سيرة الفاتح
سيرة الفاتح
سيرة الفاتح
سيرة الفاتح
تأليف
نامق كمال
ترجمة
عبد الله مخلص
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن جعل سير الأولين عبرة للآخرين، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد المختص بالفتح المبين، وعلى إخوانه سائر الأنبياء والمرسلين، وآلهم وأصحابهم أجمعين، وبعد:
فلما رأيت افتقار اللغة العربية إلى سيرة عظيم من أعاظم رجال العالم؛ ألا وهو: محمد الفاتح، الذي أحكم قواعد السلطنة العثمانية وأعلى منارها؛ أقدمت على تعريبها عن رسالة للمرحوم نامق كمال التركي، الذي فعل قلمه في توثيق عرى الشورى التي لا انفصام لها أكثر من فعل السيوف البتارة؛ لأنه بمقالاته الحماسية وكتاباته الوطنية أعد نفوسا أشربت حب الوطن، واعتدت الموت في سبيله حياة ما فوقها حياة، حتى تمكنت والحمد لله من هدم كيان الاستبداد ودرس معالمه.
وقد اخترت هذه الرسالة لأنها جمعت فأوعت، وأعطت كل ذي حق حقه، ووقفت ريعها على الأسطول العثماني الذي بدأ غريبا في عهد ذلك السلطان العظيم، وسيعود كما بدأ بسخاء أكف العثمانيين الذين أجابوا داعي الوطن، وأخذوا بالتعاون على البر والتقوى، فعسى أن يتقبل الناطقون بالضاد هذه الرسالة قبولا حسنا، وأن تلاقي منهم ما يستحقه الموضوع من العناية.
عبد الله مخلص
في غرة المحرم سنة 1328
حيفا
سيرة الفاتح
هو السلطان محمد أبو الفتح، سابع السلاطين العثمانيين، ولد في أدرنة «أندريانوبيل» في اليوم السابع من شهر رجب الفرد لسنة ثمانمائة وثلاث وثلاثين من الهجرة النبوية، ولما ترعرع ولي على مقاطعة أماسيا تبعا للقاعدة المألوفة إذ ذاك، التي كانت من أكبر العوامل في نجاح الدولة الباهر ومجدها الأثيل.
خلق الفاتح وفي خلقه شمم وإباء، فلا يكاد ينقاد إلى التعليم ولا يدخل تحت سيطرة مسيطر لشدة طبعه وامتزاجه بسورة الشباب، إلى أن تولى أمر تعليمه الملا كوراني، وهو ممن جمع بين العلم والورع، تلك الخصلتان اللتان قلما اتفقتا برجل، فأدب تلميذه وأحسن تأديبه غير ملتفت إلى أنه سيكون يوما ملكا فيسعى إلى استمالته أو التملق إليه، بل رمى إلى جعله خير كفؤ لمنصبه القادم، فلم يأل جهدا بتثقيف عقله وتنوير ذهنه بشدة ومضاء، لا يهمه إن رضي عنه أم غضب، أحسن إليه أم أساء.
ومن ذلك أن الأستاذ لأول مرة من دخوله على الأمير أقل بيمينه عصا، فلما رآها الأمير اشتغل ذهنه ولم يتمالك أن سأله عنها، فأجابه الأستاذ: «إن والدك علم بتمردك عن التعلم، فأمرني أن أؤدبك بهذه العصا إذا عصيت أمري.»
سمع الأمير هذا التهديد والوعيد ولم يكن يتوقعه أو يعتد سماعه، فانقبضت نفسه وقطب حاجبيه، ولكنه لم يسعه إلا الانصياع والخضوع مكرها، كالشبل الذي يقع في قبضة الصياد ولا يجد مناصا أو مهربا.
أخذ الفاتح بالتعلم شيئا فشيئا، وذاق طعم العلم، فوجد أن لذته فوق كل لذة، حتى وفوق لذة الجلوس على مقاعد الحكم والاستئثار بالسلطات التي طالما تاقت إليها نفسه وشغلت قلبه ولبه.
نشأ الأمير على هذه المبادئ النبيلة وأخذت مواهبه بالظهور، فتوسم فيه والده الجليل مخايل الذكاء وآثار النجابة وهو لم يتجاوز أربعة عشر ربيعا، وأراد أن يستخلفه في الملك وهو في قيد الحياة؛ لاعتقاده أن تخت السلطنة والآلة الحدباء التي تقل الأوائل على هام الأواخر سواء، وأن العظيم من تخلى عن وسائط عظمته وهو قابض عليها، لا من سعى للوصول إليها فأبدى بذلك شعورا دقيقا ونفسا وضيعة. واستلم الفاتح زمام السلطنة في ريعان الشباب ومقتبل العمر.
ولشد ما كان انفعال رجال السلطنة الذين اعتادوا في ماضي أيامهم العبث بالأمور، لما كانوا يجدونه من الإحسان إزاء سيئاتهم من والد الفاتح الشيخ الرءوف عندما رأوا عزم السلطان وحزمه؛ لأنهم كانوا يتوقعون الاستيلاء على الأعمال كلها بعد أن وضعت تحت يد صبي حديث السن قليل الاختبار كالسلطان محمد، ولما خاب فألهم وضاقت بهم السبل عمدوا إلى اتباع أساليب التملق تحت أستار الإخلاص، شأن المنافقين الذين يتربصون الفرص، وبالتالي حصلوا على غايتهم.
وذلك أن صاحب قرمان الذي اعتقد بانفتاح باب الأمل له من اعتزال السلطان مراد (والد الفاتح) وصباوة السلطان محمد، فبنى على ذلك علالي الآمال وقصورها، قام بحشد فئة صليبية كبيرة تحت قيادة جان هونياد من أبطال المجر، جمعت بين المجري والبولوني والجرماني والقرواتي والبوسني والأفلاقي والبغداني والصربي والألباني، بلغ مجموعها ثمانين ألف مقاتل.
وما عتم هذا الجيش الجرار أن زحف على البلاد العثمانية كأنه عصابة أشقياء بدون سابق إعلان أو إنذار، وأخذ يسوم الأهلين سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، حتى ملئت نواحي بلغاريا نواحا وهاج أهل العاصمة وماجوا، ووجد الوزراء في طيات ذلك فرصة لنيل مآربهم، فتشاوروا وأجمعوا أمرهم على استدعاء السلطان مراد بالنظر لاشتداد الأزمة وخشونة المركب، ورفعوا ذلك إلى السلطان محمد.
نظر السلطان محمد إلى هذا الأمر نظرة عاقل لبيب، وسبر غوره وأدرك سره، فلم يشأ الانقسام في الرأي رغم اعتقاده باعتماده على نفسه وعلى زغنوش باشا بأنه سيخرج من هذا المأزق الحرج ظافرا، ويتمكن من صون بيضة بلاده والذود عن حوضها.
قلنا إنه لم يرد الانقسام؛ لأنه كان بين عوامل جمة، أقلها قد يكون سببا مهما للفشل، فإقناع الشعب على كفاءته (هو نفسه) لحل هذه العقدة حلا مرضيا، ووجوده هو ووزرائه على طرفي نقيض، ومقاومته إرجاع أبيه إلى السلطنة، مع أنها كانت من عطائه، وبالتالي تحمل أعباء هذا الوقر الثقيل ضد الرأي العام؛ أمور تستوقف الفكر وتستدعي العناية، فوافق على قرار وزرائه ومشيريه مضطرا لا مختارا.
أما السلطان مراد فلما اطلع على هذا القرار عرف أن به دخيلة ورفضه رفضا باتا، بيد أن الحالة كانت تزداد خطورة والأمر يتضاعف تعقيدا، والسلطان محمد لا يرى في الرجوع عن عزمه صوابا لئلا يسخط الشعب ويتطير من رفض السلطان مراد، فألزم والده الرجوع بقياس مقسم هذا هو نصه: «إن كان هو ولي أمر هذه المملكة فليسرع لإنجادها وكبح جماح الأعداء عنها، وإن كنت أنا ولي أمرها فقد أوجب الله عليه طاعتي.»
وانتهت هذه الأزمة بانتصار وارنة العجيب، فقام الوزراء ينددون من جهة بصباوة السلطان وشدة مراسه، ويستفزون الجند في أماكن الصيد والقنص للمطالبة بالسلطان مراد حبا باستمالته وترغيبه إلى السلطنة، ويحرضون من جهة أخرى السلطان محمدا على مبادأة والده بهذا التكليف قائلين له: «إن رغبة والدكم عن السلطنة وزهده بها أمر تعتقدونه، فلو كلفتموه مرة للرجوع إليها لكنتم تقومون بواجب بر الوالدين وتحصلون على رضائه.»
وجد هذا التكليف مكانا خاليا من قلب الفاتح فتمكن، وعاد السلطان مراد إلى الاستواء على عرش السلطنة بعد أن اجتمع جم غفير وطلبوا إليه ذلك، فعاد السلطان محمد بصفقة المغبون إلى مقاطعة مغنيسيا إلى منصبه الأول، وفي صدره حزازات مما تلقاه من دروس الاختبار ومما لقيه زغنوش باشا في سبيله من الذل والازدراء.
إن هذا الحادث يعد محنة بالنسبة إلى السلطان محمد، ولكنه كان بالنسبة إلى الدولة منحة عظمى وسعادة لا تقدر.
ومن البديهي أن أعظم مدرسة لعظماء الرجال هي دار الهوان، وأن أقوى مهذب وأصلح مصلح للنفوس العالية هو الصغار والاحتقار.
وقف الفاتح أيام عزلته الطويلة لطلب العلا، فكان يستفيد من درس نكبته مواعظ وعبرا، ويستفيض من العلم غررا ودررا، حتى يتمكن من التوفيق بين العلم والحكم.
وقد أزهرت مساعيه وأثمرت بتعلمه اللغات العربية والفارسية واللاتينية واليونانية والعبرية (لكونها تمكنه في العربية)، التي توصل بها جميعها إلى كنوز الشرق وحصل معها على ذخائر الغرب، فلم يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها. أما العلوم العقلية والنقلية فإنه برع بأصولها وفروعها، واطلع على سرائر إدارة الحكومات إلى حد يمكنه معه أن يسير بحكومته على خطوات ثابتة وصراط مستقيم.
استتم الفاتح ما يلزمه من العلم، وبقي في مغنيسيا ينتظر ما يأتي به القدر، إلى أن وافاه خبر وفاة والده المبرور، فخشية من أن يلعب معه خليل باشا الوزير الأكبر دورا ثانيا ويرجع صفر الكف خالي الوفاض من السلطنة؛ امتطى جواده وخاطب من حوله قائلا: «من كان يحبني فليتبعني.»، وسار في طريقه لا يلوي على شيء حتى وصل إلى أدرنة.
كان الفاتح ربعة، قوي العضلات، ضخم الأعضاء، عريض ما بين المنكبين، غزير شعر الحواجب مقوسها، أبيض اللون مشربا بحمرة، فاحم الشعر كث اللحية، قصير العنق، يسبقه رأسه إلى الأمام عند مشيه، أما بقية أوصافه التي تدل دلالة واضحة على دهائه المفرط وذكائه النادر ونظره البعيد ومرحمته الغريزية وحبه للظهور وكفاءته للحروب، فهي سعة جبينه، ونقاؤه، ونور عينيه الجوال الذي يخترق أستار الحجب، وأنفه اللطيف القائم على قمة فمه الوردي.
استقبل الجند سلطانهم الجديد ولم يبق للروابط القديمة بينهما عين ولا أثر؛ لأنهم فارقوه صبيا صغيرا وأنستهم الأيام ما آنسوه فيه من الهمة والكفاءة، حتى إنهم لم يكادوا يذكرونه لتغيير شكله وزيه، وقد تمثل أمامهم بطلا ضخما يحاكي أجداده العظام، مما أدى بهم إلى الهناء بعد ذلك العناء الذي عقب وفاة ملك كان ينتقل بهم من نصر إلى نصر، ومن فخر إلى فخر.
وكأننا بهم يرددون قول الشاعر:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسام في ثغور مدامع
شبيهان لا ينفك ذا الشبه منهما
ولم يبق بين ذلك الحشد الغفير من لم تشمله لذة الفرح أو تأخذه نشوة الطرب إلا خليل باشا وبعض أشياعه. أما السلطان فهو الوحيد الذي كان باكيا ضاحكا كئيبا مسرورا في آن واحد.
دخل الفاتح العاصمة بين هتاف الشعب وتحية الجند، وغداة اليوم الثاني عقد الديوان العالي لإجراء مراسيم البيعة، فلحظ الفاتح على خليل باشا انزواءه إلى جانب القاعة، وهو بين الخوف والرجاء واليأس والأمل، تقرأ على وجهه سور الاضطراب لما فرط منه في جنب السلطان، فقال الفاتح: لماذا لا يحضر الوزراء؟ مروا خليلا أن يتبوأ مقعده. وأظهر بذلك أنه أرفع من أن يقتص عن إساءة كانت موجهة لشخصه، وكان هذا العفو الجليل فاتحة كتاب سلطنته وباكورة أعماله في يوم الخميس لستة عشر من محرم الحرام سنة 855 هجرية، والسلطان في الثانية والعشرين من عمره.
إن أول عدو وجده الفاتح في طريق سلطنته هم القرمانيون، اعتادت هذه العائلة القرمانية منذ بدء ظهور الدولة العثمانية أن تراقب أعمالها عن كثب وتظن في نفسها الكفاءة، ونسيت أو تناست ما سبق لها من الوقائع معها، وما قاسته من الغلبات المتواليات التي ذاقت وبال أمرها ورزحت تحت أثقالها آمادا طويلة، فكانت لا تني لحظة عن إيقاظ الفتن النائمة كلما سنحت لها فرصة وسمح لها زمان، وتحمل غلباتها السالفة على دربة ودراية مديري دفات تلك الحروب الطاحنة من العثمانيين، وتعلل النفس بآمال كلها أضغاث أحلام؛ ولذلك كانت تعيد الكرة كلما تولى سلطان عن الملك وتولى عليه آخر، فما كاد ينتشر خبر ارتحال السلطان مراد إلى دار الجنان إلا وقام إبراهيم بك زعيم تلك الحكومة المغرورة، ناسيا عظم الندامة التي تحل بمن يجرب المجرب.
قسم إبراهيم بك جيشه إلى أربع فرق، وقاد إحداها بنفسه إلى علائية، وأرسل الثلاث الباقية إلى جهات؛ كوتاهية، ومنتشا، وآيدين، تحت قيادة أحد زعماء ملوك الطوائف، ومذ تلقى السلطان الفاتح هذا الخبر ولى إسحاق باشا منصب أمير أمراء الأناضول، وأرسله لمقابلة العدو ومناقشته الحساب، وتوجه هو إلى بروسة ليعنى بدفن جثة أبيه، ويلاحظ صفوف الدفاع الاحتياطية التي أقامها لحفظ مركز الجيش.
وصل الفاتح إلى مضرب الجيش، فقام الإنكشاريون يطالبونه بخراج توليه السلطنة، وقد أصبح ذلك بدعة سيئة منذ حدثت حادثة تيمورلنك واضطرب حبل المملكة، فهم لا يدخرون وسعا في الحصول على هدية أو عطاء من كل سلطان، ولو أدى ذلك بهم إلى الخروج والعصيان.
فاضطر الفاتح إلى بدر بعض بدرات من الذهب على رءوسهم مراعاة لنظامهم الفاسد وجريا على مجراه، ولكنه أعار هذا الحادث الجلل جانب الأهمية، ورأى بأصيل رأيه أن الأسفار الحربية للذب عن الوطن وإقامته على أسس قويمة تحتاج إلى كبير طاعة وعظيم دربة من الجيش، والجيش على ما هو عليه من اختلال الشأن واعتلال الكيان، فوجد أن من العدل عزل بعض أمراء الجند وتأديب مذكي نار الفتنة، وقضى بذلك على روح سيئة قد تسري إلى قلب الجند فتقلب أخلاقه وتستبدل حسناته بسيئات.
ومن جملة ما ارتآه للقضاء على هذه الآمال الساقطة إخراج ألوف كثيرة من حرسه الخاص وإعادتهم للجيش؛ حتى يتمكن من إلقاء الشقاق بين تلك الجنود، فيمنع وقوع الاتفاق خفية بينهم أو القيام ببعض أعمال ضد السلطة. وبعد أن مهد هذا السبيل وأمن شره المستطير عاد بكليته إلى القرمانيين والتحق بجيشه الذي عهد به إلى إسحاق باشا بسرعة كادت تكون من الخوارق؛ لأنه نهب الأرض نهبا وطوى المسافات الشواسع طيا.
رأى العدو هذه الحركة الهائلة وهو لم ينس يد العثمانيين الطولى في قراع الكتائب وقدحهم المعلى في تفريق الصفوف، فأخذ بالتقهقر بدون أن يبدي أدنى مقاومة، حتى إذا تضامت فرقه المتفرقة تحصنت جميعها بجبال طاش إيلي الشواهق، ولم ير بدا من الرضوخ لشروط العثمانيين التي حطت قدره وأنزلت من كرامته، راضيا من الغنيمة بالإياب وحاصلا على أمان السلطان وعفوه.
لما رأى الفاتح انتصار جنوده لأول مرة بمجرد إقدامهم بالأقدام قبل أن يضطروا لمساعدة السواعد، نشأ في قلبه حب فتح القسطنطينية تثبيتا لدعائم مملكته وحفظها من كل طارئ ومفاجئ.
نعم كانت القسطنطينية إذ ذاك قليلة عدد السكان، ولا يتبعها سوى مدن صغيرة كسلوري وسواها، ولكنها لم تنزل عن كونها البقية الباقية من إمبراطورية رومية العظيمة، ولا تزال نادي العلوم والفنون الغربية ومركز الكنيسة الشرقية، فمحاولة ضبطها يعتبر تعرضا ظاهرا وعداوة بينة للعالم المسيحي.
وقد كان موقع المدينة على غاية من المناعة الطبيعية ومجهزا بكل وسائط الدفاع المستعملة آنئذ، مما يجعل الآمال ضعيفة بفتحها، كما أن كثيرين من الأبطال رجعوا عنها بخفي حنين.
هذا عدا عن أن الأمير أورخان من الأسرة المالكة وحفيد سليمان الجلبي كان رهنا عند الإمبراطور، فلو ترك حبله على غاربه وعاد إلى أية بقعة من بلاد الدولة لأخذت الثورة بالظهور.
أعد ذلك خليل باشا في عداد ما أعده من العراقيل والعثرات في سبيل الفاتح، وجعله سلاحا قاطعا يستعمله ضده عند مسيس الحاجة.
واتفق أن الإمبراطور أوفد سفيرا إلى العاصمة يطالب بتخصيصات للأمير المرهون، وتجاوز هذا السفير حدود الرسميات وآداب اللياقة بأن تهدد الحكومة العثمانية بإطلاق سراح الأمير وفك عقاله إن لم تجبه إلى طلبه، فوجد الفاتح في ذلك مجالا للعمل فسيحا وذريعة مناسبة للقضاء على سياسة الروم الخرقاء، وأخذ يمعن الفكر وينعم النظر في الطرق المؤدية إلى ذلك.
