أما والتواريخ الإسلامية التي كتبت في عصر الفاتح وما والاه من السنين القريبة لم تذكر طرفا من هذا الخبر، بل لم تلمح إليه تلميحا، وقد كانت في حل من إثباته.
5
كما وأن التواريخ التي نقلته خبطت به خبط عشواء، فعلى رواية أحدها أن اسم الأمير المقتول حسن، وعلى زعم الآخر أن اسمه أحمد. والغريب أن الأميرين حسنا وأحمد هما نجلا السلطان مراد الثاني أو أخوا الفاتح قد توفيا وهما في حضانة والدهما بشهادة تلك التواريخ نفسها. ويقول بعض هؤلاء المؤرخين إن أم الأمير المقتول من بيت الأسفندياري، بينا تجد الثاني يدعيها من سليلة الحكم في صربيا، ويزعم ثالث أن الفاتح قد عهد بقتل أخيه إلى علي بك أرنوس زاده، ثم عاد فأنكر عليه عمله وأمر بصلبه.
فكيف يمكن التوفيق بين هذه الروايات المتناقضة المتضاربة في حين أنها لم ترد في كتب الرواة الثقات؟
بل كيف يقبل العقل أن الفاتح الذي ذاق طعم السلطنة وهو في شرخ الشباب، وما عتم أن اعتزلها بإغواء بعض الوزراء الذين لم يأتوا بما آتوه إلا لغاية في النفس وأمل في التحكم والتصرف في الملك، وانزوى في إحدى المقاطعات ثماني سنين يكظم غيظه، بل يحاول أن يقتدي بوالده الذي أراه المثل الأعلى في الزهد عن السلطنة وبهرجتها، ثم يعفو عن كثير من الذين أساءوا إليه أن يتوهم خطرا على مركزه فيسيء القصد إلى رضيع تأنف الضواري الكواسر من الإجهاز عليه.
ولو سلمنا جدلا أن السلطان أمر بقتل ذلك الأمير خيفة العقبى، فهل كان لا يدرك أن هناك علة أخرى للانتقاض ورقيبا أعظم، هو الأمير المرهون عند إمبراطور القسطنطينية.
ولو وقف هؤلاء المفترون عند هذا الحد لكنا سامحناهم عن هذه الهفوة، ولكنهم نسبوا إليه قتله ابنه الأمير مصطفى بعد أخيه، قالوا إنه أباده لأنه راود زوجة أحمد باشا كدك عن نفسها في الآستانة. بيد أن كل التواريخ العثمانية مجمعة على أن الأمير مصطفى هلك وهو عامل على مقاطعة قرمان، وأن السلطان حزن لفقده وبكاه طويلا.
ولو صح هذا الاختلاق الذي يثبت للملأ أن حب الفاتح للعدالة أفقده الحنان الأبوي،
6
لكان له فيه فضل عظيم وأجر كبير، ولكن كيف يعقل أن يجتمع حب سفك الدماء البريئة (كقتل أخيه)، وإقامة الحدود الشرعية (كقتل ابنه) في قلب واحد، ولم يخلق الله لرجل من قلبين في جوفه.
Неизвестная страница