26
ولا غرابة فقد كانت بيئة الإغريق وعاداتهم ونشاطهم العقلي الحر سببا في ذلك كله؛ فأصبح المثل الأعلى للفنان الإغريقي أن يكون التمثال أو الصورة التي ينتجها تمثل الشيء المصور في كل أجزائه. بينما لم تحاول سائر الشعوب القديمة أن تصنع صورا وتماثيل تراعى فيها الدقة والصدق ومبادئ التشريح وعلم الجمال وقوانين المنظور والكيفية التي تبدو بها الأشياء للعين. فأهل الشرق الأدنى والشرق الأقصى لم يكن من شأن بيئتهم أو نوع نشاطهم العقلي وحب الاستطلاع عندهم أن تتجه بالصور والتماثيل إلى الناحية الإغريقية في صدق تمثيل الطبيعة، بل اكتفى الفنانون عندهم بالعناية بالأجزاء التي تبدو لهم ذات شأن خطير أو مغزى، فكانوا بذلك دون زملائهم الغربيين في الوصف الفني والتحليل. (6) رسم الصور الشخصية
كان الفقهاء يعتبرون التصوير أو عمل التماثيل محاولة لمضاهاة الخالق - عز وجل - وتقليد عمله، وكان ذلك من أسباب كراهية تصوير الكائنات الحية وعمل التماثيل لها. حقا إن بعض قطع العملة التي ترجع إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان كان عليها رسم الخليفة يحمل سيفا، ولكن لا شك في أن هذا الرسم لم يكن صورة شخصية بل كان رسما رمزيا يمثل خليفة المسلمين، وقد ضربت مثل هذه الدنانير ذات الصور تقليدا للعملة البيزنطية التي كانت منتشرة في الشرق الأدنى والتي كان عليها صورة إمبراطور بيزنطة، ورغبة في ألا يجد الشعب فرقا كبيرا بينها وبين سائر العملة التي عرفها قبل ذلك، ومع ذلك فإن عبد الملك بن مروان لم يلبث أن أمر بسك العملة بدون أي رسم آدمي عليها.
وقد وصلت إلينا بعد ذلك من عصر الخليفة المتوكل العباسي (القرن 3ه/9م) سكة أو وسام على أحد وجهيه صورة الخليفة
27
وعلى الوجه الآخر رسم رجل يقود جملا، ولكن المعروف أن المتوكل كان بعيدا جدا عن التمسك بمبادئ الدين فضلا عن أنه كان وثيق الصلة بالفنانين الإغريق، وقد استخدم فريقا منهم في رسم الصور على جدران قصر المختار الذي شيده في سامرا، والذي أشار ياقوت إلى الصور العجيبة التي كانت فيه؛ ومن جملتها صورة بيعة فيها رهبان «وأحسنها صورة شهار البيعة»،
28
ولكن أكبر الظن أن هذه الصور ليست شخصية؛ وهي إن كانت كذلك إلى حد ما فإنها من صنع فنانين غير مسلمين.
وصفوة القول أننا لا نعرف قبل عصر المغول صورا شخصية بمعنى الكلمة، كما أن ما جاء ذكره في بعض المصادر الأدبية والتاريخية لم يكن إلا صورا رمزية.
29
Неизвестная страница