Серия вершин для людей с высоким стремлением
سلسلة القمم لأهل الهمم
Жанры
مفتاح النجاح
إن لمن أراد النجاح منطلقات لابد أن يبدأ بها، ويسير عليها، ويستصحبها في طريقه للنجاح، وإن من هذه المنطلقات أن يكون الخير نيته في كل عمل، وأن يستحضر نفع الآخرين، ويكف عن الشر، والجد هو الطريق الأعظم إلى المجد، ولابد لمن أراد النجاح أن يتدبر في حال الناجحين من قبله لينهج نهجهم ويقتبس من سيرتهم؛ لكي تكون له كالشمعة تضيء له الطريق.
1 / 1
منطلقات الناجحين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذه سلسلة "القمم لأهل الهمم:
المحاضرة الأولى: (مفتاح النجاح) هذه المحاضرة لكل صاحب همة، ورب عزيمة، ورفيق طموح يريد النجاح في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيكون مقبولًا عند الله وعند خلقه، راضيًا عن ربه، وربه راضٍ عنه، محبوبًا عند أهله وذويه وأصحابه، لحياته معنى، وله قضية، ولديه مبدأ، فأستعين بالله وأقول:
فصل:
منطلقات الناجحين: الأعمال بالنيات فانو الخير في كل عمل، واستحضر نفع الآخرين والكف عن الشر، ولا تضق ذرعًا بالمحن؛ فإنها تصقل الرجال، وتقدح العقل، وتشعل الهمم.
العمل والجد هو الطريق الأعظم إلى المجد، وهو بلسم لأدوائك، وعلاجٌ لأمراضك، بل هو كنزك.
قيمة كل امرئٍ ما يحسن، والعاطل صفر، والفاشل ممقوت، والمفسق رخيص.
ركز اهتمامك على عملٍ واحد، وانغمس فيه، واحترق به، واعشقه لتكون مبدعًا.
ابدأ بالأهم فالمهم، وإياك والشتات، وتوزيع الجهد على عدة أعمالٍ؛ فإنه حيرةٌ وعجز.
النظام طريق النجاح، ووضع كل شيءٍ في موضعه مطلبٌ للناجحين، أما الفوضى فهي صفةٌ مذمومة.
الناجحون يحافظون على مقتنياتهم وأمتعتهم، وأشيائهم، فلا يبذرون، ولا يفسدون.
لا يفوح العطر حتى يُسحق، ولا يُضَّوُع العود حتى يُحرق، وكذلك الشدائد لك هي خيرٌ ونعمة.
الناجح لا يغلب هواه عقله، ولا عجزه صبره، ولا تستخفه الإغراءات، ولا تشغله التوافه.
إياك والضجر والملل، فإن الضجور لا يؤدي حقًا، والملول لا يرى حرمة، وعليك بالصبر والثبات.
من ثبت نبت، ومن جد وجد، ومن زرع حصد، ومن صبر ظفر، ومن عَزّ بَزّ.
النملة تكرر الصعود ألف مرة، والنحلة تذهب كرةً بعد كرة، والذئب من أجل طعامه هجر المسرة.
لما هوى السيف قطع، ولما اشتعل البرق سطع، ولما تواضع الدر رفع، ولما جرى الماء نفع.
الكسول مخذول، والهائم نائم، والفارغ بطال، وصاحب الأماني مفلس.
من لم يكن له في بدايته احتراق، لم يكن له في نهايته إشراق، ومن جد في شبابه ساد في شيخوخته.
تذكر أن في القرآن: "سارعوا، وسابقوا، وجاهدوا، وصابروا، ورابطوا" وفي السنة: ﴿احرص على ما ينفعك.
﴾ و﴿بادروا بالأعمال.
﴾ و﴿نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ﴾.
1 / 2
نماذج من الناجحين
أبو بكر الصديق ثاني اثنين، أنفق أمواله، يدعى من أبواب الجنة الثمانية، وهو قامع الردة.
عمر بن الخطاب يفر منه الشيطان، ووافقه الوحي أكثر من مرة.
عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة، ويوقف بئر رومة، ويختم القرآن في كل ركعة.
علي بن أبي طالب يبارز في بدر، ويفتح حصن خيبر، ويقتل مرحبًا، ويذبح عمرو بن ود يوم الخندق.
خالد بن الوليد يخوض مائة غزوة، ويقتل يوم اليرموك خمسة آلافٍ بيده، ويكسر تسعة أسياف.
ضُرب طلحة في جسمه حتى شلت يده، وقتل حنظلة جنبًا فغسلته الملائكة، واهتز عرش الله لموت سعد.
طعن عبد الله بن عمرو والد جابر أكثر من ثمانين طعنة، فكلمه الله بلا ترجمان.
جمع أبي بن كعب القرآن وجوده، فذكره الله في الملأ الأعلى، وأمر رسوله ﷺ أن يقرأ عليه سورة البينة.
تصدق ابن عوف بألف جمل بحمولتها على الفقراء، وتصدق أبو طلحة بمزرعته في سبيل الله.
حفظ أبو هريرة غالب السنة، ووزع ليله -ثلاثًا- للصلاة والمذاكرة والنوم.
مشى أحمد بن حنبل ثلاثين ألف ميل في طلب الحديث، وحفظ ألف ألف أثر، وترك المسند أربعين ألفًا.
سافر جابر بن عبد الله في طلب حديثٍ واحد إلى مصر شهرًا، وسافر ابن المسيب ثلاثة أيامٍ في مسألة.
روى ابن حبان الحديث عن ألفي شيخ، وصنف الصحيح فصار أعجوبة، وتبحر في الفنون حتى صار نجم زمانه.
كرر المزني رسالة الشافعي خمسمائة مرة، وكرر عالم أندلسي صحيح البخاري سبع مائة مرة.
أعاد أبو إسحاق الشيرازي درسه مائة مرة، وأعاد كل قياسٍ ألف مرة، وألف مائة مجلد.
صنف ابن عقيل الفنون ثمانمائة مجلد، وكان يأكل الكعك على الخبز ليوفر قراءة خمسين آية.
كتب ابن تيمية في اليوم أربعة كراريس، تفرغ الواحدة منها في أسبوع، ويؤلف كتابًا كاملًا في جلسةٍ واحدة، وكتب عنه أكثر من ألف مؤلف.
كتب ابن جرير مائة ألف صفحة، وصنف ابن الجوزي ألف مصنف، وحفظ ابن الأنباري أربعمائة تفسير.
بقي عطاء بن أبي رباح ينام في المسجد ثلاثين سنة في طلب العلم، وما فاتت تكبيرة الإحرام الأعمش ستين سنة.
ذكر النووي أن كرز بن وبرة كان يختم القرآن أربعًا في الليل وأربعًا في النهار، وختم ابن إدريس القرآن في بيته أربعة آلاف مرة، وكان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة، والبخاري ثلاثين مرة، وكان أحمد يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة.
كان أبو هريرة يسبح اثني عشر ألف تسبيحة، وكان خالد بن معدان يسبح مائة ألف تسبيحه، وعاصرنا من كان يقرأ قل هو الله أحد ألف مرة كل يوم، ومن كان يختم القرآن كل يوم ختمة، ومن كان يسبح خمسة عشر ألف تسبيحة في اليوم.
ألف سيبويه أعظم كتابٍ في النحو وهو في الثلاثين من عمره، طرفة بن العبد من أصحاب المعلقات قتل وعمره ستٌ وعشرون، وقاد محمد بن القاسم الجيوش وعمره سبع عشرة سنة.
روى الحسن الحديث عن جده ﷺ وعمره خمس سنوات، وعقل محمود بن الربيع مجة الرسول ﵊ في وجهه وعمره خمس سنوات، وحفظ ابن عباس الحديث وعمره ثمان سنوات، وكان ابن تيمية يفتي وعمره ثماني عشرة سنة.
ألف ابن حجر الفتح ومقدمته في اثنين وثلاثين سنة، وكتاب الغريب لـ أبي عبيدة في أربعين سنة، وكتاب الأغاني للأصفهاني في خمسين سنة.
قتل جعفر البرمكي الوزير الخطير الجواد وعمره سبعٌ وثلاثون سنة، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد أربعون سنة، وابن المقفع الكاتب اللامع سبعٌ وثلاثون سنة.
