29
لم يجد أحمد مشقة تذكر في الاهتداء إلى فيلا مستر فورستر - أستاذ علم الاجتماع - بالمعادي. وقد أدرك حال دخوله أنه جاء متأخرا بعض الوقت، وأن كثيرا من الطلبة الذين دعوا مثله إلى الحفل الذي أقامه الأستاذ لمناسبة سفره إلى إنجلترا قد سبقوه إليه. واستقبله الأستاذ وحرمه، وقد قدمه إليها باعتباره طالبا من خير طلبة القسم، ثم مضى الشاب إلى حيث جلس الطلبة في الفراندا، كان المجلس يتكون من طلبة قسم الاجتماع كافة، وكان أحمد ضمن القلة المنقولة للسنة النهائية، يشاركهم ذلك الشعور بالامتياز والتفوق. ولم تكن واحدة من الطالبات قد حضرت، ولكنه كان مطمئنا إلى مجيئهن، أو إلى مجيء «صديقته» التي كانت من سكان المعادي. وألقى نظرة على الحديقة فرأى مائدة طويلة ممتدة في أرض فضاء معشوشبة، تكتنفها من الجانبين أشجار الصفصاف والنخيل، وقد صفت فوقها أباريق الشاي وأوعية اللبن وأطباق الحلوى. ثم سمع طالبا يتساءل: نلتزم الآداب الإنجليزية أم ننقض على المائدة كالنسور؟
فأجابه آخر فيما يشبه الأسف: آه لو لم توجد لادي فورستر!
كان الوقت أصيلا، ولكن الجو كان لطيفا رغم شخصية يونيو الثقيلة، ثم ما لبث أن لاح السرب المنتظر عند مدخل الفيلا، جئن معا كأنهن على ميعاد، وكن أربعا هن جملة الطالبات بالقسم وبدت علوية صبري وهي تخطر في فستان ناصع البياض مهفهف، جعل من كائنها اللطيف لونا واحدا بديعا فيما عدا الشعر الأسود الفاحم. وعند ذاك شعر أحمد بقدم هازئة تحتك بقدمه كأنما تنبهه إن كان في حاجة إلى من ينبهه، وكان سره قد ذاع من زمن .. وتابعهن حتى استقر بهن المجلس في ركن أخلي لهن بالفراندا، ثم جاء مستر فورستر وزوجه، وقالت الزوجة موجهة الخطاب إلى الطلبة، وهي تشير إلى الفتيات: هل تحتاجون إلى تعارف؟
فارتفع الضحك، وقال الأستاذ وكان ذا حيوية فائقة رغم مشارفته الخمسين: الأجدر أن تعرفيهم بي أنا ..
وضجوا بالضحك مرة أخرى، حتى عاد مستر فورستر يقول: في مثل هذا الوقت من كل عام كنا نغادر مصر إلى إنجلترا لقضاء العطلة، هذه المرة لا ندري إن كنا سنرى مصر مرة أخرى أم لا! ...
فقاطعته زوجه قائلة: ولا حتى إن كنا سنرى إنجلترا!
وأدركوا أنها تلمح إلى خطر الغواصات، فقال لها أكثر من صوت: حظ سعيد يا سيدتي ..
وعاد الرجل يقول: سأحمل معي ذكريات جميلة من حياتنا المشتركة في كلية الآداب، وعن مقاطعة المعادي الهادئة الجميلة، وعنكم أنتم الذين سأعتز حتى بهذركم!
فقال أحمد مجاملا: أما ذكراك فستبقى في نفوسنا دواما، وتنمو بنمو عقولنا: شكرا .. (ثم مخاطبا زوجه وهو يبتسم): أحمد شاب جامعي كما ينبغي، وإن تكن له آراء مما تسبب المتاعب عادة في بلده!
Неизвестная страница