يروي التاريخ أن الفاتح دعا وزيره خليل باشا سحرا ، فاضطرب الوزير لهذا الطلب الفجائي وحسب له ألف حساب، واستصحب معه كمية وافرة من الذهب ليرفعها إلى الملك ويستبقي بها حياته.
ولاحظ السلطان على وزيره هذا الاضطراب، فبادأه بقوله: وزيري، لا أطلب منك مالا ولا منالا، ولست أريد بك سوءا، بل أود منك أن تكون لي عونا فيما أنويه من فتح القسطنطينية، إن هذه الأمنية هي شغلي الشاغل والمحور الذي تدور عليه آمالي. انظر هذه الوسادة، إنها توعكت من كثرة ما تقلبت عليها ذات اليمين وذات الشمال، ولم يجد الكرى إلى جفني سبيلا.
أنا لا يهدأ لي بال ولا يقر لي قرار إلا متى تم على يدي هذا الفتح العظيم وتسنى لي هذا العمل المجيد.
أما الوزير فلما اعتقد بأن ما انتقده على السلطان كان وهما باطلا، وأنه لم يبطن له شرا سري عنه وانبسطت نفسه، ووعده وعدا أكيدا بالمعاونة، وانتهت هذه المفاوضة الليلية بأمر السلطان القائل بصوت جهوري: «إياك ثم إياك أن تنخدع بأموال الروم.»
وأخذ الفاتح يعد ما استطاع من قوة ورباط الخيل، ونزل إلى الساحل ينشد مركزا موافقا يؤمن معه خط حركة جنود الأناضول، فوجد محل حصار الروملي الآن مطابقا لأمياله، على أنه قبل البدء ببناء القلعة كتب إلى إمبراطور القسطنطينية يستأذنه بذلك لسابق عهد بينهما؛ لأنه لم يشأ أن ينقض مبرما أو يخفر ذمة، فأجابه الإمبراطور بأن ذلك المحل للجنويين، فالسؤال يجب أن يكون منهم، وكان الجواب ذا شأن والأمر ذا بال، مما دعا السلطان إلى القول: «ليس بيني وبين الجنويين عهد، فلا أسألهم عليه أمرا.» وباشر بناء القلعة.
علم الإمبراطور بذلك، وأوجس خيفة من هذه المظاهر العدائية التي تعززت بإعلامات خليل باشا السرية، وأخذ يحاول إقناع السلطان وإرجاعه عن عزمه بدفع الجزية، ويرسل السفير تلو السفير للوصول إلى حل مرض، فلم يخرج جواب الفاتح عن حد البيانات الآتية:
لا أخال أن من يحرس ملكه بعين لا تنام يعد ناكثا لعهده. هل نسيتم الخطر العظيم الذي أحدق بوالدي عندما اتفق إمبراطوركم مع المجريين على منعه من الدخول إلى بلاد الروم (الروملي)؟ كنت إذ ذاك شابا في أدرنة ورأيت المسلمين ينتفضون خوفا ويرتعشون رعبا ورهبة، وكنتم أنتم تهزءون بهم وتسخرون منهم بتلك الأزمة الشديدة، أقسم والدي بأنه سيشيد هنا حصنا حصينا، وأنا أبر بيمينه اليوم وأحيي آماله. بلغوا ملككم أن سلطان اليوم (يعني نفسه) ليس كأسلافه، فأنا في واد وهم في واد، إن آمال أجدادي لم تصل إلى مرامي أعمالي. والآن اذهبوا بسلام، ولكن اذكروا أن من يعود بمثل هذه السفارة فإني أعامله بالجزاء الأوفى.
على هذه الصورة خرج الوفد يتعثر بأذياله، ولم يعبأ الفاتح بأقوال خليل باشا الذي كان يحاول ثني عزيمته وتثبيط همته بعبارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وثابر على عمله بهمة لا تعرف الملل.
رسم الفاتح بنفسه مصور القلعة، وجعل أبراجها الأربعة على أشكال حروف اسم «محمد» تبركا وتفاؤلا، واشتغل ببنائها ما يربو عن خمسة عشر ألف عامل، كما اشترك به الأمراء والوزراء أنفسهم نسجا على منوال السلطان الذي أراهم المثل الأعلى في سبيل الوطنية، فبلغ البنيان تمامه بأقرب وقت.
وما غرب عن فكر السلطان أن هذا العمل لا بد وأن يستلزم اهتمام الروم، ويكون من ورائه امتشاق الحسام، فقرر الحيطة والتدبر لئلا يسقط في يده وتذهب أعماله أدراج الرياح، واستكشف المدينة إبان إيابه إلى أدرنة، وأخذ مصورها بيده وبدأ بالتأهب لحصارها.
وبينما هو يجهد فكره ويشحذ قريحته شام برقا من نور أفكاره واختراعاته التي أفادت العالم المتمدن، وعادت عليه بعوائد الخير والنجاح، وأخذ بإصلاح الآلة النارية التي نشأت إذ ذاك في أوروبا، وبقي فعلها محدودا كالمتراليوز الآن.
1
أفرغ الفاتح كنانة جهده في ذلك، واستخدم معه المهندس مصلح الدين وصاريجه سكبان وأوربان المجري، فاستحالت إلى مدفع هائل يزن ثلاثمائة قنطار من النحاس، ويقذف قذيفته الرخامية التي لا تقل عن اثني عشر قنطارا إلى ما بعد ميل واحد.
وعلى إثر إتمام المعدات الحربية تعرض بعض الأروام لمحافظي الحصار العثمانيين بداعي شجار قام بينهما على بقعة أرض، مما اعتده الفاتح نكثا للعهد وبدأ بإجراء منوياته من جهة القسطنطينية، فأرسل جيشا كافيا إلى المورة تحت قيادة طرخان بك ليشاغل أخا الإمبراطور المتولي أعمال حكومة اليونان، ويمنعه عن إمداد أخيه بالمال والرجال، وتوجه هو بذاته إلى القسطنطينية في أوائل الربيع من سنة 857 هجرية.
كان عدد الجيش العثماني يربو على مائتي ألف جندي، وعدده 130 مدفعا منها ثلاثة كبار، يتولى خدمة أكبرها 400 جندي ويجره مائة رأس بقر، ويعتني بتمهيد السبل التي يمر منها مائتان وخمسون جنديا على ما يرويه التاريخ؛ ولذلك لم يتسن للجيش الوصول إلى أسوار القسطنطينية إلا بعد مسيرة شهرين كاملين.
وفي غضون الحركات العسكرية هجم قره جه بك - من الأمراء العثمانيين - على البلاد الباقية تحت حكم الإمبراطور، حتى تعداها إلى إياستفانوس ودوخها جمعاء (خلا سلوري وبوغادوس).
يرى الناظر الآن إلى أطلال القسطنطينية، ويستدل منها على أنها كانت محاطة بسور واحد من جهة البحر والخليج (القرن الذهبي)، وبأسوار وخنادق مزدوجة بعمق مائة قدم، وحصون منيعة من جهة البر، وبالإجمال فقد كانت المدينة مثلثة الأضلاع «سراي بروني، ديوانسراي، يدي قلة»، وكلها مجهزة بوسائط الدفاع.
أخذ الجيش العثماني بحصار المدينة، فعسكرت ميمنته التي تضم مائة ألف من المشاة أمام يدي قوله، وميسرته التي تجمع خمسين ألفا إزاء باب البلاط، وزغنوش باشا مع شرذمة قليلة في جهات غلطه، والسلطان نفسه خيم مع حاشيته التي لا تقل عن خمسة عشر ألف إنكشاري في قلب الجيش.
أما في البحر فقد رست ثماني عشرة سفينة وزهاء أربعمائة مركب لتشديد النكير وجلب الميرة والذخيرة، وكانت حامية القلعة تزيد عن ثلاثين ألف شاكي السلاح من الأهلين والغرباء.
بدأ الحصار وأخذت نار الجيش العثماني تتطاير على هام القلعة، والعدو لا يتمكن من مقابلته؛ لأن الحواجز المنيعة والسراديب الحربية التي رتبها الفاتح جعلت جيشه في مأمن من الخطر.
ولما ضاق العدو ذرعا هجم هجمة المستميت على خارج القلعة، وظن أن هذه الجرأة تفيده شيئا مذكورا، ولم يدر في خلده أن الجنود المحمدية لا تهاب الموت ولا تخشى الصدام، فهي تسعى إلى إحدى الحسنيين؛ الشهادة والظهور، فلما تناطحا مرة أو مرتين تأكد العدو بخلالها أن أمامه جيشا لا يشق غباره ولا تفل سيوفه عاد إلى مركزه بصفقة الخاسر.
وكانت الجهة البحرية من المدينة محاطة بحائط بسيط لا يعسر اجتيازه، لولا أن مدخل الخليج كان مسدودا سدا محكما بزنجير يتعذر كسره ويصعب قطعه، وكذلك جهتا لانغا بوستان وقادرغا، فإنهما كانتا مرفأين محصنين بخنادق ومعاقل عديدة، مما يجعل الجهة البرية أقرب منالا وأسهل تناولا إلى الحركات الحربية، فنقل الفاتح المدافع الثلاثة المذكورة إلى ما يقابل أكري قابو، وما لبث أن حولها إلى طوب قابو؛ لأن الإمبراطور حصن جهات أكري قابو تحصينا عارض حركات الفاتح ووقف في سبيل إطلاق مدافعه.
من الأمور المقررة أن كل اختراع حديث العهد لا بد أن تشوبه شائبة النقص، ثم يتحسن بالتدريج شيئا فشيئا تبعا لسنة الارتقاء، كذلك كانت حال المدافع المستعملة في الجيش العثماني، فإن حشو المدفع الكبير وانطلاقه كان يستغرق زهاء ساعتين من الوقت، وعليه كان لا يمكن استعماله أكثر من سبع أو ثماني مرات باليوم، وليس هناك واسطة لتبريد غليله وتسكين حرارته، فانفجر مرة وتمزق شذر مذر.
أتى هذا الحادث الجلل على السلطان في إبان الشدة وزمن الضيق فما ثبط عزيمته، بل أرشده إلى استعمال زيت الزيتون بالمدفعين الآخرين لحفظهما من خطر الانفجار، وأفلح في مسعاه.
ومع كل ذلك لم يشأ أن يعقد النية ويعتقد النجاح بشيء لم يثبته الاختبار بعد، فرأى من باب الفراسة والتعقل استجلاب كمية كافية من آلات المنجنيق وإقامة أربعة حصون متحركة تسير على عجلات، وتجهيزها بجنود مسلحة بالنبال والبنادق وزجاجات ملأى بعقاقير تستحيل نارا محرقة على إثر سقوطها،
2
وأمر بإرسالها إلى القلعة، وكذلك أمر بترتيب سيارة أخرى تسمى باليونانية ما يقارب معنى «فاتحة الأمصار»، وهذه أيضا لها عدة عجلات ملفوفة بثلاث لفائف من الجلد لتبقى دائما رطبة ويقيها من عطب الحريق، ومسقوفة بسقف حصين لوقاية من فيها، ولها في أسفلها أربعة أبواب، وهي ملأى بالحطب وأشباهه لردم الخنادق ونقل بعض الجسور السفرية لأجل إقامتها واجتياز الخنادق عليها.
وقد أتت هذه القلعة السيارة في إحدى الليالي بخدمة جلى بأن هدمت أحد الأبراج التي بجهة طوب قابو، ولكن ما لبث عشية أو ضحاها إلا وأعاده الروم إلى ما كان عليه بسهر الإمبراطور المتواصل، وغيرة عماله تحت جنح الليل، وانتقموا من السيارة شر انتقام بأن جعلوها طعاما للنار من كثرة ما صبوا عليها من زيوت النفط.
لم يتمالك الفاتح عن إظهار إعجابه الشديد واستحسانه الزائد لما رآه من سهر عدوه وتفانيه بالدفاع؛ لأنه كان من عشاق الفضيلة ومقدري الأعمال المجيدة، ولو أتت عن يد أعدائه وكانت موجهة ضده.
وبينا كانت حلقات الحصار آخذة بالتحكم ظهر في البحر مقدار خمس عشرة سفينة أرسلت للأخذ بناصر الروم وإمداد القسطنطينية، وظلت شهرا في عرض البحر تترقب من الريح المضادة مجرى، فقام لمقابلتها مائة وخمسون سفينة بين كبرى وصغرى من الأسطول العثماني، ونزل السلطان بذاته ليرى ما يتم عليه الأمر بين الأسطولين.
كانت سفن العدو كبيرة جدا ومجهزة بالمدافع الكافية، وربانها ونوتيتها على خبرة تامة بالفنون الحربية، بعكس العثمانيين الذين ما أعاروا البحرية جانب الاهتمام قبل الفاتح، بل قبيل التشبث بفتح القسطنطينية. وكان أمير البحر بالطة أوغلي عديم الكفاءة قليل الاختبار، فجاء إنشاء الجواري العثمانية ناقصا وقوة سيرها ضعيفة، ولم يكن لديها مدافع كافية ونوتية تعودت الإقامة بين السماء والماء.
ابتدأت الحرب البحرية، وأخذت قذائف العدو تغشى أديم الماء، لا سيما زيوت النفط التي كانت تجري وهي شاعلة، فكان مشهدا هائلا جمع بين النقيضين وساوى بين الضدين «النار والماء».
أمام هذا المنظر المهيب وقف الأسطول العثماني لا يبدي حراكا، وقد تحركت أخيرا منه سفينتان بفعل الأمواج فاصطدمتا معا واحترقتا بتاتا.
لا تسل على الفاتح وشدة انفعاله من بطأة أسطوله وعدم تمكنه من أسطول العدو الذي لا يعادل عشر ما عنده، وعد ذلك عارا كبيرا عليه وعلى جنده الذي أذل به كل أوروبا، واندفع بجواده إلى البحر لا يعي على شيء، فأخذت الحمية رجال الأسطول وتحركوا بعد السكون وهجموا هجمة عنيفة صارت بها الحرب سجالا، تتراوح بين كثرة عديد السفن العثمانية وتفاني نوتيتها وبين دربة العدو وحنكته، إلى أن هبت ريح موافقة للعدو، فمرت سفائنه بسرعة ودخلت المرفأ؛ لأن الأروام كانوا أرخوا طرفي الزنجير من غلطة وسراي بروني.
ولما بدأت هذه المقدمات أخذ خليل باشا يقنع الفاتح ويستميله لقبول الصلح، زاعما أنه لا يستبعد أن ترد النجدات إلى القسطنطينية وتزيد الحال إشكالا، وقد كاد يفلح لولا سابق ظن السلطان به في سلطنته الأولى ومعرفته حقيقة أمره وسوء طواياه، فكان يقتصر على استشارة زغنوش باشا وآق شمس الدين والملا كوراني ومن شاكلهم من الأجلاء والفضلاء، ويعول عليهم في المهمات ويرجع إليهم في المعضلات.
ثبت الفاتح على مبدئه من حيث مواصلة الحرب، بيد أنه كان يقدر حرج الموقف ووعورة المسلك، ويتطير من حرق السيارة ومقاومة حصون القسطنطينية لمدافعه الضخمة، وعدم مقابلة أسطوله أسطول عدوه.
شأن العاجز في الشدة اليأس والقنوط، والقادر الثبات والمثابرة على العمل. كذلك كان شأن الفاتح في أعماله؛ فإنه لما قطع خيط الأمل من قطع زنجير الخليج واعتقد أن محاولته المحال لا تجدي نفعا ولا تغني فتيلا، قدح زناد فكره واستضاء بنبراس عمله، وقرر أمرا لا يخطر على قلب بشر؛ وذلك فتح طريق برية من طولمة باغجة إلى قاسم باشا تسير عليها السفن، ورسم مصورها بيده وأمر بوضع سبعين سفينة عليها، وبعد أن فتحت أشرعتها اجتمع كل موجود في غلطة من إنسان وحيوان، واشتغلوا بجر هاته السفن وتسييرها في الليل، حتى إذا ما انبلج فرق الصباح كانت جميعها راسية في الخليج.
رأى العدو سفن العثمانيين ولم يكن يتوقع تلك الرؤية، وظن أنه في حلم، وهو معذور في ظنه؛ لأن هذا العمل العظيم الذي ناب به السهل والجبل مناب البحر، وسارت به المراكب في طريق يصعب سلوكه على المركبات، لا شك معجزة من المعجزات الباهرات، وخارقة من خوارق العادات.
وبعد أن خفت وطأة الدهش والحيرة التي استولت على العدو من جراء ذلك، قام يحاول إحراق السفن العثمانية وإغراقها عبثا؛ لأن السلطان كان على بينة من نوايا عدوه ويقظا على أسطوله.
ولم يكتف الفاتح بذلك بل أخذ بإنشاء جسر من جهة غلطة إلى الضفة المقابلة على ظهور قصع مرتبطة ببعضها كترتيب الجسور التي تقام الآن على الزوارق، وصارت تمر عليه الجنود والمدافع.
فخشي العدو العقبى، وحاول حرق الأسطول مرة أخرى كان نصيبه بها ما كان قبلا من الفشل، وما انتفع من ذلك سوى أنه بهذا العمل أيضا استدعى انتباه السلطان وحذره.
ولما رأى الروم ما حاق بهم قرروا سرا مناوشة الأسطول والجسر، على أمل أن يمسوهما بسوء بواسطة السفن الراسية داخل الزنجير والموكول إليها أمر حمايته، وكانت لا تقل عن خمس وعشرين قطعة.
علم السلطان بذلك، فعزم على مبادأتهم والكيل بكيلهم ليخلو له الجو ويزيح من وجهه هذه العقبة الكأداء، على أن النقطة الحاكمة على هذه السفن هي مركز جيش زغنوش باشا الذي كان مخيما في محل بك أوغلي، (بيريا) الآن، فالقذائف التي ترسل من هناك لا بد أن تعوج على حصون الجنويين الكائنة في غلطة، والجنويون في ذمة السلطان وعهده، فأصبح من الصعب درء الخطر عن أسطولنا بواسطة القلاع البرية.
أطرق الفاتح مليا، فتراءى له استعمال مدافع ترمي قذائف عوجاء ظن أنها تصل إلى هدفها بسهولة بدون أن تمس ما بطريقها، وأطلق أول قذيفة منها بذاته، فأصابت المرمى وأغرقت سفينة من سفن الروم.
إن هذا الاختراع العظيم الذي سمحت به تلك القريحة الوقادة لغاية حفظ الأسطول والجسر كان أما لأصول قنبلة اليوم وأصلا لفروع مدفعيتها الراقية.
