرجيحة في حديقة القصر. يتم الاختيار بعد اختيار دقيق لخلايا العقل. تسجل النتائج فوق ورقة بيضاء ناصعة البياض. أي نقطة سوداء فوق البياض تعني أن هناك شبهة وإحدى خلايا المخ تفكر. - هل أنت مستعد للموت من أجل الإمام؟ - نعم بكل سرور.
كلهم يقولون نعم ولا أحد يقول لا، لكن الإمام لا يثق في كلام أحد، ولا يمنح ثقته إلا للجهاز الإلكتروني، يقدر وحده على اكتشاف الصدق من الكذب. امتحان صعب لم يكن ينجح فيه إلا رجل واحد في المليون. وبعد اختبار العقل يأتي اختبار الجسم، وهو امتحان لا يقل صعوبة. قدرة الأذن على أن تشرئب وتسمع الطلقة قبل أن تنطلق. قدرة الجسم على القفز واستقبال الموت في خطوة واحدة. القدرة على تقمص جسد الإمام والوقوف أمام الناس كأنه الإمام لا فرق. القدرة على السقوط والموت دون أن يلحظ أحد، ودون أن يسمع أحد صوت الطلقة؛ فهي طلقة خافتة تنطلق عادة من آلة قتل حديثة كاتمة للصوت. والهتاف يكون عاليا يغطي على الصوت إذا كان هناك صوت. الله معك. ويرفع الإمام رأسه نحو السماء غافلا عن الأرض، وفي هذه اللحظة الخاطفة تنطلق الرصاصة. يتلقاها البودي جارد بصدر رحب، ويسقط بين قدمي الإمام دون أن يلحظ أحد. يختفي جسده على الفور، ويحل مكانه جسد آخر، له الملامح ذاتها والوجه ذاته من المطاط، يرتديه فوق وجهه فيصبح هو الإمام، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينهما حتى زوجته.
في كل مرة يخرج البودي جارد من باب بيته يعلم أنه لن يعود، ومع ذلك يخرج بكل إرادته ووعيه مستبشرا بالموت وفي عنقه مفتاح الجنة، يتدلى من سلسلة فضية، وله ذنب رفيع أسنانه مشرشرة. كيف يفتح الجنة بهذا المفتاح؟ وهل للجنة باب مثل البيوت؟ ورضوان حارس الجنة هل يتركه يفتح الباب؟ أسئلة كثيرة تخطر له وهو واقف يسمع الهتاف. تطردها خلايا عقله السؤال وراء السؤال. لا أحد يلحظه وهو يفكر. الجهاز الإلكتروني معطل، والتيار الكهربائي مقطوع، ورئيس الأمن عينه على الصفوف الخلفية، والإمام شاخص إلى أعلى نحو السماء، وهو أيضا يرفع رأسه بالحركة نفسها. وحين يهز الإمام يده تحية للجماهير يهز يده بالحركة ذاتها، لا يمكن لعين أن تلحظ الفرق. وحين يمشي الإمام فوق الأرض يقلد مشيته، مشية مميزة فيها عرج خفيف، يدوس بقدمه اليمنى على الأرض بقوة أكثر من اليسرى. عظام ساقه اليسرى فيها اعوجاج منذ الطفولة، نقص الكالسيوم في لبن الأم. لم تعرف أمه شيئا عن مرض الكساح، تصورت أنه عين الحسود، وحوطت عنقه بدوبارة تتدلى منه خرزة زرقاء، وألبسته ملابس البنات.
كان الإمام قادرا على التواجد في مكانين مختلفين في وقت واحد، ولا أحد يعرف السر إلا البودي جارد. يهمس الإمام في أذنه: اذهب نيابة عني إلى هذا الاجتماع أو هذا الحفل أو إلى مجلس الشورى أو صلاة الجمعة أو إلى هذه المهمة خارج البلاد.