حج مسروق فما نام إلا ساجدًا، وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه، وبكى يزيد بن هارون حتى ذهبت عيناه، ومشى أبو موسى الأشعري حتى تشققت قدماه.
قال البخاري: ما كذبت كذبةً منذ احتلمت، وقال الشافعي: ما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا.
ما عال من اقتصد، وما فشل من اجتهد، ومن تفقه شبابه تعلقت السيادة بأهدابه.
مالك هو عمك وخالك، وفلوسك هي ضروسك، ودراهمك هي مراهمك، فلا تسرف ولا تبخل.
إن الماء الراكد يأسن، وإن البلبل المحبوس يموت، وإن الليث المقيد يذل.
ألذ طعامٍ بعد جوع، وأعذب ماءٍ بعد ظمأ، وأجمل نجاحٍ بعد تضحية.
إن الكتب تلقن الحكمة ولكنها لا تخرج حكماء، والسيف يقتل لكنه بكف الشجاع، السباحة لا تتعلم في الدفاتر ولكن في الماء، والرياضة لا تتلقى من الشاشة لكن في الميدان.
الدنيا تؤخذ غلابًا، وسوق المجد مناهبة، والحياة صراع، والعلياء تُنال بالعزائم، من عنده همةٌ متوقدة، ونفسٌ متوثبة، ونشاطٌ مغوار، وصبرٌ دائم فهو الفريد.
قيل لـ أبي مسلم الخرساني: ما لك لا تنام؟ قال: همةٌ عارمة، وعزيمةٌ ماضية، ونفس لا تقبل الضيم، أسرع الفرس فركبه الملوك، وتبلد الحمار فركبه العبد، وافترس الأسد فملك الغابة.
لا يرهب السيف حتى يسل، ولا يُخاف الرعد حتى يجلجل، ولا يهرب من السيل حتى يحتدم.
أجرى أديسون مكتشف الكهرباء عشرة آلاف تجربة على بطارية كلها أخطأت فواصل حتى نجح، وأقام انشتاين عمره كله في النظرية النسبية، وجمع من براية أقلام ابن الجوزي ما أدفئ به ماء غسله عند الموت، وجمع الغبار من عمامة صلاح الدين فجعل لبنةً تحت رأسه في القبر، وترك حمل الطعام للأيتام في الظلام في جسم علي بن الحسين آثارًا وندوبًا.
يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم:٣٩ - ٤١] ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة:١٢٠] ﴿الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني﴾
أجمل السواعد سواعد العمال، وأحسن الرءوس رءوس المحلقين، وأهنأ النعاس نعاس المتهجدين، وأطهر الدماء دماء الشهداء.
الذي يقهر نفسه أعظم ممن يفتح مدينة، والذي يقاوم هواه أجل مِن مَن يحارب جيشًا.
صام أبو طلحة أربعين سنة سردًا، وحج ابن المسيب ستين حجة، وأفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة بالدليل، خدم أبو شجاع الملوك ستين سنة، فكفر عنها بخدمة ستين سنة في مسجد الرسول ﵊.
فكن رجلًا رجله في الثرى وهامة همته في الثريا
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
طاف ابن بطوطة الدنيا في ثلاثين سنة، ولقي في رحلته الألاقي حتى جمع الغرائب والعجائب وصار حديث الدهر، اعتزل ابن خلدون في قلعة فكتب تاريخه وحرره وحبره فصار آية للسائلين، كتب ابن عساكر الحافظ تاريخ دمشق في ستين سنة، فما ترك عالمًا ولا أديبًا ولا شاعرًا ولا شاردةً ولا واردة عن دمشق إلا سجلها.
اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
وإنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعول في الدنيا على رجل
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاقُ
كان ابن تيمية إذا صعبت عليه مسألة استغفر الله ألف مرة، وقال تلاميذ الخطيب البغدادي له وهم في سفر: حدثنا، فقال: نبدأ بالقرآن فختمه كله ثم حدثهم، قيل لـ أبي الطاهر السُلَفي: من أين لك هذا العلم؟! قال: من جلوسي في بيتي مع الكتب سبعين سنة.
لا يصلح النفس ما دامت مدبرةً إلا التنقل من حالٍ إلى حالِ
1 / 3
نصائح للناجحين
عليك بالمشي والرياضة والنظافة، فإن الناجحين أقوياء أصحاء ﴿بارك الله لأمتي في بكورها﴾ فإذا أردت عملًا فعليك بالصباح فإنه أسعد الأوقات.
لا تقف فإن الملائكة تكتب، والعمر ينصرم، والموت قادم، وكل نفسٍ يخرج لا يعود.
من زرع (سوف) أنبتت له (لعلَّ) وأطلعت له (بعسى) وأثمرت (بليت) لها طعم الندامة ومذاق الحسرة.
إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وبادر الفرصة، واحذر البغتة، وإياك والتأجيل والتردد، وإذا عزمت فتوكل على الله.
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
الإبداع أن تجيد في تخصصك، وما يناسب مواهبك فـ ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة:٦٠] ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة:١٤٨].
لا يضير الناجحين كلام الساقطين فإنه علوٌ ورفعة، كما قال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت أتاح لها لسان حسودِ
النقد الظالم قوةٌ للناجح، ودعاية مجانية، وإعلانٌ محترمٌ له، وتنويه بفضله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ
الناجح يقوم بمشاريع يعجز عنها الخيال، وتظهر عظماء الرجال، وتثير الدهشة والغرابة والتعجب في الأجيال.
الناجح لا يعيش على هامش الأحداث، ولا يكون صفرًا بلا قيمة ولا زيادة في حاشية.
من كانت همته في شهواته وطلب ملذاته كثر سقطه وبان خلله، وظهر عيبه وعوره.
من خدم المحابر خدمته المنابر، ومن أدمن النظر في الدفاتر احترمته الأكابر.
من خلق الناجح التفاؤل، وعدم اليأس، والقدرة على تلافي الأخطاء، والخروج من الأزمات، وتحويل الخسائر إلى أرباح.
القطرة مع القطرة نهر، والدرهم مع الدرهم مال، والورقة مع الورقة كتاب، والساعة مع الساعة عمر.
أمس مات، واليوم في السياق، وغدًا لم يولد؛ فاغتنم لحظتك الراهنة؛ فإنها غنيمة باردة.
المؤمن لا يخلو من عقلٍ يفكر، ونظرٍ يعبر، ولسانٍ يذكر، وقلبٍ يشكر، وجسدٍ على العمل يصبر.
في الدقيقة الواحدة تسبح مائة تسبيحة، وتقرأ صفحةً من المصحف، وتطالع ثلاث صفحات من كتاب، وتكتب رسالة، وتتلو سورة الإخلاص ثلاثًا.
كرر النيسابوري صحيح مسلم مائة مرة، وأعاد ابن سيناء كتاب الفارابي أربعين مرة، وقرأ بعضهم المغني عشر مرات.
احترقت كتب ابن حزم كلها فأعادها من حفظه، وكان قتادة يحفظ حمل بعير، وقال الشعبي: [[ما كتبت سوداء في بيضاء]].
وقام سفيان الثوري ليلةً كاملة يصلي حتى أصبح، وتذاكر ابن المبارك الحديث هو وأحد العلماء وقوفًا حتى الفجر، وبقي محمد الأمين الشنقيطي يبحث في مسألة يومًا وليلة.
كتب يحيى بن معين لفظ ﷺ ألف ألف مرة -أي: مليون- وكان ربما كتب الحديث خمسين مرة، وقال الشعبي: [[أقل ما أحفظ الشعر، ولئن شئتم لأنشدنكم شهرًا كاملًا]].
الناجح يحترمه أطفال مدينته، والفاشل يسخر منه كل أحد حتى ولو اعتذر لهم ألف مرة.
من بكر في طلب العلم بكور الغراب، وصبر صبر الحمار، وعزم عزيمة الليث، واختلس الفرصة اختلاس الذئب، حصل علمًا كثيرًا.
الكسلان محروم، والعاطل نادم، وماء الحركة البركة، ومن صال وجال غلب الرجال.
الطريق شاق، ناح فيه نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل فيه عمر، وأهرق فيه دم عثمان، واغتيل علي، وجلدت فيه ظهور الأئمة.