وبينما كان الفاتح في هذه الحركات البحرية كانت قواه البرية قد قضت على أربعة أبراج من القلعة وجعلتها دكا وملأت نصف الخندق تقريبا، على أنها لم تنل وطرا من الصور لأنه كان منيعا جدا، ولم تكن القذائف لتبدد شمله، بل كانت تخترقه وتفتح فيه الثغور فقط، فأراد السلطان تعجيل الفتح، وصوب قوة مدافعه الصغيرة على حائط وسط بين طوب قابو وأدرنة قابو، وأخذت هاته المدافع تصب عليه القذائف بضعة أيام متتابعات حتى تضعضعت قواه وتداعت قوائمه، فأشار الفاتح حينئذ باستعمال المدافع الكبيرة، فلم تكد ترمي هذه بقذائفها إلا وأخذت تتساقط على الحائط كأنها قطع صخرية انفصلت عن مراكزها بفعل بركاني وقضت عليه القضاء الأخير، وكان يوما عصيبا صمت به الآذان من هزيم المدافع وانهيال البناء وتناثر الأحجار.
ولما توسم الفاتح النجاح بعد ذلك أرسل يطالب الإمبراطور بتسليم القلعة بدون حرب حفظا للدماء من الإهراق والنفوس من الإزهاق، فلم يجبه إلى طلبه السلمي، فاضطر غير باغ للمثابرة على الفتح، وما أفلح بيومه رغم ما أوتيه في أمسه، وكان يخشى من العدو أن يسد الثغرة التي فتحتها مدافعه، فداوم الحرب طول تلك الليلة الليلاء على نار المشاعل ونور الشموع التي ارتفعت على أسنة الرماح.
وكأن تلك الأضواء التي كانت ترسل خطوطها الشعاعية إلى الفضاء مظاهر زينة زاهرة لمهرجان الغد العظيم، ومقدمات نتائج باهرة لذلك الفتح المبين.
ولما بددت طلائع الصباح جيوش الظلام تأبط الفاتح سيفه وتوسط جنده كعادته، وأخذ يبث فيهم روح الحماس ويقوي نفوسهم بنثر النيران أمامهم والذهب عن أيمانهم وشمائلهم، وافتتح كتاب الهجوم بيده، ولم تدم هذه الصولة الأسدية إلا ساعات قلائل أتت الجنود العثمانية بخلالها من ضروب الشجاعة وصنوف الشهامة ما يدك الرواسي ويبهر العقول، وقد ملئت الخنادق بجثث القتلى منهم، حتى فتحت القلعة والجنود تمر على ربوات من الهامات.
أما غلطة التي كانت بيد الجنويين وسيلوري وبوغادوس الباقيتين للروم، فقد سلمها أهلوها ودخلوا بأمان السلطان على إثر الفتح.
وضعت الحرب أوزارها وقتل قسطنطين الملك مع من قتل، ودخل الفاتح القسطنطينية بمحفل حافل، وحل في القصر الملكي حيث أسكي سراي الآن، وكان على غاية من الضخامة والفخامة والرواء والبهاء، فلما رأى السلطان ما انتاب هذا القصر وساكنيه اعتبر بتصاريف الزمن وجري المقادير، ولم يتمالك نفسه عن البكاء، وأخذ يردد بيت شعر بالفارسية مضمونه: «إن البوم يتغنى اليوم على حصن أفراسياب، والعنكبوت ينسج الستائر لقصر قيصر.»
هذه رواية التاريخ عن الفاتح العظيم، وهي أعدل شاهد وأظهر برهان ينطقان بزهده وتقشفه عن الدنيا، وخشوعه وخضوعه إلى خالقه الكريم.
أقام الفاتح في إستانبول زهاء عشرين يوما قام فيها بتدابير سياسية عظيمة كهدم أسوار غلطة من جهة البر، وترميم حصون إستانبول، ونقل خمسة آلاف عائلة من ساحل البحر الأسود إلى المدينة ليزيد عمرانها وحضارتها. وما نسي واجب العدل والرحمة بإعلان الحرية المذهبية واحترام الطقوس الدينية باستبقاء بطركية الفنار، وفك عقال الأسرى من سراة البلاد، ودفع فكاكهم من بيت المال.
والغريب أن هاته الأعمال التي جاءت غرة في جبين المكارم وقرة لعيون الكماليات، لم ترض فريقا من عمال السلطان المتغاليين في تعصبهم والمفرطين بسياستهم، بل انتقدوها عليه زاعمين أنه لم يبق ثمة مانع من تخيير الروم بين السيف والإسلام، وأن من الخرق في الرأي ترك رجال الحكومة السابقة أحرارا؛ لأن ذلك يعقبه انتقاض عن أيدي هؤلاء المضلين.
سمع الفاتح هذا التعريض، وأجاب عن الأول بجواب كان فصل الخطاب إذ قال: «إن محاولة حماية الدين المبين أكثر من شارعه العظيم
صلى الله عليه وسلم
يعد مروقا عن الصدد وزيغا من الحق.» وأما الثاني قد أثبت الاختبار صحته؛ لأن وجهاء الروم عقدوا اتفاقا تحت رعاية نوتارون من وزراء قسطنطين الإمبراطور، وقرروا استحثاث مسيحيي أوروبا وإثارة خواطرهم ضد العثمانيين، وكانت مقابلتهم هذه سيئة كبيرة وذلة لا تغتفر في جنب عفو السلطان عنهم وانعطافه عليهم؛ ولذلك لقوا ما جنت أيديهم وذهبوا للنطع ضحية نكرانهم الجميل.
وقد أدى سقوط إمبراطورية القسطنطينية تلك السقطة الهائلة التي رن صداها في مشارق الأرض ومغاربها، وسارت بذكرها الركبان إلى زعزعة أركان حكومة المورة التي كانت بيد أخي الإمبراطور، فحمل عليها الألبانيون، وتوسل الأهلون بالفاتح الذي كان يتوقع بنافد الصبر مثل هذه الفرصة لكي يوسع حدوده في الروملي ويضرب بعرضها، فأمدهم بطرخان بك نائبه في منع اليونانيين عن إمداد القسطنطينية إبان حصارها، وطرد هذا القائد الألبانيين من شبه جزيرة المورة، ودخلت تحت سلطان الدولة العثمانية على أن تحفظ لنفسها أميرها واستقلالها الداخلي وتدفع الجزية.
ومما يذكر للفاتح فيشكر، فتحه جهات أينوس وطاشوس وسمندرك؛ لأن أهليها الذين لم يدخلوا في كنف السلطان عاثوا في الأرض فسادا وعبثوا بجيرانهم المسلمين، مما دعا قاضي فراجك إلى رفع الشكوى عن أعمالهم البربرية، فسافر الفاتح بنفسه وقضى على هذه المغارم والمظالم ومكن عروة حدوده الطبيعية.
ومن بعد هذا كله أخذت مقدمات حرب السرب بالظهور، ولا يخفى أن هذا الجهاد الشريف كان درة في تاج أعمال الفاتح وبيت قصيد أفعاله الكبرى، وذلك أن وجه القرابة الموجودة بين آل عثمان وعائلة الملك في سربيا تخول العثمانيين الجلوس على منصات أحكامها وفقا للقواعد المألوفة إذ ذاك، وقد رأى الفاتح أنه أمن الغوائل فأوفد إلى غوركي المكنى بالتواريخ العثمانية ب «ويليق أوغلي» سفيرا بمهلة خمسة وعشرين يوما طالبا منه التنازل عن تلك البلاد، أو بالحري عن ذلك التراث المأكول.
فلم يرجع السفير في خلال الأجل المضروب، وغوركي نفسه ذهب إلى بلاد المجر يستجيرها ويستفزها، فقام الفاتح بأسرع من لمح البصر وقصد صوفية ليعرقل مساعي عدوه، وهناك علم أن المجريين قطعوا نهر الدانوب من جهة طرنوي، فترك جيشه وتوجه ومعه عشرون ألف فارس إلى سربيا.
ومن حسن الحظ أن المجريين أخذتهم صيحة السلطان، فصعقوا وانقلبوا إلى أهلهم، والسربيون رجعوا أدراجهم إلى الحصون والمعاقل، فلم يجد السلطان في كلتا طريقيه منازعا ينفث في وجهه سمه، وأخذته سورة الانفعال فبعث فريقا من جيشه على سمندرة وأوستريجا، وقضى على أسوار الأولى الخارجية وافتتح الثانية بعد حصار عنيف دام أياما قليلة، وأفلت الفرسان في عرض البيداء فأسروا خمسين ألفا، ولما بدأت طلائع موسم الشتاء عاد الفاتح إلى أدرنة وترك فيروز بك من أمرائه مع 32 ألف جندي على حصار موراويا.
علم بذلك جان هونياد القائد المجري الشهير، فتحين فرصة رجوع الفاتح وهجم على جيش فيروز بك مبادرة وفرقه أيدي سبأ، وخرب مايلي ويدين حتى إنه لم يسع الفاتح عند سماع هذا الخبر إلا السفر غير مبال باختلاف الطقس وصبارة القر، وما كاد يصل إلى صوفية إلا وسلم له ملك السرب على أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر؛ لعلمه أنه ومعاونيه المجريين لا يتمكنون من الوقوف أمام العثمانيين، فلم يبق ثم حاجة لحرب أو خصام.
ثم توفي الملك المشار إليه بعد مضي وقت قليل، فانفتح له باب ثان لطلب الميراث، وجدد الفاتح تجريدته على الشمال عن طريق أسكوب، وحاصر نواوره فما قاومت معداته التي أتمها في معامله قبلا وسلمت بعد أسبوع فقط، كما سلمت له تريجا وطاش حصار وتوجه إلى سلانيك توا. أما سبب ذهابه إلى سلانيك فهو مراقبة أعمال أسطوله وحث رجاله على الثبات في مواقف الدفاع، وعلة تمرين الأسطول هي إصلاح الحالة المختلة في الأرخبيل؛ حيث إن زعيم الشفالية القائم في رودوس تمرد على أداء الجزية قبل سفر سربيا، وبعض أهل الجزر تمنعوا عن دفع مطاليب العثمانيين وتعرضوا للسفن التي تخفق عليها رايتهم، وهاته الأحوال على بساطتها لها عند الفاتح شأن مذكور، فهو يعتبر إثارة الحرب أهون من شق عصا طاعته، ويعد مساس حق فرد من رعاياه بمثابة الاستيلاء على كل مملكته. هذا ما دعاه إلى الاهتمام بحالة الجزر وإرسال أسطول ضخم لا يقل عن مائة وخمسين سفينة.
على أن الأسطول لم يكن في الحال المنظمة التي تمكنه من القيام بأعمال خطيرة تقضي لبانة السلطان من ضبط الجزر عن بكرة أبيها، فاكتفى بإطلاق أيدي الغارة في ربوعها واستعمال بعض الضغط مع أهليها، وكان موسم الربيع قد أقبل وأخذت الأرض زخرفها وازينت، فقام لإكمال سفر سربيا، واستصحب جيشا عرمرما يبلغ المائة والخمسين ألفا ومائة مدفع أعدها حديثا، وتوجه إلى بلغراد، وأقام في الدانوب أسطولا صغيرا ليعترض المجريين عند إمدادهم السربيين.
وجمع جان هونياد جنود المجر وأمده البابا بستين ألفا اجتمعت تحت لوائه، واشترك معه أسطول لا يقل عن مائة سفينة، والتقى الجمعان في ضواحي القلعة، وغلب الأسطول العثماني مرة لقلة عدده وعدده ونقص خبرة رجاله، ومع كل ذلك فقد اقتصر العدو الذي تراخت أعصابه وخارت قواه على مناوشة الجنود العثمانية من وراء حجاب؛ أي إنه رجع إلى حصونه ومعاقله وبدأ بالدفاع.
وما لبثت المدافع العثمانية أن دمرت بعض أنحاء السور القائم حول القلعة، وهجم العثمانيون هجمة عنيفة استولوا بها على بعض أرجائها.
غلب العدو على أمره ولم يبق لجان هونياد في القوس منزع، وبينما هو يتأهب للقفول بصفقة الخاسر إذ قام الراهب يوان كايسترتو من المتطوعة مفضلا النار عن العار، والموت الشريف على الحياة الذليلة، وجمع ثلة من أبطال قومه حملوا على الجنود العثمانية حملة منكرة من جانب القلعة الآخر، فوقفت جنودنا وقفة الريب، وظنوا أن هناك خدعة حربية وشركا منصوبا؛ لأن الحماس الذي أظهره العدو بهذه الآونة بعد ذلك العجز في النضال والفتور في الذب عن القلعة ضدان لا يجتمعان، وفضلوا الرجوع ولكن لا تسل كيف رجعوا، إنهم كانوا كلهيب النار التي تحاول أن تدلع لسانها إلى أمامها فتعاكسها الريح وتردها أصرا.
ورأى هونياد ما حل بالعثمانيين وقد ساورهم الفشل، فاسترجع رشده وجمع جنده وأعاد عليهم الكرة، وما كان هؤلاء يتوقعونها، فأزاحهم من مكانهم.
نظر الفاتح إلى هذا الأمر نظرة المتحير، وناهيك بسلطان يعتقد بأن جيشه لا تفل سيوفه في الحروب البرية خاصة وقد غلب لقاء عدو لا يعتد به، بل هو بالنسبة إليه كالصيد تجاه الصياد الماهر، فاضطرب الفاتح وقطرت شفتاه دما من عظيم انفعاله، كأنه أسد أصيب بجراح بالغة، وما تمالك أن ألقى بنفسه في معترك الهيجاء بدون أن يلبس درعه، عزلا من كل سلاح ما عدا سيفه، وخلوا من النصير خلا رباطة قلبه.
وكان سوء الحظ قد دفع ضابطا من المتدرعة للوقوف أمامه، فخفر سيف الفاتح ذمة مغفرة ووصلت شفاره الدقيقة الغرار إلى حلقومه، وسار في صولته حتى إذا بلغ النقطة التي حمي بها وطيس الحرب وغلت مراجل النزال، وأخذ يشجع جنده بحماسي المقال وإراءة المثال، فعادت لهم روح الشجاعة، وقد أوشكوا على النصر لولا أن اختل نظامهم وتقطعت أوصالهم بوفاة قراجه باشا أمير أمراء الروملي وزعيم الإنكشاريين الواحد تلو الآخر.
ولو وقفت المصيبة عند هذا الحد لكانت تحتمل التحمل، ولكنها تحدت إلى أبلغ منه، فجرح السلطان في فخذه جرحا بليغا وسقط عن جواده صريعا، وأصبح الجيش كجسم خامد انفصلت عنه روحه.
ومما يسطره التاريخ بالفخر لرجال البلاط الملوكي، التفافهم حول سلطانهم كأنهم سور من حديد أو سوار في معصم، وثباتهم في النضال عن مولاهم وحفظه من العدو.
ولم يدخر الأمراء وسيلة في منع هزيمة الجنود وتهدئة روعهم، ولكنهم كانوا كالصارخ في الواد، إلى أن أراد الله بعباده خيرا وأعاد للفاتح قواه، وقام يلتمس تلمسا والآلام تشاغله والأوجاع تتناوبه، وما كف عن القيادة، بل جمع خمسة أو ستة آلاف من فرسانه وحال بين الأعداء وبين ما يشتهون، وأخذت الجنود ترجع بانتظام.
زعم بعض مؤرخي الإفرنج أن العدو استولى في هذه المرة على كل مدافع الجيش العثماني، والحقيقة خلاف ذلك، فإن التواريخ العثمانية ما ذكرت من هذا شيئا ولا عرضت به أثناء الحديث، مما يدلنا على أن هذه الرواية مختلقة، فضلا عن أن الفاتح كان لا يتمكن من الوقوف في وجه عدوه، وهو جيش عرمرم خاض غمار الحروب ويخضب بالدماء، يرأسه قرم عنيد كجان هونياد بعد اضطراب حبل جيشه لو صح أن المدافع ضبطت منه.
ما لنا وذلك، ولنرجع إلى الفاتح، فإنه لما رأى صعوبة العمل وإخفاق المسعى أشفق على النفوس البشرية التي خلقها الله في أحسن تقويم، وقرر إقامة استحكامات في المراكز الضرورية ليسقط أهمية بلغراد الحربية ويوشحها بنطاق من الجند العثماني، ويأمن بذلك غائلة المجريين الذين يأوون إليها المرة بعد الأخرى ويقفون في سبيله.
وأرسل عيسى بك نجل حسن بك والي ويدين لشن الغارة على بلاد المجر نفسها، فرجع أبناؤها إلى بلادهم ليحموا حماها، وعلى هذا الوجه أفلح الفاتح في تطهير البلاد منهم، وعاد إلى أدرنة وباشر بإقامة الأفراح لختان صغار الأمراء، مظهرا عدم اكتراثه من رجعته إلى بلغراد التي كان يعتبرها قضاء إلهيا وقدرا مقدورا، والغريب أن خوف الأعداء من رجوع السلطان غير ظافر كان أشد وقعا وأعظم تأثيرا من شهرة انتصاراته السالفة؛ لأن البابا كان أرسل عشر سفن وبعض قرصان البحر المسيحيين أربعين سفينة للعبث بالأمن في الأرخبيل وحث أهل الجزر على الانتقاض، وكادت أن تقوم قيامتهم لولا رجوع الفاتح عن حصار بلغراد، فسقط في يدهم وذهبت ريحهم، وأوفدوا السفراء خاصة يطلبون تجديد الصلح بشروط مهينة لهم، وفوق ذلك فإن حاكم البغدان التي هي أقرب البلاد للمجر بادر إلى إعطاء الجزية، وأثبت أنه يقدر الفاتح حق قدره ويخشى بأسه، وبعد انقضاء الأفراح والولائم أخذ السلطان يستعد لإعادة الكرة على سربيا تشفيا، وبينا هو في ذلك جاء للديوان رجل بصفة مدع قائلا: «إنني تاجر رحالة أتنقل في بلاد المورة، وقد راعني ما رأيته من مظالم حكومتها وجورها علينا نحن المسلمين، فكل الأحزاب التي تتولى زمام الأحكام هناك تجعل ديدنها الحيف بنا، والخسف علينا إرضاء للرأي العام والعنصر الغالب، فأطلب إلى السلطان بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن مواطني، وبينهم الأيامى واليتامى أن يرمقنا بنظرة حنان ويحمي ذمارنا.»
أصاخ الفاتح لهذه الشكوى المرة، وكانت تعلو وجهه أمائر الانفعال وعلائم الحزن، حتى إنه لم يتمالك عن التململ والبكاء طويلا، وأمر في نفس الجلسة بإعلان الحرب على المورة، ولم يخش شدة الأمطار المتواصلة والأنواء المتتابعة في موسم الشتاء وبارح إستانبول قاصدا الجزر، وفوق ذلك ما أهمل مسألة سربيا أو أمهلها، بل بقي مصرا على فكره ثابتا في عزمه بشأنها، وجند جيشا كبيرا تحت قيادة وزيره الأعظم محمود باشا للقيام بتلك المهمة التي سلبت راحته وشغلت باله منذ أزمان.