يسير أمام الكبراء والوزراء ولا أحد يشك أنه ليس الإمام، حتى هو لا يشك في نفسه. وإن ساوره الشك لحظة فإن هتاف الجماهير يعيد إليه الثقة، ويمشي مرتديا وجه الإمام المطاط رافعا رأسه. يلتقي بالسفراء والخبراء الأجانب. يقص الشريط مفتتحا الملاجئ، وفي اجتماع مجلس الشورى يظل صامتا كالإمام، ينصت إلى تقارير الوزراء ويهز رأسه علامة الفهم، أو يشرد بعينيه ناحية السماء كأنه يفكر، ولا يلحظ أحد أنه لا يفكر، وأن عقله يترك جسده في مقعد الإمام ويهرب إلى الدور الأرضي، يخلع الوجه المطاط ويدلك بطرف الإصبع أنفه المضغوط تحت الأنف الآخر. ومن الباب الخلفي للقصر يخرج مع الخدم متنكرا بوجهه الحقيقي، يقفز في الأوتوبيس قبل أن يقف، ويهبط قبل أن يدفع التذكرة. يسير بين الأزقة، يضرب ببوز حذائه قطعة زلط حتى يصل البيت. تحوطه أمه بذراعيها، ويشم رائحة الخبيز والروث. أتنسى أمك عشرين سنة؟ هل مرت عشرون سنة يا أمي؟ كنت هنا بالأمس، وتقول أمه: من تغطى بالأيام عريان، ومن ابتعد عن السلطان سلطان. يجلس على ركبتها تهزه كالمرجيحة وتحكي له الأخبار. هذا الشتاء ماتت الكتاكيت بالشوطة، عمتك الله يرحمها ماتت بالكوليرا، خالك سافر إلى الحج ولم يعد، بنت خالتك عضها كلب مسروع، وأبوك زارني في المنام وقال إنه ينتظرني في الجنة، أنسيت يا ابني الوعد، وأين هي تذكرة السفر إلى قبر النبي؟
Неизвестная страница
يدفن رأسه في صدرها، أبدا يا أمي لم أنس ولكنها المشاكل، مشاكل يا أمي مشاكل بغير حل. الله سبحانه هو الوحيد القادر على حلها. ديون خارجية يا أمي، وصراع القوى العظمى، وحرب الكواكب وأعضاء حزب الشيطان وأولاد الحرام وبنات الحرام، والألم هنا يا أمي تحت يدك في صدري. تتحسسه كف الأم المشققة حتى تعثر على الجرح النافذ من الصدر إلى القلب، تسده بتراب الفرن أو مسحوق البن وينام بين ذراعيها، حتى يلتئم الجرح وصوتها في أذنه يغني كالنشيج.
صوتها عميق يأتيه من بعيد وهو واقف مرتديا وجه الإمام قبل السقوط، كصوت في حلم أو حلم داخل الحلم. وكثيرا ما نام وحلم أنه يحلم ، ويصحو وهو لا زال في الحلم، ثم ينام ويحلم مرة أخرى أنه يحلم، وفي الحلم يعرف أنه يحلم، ويرتدي الوجه المطاط وهو لا زال يحلم، ويهبط سلالم القصر كمن يمشي وهو نائم، ويركب سيارة الإمام ويلوح للناس بيده، وفي المجلس يراه الوزراء منصتا باهتمام وهو لا يسمع، ويهز رأسه علامة الفهم وهو لا يفهم، ويهرش شعر رأسه كأنه يفكر وهو لا يفكر، فلم يكن التفكير شرط المنصب، وحين دوت المدافع وعم الظلام تجمد الدم في عروقه؛ فهو يخاف الظلمة منذ الطفولة، ويخاف صوت الهتاف ودقات طبول النصر، في مثل هذه اللحظات تنطلق الرصاصة دون أن يلحظ أحد، ولا يسقط أحد إلا هو. يموت وحده ولا يموت معه أحد. يسقط جسده بين قدميه ويختفي في السر، وتنتقل السلطة بسرعة بانتقال الوجه المطاط من وجه إلى وجه، ولا يشعر الناس أن شيئا حدث أو تغير، والإمام يظل واقفا فوق المنصة رافعا رأسه نحو السماء، وصواريخ العيد تفرقع والهتاف يدوي «الله معك».