نسخ ابن دريد كتاب الجمهرة أربع مرات، ونقح البخاري صحيحه في ست عشرة سنة، يغتسل عند كل حديثٍ ويصلي ركعتين، أجر أحمد بن حنبل نفسه في طلب العلم، وباع أبو حنيفة بعض سَعف بيته في العلم، وجاع سفيان ثلاثة أيامٍ في طلب الحديث.
كان النووي يطالع ويكتب، ويحفظ ويصلي ويسبح، فإذا نعس نام قليلًا وهو جالس، وكان للشوكاني اثني عشر درسًا في اليوم، وكان ابن سيناء يكتب في اليوم خمسًا وعشرين صفحة.
كان إدريس النبي ﵊ خياطًا، وداود ﵇ حدادًا، وأجر موسى ﵊ نفسه في الرعي، وكان ابن المسيب يبيع الزيت، وأبو حنيفة يبيع البز.
البدار البدار، قبل تقضي الأعمال، وكتابة الآثار، فلا بقاء مع الليل والنهار، أعوذ بالله من خسة الهمم، وسفاهة العزائم، وسخف المقاصد، وثخانة الطبع، وبلادة النفوس.
بحث علي عن الشهادة في بدر فقالا: في أحد، فهبَّ إلى هناك فقالوا: ربما كانت في الخندق، فسعى إليها قالوا: التمسها في خيبر، فلما أتاها قالوا: تأخر الموعد، قال: ما أحسن القتلة في المسجد.
يحفظ العلم للعمل به، وتعليمه، والتأليف فيه، ومن حفظه وكرره وذاكره وذاكر به ودرسه ثبت في صدره.
لا بد للناجح أن يكون قوي الملاحظة، دائم التركيز، حافظًا للوقت، مديمًا للتدبر، طموحًا إلى المعالي.
قال ابن عباس: [[ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا]] وقال عمر: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] وقال مجاهد: [[لا يطلب العلم مستحٍ ولا مستكبر]].
1 / 4
مثبطات النجاح
مثبطات النجاح: هوىً متبع، ونفسٌ أمارة، ودنيا مؤثرة، وهمة باردة، وطول أمل مع تسويف.
الناجح يأنف من الرزايا، ولا يتحمل الدنايا، ووقت الراحة له عمل، ووقت العمل راحة.
الفراغ مفسدة، والمباحات مشغلة، وأكثر الناس مثبطون، والولد مجبنةٌ محزنةٌ مبخلةٌ، سبعون سنة قضاها الإمام أحمد يتقوت من أجرة دكان، وسبعون سنة قضاها الخليل بن أحمد على الخبز والزيت، وسبعون سنة قضاها سفيان الثوري على خبز الشعير.
الناجح يرضى عنه ربه بالإيمان، وأهله بالألفة، والناس بالأخلاق، والمجتمع بالنفع.
تولى أبو بكر سنتين فأقام الخلافة، وهزم المرتدين، وتولى عمر بن عبد العزيز سنتين فنشر العدل وأزال المظالم، وجدد الدين، وتعلم ابن أبي جعد العلم سنتين فصار مفتي المدينة.
سجن السرخسي فألف المبسوط في ثلاثين مجلدًا، وأبعد ابن الأثير فصنف جامع الأصول والنهاية ثلاثين مجلدًا، وسجن ابن تيمية فأخرج الفتاوى ثلاثين مجلدًا.
كان ابن الجوزي يكتب خواطره، وكان كتاب الفتح بن خاقان في جيبه ليقرأ كل وقت، وكان الخطيب البغدادي يطالع وهو يمشي، قال عمر بن عبد العزيز: [[إن لي نفسًا تواقة، تاقت للإمارة فتوليتها، ثم تاقت إلى الخلافة فتوليتها، وهي الآن تتوق للجنة]].
كان أبو منصور الثعالبي يخيط جلود الثعالب فترقت به همته إلى أن صار أديب الدنيا، وكان الفراء يشتغل بالفراء ثم صار نابغة النحو، وابن الزيات كان يبيع الزيت ثم تولى الوزارة.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال آخر:
همةٌ تنطح الثريا وحزمٌ نبويٌ يزعزع الأجبالَ
وقال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ
وقال الشاعر:
همتي همة الملوك ونفسي نفس حرٍ ترى المذلة كفرا
وقال آخر:
تريدين إدراك المعالي رخيصةً ولا بد دون الشهد من إبر النحلِ
وقال:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجومِ
وقال:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمامِ
وقال:
ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محببُ
وقال آخر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابرِ
وقال المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وقال ابن الرومي:
لولا لطائف صنع الله ما نبتت تلك المكارم في لحمٍ ولا عصبِ
1 / 5
فصل: همة تنطح الثريا
قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:٣٧] (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج:٧٨] وقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ [آل عمران:١٣٣] وقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ [الواقعة:١٠] وقال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:٢٦].
1 / 6
الرسول وأصحابه
يقول رسولنا ﷺ: ﴿المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير احرص على ما ينفعك واستعن بالله﴾ وقال: ﴿الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني﴾ وقال: ﴿اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك﴾ وقال لأحد أصحابه: ﴿أعني على نفسك بكثرة السجود﴾ وقال لآخر: ﴿لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله﴾ وكان يقول: ﴿اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال﴾.
وقام من الليل حتى تفطرت قدماه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وربما صلى أكثر الليل، وصبر على الإيذاء والسب والشتم والطرد والتشريد من الأوطان، والجراح في المعركة والجوع، وجاهد أعداء الله من مشركين، ويهود، ونصارى، ومنافقين، وكان أعظم الناس جهادًا، وأحسنهم خلقًا، وأجلهم إيمانًا، وأسدهم رأيًا، وأنبلهم كرمًا، وأكرمهم نفسًا، وأطيبهم عشرة، وأشجعهم قلبًا، وأسخاهم يدًا، وأكبرهم همة، وأمضاهم عزيمة، وأكثرهم صبرًا ﷺ.
وصبر معه أصحابه أَجلَّ الصبر، وجاهدوا أحسن الجهاد، فوقفوا مواقف تشيب لها الرءوس، فضحوا بأموالهم وأنفسهم، وقدموا الغالي والرخيص في سبيل الله، ولقوا الألاقي في مرضاته، فنكل بهم من أعدائهم، فمنهم من قتل، ومنهم جرح، ومنهم من قطعت أعضاؤه ومزقت أطرافه، وأكلوا من الجوع ورق الشجر، وسحب بعضهم على الرمضاء وحبس البعض، هذا وهم صامدون مجاهدون مناضلون مكافحون، يستعذبون من أجل دينهم العذاب، ويستسهلون الصعاب، ويتجرعون الغُصف.
فهذا أبو بكر الصديق ﵁ ينفق ماله في سبيل الله، ويهب عمره كله لمرضاة الله، فهو المصلي الصائم المنفق المجاهد المضياف الجواد البار الصادق الذاكر العابد القانت الأواب، حتى إنه ليدعى من أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة؛ لكثرة فضائله وإحسانه، وهو رفيق الرسول ﷺ في الهجرة، وصاحبه في الغار، ما تخلف عن غزوة، ولا تأخر عن معركة، بل هو السَّباق الأول إلى الإسلام، والهجرة والجهاد والبر والتقوى، وما استحق كلمة الصديق ولا تاج القبول ولا وسام البر إلا بعد جهادٍ عظيم، وخلقٍ مستقيم، وفضلٍ عميم.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب ﵁ بلغ الغاية في الزهد والورع مع ما سبق له من المقامات الجليلة في الإيمان، والتضحية والهجرة، والجهاد، والإنفاق مع خشيته لربه، ومراقبة لمولاه، وعدلٍ في رعيته، وضبط لشئون المسلمين، وإتقانٍ لعمله في الخلافة مع الصدق في السر والعلن، والإنصاف في الغضب والرضا، مع ما كان عليه من الفقه في الدين، والاجتهاد في معرفة الوحي، واستنباط الحكم من النصوص.
وهذا عثمان بن عفان ذي النورين ﵁، الذي سارع إلى الاستجابة لله ولرسوله، فأسلم قديمًا ولزم الرسول ﷺ مع العسر واليسر، فصدق مع الله جهاده وهجرته وإنفاقه، فجهز جيش العسرة، واشترى بئر رومة، وأوقفها على المسلمين، ومهر في القرآن، وجوده، حتى كان يتهجد به أكثر الليل، مع الحياء من الله، والسعي في مرضاته، مع صدق اللهجة، وكرم النفس، وطهر الضمير، وحمد السيرة.
وهذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن ﵁، كان سيد الشجعان، ورائد الفرسان، حضر المعارك، وجالد بسيفه، وقتل الأقران، فكان ميمون النقيبة، مبارك السيرة، طيب السريرة، مع ما كان عليه من علمٍ غزير، وفقهٍ ثاقب، وفصاحةٍ مشرقة، وشجاعةٍ متناهية، وزهدٍ عظيم، وإقدامٍ وتضحية، وهمةٍ ومضاء، وعزيمةٍ وإباء، حتى استحق هذه المنزلة يجدارةٍ وتأهل للمجد بحق.
وهذا أبي بن كعب سيد القراء، جمع القرآن وأتقنه وحفظه، وضبط فعلم، وعلَّم وصدق ونصح حتى صار آيةً في هذا الفن ومرجعًا في هذا الباب.
وهذا الزبير بن العوام أصيب في كل شبرٍ من جسمه في سبيل الله، فاستحق رفقة الرسول عليه والسلام، والمنزلة العالية، ورضوان الله.
وسعد بن أبي وقاص أحد العشرة، وخال الرسول ﷺ، صدق الله فكان مجاب الدعوة، ثابت القلب، فنصره الله على أهل فارس، ورفع به رأس كل مسلم، وكبت به أعداء الله، فكان الأسد في براثنه.
وعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة تصدق بقافلةٍ في سبيل الله، بجمالها، وحمولتها طلبًا لمرضاة الله، وأنفق في كل عمل راشدٍ مبرور.
وهذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر الشريعة، وترجمان القرآن، جدَّ في طلب العلم، وحرص غاية الحرص، وبلغ النهاية في فهم الوحي، وتصدر لتعليم الناس، فكان عجبًا في فهمه وحفظه وبيانه وكرمه وسخائه، حتى صار إمامًا للناس لما صبر وجاهد وعلم وتعلم.
وهذا معاذ بن جبل إمام العلماء، طلب العلم من معلم الخير ﷺ، وعمل بما علمه الله، فكان مثال العالم العامل المنيب المخبت الزاهد العابد، ودعا إلى الله، وعلم عباده، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، مع فقهٍ عميق، وخلقٍ كريم، ورفقٍ بالناس، وسخاءٍ بذات يده.
وأبو هريرة سيد الحفاظ، جمع الحديث حفظًا، وبلغه الأمة صدقًا، فكان الحافظ الأمين حقًا، قسم ليله للعبادة وتذكر الحديث والنوم، واشتغل بتعليم الناس مع الفتيا والوعظ والجهاد والتعليم، وما ذاك إلا لسمو همته، ومضاء عزيمته، وقوة نفسه.
وهذا خالد بن الوليد: سيف الله المسلول، كتب اسمه في سجل الخالدين بحروفٍ من النور، وخلد ذكره في ديوان الفاتحين بأسطر من ضياء، نصر الإسلام بسيفه، وخاض غمار المعارك، يعرض نفسه للأخطار، ويقدم روحه في راحته مستهينًا بالمصاعب، حتى صار مضرب المثل في الفداء والتضحية، وسمو القدر، وجلالة المنزلة، وارتفاع المحل.
1 / 7
علماء التابعين
٤٠٠٠٤٨٥ سعيد بن المسيب: سيد التابعين، ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة، وكان يمضي ثلاثة أيام مسافرًا في طلب الحديث الواحد، وغالب جلوسه في المسجد، وكان مرجع الناس في الفتيا وتعبير الرؤيا، مع قيام الليل، والقوة في ذات الله، والغيرة على محارم الله، والصدق والزهد والإنابة والسخاء والهيبة والعلم الراسخ.
عطاء بن أبي رباح المولى الأسود: رفعه الله بالعلم، ومكث بالحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، ثم صار مفتي الناس، مع تقشفه وإخلاصه وورعه، وتبحره وإتقانه في الرواية، وفقهه في الدراية، فصار إمامًا للناس.
والحسن البصري المولى: جاهد في طلب العلم ومعرفة السنة، والصبر على الاشتغال بالأثر، مع ما رزقه من فصاحةٍ ورجاحةٍ وملاحةٍ وسماحة؛ فصار كلامه دواءً للقلوب، ووعظه حياةً للنفوس، وهو في ذلك واحد الناس زهدًا وتواضعًا وإنابةً وخشيةً وورعًا واستقامة، حتى رفعه الله في المحل الأسمى وبوأه الله المكان الأعلى.
ومحمد بن شهاب الزهري: حافظ السنة، وإمام الناس في الحديث، طلب العلم مع الفقر والحاجة، وصبر وثابر، وارتحل إلى العلماء، واعتنى بالحديث، فصار أحفظ أهل زمانه، مع فقهٍ ودراية، وسخاءٍ حاتمي، وكرمٍ سارت به الركبان، فاستحق أن يكون اسمه في ديوان السنة مرقومًا، وفي الخلود منقوشًا.
وعامر الشعبي: الإمام الجامع للعلوم، كان قديم السلم، وافر الحلم، كثير العلم، تبحر في السنة، وبرع في الأدب، مع ذهنٍ وقاد، وقلبٍ ذكي، وفهمٍ ثاقب، حتى صار رسول الخليفة عبد الملك إلى ملك الروم، لعلمه وفهمه وبديهته وفصاحته ونبله وقوة شخصيته، وهو الذي يقول: [[ما كتبت سوداء في بيضاء، وما استودعت شيئًا فخانني]] أي ما نسي علمًا.
أبو حنيفة: الفقيه الكبير، اجتهد في طلب العلم ورزقه الله فهمًا وذهنًا خصبًا، صار الناس في الفقه عيالًا عليه، فقعد واستنبط، وصدف عن الدنيا، وأعرض عن المناصب، وفَرَقَ من القضاء، واكتفى ببيع البز، مع عبادةٍ وزهدٍ وخشوعٍ وصدقٍ وذكاءٍ منقطع النظير.
مالك بن أنس: إمام دار الهجرة، صاحب الموطأ الذي فاق الناس عقلًا، وأنفق عمره في طلب الحديث، حتى شهد له سبعون عالمًا أنه أهلٌ للفتيا، فصارت تضرب إليه أكباد الإبل، وتشد إليه الرحال، حباه الله بجلالة ووقارٍ مع سمتٍ وجمال مظهرٍ وسلامة مخبر.
الشافعي: إمام الآفاق، الذي قعَّد القواعد، وأصَّل الأصول، سخر جسمه ووقته في طلب العلم، فحلَّ وارتحل، وجال وصال، حتى ضرب بعلمه الأمثال، وصار كالشمس للبلدان، وكالعافية للأبدان، مع صبره وشكره وزهده وأدبه وفصاحته وشعره ونبوغه وعلو همته، ورجاحة عقله، وسعة معارفه.
أحمد بن حنبل: إمام السنة، وقامع البدعة، وبطل المحنة، طاف الأقطار، وقطع القفار في جمع الآثار، مع الجوع الشديد، والتعب المضني، والفقر المتقع، والزهد الظاهر، ثم ابتلاه الله بالمحنة، فحبس وجلد فما أجاب، فرفعه الله لعلمه وصبره وصدقه، حتى أصبح ذكره في الخالدين، وصار إمامًا للناس أجمعين.
عمر بن عبد العزيز: الخليفة الزاهد العابد المجاهد، مجدد القرن الأول، عزف عن الدنيا، وأعرض عن الشهوات، وأقبل على العلم والعبادة، والزهد والعدل، فأقام الله به السنة، وقمع به البدعة، وأنار به طريق الإصلاح، وجدد به معالم الفلاح، فهو إمام هدى، وعالم ملة، ورباني أمة.
سفيان الثوري: زاهد زمانه، وعالم دهره، زهد في الفاني، وأقبل على الباقي، وحفظ الحديث، وجَوَّد الزَاد، أفتى وعلم، وأمر ونهى ووعظ، ونصح بنية صادقة، وعزيمة ماضية، وهو مع ذلك يحفظ أنفاسه، ويربي جلاسه، حتى أتاه اليقين.
عبد الله بن المبارك: الذي جمع الله له المحاسن، فهو العالم العامل الزاهد العابد المجاهد المحدث الحافظ الغني المنفق، الأديب الفصيح، سليم الصدر، طيب الذكر، عظيم القدر، منشرح الصدر، دأب في الخير، وصبر على التحصيل، وداوم على الفضائل، حتى جعله الله إمامًا في الناس يفوق الوصف.