اشتغل الفاتح زهاء ستة شهور بالحصار، واستولى على أهم القلاع وعاد إلى أسكوب حيث يقضي أيام الزمهرير بها، وهناك وافاه وزيره محمود باشا الذي ناب منابه وسد غيبته في جهات سربيا، وضبط كل القلاع التي يرمي إليها ما عدا سمندرة، وأرسل رواده ومستكشفيه إلى بلاد المجر ليحتلوها.
وقد انتشرت أخبار هذا النجاح ودارت على الألسن والشفاه، فاضطر المجريون المتحالفون مع السرب والمجبورون للوفاء بعهدهم على التزام السكينة، والاقتصار على إرسال بعض روادهم.
وعلم حاكم بوسنة بنية السلطان من جهة سمندرة، واعتقد أنه مغلوب لا محالة، فسلم مقاليد القلعة عن رضاء نفس وطيبة خاطر، وكفى نفسه وبلاده مئونة الحرب وعناء الكفاح، ثم انتقض الجنويون وقاموا يطالبون بغلطة، وقد سبق لنا البيان بأنها سلمت على أثر فتح القسطنطينية ولجأت إلى كنف الدولة العادل، فرأى الفاتح في ثنيات هذا الطلب تعرضا ظاهرا وعملا مهينا له، فرده ردا جميلا.
أما الجنويون فإنهم أشهروا الحرب وأرسلوا أسطولهم من أماصره ليناوئ السفن العثمانية الراسية في البحر الأسود، فاضطر الفاتح للتفرغ إلى هذا العمل، وعقد هدنة مع إسكندر بك الذي ظهر واستفحل أمره في ألبانيا إلى أجل محدود وأيام معدودات، وزحف توا على الساحل، وما كاد يصل إلى أماصره إلا وقد سلمت له رهبة من جيشه وأسطوله قبل أن يصليها نارا حامية ويجعلها قاعا صفصفا.
هذا من جهة، أما من الثانية فإن محمود باشا اختلس فرصة وجوده في جهات الأناضول، وعرض بلزوم اختبار ولاء إسماعيل بك الإسفندياري حاكم قسطموني وسينوب، أو بالحري مناصبته العداء، ولا ندري إذا كان هذا العمل هو خدمة خالصة لوجه السلطان وخير البلاد من الوزير أو توددا وتزلفا إلى صديقه قزل أحمد أخي إسماعيل المذكور، ولما كان السلطان يود من كل فؤاده استئصال جرثومة ملوك الطوائف وقطع دابرهم من شبه جزيرة الأناضول والروملي تقبل هذا الطلب قبولا حسنا وأحله محل الاعتبار، وكان إسماعيل بك رجلا بعيد النظر دقيق الفكر، فلم تغرب عنه نوايا السلطان وآمال محمود باشا من حيث مودته لأخيه قزل أحمد، وزاده احترازا وخشية كتمان أمر هذه التجريدة وتحصن بادئ بدء في سنيوب، ولكنه لم يطل جفاؤه ويظل على عدائه لما رأى الأسطول والجنود قد حاقت به من كل صوب وحدب، وبادر لتسليم القلعة ليثبت ولاءه قولا وفعلا.
قابل الفاتح جنوح إسماعيل بك إلى السلم بالاستحسان، وكاد أن يبقي على حكومته لولا اضطراره إلى رفعها من طريق دولته جرا لمغنم ودفعا لمغرم، فدعاه إلى ديوانه وحاسنه بلطيف الرقة ورقيق اللطف، وأقطعه مقاطعة يكي شهر التي هي أعظم موارد وأعذب مناهل من إيالة الإسفندياري، وعاد بعد تجشمه مشاق السفر مدة شهر أو شهرين غانما ظافرا؛ لأنه أمن شر عدو قوي في سواحل البحر الأسود، وقضى على طائفة من ملوك الطوائف.
وبينما كان النجاح يكلل آمال الفاتح في الغرب ويطير اسمه في كل قطر ومصر، كانت يد الزمان تهيئ له عدوا عتيدا في الشرق، هو: أوزون حسن (حسن الطويل)، زعيم عشيرة آق قيونليلر «ذوي الأغنام البيضاء»، ومن أبطال قومه الأشداء.
ظهر هذا الدعي في البلاد الكردية وعاث هو وإخوته فسادا في الأرض، وقد تزوج من ابنة إمبراطور طرابزون، ولا يخفى أن هذه الإمبراطورية هي من بقايا آثار حكومة القسطنطينية، وقد دخلت في كنف الدولة العثمانية على أيام السلطان محمد جلبي، وأصبحت تدفع لها خراجا معينا، فقام حسن الطويل يحاول حماية حميه وقطع الخراج عنه عندما كان الفاتح في تجريدة أماصره، وتعدى هذا الزعيم على حسين بك الضابط العثماني القائم في قيونلي حصار واحتل حصنه، وأرسل الفاتح حينئذ سرية من جنود الروملي تحت قيادة حمزة بك لتعاقب المذكور على عمله الشائن وفعله المعيب، ولم يوفق القائد؛ فبعث الزعيم بعض رواده لداخلية البلاد ليكشفوها.
هذا ما دعا الفاتح إلى حل عقدة ذوي الأغنام البيضاء، كما أنهى غائلة الإسفندياريين، وتوجه بذاته على البلاد الكردية.
علم حسن الطويل وفرة الجنود العثمانية ومكانتها الحربية من أخبار مستطلعيه ومن الصدام الذي حصل بين طلائع جيشه وجيش أحمد باشا كدك في جرخة.
وبقي يتردد برهة بين عاملين قويين؛ غرور يدفعه، وتدبير يمنعه، حتى غلب الثاني على الأول وانسحب حسن بجماعته إلى أعالي الجبال، وأوفد أمه السيدة سارة والشيخ حسين حاكم جمشكزك ليفاوضا السلطان في أمر الصلح.
وكان الفاتح قبل وصول الرسولين إليه استرجع قيونلي حصار وتخطاها إلى الأمام، فصادفاه في عرض الطريق، وأخذت أم حسن تستعمل دهاءها المفرط، وانضم إليها محمود باشا بشفاعته، فحول السلطان عزمه عن حسن ليظهر للناس أنه أجل من أن يسترسل في الطغيان وأعظم من أن يملك زمامه للحقد والضغينة، وبدأ يعامل أم حسن معاملة الولد البار، على أنه لم يطاوعها بالرجوع عما قرره بشأن حكومة طرابزون؛ لأنه كان يرمي إلى تحكيم نفوذه على شواطئ البحر الأسود، فضلا عن أن بقاءها على سابق عهدها يجعلها مباءة للروم في شرورهم، فأراد نضب مياه هذه الاضطرابات المنتظرة. وما زال سفيرا حسن الطويل في معية السلطان يسعيان لتحويل عزمه، ويعملان على إرجاعه عن قصده، ولم يتركا وسيلة وإلا وطرقاها، فلم يفلحا.
ومن جملة ما قالته سارة للسلطان عند ما رأته قد ترجل في طريق وعر ومشى على قدميه برهة غير يسيرة: «مولاي! هل يعادل ضبط حصن كل هذا العناء؟» فأجابها: «يا أماه، لم يكن غرضي ضبط الحصن، بل القيام بواجبي وواجب سيف الشريعة الذي قلدني إياه ربي.» وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، فلم تحر سارة جوابا.
وبالرغم عن كل المصاعب التي وجدها الجيش في سبيله، فإنه قد اقتحمها ووصل طرابزون بأسرع ما يمكن، وسلمت القلعة بعد حصار قليل، وأرسل إمبراطورها إلى أدرنة بكل حفاوة واحترام.
ولما استقر الحال بالسلطان وأصبحت كل سواحل البحر الأسود الجنوبية في قبضة تصرفه، وجه همه إلى إبادة الطاغية العظيم ولار زعيم الأفلاق، وكان يعرف بين العثمانيين باسم ذي الأوتاد، وعند المجريين بالشيطان، ولدى رعاياه الأفلاقيين بالجلاد، وناهيك بها من أوصاف شنعاء تدل على الموصوف، وأسماء تنبئ عن المسمى، فكان في عداد الفتاكين الذين اضطهدوا الإنسانية، وأشربوا في قلوبهم الظلم، وقتلوا النفوس البريئة بإقامتها على الأوتاد وغليها في المراجل.
أحرز هذا الباغي مقامه بحماية السلطان، ولكن غلبت عليه الوحشة والدناءة، فقابل الحسنة بالسيئة، وعامل السفيرين المرسلين إليه من جانب السلطان بالقتل والصلب؛ لأنهما رفضا الدخول عليه حاسري الرءوس حفظا للشعائر الإسلامية؛ ولذلك أمر بالتمثيل بهما تمثيلا بربريا، كدق عمامتيهما على رأسيهما بالمسامير وصلبهما على الأوتاد، واجتاز هو والرعاع التي تفيأت بظله نهر الدانوب، ودخل بلغاريا ففتك بأهلها فتكا ذريعا دونه الطاعون، ودمرها تدميرا لا تقدر عليه الزلازل والإعصار.
وقام الفاتح لمقاومة عدوه الألد، فأرسل الجيش مع محمود باشا وركب هو الأسطول ليختبر نفسه لأول مرة في الأسفار البحرية، ومن غرائب الاتفاق أن هذه الحرب البحرية كانت أول ما نجح بها العثمانيون، كأنها تيمنت بمقدم السلطان.
سافر السلطان إلى مايلي ودين، وبدد القلاع الكائنة على ضفتي الدانوب شذر مذر، واجتمع بجيشه وأخذ يقتص أثر العدو ويتتبع خطواته.
وكان ولار على شدة ظلمه وغشومه يعرف الخدع الحربية حق المعرفة، فتوغل وجماعته في الحراج، وكمنوا يتوقعون بالعثمانيين شرا.
وفي إحدى الليالي التي حلك بها الظلام وساد فيها السكون، هجم على الجيش العثماني وكاد يصل إلى فسطاط السلطان ويصيبه بسوء، لولا أن جنودنا التي كانت تعلم أوروبا وآسيا معنى الجندية وتتلو على العالم المتمدن دروس الوطنية قاومته أشد مقاومة، وتأثرته ميمنة الجيش حتى أحرجته على الخروج من حدود الأفلاق خاسرا، وقد توفق بدهائه من الهزيمة ونجا بنفسه لائذا إلى بلاد المجر.
وكان السلطان يقدر حاجيات مملكته، فلم يرد أن يزيد عليها بلادا خارجة عن تخومها الطبيعية، فتكرم بالأفلاق على رادول أخي ولار المذكور، ولما رأى أن الجو خلا له وما بقي أمامه رقيب ينازعه عزم على ضبط جزيرة ليمنوس؛ لأنها على مقربة من بلاده، وما فتئ قرصانها يتعرضون للسواحل مرة بعد أخرى، فخطط الخطط الحربية وسلمها للصدر الأعظم محمود باشا وأرسله أميرا على الأسطول، وعاد السلطان إلى إستانبول، وما لبث الصدر أن ضبط الجزيرة بوجه سلمي.
لم يكن من دأب الفاتح التخلي عن أسفاره الحربية، ولكنه رجع هذه المرة حبا بتنسيق البحرية وإكمال نواقصها، حفظا للراية العثمانية فيما عسى يحدث بينه وبين جمهورية البندقية، ولاحظ الأشغال بذاته، ومن جملة ما قام به استحكامات سد البحر، وجناق قلعة «الدردنيل» على ضفتي البحر المتوسط، وما زال فن الحرب الآن يعتد بها ويعدها بمكانة قصوى من الأهمية، مما يشهد للفاتح بسمو المدارك وكبر العقل في الفنون الحربية أيضا.
كنا ألمعنا قبلا أن السلطان لم يوفق أثناء حصار القسطنطينية بتصويب مراميه من جهات قاسم باشا إلى الجهة المقابلة، وأنه اضطر لتسيير السفن على وجه الأرض من بشكطاش إلى القرن الذهبي، وتكلف ذلك التكلف الهائل الذي أزهق الأرواح رغبة في الوصول إلى أمنيته، أما هذه المرة فقد نجح نجاحا مبينا بإنشاء مدافع تقذف القذائف من الجانبين إلى مركز وسط، وتسقط على هدفها بسهولة.
فرغ الفاتح من هذا العمل الهام، وما كاد يأخذ لنفسه طرفا من الراحة، إلا وقام ملك البوسنة يعارض بدفع الخراج المقرر عليه، زاعما أن قلعة سمندرة التي سلمها عن طيبة خاطر تقوم مقام الخراج. وكانت بوسنة حدا طبيعيا لبلاد الروملي، وضبطها ضروريا لحياة المملكة العثمانية، وقد سنحت هذه الفرصة الثمينة التي لا يجوز فواتها، فجند السلطان جيشا كبيرا يحوي مائة وخمسين ألفا وقاده بذاته.
وصل الفاتح أسكوب وعلم بها أن ملك البوسنة تحصن في إحدى القلاع، فأرسل محمود باشا في الطليعة، وتولى هو الجيش الاحتياطي يقوم بأوده بسرعة خارقة ومهارة فائقة، فلم تمض بضعة أسابيع حتى سطا على ملك بوسنيا بأسره وأسر ملكها، وما وقف عند ذلك، بل أرسل الصدر بجيشه إلى الهرسك ينشد طريقا ومخرجا بحريا، ونجح الصدر في مهمته الثانية.
وبعد كل هذا أشهرت حكومة البندقية الحرب على الدولة، على أثر ظهور حادث بسيط بين أمراء الحدود بسبب أسير فر من عند والي أثينا واستأمن بنبيل بندقي، وقد عارض النبيل في إعادته وتسليمه أشد المعارضة، حتى أفضى ذلك إلى التخاصم، والبندقية في ذلك الزمان كإنكلترا اليوم من حيث انتظامها، وانكباب أهلها على الجد والعمل في التجارة والأسفار على قلة نفوسها، وقد أصبحت خزانة أوروبا ومالكة زمام البحر المتوسط، بل ملكة البحار على الإطلاق.
دام هذا الجدال العنيف زمنا يربو عن ثلاثة عشر عاما أثبت الفاتح في خلالها عظيم دربته ودرايته، وخرج منها متوج الرأس ظافرا، أما زعيم البندقية فقد كان على خبرة تامة بدخائل السياسة، عارفا بأساليبها ودسائسها، وكان يأمل أن يحرك ساكن البلاد المفتوحة في الدولة ويثير ثائرها، فضلا عن أنه يثق بمساعدة البابا بيوس الثاني الذي كان على جانب عظيم من التعصب الديني، وكان يتوقع معاونته بتأليف فئة صليبية كبيرة يسترجع فيها فائت قوته الروحية والزمنية، ويستعيد بها الاستئثار بالسلطتين.
وفعلا ظهرت مقدمات هذه الظنون، وأخذت البلاد تنتقض الواحدة بعد الأخرى بمجرد ما تهيأ أسطول البندقية، وغدت تنتشر جنوده كالجراد، وكان اليونان في مقدمة رافعي لواء العصيان، ثم إسكندر بك الألباني.
والبابا نفسه جند فرقة عظيمة من أهالي حكومتي فرنسا والمجر ومدن إيطاليا وقادها بذاته، وحضر إلى أنقونة ليتسنى له الهجوم على البلاد العثمانية، ثم بتلك البرهة توفي إبراهيم بك القرماني حافظا عداءه للدولة وهو على شفا جرف القبر، وعهد بالولاية لابنه الصغير إسحاق بك الذي ولد من جاريته، رغما عن وجود ستة أنجال له من زوجته عمة السلطان. وكان هذا الولد يحذو حذو أبيه، فانحاز إلى حسن الطويل الذي لا يترك فرصة إلا وينتهزها ضد الدولة، وطرد إخوته من عنده واتفق مع من اتفق من الأوروبيين على مناصبة الدولة العداء، وقد بلغت القحة والوقاحة من بعض الدول المجاورة للدولة العثمانية مبلغا جسيما، ومنها من لم يصبها خيرها أو شرها ولم يصلها إلا اسمها بأن أصبحت عدوة لدودة ومناهضة قوية شديدة، وأجمعوا أمرهم عليها، فأضحت المملكة كبيت أحاطت به النيران من كل جانب.
اعتاد الفاتح خوض المنايا، فما أعجزه التدبير لقاء هذه المصاعب والمتاعب، وصار يعمل على حفظ كيانه واسترجاع مكانته برباطة جأش وعزم لا يتزعزع.
أقام هو في إستانبول يدير دفة الأمور، وعهد بقيادة الجيش الأول إلى بير أحمد بك ابن عمته وإلى حمزة بك والي أنطالية، والثاني إلى طرخان زاده وأورنوس زاده، والثالث إلى شرمت بك وبلبان بك «الذي نصب علم النصر على برج القسطنطينية وهو جندي بسيط، فكافأه السلطان على هذه الخدمة ورقى به حتى القيادة»، وأرسل هذه الجيوش بعد أن زودها بالخطط والتعاليم الحربية على صاحب قرمان والمورة وإسكندر بك الألباني كل بمفرده.
وأسعفت العناية الإلهية الفاتح بوفاة البابا، فانتثر بعدها عقد الصليبيين وتشتت شملهم، فكانت أعظم مساعد لنجاحه وفلاحه.
ولما رأى حسن الطويل تدابير الفاتح فضل الانسحاب بعد أن نهب البلاد التي تعهد بحمايتها وصيانتها ورجع غانما سالما، فسقط في يد إسحاق بك وأخذ قسطه من الجيوش العثمانية، وهناك عادت تخوم البلاد إلى ما كانت عليه في عهد بيازيد ووقعة تيمورلنك، أما في شبه جزيرة المورة فلم تقم الجنود مدة قليلة إلا وعادت السكينة إلى مجراها واستتب الأمن. وهذا النجاح وإن قضى على بعض قوى التحالف الموجهة ضد الدولة إلا أنه ما أعاد المياه إلى مجاريها؛ لأن البندقيين أنشئوا قلعة عظيمة في مضيق المورة، وجهزوها بمائتي مدفع، وجعلوا البلاد تحت خطر الضبط، وبقيت الجنود العثمانية محصورة في ما وراء المضيق، كما أن جيش المجر الذي تركه البابا المتوفى ميراثا هجم على البوسنة وضبط يابيجا.
لما تأكد السلطان مرامي أعدائه ومواضع آمالهم قام لاستئصال شأفتهم وقطع دابرهم بجيش جرار وبارح القسطنطينية، وكان للجيش العثماني ذلك الصيت الطائر والصوت المرعب، فما كاد يأتي على مقربة من مضيق المورة وترى جنود العدو طليعة الجيش التي تولاها محمود باشا مقبلة، حتى ولت الأدبار خوفا وجزعا دون أن تطلق رصاصة واحدة.
