وشعر لتوه بأنه ما كان ينبغي له أن يطرح هذا السؤال خشية أن يفسره الآخر بأنه استدراج إلى الكلام في خطبة نعيمة! ولكن فؤاد لم يبد عليه أنه فكر في هذا، بل ضحك ضحكة عالية وإن لم تخرج به عن حد الوقار، وقال: أنت تعلم أني لم أفسد إلا متأخرا، لم أفسد مثلك في زمن مبكر، فأنا لم أشبع بعد! - أتتزوج إذا شبعت؟
فضرب فؤاد الهواء بظاهر يده كأنما يطرد الكذب وقال بلهجة المعترف: ما دمت قد صبرت حتى اليوم فلأصبر فترة أخرى، أصبر حتى أرقى قاضيا مثلا فيسعني أن أصاهر وزيرا إذا شئت ..
يا ابن جميل الحمزاوي! عروس من صلب وزير وحماتها من المبيضة! أتحدى ليبنتز أن يبرر هذا ولو كما برر وجود الشر في الخليقة! - أنت تنظر إلى الزواج نظرة ...
فقاطعه قبل أن يكمل كلامه ضاحكا: خير من الذي لا يعيره نظرة على الإطلاق! - ولكن السعادة ... - لا تتفلسف! السعادة فن ذاتي، قد تجدها عند كريمة وزير بينما لا تجد إلا التعاسة في وسطك، الزواج معاهدة كالتي وقعها النحاس بالأمس، مساومة وتقدير ودهاء وبعد نظر وفوائد وخسائر، وفي بلدنا لا تأتي الرفعة إلا عن هذا السبيل، في الأسبوع الماضي عين مستشارا رجل لم يبلغ الأربعين من عمره، وقد أخدم القضاء عمري مجتهدا ناصبا دون أن أظفر بهذا المركز السامي!
ومعلم ابتدائي ما قوله؟ في الدرجة السادسة ينقضي عمره، ولو طفح بالفلسفة رأسه .. - إن مركزك يغنيك عن أمثال هذه المغامرات .. - لولا هذه المغامرات ما استطاع رئيس أن يؤلف وزارته!
فضحك كمال ضحكة لا طعم لها وقال: أنت في حاجة إلى شيء من الفلسفة، تحتاج إلى جرعة من سبينوزا .. - اشبع منه أنت، لكن دعنا من هذا، وخبرني عن أماكن اللهو والشراب، في قنا كنت أختلس اللذة في حذر، أن مركزنا يحتم علينا الانزواء ومجانبة البشر، والصراع الأبدي بيننا وبين البوليس يوجب الحذر أكثر، وكيل النيابة مركز خطير متعب ..
عودة إلى الحديث الذي يهدد حرارتي بالانفجار، حياتي في ضوئك تأديب وتهذيب وأشد امتحانا لفلسفتي الحائرة في هذه الحياة .. - تصور أن الظروف تجمعني بكثير من الأعيان، ثم يدعونني إلى سراياتهم، فأجد أن الواجب يقضي بأن أرفض دعوتهم كيلا يؤثر مؤثر في قيامي بواجبي، ولكن عقليتهم لا تفهم هذا، فأعيان الإقليم جميعا يرمونني بالكبر وأنا منه براء.
بل أنت غرور وكبر وغيرة على الواجب معا. وقال موافقا: نعم .. - ولنفس الأسباب خسرت رجال البوليس، أنا لا أرضى عن طرقهم الملتوية؛ لذلك أقف لهم بالمرصاد، ورائي القانون، ووراءهم همجية القرون الوسطى، إن الجميع يكرهونني ولكن الحق معي ..
الحق معك، هذا ما أعرفه فيك من قديم، الذكاء والنزاهة، ولكنك لا تحب ولا يمكن أن تحب، أنت لا تتمسك بالحق لوجه الحق وحده ولكن لوجه الحق والغرور والكبرياء والشعور بالنقص. هكذا الإنسان، إني أصطدم بأمثالك حتى في الوظائف الحقيرة، الإنسان العذب القوي أسطورة، ولكن ما قيمة الحب؟ وما المثالية؟ وما أي شيء؟!
وهكذا طال بهما الحديث. وعندما هم فؤاد بالذهاب مال على أذن كمال متسائلا: أنا جديد في القاهرة، طبعا أنت تعرف بيتا بل بيوتا، مستورة طبعا؟
Неизвестная страница