نقول الآن: إنه قد تبين لك أن اللفظ المفرد الكلى إما ذاتى وإما عرضى، وأن الذاتى للشئ إما صالح للدلالة على الماهية بوجه، وإما غير صالح للدلالة على الماهية أصلا. والدال على الماهية إما أن يدل على ماهية شئ واحد أو أشياء لاتختلف أختلافا ذاتيا؛ وإما أن تكون دلالة على الماهية إنما هى بحسب أشياء تختلف ذواتها أختلافا ذاتيا. مثال الأول لفظة الشمس إذا وقعت على هذه المشار إليها؛ ولفظة الإنسان إذا وقعت على زيد وعمرو؛ ومثال الثاني دلالة لفظة الحيوان إذا وقعت على الثور والحمار والفرس معا، فسأل سائل مثلا: ما هذه الأشياء ؟ فقيل: حيوانات، فإن لفظة الحيوان تدل على كمال حقيقتها، من حيث هو مسئول عنها جملتها، ومطلوب كنه الحقيقة التي لها بالشركة. والفرق بين الوجهين أن الوجه الأول يكون دالا على ماهية الجملة، وماهية كل واحد؛ فإن لفظة الإنسان تدل أيضا على كمال الحقيقة الذاتية التي لزيد وعمرو، وإنما يفضل عليها ويخرج عنها ما يختص كل واحد منهما به من الأوصاف العرضية، كما قد فهمته مما قيل سالفا. وأما الوجه الثاني فإنك تعلم أن الحيوانية وحدها لاتكون دالة على ماهية الإنسان والفرس وحدها، فليس بها وحدها كل واحد منهما هو هو، وليس إنما يفضل عليها بالعرضيات بل بالفصول الذاتية؛ وأما الذي لها من الماهية بالشركة فلفظة الحيوان تدل عليه. وأما الحساس فيدل على جزء من جملة ما تشتمل عليه دلالة لفظ الحيوان، فهو جزء من كمال حقيقتها المشترك فيها دون تمامها؛ وكذلك حال الناطق بالقياس إلى الإنسان. لكن لقائل أن يقول: إنه لا دلالة للحيوان إلا ومثلها للحساس، وكما أنه لايكون الحيوان إلا جسما ذا نفس، كذلك لايكون الحساس إلا جسما ذا نفس. فنقول في جوابه: إن قولنا إن اللفظ يدل على معنى ليس على الوجه الذي فهمته، أعنى أن يكون إذا دل اللفظ لم يكن بد من وجود ذلك المعنى، فإنك تعلم أن لفظ المتحرك إذا دل، لم يكن بد من أن يكون هناك محرك، ولفظة السقف، إذا دلت، لم يكن بد من أن يكون هناك أساس، ومع ذلك لا نقول إن لفظة المتحرك مفهومها ودلالتها المحرك، ولفظة السقف مفهومها ودلالتها الأساس؛ وذلك لأن معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الأول، فإن كان هناك معنى آخر يقارن ذلك المعنى مقارنه من خارج. يشعر الذهن به مع شعوره بذلك المعنى الأول، فليس اللفظ دالا عليه بالقصد الأول؛ وربما كان ذلك المعنى محمولا على ما يحمل عليه معنى اللفظ، كمعنى الجسم مع معنى الحساس؛ وربما لم يكن محمولا كمعنى المحرك مع المتحرك. والمعنى الذي يتناوله اللفظ بالدلالة أيضا يكون على وجهين: أحدهما أولا والآخر ثانيا؛ أما أولا فكقولنا الحيوان، فإنه يدل على جملة الجسم ذي النفس الحساس، وأما ثانيا فكدلالته على الجسم، فإن معنى الجسم مضمن في معنى الحيوانية ضرورة، فما دل على الحيوانية اشتمل على معنى الجسم، لا على أنه يشير إليه من خارج، فيكون هاهنا دلالة بالحقيقة إما أولية وإما ثانية، ودلالة خارجية، إذا دل اللفظ على ما يدل عليه، عرف الذهن أن شيئا آخر من خارج يقارنه، وليس داخلا في مفهوم اللفظ دخول اندراج ولا دخول مطابق.
فإن أردنا أن نختصر هذا كله ونحصله، جعلنا الدلالة التي للألفاظ على ثلاثة أوجه: دلالة مطابقة، كما يدل الحيوان على جملة الجسم ذي النفس الحساس؛ ودلالة تضمن، كما تدل لفظة الحيوان على الجسم؛ ودلالة لزوم كما تدل لفظة السقف على الأساس. فإذا كان ذلك فلنرجع إلى مانحن فيه فنقول: إن المفهوم من الحساس هو أنه شئ له حس تم من خارج ما، نعلم أنه يجب أن يكون جسما وذا نفس، فتكون دلالة الحساس على الجسم دلالة لزوم. وأما الحيوان فإنما نعنى به بحسب الاصطلاح الذي لأهل هذه الصناعة، أنه جسم ذو نفس حساس فتكون دلالته على كمال الحقيقة دلالة مطابقة، وعلى أجزائها دلالة تضمن. وأما دلالة الحساس على سبيل المطابقة، فإنما هي على جزء فقط، وأما الكل وسائر الأجزاء، فإنما تدل عليها على سبيل اللزوم.
Страница 15