وجه مزدوج
طفولتي من بعيد تبدو سعيدة، يأكل الزمن الألم ولا يترك في الذاكرة إلا الفرح، ودموع الحزن تتحول في العينين إلى نافذة للرؤية. وجه أختي لا زلت أراه. عيناها في عيني تلمعان في ظلمة الليل. ذراعاها حولي. صدرها ناعم كصدر الأم. وأخي يلازمني كرائحة جسدي، أشمه في العرق وأشمه في الزهر؛ فهو جسمي ورائحته هي رائحتي.
في مدرسة الممرضات رأيت نفسي أرتدي ثوبا أبيض، وشعري ملفوف داخل غطاء أبيض، كالملاك أنتقل من سرير إلى سرير، خفيفة الحركة لا تكاد تلامس قدماي الأرض، كالروح بغير جسم طويلة نحيلة كالخيال. صوتي همس، وأنفاسي عميقة كالأطفال. ثدياي تحت الثوب الأبيض صغيران نافران. لي سرير أبيض في عنبر كبير، ودرج من الخشب عليه حروف اسمي بنت الله، وإلى جواره اسم اختي نعمة الله، وجهها نحيل أبيض، وعيناها حين تراني تمتلئان بالضوء.
مدرسة الممرضات كانت بناء ضخما قديما اسود لونه من القدم، أول مدرسة للبنات لا تدخلها إلا اليتيمات بغير أب أو أم، إلى جوارها المستشفى الحربي يطل على النهر بنوافذه المدهونة وشرفاته الزجاجية، ومن خلف النهر بناء ضخم قديم قدم العبودية، اسود لونه وعفره التراب فأصبح بلون الأرض، نوافذه عالية تسدها قضبان حديدية كالسجن، عيون أطفال تطل من خلف النوافذ لامعة كالنجوم في كون أسود، أطفال الله أو الأطفال غير الشرعيين باللغة الرسمية، ومن خلف بيت الأطفال مساحة من الأرض صفراء مستوية كالصحراء، ثم ترتفع الأرض على شكل هضبة منخفضة تعلوها أشجار شوكية، يسمونها النباتات الشيطانية، يتصورون أنها تنمو وحدها بإرادتها ضد إرادة الله. في بطن الهضبة ينتصب مبنى ضخم أسود اللون قديم قدم الشيطان. ترتفع جدرانه السوداء عالية تخرق السحاب كأنما تتحدى السماء. نوافذه عالية تسدها القضبان كبيت الأطفال. ومن وراء النوافذ تطل رءوس النساء مربوطة بالمناديل أو محلولة الشعر، والشعر غزير طويل مجعد أو ملبد من النوم، يسري فيه القمل بأقدام دقيقة. يلمع الشعر تحت الشمس بأضواء كألوان الطيف. «بيت السعادة» باللغة الدارجة، و«بيت المومسات» في ملف رئيس الأمن.
من نافذتها في مدرسة الممرضات لم تكن ترى النهر ولا الهضبة وراء النهر، كان المستشفى الحربي ضخما كبيرا يحجب عنها الكون، إلا قطعة من السماء تطل من فوق الجدار، وشعاع رفيع من الشمس يصل إليها قبل الغروب.
