وكان عبد العزيز يرحب بكافة الكتاب المتطوعين حتى المختصين - مثله - في الفلسفة الاسلامية، ومع أنه كان أزهري النشأة إلا أنه سافر إلى فرنسا حيث قضى هنالك أربعة أعوام محصلا ومستمعا دون أن يحصل على درجة علمية. وكان في غنى عن السعي للرزق بعقار يملكه يدر عليه شهريا خمسين جنيها ولكنه أنشأ مجلة «الفكر» في عام 1923، وثابر على إصدارها بالرغم من أنها لم تكن تزيد دخله شيئا يضاهي بعض ما يبذله فيها من جهد. وما كاد يستقر المجلس بكمال حتى دخل الحجرة رجل في مثل سنه، يرتدي بذلة من التيل الرمادي، طويل القامة، وإن كان دون كمال طولا، نحيف، ولكنه أكثر امتلاء منه، مستطيل الوجه، متوسط الجبين، ممتلئ الشفتين، ذو أنف دقيق وذقن مدبب أضفى على سمنته طابعا خاصا. تقدم خفيفا باسم الثغر فمد يده إلى الأستاذ عبد العزيز، فصافحه هذا ثم قدمه إلى كمال قائلا: الأستاذ رياض قلدس مترجم بوزارة المعارف، انضم حديثا إلى جماعة كتاب «الفكر»، وقد أمد مجلتنا العلمية بدم جديد بتلخيصه الشهري للمسرحيات العالمية وكتابة القصص القصيرة.
ثم قدم كمال قائلا: الأستاذ كمال أحمد عبد الجواد، لعلك من قراء مقالاته؟
فتصافح الرجلان ورياض يقول بإعجاب: إني أقرأ مقالاته منذ سنوات، مقالات قيمة بكل معنى الكلمة ..
فشكر كمال متلقيا ثناءه بحذر، ثم جلسا على كرسيين متقابلين أمام مكتب الأستاذ عبد العزيز الذي مضى يقول: لا تنتظر يا أستاذ رياض أن يرد عليك بالمثل قائلا إنه قرأ قصصك القيمة، إنه لا يقرأ قصصا البتة.
فضحك رياض ضحكة جذابة كشفت عن أسنان نضيدة لامعة فلجاء الثنيتين ثم قال: ألا تحب الأدب إذن؟ ما من فيلسوف إلا وله فلسفة خاصة عن الجمال، وهي لا تتأتى له إلا بعد اطلاع واسع على شتى الفنون ومنها الأدب طبعا ..
فقال كمال في شيء من الارتباك: لست أكره الأدب، طالما ارتحت في جنات شعره ونثره، ولكن أوقات الراحة قليلة! - معنى ذلك أنك قرأت ما استطعت من القصص إذ إن الأدب الحديث يكاد يقتصر على القصة والتمثيلية ...
فعاد كمال يقول: قرأت عددا وفيرا منها على مدى العمر، بيد أنني ...
وهنا قاطعه عبد العزيز الأسيوطي قائلا وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى: عليك يا أستاذ رياض من الآن فصاعدا أن تقنعه بأفكارك الجديدة، وحسبك أن تعلم الآن أنه فيلسوف، وأن ولعه مركز في الفكر.
ثم التفت إلى كمال متسائلا: جئت بمقال الشهر؟
فأخرج كمال ظرفا متوسطا ووضعه في سكون أمام الأستاذ الذي تناوله بدوره فاستخرج منه أوراق المقالة ثم تصفح العنوان وهو يقول: عن برجسون؟ .. حسن!
Неизвестная страница