الإمام البخاري: صاحب الصحيح فتح الله عليه بالعلم، فوصل الليل بالنهار في طلب الآثار، حتى صار إمام الأقطار، فضرب بحفظه المثل، مع المعرفة التامة، والفهم الدقيق، يُزين ذلك خلقٌ كريم، وزهدٌ مستقيم، ثم ترك ميراثًا مباركًا من العلم في كتابه الصحيح، الذي هو أجل كتابٍ بعد القرآن، فجزاه الله عن الأمة أفضل الجزاء، وأنزله الفردوس الأعلى.
وقس على هذا الإمام مسلم صاحب الصحيح، ومصنفي الصحاح والسنن، والمسانيد، والمعاجم من المحدثين الأخيار أهل الهمم الكبار.
وانظر لـ سيبويه: إمام النحو، الذي طاف البوادي، وزاحم العلماء، ثم ألف كتابه المسمى بـ الكتاب، فصار أعظم كتابٍ في النحو، وصار من بعده من النحاة عالةً عليه، فاستحق الثناء، واستوجب الشكر، ونزل منزلةً ساميةً عند أهل الإسلام، لفرط ذكائه وبراعته، ومئات النحاة تزينت بهم الكتب، وأشرقت بهم المجالس، ولولا الإطالة لأشرت لكل واحدٍ منهم، وإنما أكتفي بالأعيان، ومن له ذكرٌ وأثرٌ وتفردٌ وتميزٌ ولموعٌ وسطوعٌ وإبداعٌ.
وهذا محمد بن جرير الطبري: صاحب التفسير، جمع الفنون، وصنف التصانيف، وحاز قصب السبق في تفسير كتاب الله، حتى صار شيخ المفسرين، وصار كتابه أعظم كتابٍ في هذا الفن، فتداوله الملوك، وتباصرت به الأقطار، ونهلت من فيضه الأجيال، فهو مرجعٌ لكل مفسر، ومعتمد كل عالمٍ لكتاب الله تعالى.
وهذا ابن حبان صاحب الصحيح، المحدث الأعجوبة، الذكي العبقري اللوذعي الألمعي، طاف البلدان، وهجر الأوطان، وبرع في هذا الشأن، حتى روى عن ألفين من الشيوخ، ومن شاء فلينظر إلى كتابه الصحيح، وكتبه الأخرى، فإن فيها من التبحر والدقة والبراعة ما يفوق الوصف.
1 / 8
الأئمة الكبار
ومن الأئمة الكبار أبو إسحاق الشيرازي، الفقيه الشافعي، صاحب المؤلفات الذائعة الشائعة الماتعة النافعة، كان يكرر درسه -كما سلف- مراتٍ كثيرة، يقول فيه الشاعر:
تراه من الذكاء نحيل جسمٍ عليه من توقده دليلُ
إذا كان الفتى ضخم المعالي فليس يضيره الجسم النحيلُ
ومن الفلاسفة الأذكياء وأهل المنطق والأطباء، ابن سيناء الرئيس الرئيس؛ فإنه برع في فنونه، وسهر الليالي في مذهبه، وجدَّ وحصَّل، وثابر وواصل حتى صار يُضرب بهمته المثل، وكان يكتب كل يومٍ كراسة، وصار أعجوبة الأعاجيب في تخصصه، وأحد أذكياء العالم على فسادٍ في مذهبه.
والفارابي الفيلسوف كان بِزي جندي، انصب وانكب على كتب اليونان حتى رسخ فيها، وأدمن النظر في ضوابطها، حتى أتقنها وصار من أكبر الفلاسفة لصبره وهمته وجلده فيما توجه له من مذهب، على رغم تحفظنا من مذهبه.
والفخر الرازي صاحب التفسير جمع فأوعى، وصنف وألف، ودرس ووعظ، وخطب وكتب، وصار عين زمانه، وقريع دهريه، في بهجة من الأبهة والفخامة الدنيوية، والثراء الفاحش، والله الموعد.
ومن العلماء الربانيين الإمام النووي، مات في سن الأربعين، لكنه ترك علمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وحسبك بـ رياض الصالحين، هذا الإمام وصل ليله بالنهار، وصام وقام، وسطع ولمع، وجمع العلم، وهجر الكرى، وجد في السُرى، حتى اعتزل الزواج ليتفرغ للعلم فأتى فيه بالعجب العجاب.
وشيخ الإسلام، وعلم الأعلام ابن تيمية، سيد العلماء، وكبير الفقهاء، جد في الطلب، فحاز الرتب، حقق، ودقق، ودرس، وخطب، وأفلح حتى صار مجدد قرنه، ومصلح زمانه، وترك من التأليف ما يفوق الوصف، براعةً وحسنًا وأصالةً وعمقًا، فهو حقيقةً مضرب المثل للعالم الرباني، العامل بعلمه، زهدًا وخشيةً وإنابةً وجهادًا وصدقًا وتواضعًا وكرمًا وشجاعةً وإمامة، وما حصل له هذا الفضل إلا بفتح الله وكرمه، بعد صبرٍ وجلد، وسهرٍ وتعب، ومشقةٍ ونصب؛ لأنه كان ذا همةٍ عارمة لا تقبل الأدنى، وعزيمة صارمة لا ترضى بالدون، فبز علماء عصره، وصار المرجعية الكبرى للفتيا، فهو قصة سارت بها الركبان، وأعجوبةً قل أن يرى مثلها الزمان.
وتلميذه ابن القيم: صاحب التصنيف المبارك البديع، الذي استفاد منه الموافق والمخالف، مع حسن لفظ، وبراعة إنشاء، وقوة حجة، وصحة برهان، ورسوخ علم، وعمق فهم، وكان في نفسه ذاكرًا، شاكرًا، صابرًا، صوامًا، قوامًا، عابدًا، زاهدًا.
وابن رجب الحافظ المجتهد، كتبه خير شاهدٍ على علمه وفهمه وتبحره، وله جهدٌ مباركٌ مشكور في شرح الأحاديث، وإخراج كنوز الآثار، بل لا أعلم عالمًا له من البراعة في الشرح مثل ما لهذا العالم الكبير.
ومنهم حافظ الدنيا في زمانه ابن حجر، صاحب فتح الباري الذي شرح فيه صحيح البخاري، فقد دبجه في خمس وعشرين سنة، وصنف المقدمة في سبع سنوات، فأتى بما يذهل العقول، ويدهش الألباب، مع عشراتٍ من المجلدات غير ذلك.
وكان دائم التحصيل والتأليف والتدريس، لا يكل، ولا يمل، ولا يفتر، ولا يسأم، ولا يضجر، حتى أصبح خاتمة الحفاظ، وسيد الجهابذة، وشيخ المحدثين، ومن شاء أن يعرف هذا الرجل فلينظر في الفتح، فلا هجرة بعد الفتح.
ومنهم السيوطي جامع الفنون، وحائز قصب السبق في التأليف والتصنيف، وقد اعتزل في الأربعين، وترك تراثًا ضخمًا من المؤلفات النافعة الذائعة.
وقبلهم ابن الجوزي واعظ الدنيا، أكبر مؤلفٍ في كثرة ما أُلف، فقد ألف قرابة ألف مصنف ما بين كتابٍ ورسالة، وشغل وقته بطلب العلم، والحفظ، والتفقه، والتصنيف، والتدريس، والوعظ، حتى أصبح حديث الركبان، وقصة الزمن، وأعجوبة الدهر، فصاحةً ونباهةً وعلوًا وخطرًا.
ومن أهل الهمم القوية، والعزائم المرضية، السلطان نور الدين محمود زنكي، الإمام العادل، الخاشع العابد الزاهد المجاهد الصوام القوام الذاكر الشاكر، الصابر الشهيد الفريد، صاحب الرأي السديد، والنهج الرشيد، عدل في الرعية، وحكم بالسوية، وهجر الدنيا الدنية، ورزقه الله الشهادة بعد عمرٍ حافلٍ بالصالحات والخيرات.