بشر الفاتح بهذا النصر العاجل، فشكر الله سبحانه وتعالى على نعمائه وآلائه، ووجه وجهه شطر البوسنة ومعه ثلاثون ألف جندي ليس إلا، وبلغها بسرعة غريبة وبدأ بحصار يابيجا، وبينما هو مشتغل بالحصار اجتاز المجريون الحدود وهجموا على قلعة أزورنيخ لكي يحولوا الجيش العثماني عن محاصرة يابيجا، وعاد محمود باشا بعد أن أعاد الأمن في المورة وقاوم أسطول البندقية الذي كان يرمي إلى ضبط مدللي «متلين»، فأرجعه أدراجه بحملة واحدة.
هنالك انسحب الفاتح إلى صوفية واتخذها وازعا لحركاته، وقسم جيشه إلى شطرين، أرسل أولهما إلى يابيجا ليشدد حلقات الحصار عليها، وثانيهما للمجر ليقاوم عساكره، وعهد بالأول إلى محمد بك منت، وبالثاني إلى محمود باشا.
ومن غرائب الصدف أن شأن قلعة أزورنيح كان كشأن قلعة المضيق، فإن ملك المجر بمجرد ما رأى طليعة الجيش التي يتولاها الصدر أخذ بالتقهقر تاركا ميرته ومدافعه، وقد تبعته الجنود العثمانية حتى حدود بلاده وأبلت بجنده بلاء حسنا سواء في الطريق أو في مرورهم من نهر صاوا، ورسخت قدم الدولة في السيادة على البوسنة.
أما في جهة ألبانيا فقد قلب النصر للعثمانيين ظهر المجن، وذهبت ريح فرقهم التي يقودها شرمت بك لقاء أول حملة من إسكندر. وأما بلبان بك فإنه باقتدائه بأوامر الفاتح واهتدائه بهديه نابذ الأعداء وقاومهم قليلا، إلا أنه كان يربح مرة ويخسر مرتين، فكان الفشل أليفه طول هذه الحرب.
علم الفاتح بذلك واعتقد أن شجاعا مثل إسكندر لا يقف في وجهه إلا شجاع مثله، فبعد إنهاء واقعة المجر توجه تلقاءه ودوخ بلاده من أدناها إلى أقصاها، وأحاط باقجه حصار مركز حكومته وأخذ بخناقها.
وقف إسكندر إزاء مهارة الفاتح وكفاءة مدافعه، ففضل التسلق إلى الجبال عن النزول إلى ساحة النزال أو الالتياذ بإحدى الحصون.
ثم بدأ بمناوشة الجنود العثمانية، فما كان يفتر ليلة واحدة عن شن الغارة عليها، ويعود بخسران بعد أن يكون قضى العدد العديد من الفريقين، ولما طال ذيل هذه الحملة وعرم سيلها وحل موسم الشتاء ترك الفاتح فريقا من جنده تحت قيادة بلبان بك، وتحرك هو على جهات مكدونيا، وضبط ما تيسر ضبطه من البلاد التي كانت في عرض طريقه، ووصل إلى أدرنة.
أما إسكندر بك فمذ علم برجوع الفاتح حمل على بلبان بك حملة منكرة قضى بها على ذلك القائد العظيم شهيد وطنيته، واضطرب حبل جيشه، ودمر إسكندر إيلبصان التي شادها الفاتح في تجريدته على ألبانيا مما اضطر الفاتح لمتابعة الحرب، فأعاد حملته عليها في أوائل الربيع.
وكان إسكندر بك قد قضى نحبه، فنجح الفاتح في تسخير تلك الأنحاء بدون كبير عناء.
سبق لنا البيان أن إسحاق بك القرماني تحالف هو وحسن الطويل والبندقيين، واتفقوا على معاداة الدولة العثمانية، وأنهم لاقوا من الفاتح ما أعادهم القهقرى، أما الآن فإن بير أحمد ابن عمة السلطان الذي تربى في حجره اتبع خطوات أخيه إسحاق الشيطانية، وانضوى تحت لواء حسن المذكور تحت أمل إضعاف قوة الدولة وإيقاعها في أحبولة ثانية كالتي وقعت عن يد تيمورلنك، وبالتالي الاستئثار بسلطة الاستقلال في بر الأناضول، وأصبح يعمل معهما ويدلهما على مواضع الخلل ومواطن الضعف، حتى إذا انتهى الفاتح من وقائع الروملي وجه همه نحو الأناضول لإزالة هذه العقبة الكئود ورفع هذا العدو الداخلي، وتوجه بذاته، وما عتم أن استولى على قونية واتخذها مركزا لحركاته، وجند منها الجنود تحت قيادة محمود باشا، وبعد حروب عنيفة عديدة دخلت كل تلك البلاد تحت ظل الدولة الظليل.
أما في الجهة الثانية فإن جمهور البندقية اقتصر على مناوأة العثمانيين بطرق القرصانية؛ لأنه لم يتوفق لعقد اتفاق صليبي ثان، ومع ذلك فقد أرسل أسطولا ضخما توصل به إلى نهب بعض الجزر العثمانية ومدينة أينوس إبان وجود الفاتح بجهة قرمان، فرأى الفاتح ضرورة القضاء على جزيرة أغريبوز لأنها الفرضة الوحيدة التي يلجأ إليها أسطول العدو في المورة، وجند عليها جيشا من جهة البر وأرسل أسطولا تحت إمرة محمود باشا.
وقابل البندقيون هذا العمل بالمثل، فأرسلوا أميرهم بأسطول لا يقل عن ثمانين سفينة ليمدوا القلعة وينجدوها، ولكنه وقف بمكانه لا يقدر على شيء لما لقيه من مكنة الأسطول العثماني وانتظامه، بعد ذلك الوهن الذي كان به إبان حصار القسطنطينية، حتى إنه لم يستطع منع بضع سفائن من الدخول إلى الخليج. وأقام الفاتح جسرا متينا بين البر والجزيرة، وضبط القلعة لرابع مرة من هجمات جنوده البواسل.
وأثناء الاشتغال بهذا الفتح انتقض القرمانيون مرة أخرى ودفعوا البلاد إلى الفوضى، مما بعث بالسلطان إلى إشهار الأحكام العرفية بينهم وإقصاء بعض زعمائهم وإيوائهم بأماكن بعيدة؛ حبا بإخلاد الأهالي إلى السكينة ودرء الأخطار التي تنجم عادة عن مثل ذلك، وأرسل محمد باشا روم ثم إسحاق باشا وأحمد باشا كدك بالنظر لما أتى به الأول من ضروب الاعتساف وصنوف الجور، وما اعترضه من عدم النجاح الذي هو نتيجة طبيعية لظلمه وطغيانه.
وبينما كان أحمد باشا كدك يعنى بقمع الثورة وتثبيت دعائم الأمن والنظام، قام حسن الطويل يحاول الهجوم على البلاد العثمانية، «وفي كل واد أثر من ثعلبة.»
اشتغل هذا الزعيم بعد انعقاد الصلح بينه وبين الفاتح بالتفرد بين ظهرانيه وضمن بلاد أجداده، وقضى على جهانشاه ملك ذوي الأغنام السوداء، وعلى أبي سعيد ميرزا حفيد تيمورلنك بعد حروب دموية طاحنة، ونبذ حسين بايقرا من خراسان نبذ النواة، وملك أعنة البلاد الكائنة على حدود الدولة العثمانية حتى نهر جيجون طولا وعرضا، والأماكن الواقعة بين بحر الخزر إلى السند، فكان مثال تيمورلنك أو تمثاله الحيوي.
قلنا إن حسن الطويل اتبع خطوات تيمورلنك واتخذها نموذجا في حركاته وسكناته، وقد دمر توقاد، وتوجه بجيشه من قيصرية على بلاد قرمان لحماية أصحابها، فضلا عن أنه كان يرمي بكل أوضاعه وأطواره إلى الغض من كرامة السلطان ويتعمد إهانته، كمخاطبته بلقب بك، وإيصائه بالدعاء لدولته، وغير ذلك من أشكال الازدراء، ولم يسع الفاتح عند سماع هذا الخبر إلا القفوز على جهات الأناضول كالباز الصيود، وكاد يتوغل في داخليتها، لولا أن وزيره محمود باشا الذي تربع في دست الوزارة للمرة الثانية استوقفه بداعي حلول فصل الشتاء؛ لأنه يحول دون الحركات الحربية، هذا من جهة، أما من الثانية فإن التحقيق أسفر عن أن قوى العدو قليلة، وهي لا تستدعي مزيد اهتمام ولا تستلزم سفر السلطان بذاته، فاكتفى الفاتح بإرسال سرية عهد بقيادتها إلى الأمير مصطفى وداود باشا أمير أمراء الأناضول، وقد قامت هذه السرية بما أنيط بها خير قيام، فوقف حسن الطويل عند حد محدود.
ولما أقبل فصل الربيع قام السلطان على مائة وثمانين ألف مقاتل يطلب حسن الطويل في الجهة الشرقية بعد أن أخبره عن عزمه بكتاب ملؤه التهديد والوعيد، ولكنه خلو من كل مفاخرة حسبما كانت عليه عادة تلك الأيام الخالية، أخبره ليكون على بينة من الأمر ويستعد لمقابلته ومقاتلته، وفي ذلك ما فيه من المروءة وكرم الخلاق. أما حسن الطويل فإنه لجأ إلى سفوح جبال الضفة المقابلة من نهر الفرات يتربص ورود الفاتح، وكان في طليعة الجيش خاص مراد - من مقربي الفاتح - فلما دنا من معسكر العدو لم يتمالك أن حاول عبور نهر الفرات، وكانت هذه الحركة محفوفة بالخطر، فأرسل السلطان محمود باشا لكي يلاحظه ويثنيه عن عزمه، ولكنه كان كنافخ في رماد؛ لأن الأول كان متشبثا في رأيه ومعتمدا على شجاعته على قلة اختباره وحنكته، فاجتاز النهر هو وجيشه.
وقد جاءت هذه موافقة لأميال حسن الطويل؛ لأنها شعبة من الخطأ وضرب من الخطل، وأخذ يستعمل الخدع الحربية بأن تظاهر بالرجوع إلى الوراء وكمن في الطريق، حتى وقع الجيش في الشراك المنصوبة له واستشهد قائده.
رأى حسن الطويل هذا النجاح، وظن أن السطوة العثمانية قد اضمحلت وقوتها قد تلاشت، فصار يخيل له الوهم الاستيلاء على القسطنطينية، بل على المغرب الأقصى، وبينما هو في أحلامه هذه إذ وافاه الفاتح وقد وصل إلى صحراء ترجان ببرهة أسبوع وهو يتقد حنقا وغيظا.
ولما التقى الجمعان ولى الفاتح قيادة ميمنة الجيش إلى الأمير بايزيد، والميسرة إلى الأمير مصطفى، وتولى هو قلب الجيش بذاته، ولم تمض ساعتان أو ثلاث حمي فيها وطيس الحرب إلا ونجحت ميمنته ثم ميسرته بتفريق كتائب العدو، وقتل قائد ميسرة العدو زينل بن حسن الطويل، فشكر الفاتح المولى على ما أتاه من النصر العزيز والفتح المبين على رجل طاغية تفرد بسلطته واشمخر بأنفه، وأعتق رقاب الأسرى الموجودة عنده، وقد كانوا أربعين ألفا أو يزيدون، وأعاد إليهم حريتهم المسلوبة وحقهم الضائع. هذه كمالات لا تصلح إلا للفاتح ولا يصلح إلا لها.
وقد أراد السلطان أن يقتفي أثر حسن الطويل ويستأصل جذوره، ولكن وزيره الأكبر محمود باشا أقنعه بالعدول عن هذا العزم بقوله إن العدو قد كسر شر كسرة لا يرجى له بعدها قومة، وإنه لا بد من مصادفة عقبات وحواجز طالما هو متحصن بالجبال الجرداء، وإن الأهلين من أبناء ديننا المسلمين، فلا يجيز السلطان شن الغارة عليهم، إلى غير ذلك من الملاحظات التي استحسنها الفاتح وعمل بها.
وقد عاد الفاتح إلى عاصمة السلطنة بعد أن استولى على شبين قرة حصار وبعض القلاع في تلك الديار إبان رجوعه، وأقام فيها.
وفي طيات تلك الإقامة توفق أحمد باشا كدك والوالي الأمير مصطفى إلى تسكين ثورة الأناضول التي أزكى نارها القرمانيون بالاتفاق مع جمهور البندقية، وأصبحت قرمان كلها للعثمانيين بلا منازع ولا معارض.
وفي مدة تلك الإقامة أيضا أرسل روادا على الجرمانيين الذين لم يدخلوا في حوزته، وأقام هؤلاء في قلعة على نهر صاوا يشنون الغارة على جرمانيا والمجر مرة بعد أخرى مدة عشر سنوات، ويخربون ما تصل إليه أيديهم.
ومن أعمال تلك الإقامة أيضا إرسال سليمان باشا خادم على أشقودرة الواقعة في الحد النهائي من غربي الروملي، والتي كانت في يد البندقيين إذ ذاك، وإبحار أحمد باشا كدك في أسطول ضخم على قريم لضبط سواحل البحر الأسود الشمالية، وقد سبق ضبط السواحل الجنوبية منه؛ وذلك ليتخذه ميناء أمينا ووازعا مهما لأسطوله.
وقد افتتح المشار إليه مباشرة كفه وسواحل أزاق التابعتين للجنويين في مدة قصيرة، واستمال خانات القريم بقايا الحكومة الجنكيزية الشهيرة وعقد عليهم لواء الولاء، ومع تلك الشهامة والعزم ووصول طلائع جيشه إلى جهات راغوزة لم ينجح في فتح أشقودرة. وبينما هم في ذلك إذ قام آتين متولي أعمال حكومة البغدان بعد وفاة حاكمها السابق يحاول على دفع الخراج السنوي المقرر عليه، فأمر الفاتح سليمان باشا بالكف عن أشقودرة والتوجه على البغدان، وقد سافر بقلب ملؤه الإقدام، وعبر نهر الدانوب على الجلد، إلا أنه لم تتساو عنده كفتا الغيرة والمهارة، وبدا في الحرب بمكان لا يوافقها؛ فغلب على أمره.
وعلى أثر هذا الانكسار وحلول موسم الربيع عقد السلطان النية على السفر إلى الشمال، فقام سفيرا البغدان وبولونيا - التي كانت تابعة لها إذ ذاك - يحاولان إرضاء السلطان وإقناعه بصور شتى، لكنهما لم يفلحا في سعيهما؛ لأن الفاتح كان يطلب إعطاؤه جميع سواحل البحر الأسود ويلح على دفع الخراج المعين، وقد أنكر البغدانيون ذلك واستكبروه أيما استكبار، فاضطر الفاتح إلى متابعة الحرب.
دخلت العساكر العثمانية بلاد بغدان وقد أصبحت قاعا صفصفا؛ لأن آتين خرب البيوت بأيديه وحرق كل القرى والدساكر وسحب الأهلين إلى مواقع الخفاء، فلا زاد ولا مكان يصلح للسكنى، ولولا أن السلطان تحوط لنفسه كجاري عادته وحضرت الذخائر التي أوصى عليها بطريق الدانوب، لقضى العثمانيون جوعا عن بكرة أبيهم.
واستمر الفاتح على عزمه ولم يعبأ بهذه المصاعب المهمة، فبعث طليعة الجيش تطلب العدو، فضلت في الطريق وسلكت مسلكا وعرا، ومن غرائب الاتفاق أن ذلك الطريق أدى بهم إلى الحرج الذي لجأ إليه البغدانيون، وشعر السلطان بذلك فتبع جيشه، وقام آتين لمقاتلته، وأخذت مدافعه التي تربو على الثلاثمائة تصلي العثمانيين نارا حامية، وقد كاد يستولي الرعب والذعر على قلوبهم ويرجعون بصفقة المغبون، لولا أن الفاتح بقوة دهائه وشدة ذكائه حول جنده إلى ملجأ أمين حفظهم فيه من نيران المدافع.
على أن هذا الأمان لم يكن ليشدد عزيمة الجيش، وقد دهش من فرط ما عارضه من مظاهر الحرب الهائلة، فكان الفاتح يلقي الأوامر والجنود لا تحير جوابا ولا تبدي حركة، بل تكاد ألا تتلقاها بالقبول والارتياح.
رأى الفاتح جبن جنوده وخوفهم، وأخذ الغضب منه كل مأخذ، فرماهم بنظر شذر وهو يقول لهم: «أنا كنت أتوسم فيكم جرأة أكبر من هذه.»، وجرد حسامه كأنه يريد أن يشق غبار الحرب ويطاحن العدو بنفسه، وصال على المدافع صولة الأسد الرئبال، فجذب مغناطيس جسارته كثيرا من رجال البلاط الملوكي، ثم الإنكشارية، ثم بقية صفوف الجند، وصاروا يسابقون بعضهم بعضا في حلبة النزال وميدان القراع، حتى دخلوا إلى الحرج وتلاقوا بأعدائهم وحاربوهم بالسلاح الأبيض وجها لوجه، وبالتالي كتب الله لهم النصر على أعدائهم.
وأثناء رجوعه فهم أن المجر انتهزوا فرصة اشتغاله بالحرب وحاولوا ضبط قلعة سمندرة، ولكنهم لم يفلحوا فعادوا بعد أن أقاموا ثلاث قلاع فيما يليها، فأمر بهدمها وجعلت دكا.
وأقام الفاتح في العاصمة سنتين كاملتين بدون عناء ولا كفاح، وهو في خلالهما لا يفتر عن العمل طرفة عين، فرمم أسوار إستانبول، وحاصر إينانجتي فلم يفلح بفتحها، وما زال الأقنجيون
3
لا ينفكون عن إعمال أيدي التخريب في بلاد المجر وجرمانيا.
بادر الفاتح بعد مضي هاتين السنتين السلميتين إلى تجديد تجريدته على البندقية، وقرر إيفاد أمير أمراء الروملي على حصار أقجه حصار - مركز حكومة إسكندر بك الألباني حال حياته - وأمير أمراء البوسنة مع الأقنجية على راغوزة، وأحمد باشا كدك على فتح أشقودرة، فاستقال الأخير من هذا المنصب لصعوبة الأمر وخطورته، فسقط من عيني السلطان وآلى على فتح الحرب بنفسه.
ومن حسن الحظ أن ملك صقلية قدر مكانة الفاتح الحربية حق قدرها، وعلم علم اليقين أن غضب السلطان يعمل عملا أشد من سخط العالم المسيحي بأسره، فرأى من الحكمة والتعقل عقد صلح شريف، وأمضيا بذلك اتفاقا كان أول ما عاهدت به الدولة العثمانية دولة مسيحية.
وجنح ملك المجر إلى السلم أيضا، فأصبح جمهور البندقية عزلا من كل سلاح وبعيدا عن النصراء والظهراء، وقد بلغت الأقنجية إلى عاصمته واستولى اليأس والرعب على بلاده، فبعث إلى السلطان يطلب الصلح والسلام.
