فالفاتح هو الرجل الفرد الذي يعد صاحبا للقرون الأخيرة وواحدها.
ولو أمد الله في حياته قليلا وقيض له أن يمد أحمد باشا كدك في حملته على إيتاليا، وتمكن من حفظ البلاد التي دخلت في كنفه من الرجوع إلى الأعداء ثانية، لوفق إلى الاستيلاء على رومية العظيمة مهد العلوم وينبوع المعارف الحديثة في تلك الأيام، وجعل إستانبول عرش التمدن الوحيد الذي يحف حوله العالم الإنساني وتطال إليه الأعناق.
ومما يذكر له أنه اعتبر التصور والترتيب في حروبه أصلا ومشى عليه في كل حركاته، فأزهرت مساعيه وأثمرت هذه الثمرات الدانية القطوف، ومن المؤكد أن أول جيش منظم حارب بالأسلحة النارية هو جيش الإنكشارية الذي حاصر به أشقودرة، وعليه يكون الفاتح الأستاذ الأول في فن الحرب الحاضر.
أما اختراعاته فقد قطع بها مسافة طويلة وشوطا بعيدا، ودامت القواعد الحربية التي وضع أساساتها معمولا بها إلى أن ارتقت الأفكار في أوروبا وتغير وجه العلم وتبدل الخبيث بالطيب في خلال القرن الثامن عشر، وسرت تلك الروح التي أحيت النفوس وشرحت الصدور إلى الجندية، وكان من ورائها التنظيمات الجديدة، فكان الجيش العثماني لا يفل له سيف ولا ينكص على عقبه ما دام يقوده قائد مدرب.
والفضل في قيام الدولة على أمتن أساس راجع إلى تلك الاختراعات الباهرة والتصورات النافعة، التي لولاها لما أمكن الدولة أن تحفظ مركزها وتثبت دعائمها، أمام تلك السيولة الجارفة والجيوش الجرارة التي كان يدفعها البابا من جهة، وحسن الطويل من أخرى، والتي امتزجت معها أمم شتى وقبائل عدة في أوروبا وآسيا، حتى بلغت أمثال العثمانيين مثنى وثلاث ورباع، وتولى قياداتها زعماء لا يقلون عن الفاتح دربة وحنكة، ولكنه ساد عليهم بشجاعته التي كانت تضرب لها آباط الإبل، ورأيه السديد الذي كان يسبقها.
وإذا علمت أن سكان البلاد التي استولى عليها الفاتح وبقيت معه في حرب سجال اعتادوا خوض المنايا واقتحام الأهوال، فأصبحوا رجالا أشداء، إلا أنهم لم يقووا على الوقوف أمامه في ميادين الطعن والنزال، فكانوا يتسلقون الجبال ويأوون إلى الكهوف ويلوذون بالأنهار، مما جعل كل موقف من مواقفهم حصنا حصينا وركنا ركينا يقيهم بأس الفاتح قدرت ما عاناه من المتاعب والمصاعب وما تجشمه من الأخطار، وهذا ما دعا الفيلسوف الخطير «بل» الإفرنسي بأن يعترف بكتابه مأخذ التواريخ أن الفاتح أعلى كعبا وأعظم قدرا من الإسكندر؛ لأن الأخير لم يصادف في طريقه من يماثله أو يقاومه ولم يعترض سيره معارض.
وفي الحقيقة إن القوى التي كان يستند إليها الفاتح هي شعب من أخلاط الأمم، ودولة صغيرة لم ترسخ قدمها وتأخذ مأخذها، وبعض رجال تتلمذوا عليه. أما العراقيل والمشاكل التي كانت تكتنفه فهي خطيرة للغاية ودونها خرط القتاد.
أجل، يحق للتاريخ أن يمجد ويجل من بين أبطاله روح الفاتح العظيم، وهو الذي ناوى أوروبا، بل العالم بأسره ثلاثين عاما أبلى بها بلاء حسنا، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولم يكن لديه سوى مائتين وخمسين ألفا من الجنود التي تركها له أجداده العظام ميراثا وعدة، وقد استولى بهم على ست عشرة مملكة ومائتي مدينة محكمة، وجعل دولته الحكومة الوحيدة التي لها الحول والطول والقوة والمنعة في ذلك الزمان.
وللفاتح مأثرة بقاء هذه الدولة مصانة من العطب، فإن الفتوحات التي سبقته وكان من ورائها ضبط بعض البلاد في الأناضول والروملي كانت عرضية سريعة الفناء، كالجزر وما يليها مما يتكون عادة عند حدوث طوفان كبير أو سيل عرم في أرض ذات شعوب ومنعرجات وأغوار وأنجاد، وعند زوال السبب تبطل المسببات.
فهو الذي ضرب في عرض هذين القطعتين ووسع حدود بلاده وحمى حماها وأمن عليها من كل خطر؛ لأنه لم يدع للأعداء سوى قلاع قليلة كبلغراد وأينابختي وغيرهما بعد أن ضرب عليها نطاقا من الحصون والمعاقل.
Неизвестная страница