فقد عرفنا حال الضوء وحال النور وحال اللون وحال الإشفاف، فالضوء هو كيفية هى كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف، وهو أيضا كيفية ما للمبصر بذاته لا لعلة غيره، ولا شك أن المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه، والنور كيفية يستفيدها الجسم الغير الشفاف من المضىء فيكمل بها الشفاف شفافا بالفعل، واللون كيفية تكمل بالضوء من شأنها أن تصير الجسم مانعا لفعل المضىء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه وبين المضىء، فالأجسام مضيئة وملونة وشفافة، ومن الناس من قال إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاته ومنها ما يرى بكيفية فى غيره، وجعل القسم الأخير هو الشفاف، وأما القسم الأول فقد جعله أولا قسمين أحدهما ما يرى فى الشفاف لذاته وبحضوره وهو المضىء، وثانيهما ما ليس كذلك، ثم قسم هذا بقسمين أحدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء مع شرط المشف وهو الملون، والثانى ما يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف كالحيوانات التى تلمع فى الليل من حيث تلمع كاليراعة وبعض الخشب المتعفن وبعض الدود، وقد رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة وجرادة ميتة بهذه الصفة وصرارة ميتة بهذه الصفة، ولبست هذه القسمة بعرضية ولا صحيحة، فإن المضىء يرى لذاته فى الظلمة وفى الضوء جميعا، فإن اتفق أن كان الرائى فى الضوء الذى يفعله رؤى وإن اتفق أن لم يكن فيه رؤى أيضا كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء كان ضوءها أو ضوء غيرها ويراها فى الظلمة، وأما الشمس فإنما ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث تكون مقابلة لبصر الرائى تكون قد ملأت العالم ضوءا ولم تترك مكانا مظلما، وأما الكواكب فإنها إنما ترى فى الظلمة لأن ضوءها يقصر عن ضوء الشمس فلا تضىء الأشياء ولا تنورها بل لا يمتنع أن توجد فقد يمكن أن تكون ومعها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن الظلمة سبب لأن ترى هى بالذات، بل يجب أن يعلم أن بعض الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء النار الضعيفة وضوء الكواكب فلا ترى مضيئة عند الشمس فلا ترى، لا لأجل الحاجة فى رؤيتها إلى الظلمة بل للحاجة إلى أن تكون فى أنفسها مضيئة غير مظلمة بالقياس إلى أبصارنا، فإذا كانت الشمس غائبة ظهرت ورؤيت لأنها صارت مضيئة بالقياس إلى أبصارنا ولحال فى أبصارنا، وربما كان حكم النار والقمر عند ضوء ما هو أضعف منهما هذا الحكم بعينه، ويجب فى ذلك الضوء ألا يكون موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر فيلزم أن تكون ظلمة حتى يظهر أو يلزم أن لا يكون باهر حتى يرى ويتمكن البصر من إدراكه، وأنت تعلم أن الهباء الذى فى الجو ليس من جنس ما لا يرى المستنير منه إلا فى الظلمة، لكن إن كان الإنسان فى الظلمة وقد وقع على هذه الهباءات شعاع الشمس أمكن أن يرى تلك الهباءات، وإن كان الإنسان فى الشعاع لم يمكن، وذلك لأمر فى بصر الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات، فإن بصر الإنسان إذا كان مغلوبا بضوء كثير لم يرها وإن لم يكن مغلوبا رآها، وكذلك هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر بل هى المضيئآت وتخالفها لا فى جملة الطبع بل فى الضعف، ولو كانت هذه مخالفة للمضيئآت فى جملة الطبع فالكواكب كذلك، ولا يتحصل لهذه القسمة محصول صادق إلا أن يقال إن بعض المضيئآت باهرة لبعض وبعضها مبهورة لبعض، ومعنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها بل فى أبصارنا كما أن بعض الصلابات أصلب وبعضها أضعف، فلا يجب إذا أن يقال إن اللواتى تلمع فى الليل نوع أو جنس مفرد خارج عن الملونات والمضيئآت بل هى من جملة المضيئآت التى يبهرها ما فوقها فى الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ بل إنما يقوى عليها أبصارنا عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئآت، فإن ذهبوا إلى هذا فالقسمة جيدة إلا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون أن المضيئآت طبقة والملونات طبقة وهذه طبقة،
فصل 4 (فى تأمل مذاهب قيلت فى الألوان وحدوثها)
Страница 107