قابل السفير السلطان في صحراء صوفية وعرض عليه شروط الصلح، فلم يعبأ بها الفاتح؛ لأن رأس مطاليبه تسليم أشقودرة، والبندقية ترى في ذلك مساسا بشرفها، فلم تجد هذه السفارة نفعا ولم تغن عن الحرب فتيلا.
أرسل الفاتح داود باشا على حصار أشقودرة، وتوجه هو بذاته على أقچه حصار، وقد كان لها سنة واحدة وهي مثقلة بقيود الحصار، فلما رأى أهلوها أن القوة العثمانية أصبحت في ازدياد، وأن فتح المدينة أضحى قاب قوسين أو أدنى سلموا ليسلموا من خطر الحروب وويلاتها، فاستأنف الفاتح سفره إلى أشقودرة لأنه كان يرمي إلى ضبط حدود الروملي، والتحق بجيشه الذي أرسله أمامه لإصلاح الطرق.
إذا اعتبرنا أن حصار إستانبول كان مبتدأ اختراعات الفاتح في فن المدفعية، فإن حصار أشقودرة كان خبرها وغاية كمالاتها.
وقد كانت قلعة أشقودرة في ذروة جبل، يكتنفها من الغرب بحيرة ومن الجنوب الغربي نهر بويانة الذي ينبع منها وينصب في خليج فينسيا (ونديك)، ومن الشمال الشرقي نهر درنة، ويتلاقى في النهر الأول عند رأس البحيرة، ولها غير هذه الاستحكامات الطبيعية ثلاثة حصون تسمى لش ودرغوش وكول باشي (رأس البحيرة)، فلش على ملتقى النهرين، ودرغوش مطل على المدينة، وكول باش قائم في ثغر البحيرة. أما جمهور البندقية فقد تدبر الأمر وأتم نواقص أشقودرة وحصنها تحصينا مهما، ولم يدع فيها رجالا سوى المحاربين وبعض نساء قليلات كي يتعهدن خدمة الجيش؛ لأنه كان يعلم مبلغ نوايا السلطان من فتح أشقودرة والضرب في عرض الروملي منذ أول مرة حوصرت بها أشقودرة .
ولما دنا السلطان من القلعة وجد أن جيش الروملي قد خيم على ربوة تسمى باشا تبة سي (ربوة الباشا)، وجيش الأناضول على نهر درنة، فاستحسن موقعيهما حتى إنه شبه أحدهما بوكن الشواهين.
ورأى أن أعمال داود باشا لا تفي بالغرض المطلوب، فقسم الجيش الذي أتى به هو إلى الجهات الموافقة، وقطع خط الاتصال بين قلعة العدو والماء بواسطة السفن التي أقامها هناك، وبنى جسرا على النهر محصنا من طرفيه ليؤمن معه مرور جنده وعبوره. وكان الجيش قد تمكن من وضع مدفعين قبالة أحد الأبراج، يرمي الأول قذيفة تزن أربعة قناطير، والثاني ثلاثة قناطير، وكلاهما لا يرمي أكثر من سبع أو ثماني مرات في اليوم. وكانت القلعة محاطة بوعور وهضبات، فلم يفلح الفاتح في رفع المدافع التي أحضرها معه ووضعها في النقاط الحاكمة، ولكنه لم يعدم وسيلة وهو على ما هو عليه من الذكاء النادر المثال، فأنشأ في تسعة أماكن تشرف على القلعة مسابك خاصة لسبك المدافع، فعملت له هذه المسابك تسعة مدافع من طراز هاون بالعيار الآتي:
عدد
وزن القذيفة قنطار
1
4
2
6
1
6 ونصف
1
7
1
9 ونصف
2
12
1
13
والمدفع الأخير هو أعظم مدفع ذكرته التواريخ، وايم الحق إن هذه الأعمال الهامة والإقدام الغريب لا يتأتى إلا لرجل عظيم كالفاتح الذي يشبه الأمواج الهائلة التي تلاطم الصخور فتصدها، ثم لا تلبث أن تهجم بأشد وأنكى حتى تصدعها وتزيل ما بطريقها من العقبات.
لا بد أن القارئ يذكر معنا أن هذا النوع من المدافع استعملها الفاتح حين حصار إستانبول في سبيل القضاء على سفن العدو، أما هذه المرة فقد استعملها في تدمير القلعة داخلا وخارجا.
وقد ارتقت صناعة المدفعية مع الفاتح بالاختبار والتجاريب التي عاناها طويلا في حروبه الماضية، فنجحت هذه المرة نجاحا باهرا، وفضلا عن أنها ما تمزقت كما أصاب المدفع الكبير في حصار الآستانة، فإنها كانت تنطلق بسهولة كل يوم تسعا وعشرين مرة، أو أربعة أضعاف ما كانت عليه قبلا؛ ولذلك فقد أطلق في يوم واحد على القلعة من المدفعين القديمين والتسعة الجديدة مائة وثماني وعشرين قذيفة، ولم يرو التاريخ لذلك الوقت أن جيشا بلغ هذا المبلغ من الرقي والسرعة في مدفعيته.
وقد استعمل الفاتح هذه المرة الخروق الزيتية أو النارية، وهي ترمي بسرعة ولها صوت يرن بالفضاء في هدوء الليل، ويتكون من أذنابها أشكال نارية تشابه النجوم في كبد السماء، وهذه تحرق كل ما تقع عليه حتى إنها لو سقطت في بئر عذبة لأصبح ماؤها أجاجا، ومن هول ما فعلت هذه الخروق اضطر محافظو قلعة أشقودرة لهدم سقوف البيوت القائمة في المدينة.
حمل الفاتح على القلعة حملتين منكرتين دافع فيهما جنود البندقية ومحافظو القلعة من أعوان إسكندر الألباني دفاع الأبطال، وقد قارب موسم الخريف وأصبحت السماء تمطر مدرارا، فرأى أنه يحاول محالا ويطلب عبثا، وفضل تشديد الحصار وأخذ المدينة سلما لئلا يهدر نفوسا كثيرة ويهرق دماء غزيرة.
وعهد بأمر الحصار إلى عمر بك، كما أنه انتدب داود باشا أمير أمراء الروملي لمهمة ضبط القلاع الثلاث المار ذكرها، فأفلح الرجل، ثم أرسل علي بك وإسكندر بك من أبناء ميخال مع الأقنجية على البندقية.
وبينا كان السلطان متوجها إلى الحصار اضطر أن يمشي على قدميه ساعات طويلة في روابي الجبال لوعورة المسلك، فقال لما جلس للراحة هنيهة وقد أخذ منه النصب كل مأخذ: «لو كان لنا وزير قادر لكفانا مئونة التعب.» فأجابه أمير الراية هرسك زاده على الفور: «لو كان أحمد باشا كدك برفقتكم لكان عناؤكم أقل من ذلك.»
نفعت هذه الذكرى الفاتح، فتذكر ما لهذا الوزير من الخدمات الصادقة، فولاه ولاية سلانيك، ثم أحاله على أولونيا، وتمكن بواسطته من ضبط بعض الأقسام الباقية من ألبانيا.
أخذت مستعمرات البندقية في الروملي تنتقل إلى الدولة العثمانية الواحدة تلو الأخرى، ولم يجد جمهورها مؤازرا يشد به ظهره على مناصبة الدولة العداء؛ لأن كل أوروبا كانت تخشى بأس الفاتح وتهاب سطوته، وما فتئ الأقنجيون يرهقون الأهلين عسرا حتى علا الضجيج وبلغت الروح التراق. وقد أتت الأقنجية بأعمال غريبة في بابها، كجر الخيول بواسطة الحبال عن الصخور العالية التي ترتقي إلى مائتي قدم، واجتياز المواقع الصعبة المرور، كأن روح الفاتح قد دبت في أفئدتهم فأصبحوا يمثلونها ويتمثلون بها. ولما رأى جمهور البندقية ما حل به من الشدة خضع لمطاليب الفاتح بأسرها ووافق على الصلح بالشروط الآتية:
عليه
أولا:
تسليم أشقودرة وبقية الأماكن التي لم تضبط في بلاد اليونان، وإعادة المحلات التي استولى عليها البندقيون إبان الحرب.
ثانيا:
إعطاء مائة ألف دينار بمقابل الخمسين ألف دينار التي تطلبها الدولة العثمانية بصفة تعويضات تجارية، وربط عشرة آلاف دينار خراجا سنويا على البندقية.
وله
أولا:
أن يكون للبندقية سفير في الآستانة يفصل في الدعاوى المختصة برعاياها.
ثانيا:
أن تسهل الحكومة إدخال بضائع البندقية إلى كل أنحاء البلاد العثمانية.
وهنا انتهت الحرب وخرجت البندقية منه مغلوبة بعد أن كانت لا توجس من ذلك؛ لأنها كانت تتوقع فشل العثمانيين واندحارهم، بعد حرب عوان دامت ثلاثة عشر عاما، اشتركت بها دول قارتين عظيمتين: «آسيا وأوروبا» ضدها.
ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، واستكانت الروملي إلى العثمانيين.
كان دأب الفاتح كلما أتم سفره ووجد مجالا للعمل أعمل الفكرة في تأمين تخومه الطبيعية، وفي مقدمتها الاستيلاء على سواحل البحر الأسود، فأرسل سرية بقيادة أحمد باشا كدك، استولى بها على قلعة منكوب الكائنة على أزاق والخاضعة للجنويين. وأوفد الأمير بايزيد على قلعة طراول الباقية بيد أنصار حسن الطويل وضبطها.
ثم علم أن مرعش وتوابعها التي وعدت حكومة مصر بتركها للدولة العثمانية قد أعطيت إلى بوداق بك - من أبناء ذي القدرية - فبعث عليها فرقة عسكرية وتملكها، وأقام عليها علاء الدولة من ذات العائلة القدرية عاملا.
وقام إذ ذاك حاكم جزيرتي زانطة وأيامورة يحاول دفع الخراج السنوي المقرر عليه إلى ولاة يانيه، فبعث عليه الفاتح أحمد باشا كدك على أثر رجوعه من البحر الأسود وضبط الوزير الجزيرتين.
وكان هذا الوزير يعلم أن الفاتح الذي قضى على الحكومة الزمنية في إستانبول مركز إمبراطورية روما القديمة، يود أن يضرب حكومة مدينة رومية الروحانية نفس الضربة القاضية، فعاد بعد سفر زانطة إلى الآستانة ، وعرض على السلطان أن قطعة نابولي في فوضى مستمرة، وأن أقل اهتمام قد يمكنهم من ضبطها، فأمره السلطان بالسفر على أسطول ضخم، ونزل على أقرب السواحل الإيتالية من الروملي، وضبط موقع أوترانتو وتوابعها.
أما الفاتح فإنه كان مشغولا بأهم من إيتاليا، ويرمي إلى فتح جزيرة رودوس التي عصت أمره وقامت تقاوم دفع الجزية، وكانت الحاجة ماسة لفتحها حفظا لسواحل الأناضول.
وكان السلطان يدرك أن القلم يفضل السيف في تذليل العقبات وإذلال الأعداء، فكان يحبب إلى رعيته فن تخطيط الأراضي وعمل المصورات (الخارطات) قبل التوغل في الحروب والخوض في غمارها، كما أن أعداءه أنفسهم اضطروا لدراسة هذا الفن ليتمكنوا من مقاومته قليلا. وبالنظر لشيوع ذلك عن السلطان فقد حضر ثلاثة، أحدهم من أهالي الجزيرة، والثاني من أغريبوز، والثالث جرماني ممن اعتنقوا الدين الإسلامي، ودفعوا إلى مسيح باشا أمير الأسطول مصورات تمثل استحكامات الجزيرة ولائحة في كيفية الحصار، ورفعها هذا إلى الفاتح الذي أحلها محل الاهتمام وشمل القائمين بعملها بألطافه، وبعد أن أعمل قلم التصحيح والنفي والإثبات فيها أعادها إلى مسيح باشا لتكون هاديا له في حربه البحرية. ونزل الباشا إلى رودوس وأخذ بترتيب الحصار، وقد وفق لإدخال بعض الجنود العثمانية إلى قلب الجزيرة، غير أنه ضل سواء السبيل في إذاعة نشرة قبل أوانها، ففترت الهمم وثبطت العزائم، وكان نتيجتها الحرمان والخذلان، ثم تلقى الجيش الأمر بالسفر إلى جهات بودروم، وهنالك لم ينجح في مهمته أيضا، وفي إبان ذلك اعترى السلطان داء عضال من شدة ما عاناه في سبيل الدفاع عن الوطن وجمع شتاته، والسعي آناء الليل وأطراف النهار لإعلاء كلمة الحق، فهو لم يترك نفسا ونفيسا إلا وجاد به، أو مرتخصا وغاليا إلا وبذله، وقد جاءته الأخبار الأخيرة ضغثا على آباله وزادت في إشاعتها آلامه، ولكنه قام متجلدا وهو يقول: «إن جيشي منصور اللواء معزز الجانب ما دمت أنا بجانبه.» ولم يلتفت إلى مرضه وسقمه وانحطاط قواه، وسار يطلب ضبط رودس على أن يجتازها إلى بر الأناضول، حيث يكون على مقربة من مصر التي أصبحت تقلب ظهر المجن وتكشر عن ناب العداء، ولكنه ما وصل إلى كور جاير حتى اشتد به الألم وحال بينه وبين ما يشتهي، فظل فيها مدة أيام يتقلب على فراش الموت حتى فاضت نفسه المطمئنة إلى باريها راضية مرضية، فانقلب ذلك العرش السامي الذي زلزل أركان العالم وأوقع الرعب في قلوب كافة الأمم، واستهوى أفئدة شعبه ومحبتهم المفرطة، إلى لحد بسيط تعلوه قبضات من التراب.
وقد توفي رحمه الله سنة 886 وله من العمر ثلاثة وخمسون عاما، قضى إحدى وثلاثين منها في السلطنة.
إن الذكرى الحسنة والشهرة الطائرة التي أوتيها الفاتح عن جدارة واستحقاق في تلك العصور الخالية عمت المشرقين والمغربين، وطرقت آذان العدو قبل الصديق؛ ولذلك لا تجد أمة من الأمم إلا وأحلته محل الاحترام، وصنفت الكتب العديدة بين روايات ورسائل بتاريخه وترجمة حياته وأخلاقه التي كانت نعم المنوال الذي ينسج عليه.
ولا بدع في ذلك، فإن عهد سلطنته كان صحيفة رقي العثمانيين المذهبة وفصل انقلاب عظيم في كتاب الكائنات.
ويكفيه فخرا أنه حاصر القسطنطينية واستعمل لها الآلات من الطرازين القديم والحديث، واتخذ الفكر خير رائد ونعم مرشد، فسير السفن على وجه الغبراء بدلا من أديم الماء، ثم قضى على مملكة حكمت آلافا من السنين وأقام مقامها أمة جديدة، واستبدل مركز ديانة كبرى في مقر خلافة عظمى، واختتم القرون الوسطى وأدخل العالم في دور جديد.
حتى إن الأروام الذين هاجروا إلى الغرب بعد ولوج القسطنطينية في حوزة الإسلام أصبحوا أساتذة الأوربيين الذين أشربوا في قلوبهم حب العلم من اختلاطهم بالأندلسيين قبلا، فزادوهم نورا على نور.
فالفاتح هو الرجل الفرد الذي يعد صاحبا للقرون الأخيرة وواحدها.
ولو أمد الله في حياته قليلا وقيض له أن يمد أحمد باشا كدك في حملته على إيتاليا، وتمكن من حفظ البلاد التي دخلت في كنفه من الرجوع إلى الأعداء ثانية، لوفق إلى الاستيلاء على رومية العظيمة مهد العلوم وينبوع المعارف الحديثة في تلك الأيام، وجعل إستانبول عرش التمدن الوحيد الذي يحف حوله العالم الإنساني وتطال إليه الأعناق.
ومما يذكر له أنه اعتبر التصور والترتيب في حروبه أصلا ومشى عليه في كل حركاته، فأزهرت مساعيه وأثمرت هذه الثمرات الدانية القطوف، ومن المؤكد أن أول جيش منظم حارب بالأسلحة النارية هو جيش الإنكشارية الذي حاصر به أشقودرة، وعليه يكون الفاتح الأستاذ الأول في فن الحرب الحاضر.
أما اختراعاته فقد قطع بها مسافة طويلة وشوطا بعيدا، ودامت القواعد الحربية التي وضع أساساتها معمولا بها إلى أن ارتقت الأفكار في أوروبا وتغير وجه العلم وتبدل الخبيث بالطيب في خلال القرن الثامن عشر، وسرت تلك الروح التي أحيت النفوس وشرحت الصدور إلى الجندية، وكان من ورائها التنظيمات الجديدة، فكان الجيش العثماني لا يفل له سيف ولا ينكص على عقبه ما دام يقوده قائد مدرب.
والفضل في قيام الدولة على أمتن أساس راجع إلى تلك الاختراعات الباهرة والتصورات النافعة، التي لولاها لما أمكن الدولة أن تحفظ مركزها وتثبت دعائمها، أمام تلك السيولة الجارفة والجيوش الجرارة التي كان يدفعها البابا من جهة، وحسن الطويل من أخرى، والتي امتزجت معها أمم شتى وقبائل عدة في أوروبا وآسيا، حتى بلغت أمثال العثمانيين مثنى وثلاث ورباع، وتولى قياداتها زعماء لا يقلون عن الفاتح دربة وحنكة، ولكنه ساد عليهم بشجاعته التي كانت تضرب لها آباط الإبل، ورأيه السديد الذي كان يسبقها.
وإذا علمت أن سكان البلاد التي استولى عليها الفاتح وبقيت معه في حرب سجال اعتادوا خوض المنايا واقتحام الأهوال، فأصبحوا رجالا أشداء، إلا أنهم لم يقووا على الوقوف أمامه في ميادين الطعن والنزال، فكانوا يتسلقون الجبال ويأوون إلى الكهوف ويلوذون بالأنهار، مما جعل كل موقف من مواقفهم حصنا حصينا وركنا ركينا يقيهم بأس الفاتح قدرت ما عاناه من المتاعب والمصاعب وما تجشمه من الأخطار، وهذا ما دعا الفيلسوف الخطير «بل» الإفرنسي بأن يعترف بكتابه مأخذ التواريخ أن الفاتح أعلى كعبا وأعظم قدرا من الإسكندر؛ لأن الأخير لم يصادف في طريقه من يماثله أو يقاومه ولم يعترض سيره معارض.
وفي الحقيقة إن القوى التي كان يستند إليها الفاتح هي شعب من أخلاط الأمم، ودولة صغيرة لم ترسخ قدمها وتأخذ مأخذها، وبعض رجال تتلمذوا عليه. أما العراقيل والمشاكل التي كانت تكتنفه فهي خطيرة للغاية ودونها خرط القتاد.