ومنهم صلاح الدين الكردي الأيوبي فاتح القدس، وهازم الصليب، وناصر الملة، ومقيم العدل، مع تقوى وديانة، وخشية وأمانة، رفعه الله بالإخلاص، ونصره بالصدق، وفتح عليه في الجهاد، دوخ الأعداء، ونشر الملة السمحاء، وجد في طلب العلياء، ومثلهم مضى القادة من الفاتحين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بجمعهم الهمة والصبر مع صدق العزيمة، وقوة الإرادة، وسمو القدر.
1 / 9
أئمة هذا الزمان
ومنهم مجدد الإسلام في هذا الزمان، الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي جدد الله به دينه، ونصر به شرعه، وأعلى به كلمته، وهو الذي دعا إلى التوحيد، وهزم الأوثان، وأزال الشركيات، وصحح المعتقد، وجاهد في الله حق جهاده بعزمٍ أمضى من السيف، وهمةٍ أقوى من الدهر، وصبرٍ عظيم، وإخلاصٍ وتضحية، حتى رفع الله محله، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وكبت أعداءه، فاستحق كلمة الثناء، ومنزلة الإمامة، ورتبة الربانية.
وممن عاصرنا ورأينا وجالسنا وعرفنا سماحة الإمام العالم العامل الشيخ عبد العزيز بن باز، جامع الميميات الثلاث ميم العلم وميم الحلم وميم الكرم، كان إمامًا في السنة على هدي السلف، محدثًا فقيهًا عالمًا مربيًا، رفيقًا بالناس، رحيمًا متواضعًا صبورًا، يقوم بأعمالٍ يعجز عنها نفرٌ من الرجال، فكان يعلم ويفتي، ويراجع الكتب، ويرسل الرسائل للآفاق، ويشفع، ويضيف، وينصح، ويعظ، ويحاضر، ويحضر المؤتمرات، مع زهدٍ وخلقٍ وسماحةٍ وذكرٍ وتهجدٍ وصدقات، وإصلاحٍ بين الناس، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر، وصبرٍ على أذى، وشفقة على المساكين، ورحمة بالفقراء، وحبٍ لطلبة العلم.
ولا ننسى الإمام الفقيه العلامة الزاهد محمد بن عثيمين، كان فقيهًا ذكيًا ألمعيًا عالمًا، علم وأفتى، ودرس بصبرٍ وحكمةٍ ورفق، وأتقن عدة فنون شرعية، وواصل التعليم والإفتاء حتى طبق اسمه الآفاق، مع صدوفٍ عن المناصب، وزهدٍ في المراتب، وإعراضٍ عن الدنيا، وترك طلابًا نجباء، وكتبًا هي قرة عيون العلماء، صحةً في المعتقد، وقوةً في الحجة، وجمالًا في الأسلوب.
وكذلك محدث العصر، وعلامة السنة في زمانه، محمد بن ناصر الدين الألباني، صاحب المصنفات المشهورة، والرسائل النافعة، قضى عمره كله ليله ونهاره في خدمة السنة، تصحيحًا وتضعيفًا وجرحًا وتعديلًا، وكان على هدي السلف، مع اهتمام بشئون المسلمين وقضاياهم في مشارق الأرض ومغاربها.
ومحمد الأمين الشنقيطي، الإمام الحافظ الأصولي المفسر النظار اللغوي، حافظ وقته، كان يلقي الدرس ارتجالًا فيأتي بالعجب العجاب، لجودة ذهنه، وصفاء خاطره، وقوة حفظه، حتى انبهر منه العلماء، وصار مضرب المثل للأذكياء.
1 / 10
كل ميسر لما خلق الله
وبعد هذا فعليك أن تتعرف على مواهبك التي منحك الله، فتوظفها في بابها، سواء علمًا أو عملًا أو مهنة، فإن لكلٍ مذهبًا ومشربًا صنوانًا وغير صنوان ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة:٦٠] ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة:١٤٨] والناس أجناس، فحقٌ على العاقل أن يمهر فيما يجيد، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له، ومن يلاحظ حياة أصحاب الرسول ﷺ يجد أن كل واحدٍ منهم أجاد في بابه.
فـ أبو بكر ضرب في كل غنيمةٍ بسهم، ولكنه برز في الخلافة والقيادة مع العدل والزهد والإخلاص والصدق.
وعمر قوي في ذات الله، شديد على أعدائه، عادلٌ في حكمه.
وعثمان رحيمٌ شفوقٌ ذو تهجدٍ وصدقات وبرٍ وحياءٍ ورقة.
وعلي شجاعٌ صارمٌ خطيبٌ نجيبٌ فقيه.
وأبي سيد القراء، ومعاذ إمام العلماء، وخالد رمز الأبطال، وابن عباس ترجمان القرآن، وحسان مَقدم الشعراء، وزيد بن ثابت كبير علماء الفرائض، وأبو هريرة شيخ الرواة، وهكذا.
فاكتسب معارفك بنفسك، بمهارتك، بتجاربك، بمزاولاتك للأعمال، بمباشرتك للحياة.
إن الكتب تلقن الحكمة لكنها لا تخرج الحكماء، وإن الذين امتازوا في العلوم والفنون لم يتعلموا في المدارس فحسب، بل تعلموا في مدرسة الحياة ومصنع الرجال.
إن كتابًا في فن السباحة يعطي مفاتيح في هذا الباب، لكنه لا ينجِّي الجاهل بالسباحة من الغرق، إن أفضل طريقةٍ لمن أراد السباحة أن يهبط إلى النهر ليتعلم فيه مباشرة، ومثل الخطيب البارع فإنه لم يمهر ويتميز لأنه قرأ مجلدات في فن الخطابة، بل لأنه صعد المنابر، وأخطأ وأصاب، وفشل ونجح، وجرب وتدرب، حتى بلغ الغاية في هذه الموهبة.
فإذا أردت البراعة في أي علمٍ، أو عملٍ، أو موهبة، فاغمس نفسك فيه، وانصهر في معاناته، واحترق بحبه والشغف به إلى درجة العشق: وللناس فيما يعشقون مذاهبُ، قال الشاعر:
إنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعول في الدنيا على رجلِ
فلا تظن أن النجاح سوف يقدم لك هبة، على طبقٍ من ذهب، فإن أقبح نصرٍ هو ما كان عن هبة.
وأقبح النصر نصر الأغبياء بلا فهمٍ سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا
لكن النجاح الغالي هو ما حصل بجهدٍ وعرقٍ ومشقةٍ ودموعٍ ودماءٍ وسهرٍ وتعبٍ ونصبٍ وتضحيةٍ وفداء، كما قال أبو الطيب:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ
إن الناس لا يرحمون الفاشل، وإن الساقط مغضوبٌ عليه، وكما قيل: إذا وقع الجمل كثرت سكاكينه، لأن الناس لا يحترمون إلا كل ناجح متفوق، فتراهم ينظرون إليك خاشعةً أبصارهم إذا كنت عالمًا أو نابهًا أو غنيًا أو مرموقًا أو مصلحًا، أما البليد الغبي الفاشل الساقط فلا تلمحه العيون؛ لأنها لا تراه أصلًا:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
فعليك بطريق التعب والمشقة حتى تصل ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج:٧٨] وإياك ثم إياك والكسل -والتواني- والتسويف والأماني فإنها رءوس أموال المفاليس، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، إن الله يحب المجاهدين، ويكره العجزة الفاشلين.
وإن ألذ خبزٍ هو ما حصل بعد عرق الجبين، وإن أهنأ نومٍ ما كان بعد تعب، وإن أحسن شبع ما سبقه جوع، وإن الورد لا يفوح حتى يعرك، وإن العود لا يزكو حتى يحترق:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف نشر عرف العودِ
إن الماء الراكد يأسن، ويتغير طعمه، لكن إذا جرى وسرى طاب وعذب، وإن الكلب الجاهل حرامٌ صيده، لكن صيد الكلب المدرب حلال؛ لأنه أتى بعد جهدٍ ودربةٍ ومعرفة، يقول الشاعر:
وميز الله حتى في البهائم ما منها يُعَلَّمُ عن باغٍ ومغتشمِ
فالبدار البدار قبل تقضي الأعمار، فلا راحة مع الليل والنهار.
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صبيٍ قد دفنتا
وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه ومن والاه.
1 / 11
مفتاح الهداية
قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).
هذه صفحات مشرقة من حياة الرسول ﷺ تبين أخلاقه الخاصة والعامة، يتجلى فيها: الصدق، والصبر، والجود، والشجاعة، والزهد، والتواضع، والحلم، والرحمة، وذكر الله، والدعوة إلى الله، والطموح إلى المعالي.