ولم يكن مسموحا أن تطل من النافذة، شرفات المستشفى الحربي تواجه نوافذ الممرضات. يطل أطباء الجيش على البنات، يبتسمون، يهزون رءوسهم أو يصفرون، يرتدون البدل العسكرية. فوق صدورهم وأكتافهم النجوم والنياشين، وفوق رءوسهم قبعات حربية. وفي الليل بعد جرس النوم تطل أختي برأسها من السرير وتحكي لي قصة حب. تحت النور الخافت تخرج الصورة من صدرها، صورة رجل، فوق رأسه قبعة عسكرية، فوق صدره وسام مستدير كالقرص. حافة القبعة تلقي على نصف وجهه الأعلى ظلا رماديا، يخفي معالم العينين والأنف. تحت الأنف شارب أسود، مقصوص بعناية، مربع الشكل يشبه شنب هتلر. تقبل الصورة وتخبئها في صدرها فوق القلب، وتحكي لي القصة من جديد. كان مصابا برصاصة في صدره، ورقد في السرير وهي واقفة. كان يسميها ملاكي الحنون، وأصابعها فوق الجرح ناعمة. تسهر إلى جواره طول الليل، فإذا فتح عينيه رآها واقفة أو جالسة، وإن نامت ودق الجرس جاءت في غمضة عين، وإذا لم يدق الجرس تدخل على أطراف أصابعها، تغطيه إذا تعرى، وتسقيه إذا عطش، وتقرأ له قبل أن ينام، ولم يكن يقرأ إلا كتاب الله وأخبار الحرب، ولم يحدثها عن شيء إلا القتال والموت. قتل ثلاثة رجال وهرب الرابع بعد أن أصابه برصاصة في صدره. منحه الإمام الوسام في عيد النصر. تدرب على القتل منذ الطفولة. كان يقتل العصافير وهي واقفة فوق الشجر. يثبت البندقية فوق كتفه، وفي منتصف رأس العصفورة يصوب، ثم يدوس بإصبعه على الزناد، وتسقط العصفورة بطلقة واحدة.
وأحوطها بذراعي كالأم. جسمها نحيل كعصفورة. في أعماقي حنين لصدر الأم. أدفن رأسي بين نهديها وأنشج: لا أريد أن يقتلك الرصاص. وتتوهج عيناها بالضوء: سيقتلني الحب وليس الرصاص.
لم أكن أعرف شيئا عن الحب. قلبي يخفق بالحنين لذراعين يضمان جسمي دون ألم، وعيناي تنظران إليها وتلمعان بالنور. في درجي رسائل بخط يدي أكتبها ولا أرسلها لأحد. في أعماقي خوف عميق من الحب، وخوف أشد من الله. في بيت الأطفال كنت أصلي، ويتجسد الله في أحلامي على شكل رجل، يمر بيده الحانية على صدري ويرتفع بطني بالمسيح. في الصباح وأنا أصلي أسمع صوت الله غاضبا، يلعنني ويهددني بالعقاب. أستغفره وأسجد حتى يلامس الأرض رأسي. أكرر الركوع والسجود والتوبة لكن صوته يظل غاضبا. خمس مرات في اليوم أصلي، وفي كل صلاة أركع وأسجد وهو غاضب ساخط لا يهدأ. وفي الليل أتكور حول نفسي تحت الغطاء وأراه يأتي، بصوت آخر هادئ بلا غضب، ووجه ناعم كضوء القمر، وذراعه كذراع الأم حانية، يهدهدني ويملأ روحي بالحب الطاهر، ويرتفع بطني بالحمل المقدس، ثم أراه يستدير، أظن أنه ذاهب بلا عودة. أنادي عليه بصوت خافت ويستدير عائدا إلي بوجه آخر، قاتم اللون، داكن الغضب، في عينيه الشرر. أفتح فمي لأصرخ، لكن جسمي مربوط في الأرض، وأصحو من النوم مبللة بالعرق، وعلى ورقة بيضاء أكتب أول حروفي فوق أول رسالة إلى لا أحد: رأيت الله في المنام، له وجهان؛ وجه ناعم حنون كالأم، والوجه الآخر كالشيطان.
Неизвестная страница