أجل، يحق للتاريخ أن يمجد ويجل من بين أبطاله روح الفاتح العظيم، وهو الذي ناوى أوروبا، بل العالم بأسره ثلاثين عاما أبلى بها بلاء حسنا، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولم يكن لديه سوى مائتين وخمسين ألفا من الجنود التي تركها له أجداده العظام ميراثا وعدة، وقد استولى بهم على ست عشرة مملكة ومائتي مدينة محكمة، وجعل دولته الحكومة الوحيدة التي لها الحول والطول والقوة والمنعة في ذلك الزمان.
وللفاتح مأثرة بقاء هذه الدولة مصانة من العطب، فإن الفتوحات التي سبقته وكان من ورائها ضبط بعض البلاد في الأناضول والروملي كانت عرضية سريعة الفناء، كالجزر وما يليها مما يتكون عادة عند حدوث طوفان كبير أو سيل عرم في أرض ذات شعوب ومنعرجات وأغوار وأنجاد، وعند زوال السبب تبطل المسببات.
فهو الذي ضرب في عرض هذين القطعتين ووسع حدود بلاده وحمى حماها وأمن عليها من كل خطر؛ لأنه لم يدع للأعداء سوى قلاع قليلة كبلغراد وأينابختي وغيرهما بعد أن ضرب عليها نطاقا من الحصون والمعاقل.
فبضبطه جزر الأرخبيل حفظ ثغور بلاده، وبجهاده العنيف جعل البحر الأسود كبحيرة عثمانية، وبتحكيمه كل النقاط المهمة على حدود بلاده أمن الغوائل، وباتخاذه نقل رعاياه المختلفي المذاهب والمشارب من بلد إلى آخر عادة مفيدة وبدعة حسنة؛ ساوى بينهم من حيث العدد والحقوق ودرأ وقوع الانقسامات الداخلية والهجمات الخارجية؛ لأنه كان لديه في كل قطر ومصر قوة إسلامية كبيرة من أهليها شاكيي السلاح ومتأهبين لكل نازلة وكارثة.
والذي يقضي بالعجب العجاب أنه بالرغم عن نجاحه في فتوحاتها وحروبه الخطيرة لم يدر في خلده أن يتجاوز بدولته الحدود الضرورية لها، فإنه ضرب صفحا عن الاستيلاء على بلاد الفلاخ والبغدان والمجر في أوروبا، وطوى كشحا عن ضبط كردستان وأذربايجان في آسيا، وقد كن لا يقفن في وجهه برهة يسيرة من الزمن، واشتغل بفتح قلعة أشقودرة السنين الطوال وبذل في سبيلها كل مجهود وموجود؛ وذلك لأنه كان يرى أن أشقودرة تعوزه في حفظ كيان بلاده، وغيرها تضر بمصلحتها بالنسبة إلى حالة الدولة الحيوية وقواها الموجودة إذ ذاك.
ولم يقف الفاتح في ملكه عند حدود الماديات، بل اشتغل بالمعنويات أيضا، فقد دون القانون المحمدي وعين به وظائف رجال الحكومة من السلطان إلى أصغر جندي، وأفرد فيه فصولا خاصة في الإدارة والقضاء والسياسة والجندية، وبعد عرضه على كثير من العلماء الذين كانوا يؤمونه من مشارق الأرض ومغاربها وتأييده بما ينوف عن مائتي فتوى من كبارهم، وضعه موضع العمل واستعمل الشدة والمضاء في تنفيذ أحكامه.
ونظر إلى مستقبل الدولة التي بلغت في حاضرها من الإقبال والكماليات مبلغا عظيما، فجعل بلاده مباءة للعلم ومألفا للأفاضل، إلى حد أنه جمع كل ما عثر عليه من ذوي الباع الطويل والاطلاع الواسع في العلوم والمعرفة، وعقد بهم ديوانا دائميا يرجع إليه في حل المسائل العلمية والقضايا السياسية، ولبث هذا الحال جاريا إلى ما قبل عصر واحد، حيث تفرقت تلك الجامعة العظيمة أيدي سبأ بسبب ما اعتورها من الخلل.
وفرض في أمر التعليم طريقة الإحصاء، فحصر العلوم النقلية من فقه وحديث وغيرهما في مدارس، والفنون العقلية من طب وهندسة وسواهما في أخرى. وقد نبغ العارفون في عهده نبوغا عظيما؛ لأن قاعدة توزيع الأعمال أتت بفوائد جمة ونتائج مرضية، حتى إن أوروبا قلدت الفاتح بطريقته هذه قبل قرن من زماننا وجنت ثمارها الشهية.
ولو أن خلفاء الفاتح مشوا على طريقته وضربوا على قوالبه لكانت القسطنطينية اليوم محور العلوم وقطب دائرة التمدن العصري، أما الصناعة فكان لها منه أيضا حظ وافر ونصيب كبير. وكان يأتي بمهرة الصناع من البلاد المفتوحة إلى العاصمة؛ ليستخدمهم في المعامل التي أنشأها.
ولم يغرب عن فكره الوضاء التجارة، وكان جل ما رمت إليه مطامعه من توسيع نفوذ العاصمة هو فتح الأبواب العظيمة للتجارة وترويج أسواقها الكبيرة.
وللسبب ذاته تلقاه أجلى الجنويين عن شواطئ البحر الأسود؛ حتى يتمكن من استدرار تجارة آسيا بتمامها إلى العثمانيين، وتلفيه عقد مع البندقية اتفاقية المكوس «الجمارك» لقاء رسم طفيف، لكي يستورد متاعها بكثرة.
وهو أول من عاقد وعاهد الأوربيين ووضع أول حجر من أساس الصلات معهم بدليل هذه الاتفاقية، وأخرى عقدها مع ملك صقلية.
ويجدر بالقارئ الكريم أن يتفق معنا على أن الفاتح كان من الأعاظم الذين خدموا بلادهم وأوطانهم خدمات مبرورة ومشكورة، وتركوا في العالم أثرا لا يمحى واسما لا ينسى، بل يزيده مر الأيام جدة، كيف لا وقد كانت عنايته تعم الجزئيات والكليات وتشمل الحقير والجليل من الأمور، فلا يدع شيئا إلا ويتولاه بنفسه ويسلك به المحجة البيضاء، فقد كان قائدا مدربا وجنديا باسلا في آن واحد، فإذا حلت الكريهة تلقاه الرجل الذرب الذي يشق غياهب الأمور وينورها بباهر الحكمة وواسع الإدراك، وإذا تكونت الكائنة تراه البطل المغوار الذي يستهين الموت ويزدري بالنكبات، فإذا تقدم جيشه كان في مقدمته، وإذا تقهقر كان في مؤخرته، وكان عارفا بجنود جيشه فضلا عن قواده بالذات والصفات والمكانة الحربية، ومطلعا على دخائل الأمور ومكنونات الصدور، فيجزي المحسن ويجازي المسيء.
وبقدر ما أعار الأصول من العناية والدقة وجه اهتمامه نحو الفروع، فيكفيك من ذلك أنه عني بزرع عرق الإنجيل الذي يضرب بجذوره في بطن الأرض ويتماسك مع التراب جيدا على ضفاف الخليج (القرن الذهبي)، لئلا يمتلئ من الأتربة التي قد تنهال عليه، وقد دون ذلك في القانون الذي وضعه ليكون من جملة اللزوميات النافعة للمملكة.
ولو اطلعنا اليوم على قيود الوزارات القديمة لوجدنا أن أعمال عهد الفاتح أنظمها شكلا وأرتبها حالا وأوسعها تفصيلا وإجمالا.
وناهيك بزهده ورغبته عن الدنيا، فإنه اختار لنفسه زي العلماء من عمامة وكساء، تاركا زينة الملك بل محقرا إياها.
وقد اعتبر الفاتح الأدب الإنساني فوق دأب الحكومة وخصائصها، في أيام كانت قوة السلطنة وسطوتها في إلقاء الرهب والرعب في القلوب والأخذ بالنواصي والأقدام، فكان يلثم يد أستاذه الملا كوراني حيثما قابله، ويقف قائما للملا خسرو الذي كان أفضل فضلاء زمانه أو إمامه الأعظم على رواية الفاتح نفسه، حتى لو قدم عليه وهو في المسجد احتراما لمكانته العلمية.
ولما ذهب علي قوشي إلى بلاد الروم عين له في كل مرحلة من مراحله ألف درهم تصرف في سبيل نفقاته وجرايته، حتى جرى كرمه لقاء العلماء مجرى المثل، وصاروا يؤمونه من كل فج عميق.
ومن هذا القبيل الملا جامي الذي كان إذا امتطى مطيته أمسك السلطان حسين بايقرا في ركابها، وأخذ على شيرنوايي الوزير بلجامها، فإنه ترك كل هذه المظاهر والاعتبارات وقصد وجه الفاتح الكريم مما وراء النهر.
4
وكان يقضي أكثر أوقات الفراغ بالمسامرات والمحاورات العلمية، حتى إنك لتراه يستحضر إلى مجلسه العارفين ويلقي بينهم مطلبا أو مبحثا هاما، إلى أن يحمي بينهم الوطيس وتأخذ الحدة حدها فيقوم عليهم حكما، ومن المأثور عنه في هذا الصدد توليه الحكم في جدل إثبات الواجب المشهور بين ابن الخواجه وابن الخطيب.
وكان يقدر الكتب والمصنفات حق قدرها، ويحسن إلى مؤلفيها بالهبات الطائلة والعطايا الجزيلة، ويرسل النافع منها إلى أنحاء المملكة بأوامر سلطانية لينشر ويعمم ما بها من فرائد الفوائد، ويزور المدارس، ويحرض الطلاب على السعي وراء العلوم واجتناء ثمراتها، ويراسل أفاضل أوروبا وآسيا على لغات شتى خدمة إلى المجمع العلمي الذي أنشأه في بلاطه، ويكتب أكثر كتبه الأدبية والعلمية بخط يده، شأنه في كتابته محررات الدولة الرسمية.
والذي يدعو إلى الأسف أنه لم يوفق إلى تخليص اللسان العثماني من اللهجة الفارسية التي استحكمت حلقاتها في تلك الآونة، حالة كون أن أدبيات الأول أخذت بالظهور في أيام الفاتح كبقية آثار الرقي والحضارة.
نعم، إنه كان ينزع إلى اتباع آثار العرب واليونان في كتاباته، ولكن الرأي العام كان متمسكا باللهجة الإيرانية أشد التمسك، فلم يقو على الوقوف أمام تياره.
ومما يجلب الحزن أن كل كتاباته قد لعبت بها أيدي الضياع، عدا عن بعض أشعار قليلة والكتاب الذي أرسله إلى حسن الطويل وفيه ما فيه من التهديد والوعيد.
وكان يرغب من الفنون الجميلة في الشعر والتصوير، فكان حظ أدباء المغرب من سجال كرمه كنصيب علماء المشرق، حتى إن شاعرا لاتينيا رفع إليه قصيدة أجازه عليها بإطلاق جملة أسرى من أبناء نحلته.
ولما ظفر بفتح القسطنطينية ودخلها مع جنده نادى مناديه: «إن الأموال الموجودة هي غنيمة للجند، وأما الحجارة والأتربة فهي ملك للسلطان.» واتفق أنه دخل إلى جامع آجا صوفيا فرأى جنديا يعمل على كسر حجر به تمثال، فجرد حسامه ووثب عليه وهو يقول: «لماذا تتعرضون لملكي؟»
وقد استجلب إليه جنتيللي بللنيوبي - من مشاهير المصورين في إيتاليا - إكراما لصناعته واصطفاه لنفسه.
والغريب من شأنه أنه كان يلم بجميع مصاريف حكومته وبلاطه كأن لم تضرب تلك العوامل السياسية والإدارية والأمور الحربية والعلمية بينه وبينها حجابا، وله من قوة الحافظة وجودة القريحة ما يحار فيه العقل.
ومما يدل على ذلك أنه كان أهدى إلى بعض ملوك الطوائف خاتما به حجر كريم، وقد رده ذلك الملك بعد مدة على إثر تغيره على الدولة إلى أحمد باشا كدك، فاستخرج الوزير الفص وخلطه بين بعض ماسات لئلا يشعر السلطان بذلك، ولكن لم يكد يقع نظره عليه إلا وعرفه، وقال: «إن هذا الفص كان في الخاتم الذي أعطيته إلى فلان، فمن أتى به إلى هنا؟» وفي ذلك ما فيه من الذكاء الغريب.
وبالرغم عن هذه الخصال الحسنة والسجايا الشريفة التي تحلى بها الفاتح، فإنه لم ينج من نقد بعض المؤرخين الذين اتهموه بغلاظة الكبد وسفك الدماء مما هو براء منه، فأردنا إثبات ما قالوه ونفيه بقاطع الدليل وساطع البرهان.
زعم بعض مؤرخي اليونان أن الفاتح عند تسلمه عرش السلطنة أمر بقتل أخيه الصغير وهو طفل لم يبلغ حد الفطام، ولا مشاحة في أن عملا بربريا مثل هذا لا يقتصر على تسويد صحائف ملك، بل يكفي لإلصاق العار والشنار في مملكة بأسرها إلى يوم القيام.
نعم، إن قتل بعض أفراد الأسرة المالكة بدعة سيئة جرت عليها الدولة منذ عهد يلديرم بايزيد، بل اعتبرتها واجبا رئيسيا وضربة لازب، ووجود الفاتح ووزيره خليل باشا على طرفي نقيض، واضطرار الأخير لمناوأة الأول العداء بكل الطرائق الممكنة والوسائل القابلة، واختياره كل ما يسهل له نصب الحبائل للإيقاع به تجعل مجالا للشك، بل تولد ضرورة لقتل ذلك الرقيب، وتعد من الضرورات التي تبيح المحظورات، بيد أن كل ذلك لا يكون ولن يكون من الأسباب التي تخفف فظاعة هذا الإثم العظيم والجرم الشنيع.
أما والتواريخ الإسلامية التي كتبت في عصر الفاتح وما والاه من السنين القريبة لم تذكر طرفا من هذا الخبر، بل لم تلمح إليه تلميحا، وقد كانت في حل من إثباته.
5
كما وأن التواريخ التي نقلته خبطت به خبط عشواء، فعلى رواية أحدها أن اسم الأمير المقتول حسن، وعلى زعم الآخر أن اسمه أحمد. والغريب أن الأميرين حسنا وأحمد هما نجلا السلطان مراد الثاني أو أخوا الفاتح قد توفيا وهما في حضانة والدهما بشهادة تلك التواريخ نفسها. ويقول بعض هؤلاء المؤرخين إن أم الأمير المقتول من بيت الأسفندياري، بينا تجد الثاني يدعيها من سليلة الحكم في صربيا، ويزعم ثالث أن الفاتح قد عهد بقتل أخيه إلى علي بك أرنوس زاده، ثم عاد فأنكر عليه عمله وأمر بصلبه.
فكيف يمكن التوفيق بين هذه الروايات المتناقضة المتضاربة في حين أنها لم ترد في كتب الرواة الثقات؟
بل كيف يقبل العقل أن الفاتح الذي ذاق طعم السلطنة وهو في شرخ الشباب، وما عتم أن اعتزلها بإغواء بعض الوزراء الذين لم يأتوا بما آتوه إلا لغاية في النفس وأمل في التحكم والتصرف في الملك، وانزوى في إحدى المقاطعات ثماني سنين يكظم غيظه، بل يحاول أن يقتدي بوالده الذي أراه المثل الأعلى في الزهد عن السلطنة وبهرجتها، ثم يعفو عن كثير من الذين أساءوا إليه أن يتوهم خطرا على مركزه فيسيء القصد إلى رضيع تأنف الضواري الكواسر من الإجهاز عليه.
ولو سلمنا جدلا أن السلطان أمر بقتل ذلك الأمير خيفة العقبى، فهل كان لا يدرك أن هناك علة أخرى للانتقاض ورقيبا أعظم، هو الأمير المرهون عند إمبراطور القسطنطينية.
ولو وقف هؤلاء المفترون عند هذا الحد لكنا سامحناهم عن هذه الهفوة، ولكنهم نسبوا إليه قتله ابنه الأمير مصطفى بعد أخيه، قالوا إنه أباده لأنه راود زوجة أحمد باشا كدك عن نفسها في الآستانة. بيد أن كل التواريخ العثمانية مجمعة على أن الأمير مصطفى هلك وهو عامل على مقاطعة قرمان، وأن السلطان حزن لفقده وبكاه طويلا.
ولو صح هذا الاختلاق الذي يثبت للملأ أن حب الفاتح للعدالة أفقده الحنان الأبوي،
6
لكان له فيه فضل عظيم وأجر كبير، ولكن كيف يعقل أن يجتمع حب سفك الدماء البريئة (كقتل أخيه)، وإقامة الحدود الشرعية (كقتل ابنه) في قلب واحد، ولم يخلق الله لرجل من قلبين في جوفه.
والأنكى من ذلك زعمهم أنه بقر بطون اثني عشر ربيبا لإحدى العجائز لكي يعرف من منهم أكل بطيختها الصفراء التي تدعيها عليهم، وأنه أمر بقطع عنق أحد الأبرياء ليرى بعض المصورين الشرايين التي فيه، وأنه قضى على حياة فتاة من جواريه قد شغفه حبها مرضاة للإنكشاريين.
إن الواقفين على العقائد الدينية والعوائد الإسلامية، بل كل من عنده مسكة شريفة وعاطفة نبيلة، يحكم لأول وهلة ببطلان هذه المدعيات، فالملك الذي توصله عدالته ويدعوه ضميره إلى فصل دعوى بسيطة في ديوانه، هل يتصور أن تطوح به الشدة إلى بقر بطون اثني عشر شابا في سبيل بطيخة لا قدر لها ولا قيمة؟! وإن شاء أن يرى المصور شرايين العنق أفلم يجد في سجونه من الجناة الآثمين من حكم عليهم بالصلب حتى يضطر لقتل بريء في هذا الصدد؟
ولم يبلغ الضعف في الأمور إلى حد أن يتداخل الإنكشاريون في شئون القصر حتى يأتي قتل الجارية عن يدهم.
فلندع هذه الترهات جانبا بل ننبذها ظهريا، ونرجع إلى ما أثبته التاريخ للفاتح من الشدة والعنف في أعماله، منها: قتله فريقا من حكام وجنود البلاد التي استولى عليها عنوة وقوة، مما دعا مؤرخي الفرنجة لأن يسلقوه بألسنة حداد، ولو بدرت هذه الأعمال القاسية في عصر سعيد كصدر الإسلام أو في عهد كزماننا هذا، بلغ فيه الرقي الفكري مبلغا عظيما ودرجة عالية، لحق عليها النقد وحاق بها اللوم من كل جانب. ولكنها جرت على إثر دماء مسفوكة ونفوس مهدورة، بل قامت على أطلال المظالم والمغارم التي أحدثتها غارة جنكيز خان المغولي، وسلطة البابا أنينوسان الثالث الذي أوجد طريقة الإنكيزيسيون، بحيث يتأثرون كل من يخالف مبادئ الكثلكة ويصلونه عذابا أليما.