2 / 1
قبس من سيرة الرسول العطرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن والاه.
أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فهذه محاضرة: (مفتاح الهداية) لا أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أحب إنسان إلى قلبي -عن محمدٍ ﷺ لأنني لا أكتب عن خليفةٍ من الخلفاء له جنودٌ وبنود، ولديه حشود، وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكني أكتب عن الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمدٍ ﷺ.
ولن ألزم الحياد؛ لأنني لا أتكلم عن سلطانٍ من السلاطين، قهر الناس بسيفه وسوطه، ولكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
ولن ألزم الحياد؛ لأني لا أتكلم عن شاعرٍ هدار، أو خطيبٍ ثرثار، أو متكلمٍ نوار، أو فيلسوفٍ هائم، أو روائي متخيل، أو كاتبٍ متصنع، أو تاجرٍ منعم، بل أتحدث عن نبيٍ خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلةٌ عظمى، وحوضٌ مورود، ومقامٌ محمود، ولواءٌ معقود، فكيف ألزم الحياد إذًا، أتريد أن أحبس عواطفي، وأن أقيد ميولي، وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب إنسانٍ إلى قلبي، وأغلى رجلٍ وأعز مخلوقٍ على نفسي، إن هذا لشيءٌ عجاب.
أتريد مني أن أكفكف دموعي، وأنا أخط سيرته، وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطر أخباره، وأنْ أجمد خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته! لن أستطيع هذا، كلا وألف كلا؛ لأنني أكتب عن أسوةٍ وإمامٍ معي بهداه في كل شاردة وواردة، أصلي فأذكره؛ لأنه يقول: ﴿صلوا كما رأيتموني أصلي﴾ أحج فأذكره؛ لأنه يقول: ﴿خذوا عني مناسككم﴾ في كل طرفة عينٍ أذكره؛ لأنه يقول: ﴿من رغب عن سنتي فليس مني﴾ في كل لحظة من حياتي أذكره؛ لأن الله يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:٢١].
إنني أكتب عن أغلى الرجال، وأجل الناس، وأفضل البشر، وأزكى العالمين، مرجعي في ذلك دفتر الحب المحفوظ في قلبي، ومصدري في ذلك ديوان الإعجاب المخطوط في ذاكرتي، فكأنني أكتب بأعصاب جسمي وشرايين قلبي، وكأن مزاجي دمعي ودمي.
إن كان أحببت بعد الله مثلك في بدوٍ وحضر وفي عرب وفي عجمِ
فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ ولا تفوه بالقول السديد فمي
2 / 2
محمدٌ ﷺ صادقًا
فهو أصدق من تكلم، كلامه حقٌ وصدقٌ وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادًا أو مازحًا، بل حرم الكذب وذم أهله ونهى عنه، وقال: ﴿إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا﴾ وأخبر أن المؤمن قد يبخل، وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدًا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش ﵊ والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقًا ﷺ أنه أخبر عن الله، بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفًا، ولم يزد حرفًا، وبلغ الأمانة عن ربه بأتم البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبنيٌ على الصدق، فهو صادقٌ في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجده وهزله، وبيانه وحكمه، صادقٌ مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة.
صادقٌ في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحله وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصومٌ من الله أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه، وسدد لفظه، وأصلح منطقه، وقَوَّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرفٌ واحد غير صادقٍ فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقًا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول: ﴿ما كان لنبيٍ أن تكون له خائنة الأعين﴾ وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت إلينا بعينك في قتل الأسير، بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه فكلامه وسنته، ورضاه وغضبه، ومخرجه ومدخله، وضحكه وبكاؤه ويقظته ومنامه صدق ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب:٨] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:١١٩] ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد:٢١].
فهو ﷺ صادقٌ مع ربه، ونفسه، وأهله، والناس، وأعدائه، فلو كان الصدق رجلًا؛ لكان محمدًا ﷺ، وهل يُتعلم الصدق إلا منه بأبي هو وأمي، وهل ينقل الصدق إلا عنه بنفسه هو، فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه، ونبوته، وإكرام الله له بالاصطفاء والاجتباء والاختيار!
2 / 3
محمدٌ ﷺ صابرًا
لا يعلم أحد مر به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مر به ﷺ وهو صابرٌ محتسب ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل:١٢٧] صبر على اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة، والفتك بالأصحاب، وتشريد الأتباع، وتكالب الأعداء، وتحزب الخصوم، واجتماع المحاربين، وصلف المعرضين، وكبر الجبارين، وجهل الأعراب، وجفاء البادية، ومكر اليهود، وعتو النصارى، وخبث المنافقين، وضراوة المحاربين.
وصبر على تجهم القريب، وتكالب البعيد، وصولة الباطل، وطغيان المكذبين.
صبر عن الدنيا بزينتها، وزخرفها، وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية، وبريق المنصب، وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبًا لمرضاة ربه.
فهو ﷺ الصابر المحتسب في كل شأنٍ من شئون حياته، فالصبر درعه، وترسه، وصاحبه، وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه؛ تذكر: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [ق:٣٩] وكلما بلغ به الحال أَشُدَّه والأمر أَضيقه؛ تذكر: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ﴾ [يوسف:١٨] وكلما راعه هول العدو، وأقض مضجعه تخطيط الكفار؛ تذكر: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:٣٥].
وصبره ﷺ: صبر الواثق بنصر الله، المطمئن إلى وعد الله، الراكن إلى مولاه، المحتسب الثواب من ربه جل في علاه.
وصبره ﷺ: صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه.
يصبر ﷺ على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمد فلا ينال منه، مات عمه فصبر ماتت زوجته فصبر قتل حمزة فصبر أُبعد عن مكة فصبر توفي ابنه فصبر رُميت زوجته فصبر كُذِّب فصبر، قالوا: شاعر كاهن ساحر مجنون مفترٍ؛ فصبر، أخرجوه فصبر، آذوه فصبر، شتموه فصبر، سبوه فصبر، حاربوه فصبر، سجنوه فصبر، وهل يُتعلم الصبر إلا منه، وهل يُقتدى بأحدٍ في الصبر إلا به، فهو مضرب المثل في سعة الصدر، وجليل الصبر، وعظيم التحمل، وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين ﷺ.
2 / 4
محمدٌ ﷺ جوادًا
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسًا ويدًا، فكفه غمامة بالخير، ويده غيثٌ بالجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف لا؛ إلا في التشهد.
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ
يعطي ﷺ عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنمًا بين جبلين، وأعطى كل رئيسٍ من العرب مائة ناقة، وسأله سائلٌ ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يرد طالب حاجة، قد وسع الناس بره، طعامه مبذول، وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجهه بسام.
تراه إذا ما جئته متهللًا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ينفق مع العدم، ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ويوزعها في ساعة، لا يأخذ منها شيئًا، مائدته ﷺ معروضةٌ لكل قادم، وبيته قِبلةٌ لكل وافد، يضيف، وينفق، ويعطي، ويؤثر، ويصل القريب بما عنده، ويواسي المحتاج بما يملك، ويقدم الغريب على نفسه، فكان ﷺ آية في الجود والكرم، حتى لا يُقارن به أجواد العرب، كـ حاتم وابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله.
ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفًا، وأسخاهم يدًا، وأكرمهم محتذى، قد غمر أصحابه وأحبابه -بل حتى أعداءه- ببره وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، جلس الأعراب على طعامه، حفَّ المنافقون بسفرته، ولم يحفظ عنه ﷺ أنه تبرم بضيف، أو تضجر بسائل، أو تضايق بطالب، بل جّرَّ أعرابي بردته حتى أثَّر في عنقه، وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا أمك، فالتفت إليه ﷺ وضحك وأعطاه.
وجاءته كنوزٌ من الذهب والفضة فأنفقها في مجلس واحد، ولم يدخر منها درهمًا ولا دينارًا، ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذم البخل والإمساك فيقول: ﴿من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه﴾ وقال: ﴿كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يفصل بين الناس﴾ وقال: ﴿ما نقصت صدقةٌ من مال﴾.
