Серия вершин для людей с высоким стремлением
سلسلة القمم لأهل الهمم
Жанры
محمدٌ ﷺ زاهدًا
كان زهده ﷺ زهد من علم فناء الدنيا، وسرعة زوالها، وقلة زادها، وقصر عمرها، وبقاء الآخرة، وما أعد الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم، وأجرٍ عظيم، وخلودٍ دائم، فرفض ﷺ الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسد الرمق، ويقيم العوز، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه، وتزينت له، وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبًا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعًا، ويمر الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويًا لا يجد رديء التمر يسد به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليالٍ متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثَّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه ﵊.
وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعًا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارًا ورداءً فحسب، وما أكل على خوان قط، وربما أرسل له أصحابه الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكرامًا لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبًا لروحه وحفظًا لدينه، ليبقى أجره كاملًا عند الله ربه، وليتحقق له وعد مولاه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى:٥] فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهمًا ولا دينارًا، ويوزع الإبل والبقر والغنم على أصحابه وأتباعه والمؤلفة قلوبهم ثم لا يذهب بناقةٍ ولا بقرةٍ ولا شاة، بل يقول ﵊: ﴿لو كان لي كشجر تهامة مالًا لقسمته، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذابًا ولا جبانًا﴾
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم
بل كان ﵊ الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة، وترك الدنيا وعدم الالتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يَبن قصرًا، ولم يدخر مالًا، ولم يكن له كنزٌ ولا جنةٌ يأكل منها، ولم يخلف بستانًا ولا مزرعة، وهو القائل: ﴿لا نورث، ما تركناه صدقة﴾.
وكان يدعو بقوله وفعله وحاله إلى الزهد في الدنيا، والاستعداد للآخرة بالعمل، ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده -كما تقدم- فكان لا يرد سائلًا، ولا يحجب طالبًا، ولا يخيب قاصدًا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال: ﴿كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل﴾ وقال: ﴿ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل قائل في ظل شجرة ثم قام وتركها﴾ وقال: ﴿الدنيا ملعونةٌ وملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا﴾ وقال: ﴿ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت﴾.
2 / 7