بلى، إنها جاءت في تلك الفترة الهائلة التي ساءت فيها الأخلاق وتعطشت الإنسانية إلى الدماء، وأشهر سيف الغدر والانتقام، واندلع لسان نار العداء فلم يبق ولم يذر.
كيف يسوغ لنا أن ننقد أعمال الفاتح ونستهجن وقوعها، وقد سيق إليها بحكم الضرورة ومقتضيات الظروف في زمن كان به رهبان الأندلس يؤذون كل مسلم عثروا عليه أشد الإيذاء ليستنصروه بغيا وكرها، حتى إذا دان بالنصرانية جعلوه طعاما للنار؛ ليذهب إلى الآخرة مطهرا من الأدناس والأرجاس على زعمهم، في عصر كان به هونياد الهنغاري يأمر بإعدام أسرى المسلمين والتمثيل بهم لتنبسط نفسه ويسر فؤاده بسماع أنينهم بدل المعازف وآلات الطرب وهو جالس على مائدة الطعام، في دور كان به إسكندر الألباني يعلق أجساد العثمانيين في التعاليق كأنها لحوم الشياه.
في حين كان به شيطان الأفلاق (أي حاكمها) يقيم كل تركي لقيه على الأوتاد، ويملأ بهم السهول والوهاد.
في آونة كان بها حاكم طمشوار يسقي جنوده من الخمر الممزوجة بدماء المسلمين، ويجتذ بنواجذه لحوم الجرحى منهم قطعا قطعا ويقوم راقصا فيها.
في وقت كانت تستحكم فيه حلقات الغزو والسبي والقتل والظلم في الحروب التي تقوم سوقها وتشتعل نارها بين قبيل وقبيل، بل بين المسيحي ومن على معتقده، والمسلم وابن نحلته.
ففي مثل هذه الظروف الحرجة كيف نتوقع من الفاتح مراعاة حقوق الأمم، وهي لم تراع إلى الآن بحذافيرها من أية دولة غالبة، ونحن في عصر النور وعهد الحضارة؟
فالأولى بنا أن ندرس سيرة الفاتح ونفرق غث أعماله من سمينها، لنعرف ما إذا كان اتبع فيها تعصبا ذميما أو ميلا خاصا، أو أنه تقيد بالدواعي والإيجابات السياسية. والذي نعتقده نحن أن سيف الشريعة الذي تقلده الفاتح لم يجرد على أحد بغير مسوغ وموجب، فنسبة التعصب إليه عاطلة باطلة.
ولو كانت به نزعة إلى التعصب الديني لما أبقى على المذهب الأرثوذكسي وخص بطركيته بجزيل المساعدات وحسن الصنيع، ولا زلنا إلى الآن نرى رسوم الأنواط التي صاغها الروم وعلى أحد جانبيها صورة الفاتح، وهي أعدل شاهد على شكرانهم منه واعترافهم له بالجميل.
وإذا نظرنا إلى الأمور بمنظار التأمل وسبرناها بمسبار التعقل نرى أن الفاتح كان يعامل أسرى المسلمين والمسيحيين سواسية، وقد أمر بإعدام أسرى تتر الوارساق والتركمان من المسلمين بعد ضبطه قرمان وظهوره على حسن الطويل.
ولو كان في نفسه ميل لسفك الدماء لبانت آثاره في ضبطه القسطنطينية، ولجرت الدماء فيها أنهارا بعد أن قاسى ما قاساه من الضنك والنصب، فضلا عن أن له ثأرا دينيا عند الأروام من عهد يلدرم بايزيد، فإنهم لما علموا باندحار السلطان تلقاء تيمورلنك، أبادوا الحي الإسلامي الذي أقامه بايزيد بين ظهرانيهم في القسطنطينية، وقتلوا أهله عن بكرة أبيهم. والذي يكون لديه هذان السببان العظيمان وهما يدعوانه إلى الانتقام فيتناساهما، هل يحق القول عليه بأنه على شيء من التعصب؟
ومن الكبائر التي يلصقها به مؤرخو الروم نقض العهد، وينكرون عليه منها رفضه الأمان الذي أعطاه محمود باشا المسلم إلى ملك بوسنة المسيحي. ولنفرض أن كل ما أتوا به من الروايات التي ليس لها نصيب من الصحة ولا عليها غبار من الصدق واقعية، فإن كل التواريخ الأوربية مجمعة في أن الخلف بالوعود والإخلال بالعهود ميراث تركه الصليبيون للقرون الوسطى، حتى إنك لتجد الدول المسيحية إذ ذاك مزمعة على اعتبار عقد العهود مع من يخالف دينهم من الخدع الحربية الواجبة، وتحين الفرص لنقض ذلك من ضروب السياسة والحكمة.
يقول فولتير في فلسفته التاريخية بكتاب الملاحظات على الأخلاق: «إن عهدة الصلح التي عقدها السلطان مراد الثاني العثماني مع ملك المجر لم ترق لدى جولين سزاريني النائب البابوي في جرمانيا، والسلطان لم يدع مجالا لوقوع ما يناهض أحكامها أو يستدعي النقد عليها، فأفتى ذلك النائب بأن كل عهد وعقد جرى مع غير المسيحيين يعتبر لغوا وباطلا. وأصبح بعدها نقض المبرم قاعدة في الدول المجاورة للدولة العثمانية.»
فإذا كان الفاتح كال لأعدائه بكيلهم واعتدى عليهم بمثل ما اعتدوا هم به عليه، فلا إثم عليه ولا حرج بل يجب أن يفاخر بأعماله، وهو الذي لم يجار تيار تلك الأيام ويوافق الدول على مبادئها بالاغتصاب والوقيعة، فقد اكتفى بإقامة تخوم ضرورية تقي بلاده شر الأعداء، وصافى البلاد المجاورة له وأولاها أحسن الولاء.
والأدلة على ذلك كثيرة منها؛ احتماله من حكومة مصر إنكارها عليه ترميم مجاري مياه الحرمين الشريفين وصدها إياه بعظمة وخيلاء، واهتضامه منها مداخلاتها في بعض شئون ذو القدرية، وهي من أملاكه، ومخادنته حسين بايقرا (في ما وراء النهر) وهو على بعد شاسع منه، ومعاهدته مع البندقية وصقلية ووفاؤه بعهده، واكتفاؤه بتشديد النكير على جند حسن الطويل وعدم مساسه شعبه بسوء عندما غلبه على أمره، بعد أن سبق للمذكور تدميره توقاد تدميرا هائلا. ويجب ألا ننسى أن محمود باشا الوزير الأكبر وفق إلى منع الفاتح عن مثابرة الحرب ومتابعة حسن الطويل بقوله: «إن هذه البلاد هي إسلامية، فلا تجوز الإغارة عليها.»
ويعزو بعض المؤرخين قتل خليل باشا ومحمود باشا إلى حبه بسفك الدماء، نعم إن السلطان قتل هذين الوزيرين، ولكن بعد أن بلغ السيل الربى ولم يبق للصلح موضع.
فخليل باشا هو أول من عمل على اعتزال السلطان للمرة الأولى ليخلو له الجو، وقد نسيها له لولا عوده إلى بذل كل مرتخص وغال في سبيل استبقاء نفوذه، فوشاياته لإمبراطور القسطنطينية من طرف خفي بفك عقال الأمير المرهون عنده، وتركه حرا في بلاد الدولة لتتهيأ لهما أسباب الانتقاض، وتحريضه على إبداء كل مقاومة وقوة في الحصار، ومحاولته إقناع السلطان على وجوب ترك الحرب كما ثبت بشهادة فريق من أعيان الروم، تدل على أن الرجل لم يخلص النية ويمحض النصح في أفعاله، فكان قتله جزاء وفاقا على تجسسه وخيانة وطنه، ولو وجد هذا الوزير اليوم بأي دولة راقية لما كان نصيبه إلا نفس هذا الجزاء حبا بتطهير البلاد من الأعداء الداخليين. على أن هناك أسبابا سياسية كبرى تدعو الفاتح إلى استئصال هذا الرجل؛ لأن الوزارة تأصلت في بيت الجندرلي بعد علاء الدين باشا،
7
وأصبحت إرثا ينتقل من الآباء إلى الأبناء، وأضحت وزارتهم كشراكة في بيت الملك، ولو ظلت على هذا النمط مدة أخرى وتولى الملك صبي أو أخرق، لنقل آل جندرلي الذي منهم خليل باشا السلطنة إليهم بدون كبير عناء كما جرى مع الأتابكة، وحصل التفريق في الملك وآل أمره إلى الانقسام والتجزؤ.
أما محمود باشا فكما ترويه التواريخ، هو غرس نعماء الفاتح، وقد خدم الدولة خدمات عظيمة، ولكنه وقع بخطأ الاعتداد بالنفس والاستئثار بالسلطة، حتى إنه كثيرا ما تطاول بدالته على الفاتح إلى جرح آرائه وتسفيه أحلامه، ففي سريته على البوسنة التي كانت خطتها ضبط تلك البلاد بأسرها وأسر ملكها لإخلافه بعهده، خالف أمر السلطان وآمن الملك في عقر داره، ولكونه (أي الوزير) قرواتي الأصل، وأخوه وزير لذلك الملك، فإعطاؤه الأمان خلافا لما أوصى به السلطان مدعاة إلى الظن به ومجلبة للشك والارتياب.
ثم توانى في نقل القرمانيين إلى العاصمة فاعتزل المنصب. وعند تربعه دست الوزارة للمرة الثانية حمل السلطان على الكف عن حسن الطويل بداعي فصل الشتاء، وفضل ضبط شبين قرة حصار عن تأثر العدو، الأمر الذي أدى إلى غضب السلطان عليه ونبذه له هذا الرأي بقوله: «إننا جئنا إلى هنا للإيقاع بالعدو وليس لضبط القلاع.» ثم تماهل في إمداد خاص مراد وسبب ذلك الانكسار المريع الذي طرأ على سريته، أضف إلى ذلك محاولته عن اللحاق بحسن الطويل، فسقط ثانيا من الوزارة.
وبينا هو معتزل في بيته توفي الأمير مصطفى نجل السلطان وأحبهم إليه، فحضر مع من حضر من الأعيان إلى العاصمة للقيام بواجب التعزية، على أن البعض وشى عليه بأنه يسر غير ما يعلن، وأنه شامت بوفاة الأمير لسابق بينونة بينهما في إبان مجده وأيام إقباله، وقد أدت به القحة إلى مناضلة الأمير، فخفق فؤاد الفاتح عند سماع هذا الخبر وارتعدت فرائصه، ولكنه تثبت في تحقيقه حتى علم أن الوزير يقضي أوقات فراغه في لعب الشطرنج جذلا مسرورا، وهو لابس الحلل البيضاء، بينا كان الشعب بأسره في عزاء دائم وترح مستمر، فاندفع الفاتح بدافع التأثر العظيم على قتل وزيره الذي كفر بنعمائه، ذاكرا ماضي أعماله وخياناته في البوسنة وقرمان وواقعة حسن الطويل، وقد يكون أمان الوزير على ملك البوسنة ضربا من الكرم والإحسان، وإبطاؤه في نقل القرمانيين والرفق بهم نوعا من الرحمة والحنان، ومعارضته في تجريد الجند على حسن الطويل في أيام الشتاء فتخلفه عن محاربة العدو وتفضيله ضبط شبين قرة حصار صنفا من التبصر، وعدم عنايته بمأتم الأمير شكلا من الصلابة في الدين والمتانة في المعتقد؛ لأنه شيء يرده العقل والنقل. ولكن كيف يكون موقف سلطان يستشعر من رجل خيانة أو إساءة إلى وطنه، وقد رقي به من الحضيض إلى الرفعة، وشأن والد ثاكل يحس على بعض خدمه شماتة بفقد فلذة كبده بعد أن أغدق عليه إزاء هذه الحادثة؟ لا شك أنه يفقد الرشد ويضيع الصواب.
هذه هي الأسباب الجوهرية التي حملت الفاتح على قتل الوزيرين، لا كما زعم مؤرخو اليونان من أنهما ذهبا ضحية إمساكهما عن الظلم وعفافهما من الجور، ولو صدق ظنهم لكان الأحرى به أن يستبقي على الوزارة محمد باشا روم لما أساء إلى الأهلين في قرمان ولم يعزله شر عزلة.
بل لو كان الفاتح جبارا عتيا كما يزعمون لما ركب مركب الخطر، وأوشك أن يشهر حربا عوانا على ملك مصر، وهو يتأبى كثيرا من الجدال مع المسلمين في سبيل استرداد العلامة الملا كوراني قاضي بروسة، الذي بارح الأرض العثمانية على إثر تأثره من أمر أرسله إليه السلطان خلافا للشريعة المحمدية بعد أن مزقه إربا إربا ورماه عرض الحائط، حاول الفاتح كل ذلك ليسترضي الشيخ ويمحو تلك الزلة. وأكبر ما عزاه مؤرخو الروم إلى الفاتح قولهم إنه سن سنة في القانون المحمدي تقضي بقتل أفراد الأسرة المالكة في أيام ذكرى الجلوس دفعا للفتنة.
ولو وصل هذا القانون إلينا وأمكننا الاطلاع عليه لوفقنا إلى معرفة نصيب هذه الرواية من الصحة ودرجة اقترابها إلى الحقيقة، ولكنه حرق بأمر السلطان مراد؛ لأنه كان يضم بين دفتيه قيودا وشروطا شديدة الوطأة على السلاطين كما يرويه الخلف عن السلف، أو أنه لعبت به أيدي العبث والضياع لسبب آخر، فأصبحنا مضطرين للرجوع إلى القياس والعقل. وقد علم القارئ معنا أن القانون المحمدي وإن كان واضعه الأول هو الفاتح بنفسه، إلا أنه استفتى قضاياه واستقى موارده من كل علماء زمانه الذين كانوا كسلطانهم لا يخشون في الله لومة لائم، فلا يمكن أن يمالقوا أو يمالئوا فيما وسد إليهم من أمر الشريعة السمحاء، على أحكام بربرية أشد هولا وأفظع وقعا من مظالم جنكيز خان.
وهل يعقل أن الفاتح الذي رفض بكل إباء اقتراح تخيير الروم بين السيف والإسلام وقنع بالجزية منهم، أن يبتدع في الملك بدعة سيئة يكون من شأنها حمل أولاده وأحفاده على الاقتتال والتلاحم في سبيل الدنيا؟
وقبل أن ننهي كلامنا نجمل ما قلناه، من أن الفاتح كان من أعاظم رجال العالم الذين امتازوا ببسالتهم ودربتهم وتحلوا بجليل الأوصاف، كسرعة الخاطر وقوة الإيجاد ورباطة الجأش في الأزمات والشدائد. ولم يكن به ميل إلى التغلب كتيمورلنك، أو نزعة إلى الحرب والتخريب كجنكيز خان وما شاكلهما من ذوي المطامع الكبرى، بل كان يرمي إلى الاستعمار أكثر منه إلى الفتح، وكان على عظمة قدره وجليل مركزه يحب المزاح والنكات الأدبية.
8
وقد كان عهد دولته عرضة لأمرين، إما حياة أو عدم.
فكان يمكن الدولة أن تجتاح بر الأناضول وتكتسح بلاد الروم بغير عناء كبير، أو أن تخرج من هذا المعترك نافضة كفيها من البلاد التي استولت عليها بالصارم الذكر وحفظتها بحرارة الشباب، فالفاتح هو الذي ضرب سرادقها ورفع أعلامها بنور العرفان أكثر من نار السلاح.
نعم، إنه لم يفتد كل آماله وهوساته في مصلحته شأن عمر بن عبد العزيز، ولم يخلق جوادا يحسن إلى المسيء ويوالي العدو كصلاح الدين بن أيوب رحمهما الله.
إلا أنه لم يتأخر عنهما في اتباع سبيل الرشد واتخاذ العدل منهاجا، ووضع السيف حيث لزم وإقرار الندى حين وجب.
نعم، إنه سفك دماء غزيرة، وأباد جنودا كثيرة، وقتل ملوكا عدة، وحاسب رجاله حسابا نكرا، إلا أنه لم يتدنس قط باستعباد شعبه أو قتل أهل البلاد التي تولى أمرها أو استعمال الجريمة والفظيعة مع المحكومين، بينما كانت هذه العادات من عاديات الأمور في تلك العصور المظلمة.
وأشد ما جازى به من الجزاء التغريب والإقصاء إن كانت الإساءة موجهة إلى شخصه، كما جرى له مع سنان باشا وأحمد باشا.
أما مزيته الوحيدة التي جعلت له بين الأعاظم مقاما رفيعا ومكانا عليا وسجلت له في التاريخ سطرا مذهبا واسما مذكورا، فهي نقله الدولة من حال إلى حال، فقد كانت جيشا عرمرما، فانقلبت إلى جمعية مدنية، فدولة عظيمة الشأن، ثم حفظه إياها من الانقسامات الداخلية والهجمات الخارجية، وتأسيسها على أساس متين لا تزعزعه العواصف ولا تعمل فيه الأنواء، وها هي الآن تحت حكم بيت واحد وقد جاوزت القرن السادس من سني حياتها، والبلاد التي تملكتها في إبان إقبالها لم يذهب منها الثمن في بحران أدبارها.
ولم يتسن هذا البقاء لدولة من الدول الكبرى سوى الرومانيين، على أن التنصل بطفيف الخسارة من عظيم الصدام الذي كان يعارض سير الدولة حينا بعد حين، ودوام عرشها في سلسلة متصلة الحلقات من آل عثمان، هو العمل الوحيد الذي لم يسبق مثيله لأمة من الأمم.
والذي يجدر بالذكر أن الفاتح أتى بخلال سلطنته التي تربو عن الثلاثين عاما ما يعجز عن إتيانه غيره في مائتين من السنين، وقد ألقت دولته عصاها وامتدت إلى ما شاء الله أن تمتد، وضربت من الكمالات والتنظيمات بأوفر سهم، حتى إنك لتخالها طوت القرون بباهر المعجزات، وجمعت إلى طراوة الشباب وشجاعته قوة الكهولة وثباتها، فعظم شأنها وعلا قدرها.
وعلى هذا يكون الفاتح قد اختط لنفسه خطة إيجادية لم يقلد بها أحدا، ولا يمكن لأحد أن يقلده بها، ولم يشبه فيها أوليفيه كرمويل الإنكليزي، أو بطرس الأكبر الروسي، أو فريدريك الأعظم الجرماني، مما جعلته في مصاف العظماء الذين ينبغون عادة في كل قرن مرة ولا يتعدون عدد الأصابع، بل في مقدمتهم؛ لأن كثيرا من العظماء رقيت بهم الظروف إلى أوج السعادة والكمال، أما الفاتح فقد رقي بزمانه إلى قمة المجد والفخار بسعيه المتواصل ودأبه المتناهي.
Неизвестная страница