2 / 5
محمد ﷺ شجاعًا
هذا مما تناقلته الأخبار، وسار مسير الشمس برابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبًا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتذبذب، لا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمات، فوض أمره لربه، وتوكل على مولاه، وأناب إلى خالقه، ورضي بحكمه، واكتفى بنصره، ووثق بوعده، فكان ﵊ يخوض المعارك بنفسه، ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرض روحه للمنايا، ويقدم نفسه للموت غير هائبٍ ولا خائف، ولم يفر من معركة قط، وما تراجع خطوةً واحدة ساعة يحمى الوطيس، وتقوم الحرب على ساق، وتصرع السيوف، وتنتشق الرماح، وتهوي الرءوس، وتدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون به أحيانًا وهو صامدٌ مجاهد، لا يكترث بالعدو ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف، ويشجع المقاتلين، ويتقدم الكتائب.
وقد فر الناس يوم حنين وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء:٨٤] وكان صدره بارزًا للسيوف والرماح، يُصرع الأبطال بين يديه، ويذبح الكماة أمام ناظريه، وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
صلِّ يا ذا العلا لربك وانحر كل ضدٍ وشانيء لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاحيك قرونًا من الجمال تغتر
بل قرونًا من الملوك ذوي السؤدد تيجانهم أمامك تنثر
كلما خر ساجدٌ لك منهم قال سيفك عندها الله أكبر
وقد شج ﵊ في وجهه، وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن، ولا ضعف، ولا خار، ولا انهزم، بل كان أمضى من السيف.
وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة، وكان أول من يهب عند سماع المنادي، بل هو الذي سَنَّ الجهاد وحث عليه وأمر به، وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر، وحل الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظُنَّ بالله الظنونا، وزلزل المؤمنون، فقام ﷺ يصلي ويدعو ويستغيث مولاه، حتى نصره ربه، ورد كيد عدوه، وأخزى خصمه، وأرسل عليهم ريحًا وجنودًا وباءوا بالخسران والهوان، ونام الناس ليلة بدر وما نام هو ﷺ، بل قام يصلي ويدعو ويتضرع ويتوسل إلى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام ما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد، والصنديد الوحيد، الذي كملت فيه صفات الشجاعة، وتمت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل: ﴿والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل﴾.
2 / 6
محمدٌ ﷺ زاهدًا
كان زهده ﷺ زهد من علم فناء الدنيا، وسرعة زوالها، وقلة زادها، وقصر عمرها، وبقاء الآخرة، وما أعد الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم، وأجرٍ عظيم، وخلودٍ دائم، فرفض ﷺ الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسد الرمق، ويقيم العوز، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه، وتزينت له، وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبًا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعًا، ويمر الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويًا لا يجد رديء التمر يسد به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليالٍ متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثَّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه ﵊.
وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعًا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارًا ورداءً فحسب، وما أكل على خوان قط، وربما أرسل له أصحابه الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكرامًا لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبًا لروحه وحفظًا لدينه، ليبقى أجره كاملًا عند الله ربه، وليتحقق له وعد مولاه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى:٥] فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهمًا ولا دينارًا، ويوزع الإبل والبقر والغنم على أصحابه وأتباعه والمؤلفة قلوبهم ثم لا يذهب بناقةٍ ولا بقرةٍ ولا شاة، بل يقول ﵊: ﴿لو كان لي كشجر تهامة مالًا لقسمته، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذابًا ولا جبانًا﴾
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم
بل كان ﵊ الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة، وترك الدنيا وعدم الالتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يَبن قصرًا، ولم يدخر مالًا، ولم يكن له كنزٌ ولا جنةٌ يأكل منها، ولم يخلف بستانًا ولا مزرعة، وهو القائل: ﴿لا نورث، ما تركناه صدقة﴾.
وكان يدعو بقوله وفعله وحاله إلى الزهد في الدنيا، والاستعداد للآخرة بالعمل، ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده -كما تقدم- فكان لا يرد سائلًا، ولا يحجب طالبًا، ولا يخيب قاصدًا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال: ﴿كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل﴾ وقال: ﴿ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل قائل في ظل شجرة ثم قام وتركها﴾ وقال: ﴿الدنيا ملعونةٌ وملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا﴾ وقال: ﴿ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت﴾.
2 / 7
محمدٌ ﷺ متواضعًا
كان ﷺ عجيبًا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربه؛ فهابه، واستحيا منه، وعظمه، وقدره حق قدره، واطمأن له، وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه إلى الله، وهاجرت نفسه إلى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيءٌ مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدًا لربه بحق، يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز، يزور المريض، يعطف على المسكين، يصل البائس، يواسي المستضعفين، يداعب الأطفال، يمازح الأهل، يكلم الأمة، يواكل الجميع، يجلس على التراب، ينام على الثرى، يفترش الرمل، يتوسد الحصير، قد رضي عن ربه فما طمع في شهرةٍ، أو منزلةٍ، أو مطلبٍ أرضي، أو مكسبٍ دنيوي.
يخاطب الغريب بود، يتألف الناس، يبتسم في وجوه أصحابه، يقول: ﴿إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد﴾ ولما رآه رجلٌ ارتجف من هيبته فقال: ﴿هون عليك، فأنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد بـ مكة﴾.
وكان يكره المدح وينهى عن إطرائه ويقول: ﴿لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله﴾ وكان ينهى أن يُقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول: ﴿لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي كراعُ لقبلت﴾ وكان يحب المساكين، ويروى عنه: ﴿اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين﴾ وكان يحرم الكبر، ويبغض أهله، ويقول: ﴿يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يغشاهم الذل من كل مكان﴾ ويروي عن ربه أنه قال: ﴿الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته﴾.
فكان ﷺ محببًا إلى القلوب، تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، يزور أم أيمن وهي مولاة، ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا، وسيدنا، وابن سيدنا، قال لهم: ﴿يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان﴾ وغضب لما قال له رجل: ﴿ما شاء الله وشئت، فقال: ويحك أجعلتني لله ندًا، بل ما شاء الله وحده﴾ وكان يحمل حاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكنس بيته، ويحلب شاته، ويقطع اللحم مع أهله، ويقرب الطعام لضيفه، ويباسط زواره، ويسأل عن أخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف، ويأكل الشعير، وربما مشى حافيًا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف، ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم، فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم، فصلى الله عليه وسلم ما تحرك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردد حديثه الإنس والجان.
2 / 8
محمدٌ ﷺ حليمًا
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس، وأوسعهم صدرًا، وألينهم عريكة، وأدمثهم خلقًا، وألطفهم عشرة، فقد كان يكظم غيظه، ويعفو ويصفح، ويغفر لمن زل، ويتنازل لحقوقه الخاصة، ما لم تكن حقوقًا لله، وقد عفا عمن ظلمه وطرده من وطنه وآذاه وسبه وشتمه وحاربه فقال لهم يوم الفتح، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا عن أبي سفيان بن الحارث يوم الفتح، لما وقف أمامه وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال ﵊: ﴿لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾.
وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر:٨٥] فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبًا إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا أُغضب ازداد حلما، وربما تبسم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال: ﴿لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب﴾ وكان يبلغه الكلام السيء ﷺ فلا يبحث عمن قاله، ولا يعاتبه، ولا يعاقبه، وورد عنه أنه قال: ﴿لا يبلغني أحدٌ منكم ما قيل في، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر﴾ وبلّغه ابن مسعود كلامًا قيل فيه؛ فتغير وجهه وقال: ﴿رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر﴾ وقد أوذي من خصومه في رسالته، وعرضه، وسمعته، وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم، وحلم عليهم، وقال: ﴿من كفَّ غضبه؛ كفَّ الله عنه عذابه﴾ وقال له رجلٌ: ﴿اعدل، فقال: خبت وخسرت إن لم أعدل﴾ ولم يعاقبه بل صفح عنه.
وواجهه بعض اليهود بما يكره فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات، ممتثلًا قول ربه: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون:٩٦].
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم، ويلاطفهم، ويعفو عنهم فيما يصدر عنهم، ويدخل عليهم بسامًا ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسًا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: ﴿خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، ما قال في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعل هذا؟﴾ وهذا غاية الحلم، ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه ووده وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبه من القلوب، فتعلقت به الأرواح، ومالت له النفوس:
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسمًا في بردك الأصحاب والخلطاءُ
2 / 9