ومع ذلك فإن الأحرى فى قسمة الشىء إلى قوة وفعل هو أن تكون القوة والفعل فيه لشىء واحد؛ ولم يفعلوا كذلك. فليس كل ما جعلوه من باب الفعل فعلا لما جعلوه قوة، ولا كل ما هو فعل جعلوا القوة عليه من باب القوة، كاقوة على الترطيب والاسوداد والقوة على قبول العلم. وأما ما قالوا من كون بعضها فى العمق وبعضها فى الظاهر فهو ردىء جدا. وذلك لأنهم تركوا الكيفيات التى للأعداد، وتركوا الاستقامة والانحناء التى هى كيفيات فى الخط؛ فأن الخط ليس بجوهر ولا جسم؛ اللهم إلا أن يقولوا إن الاستقامة والانحناء إذا وجدا فى الخط فقد وجدا فى الجسم؛ إذ الخط فى جسم، وما فى شىء هو فى شىء فهو فى ذلك الشىء الآخر، مستعملين لفظة " فى " المشككة؛ فيلزمهم حينئذ أن يكون الجسم مستقيما ومعوجا، الاعوجاج الذى لا عرض له، لا يكون فيه؛ فإنه لا يوصف به ولا يشتق له منه اسم؛ ولكن يكون موجودا فى شىء منه هو فيه بالذات. وكذلك ليس الاستقامة والانحناء موجودا بالحقيقة فى ظاهر الجسم الذى هو السطح وجودا بالذات حتى يكون الجسم وحده بالعرض؛ بل هو فيهما جميعا بالعرض؛ فليسامح فى هذا وليجعل قولهم: " موجود فى الجسم أو فى ظاهره " كل وجود متعلق به، وإن لم يكن أوليا.
ثم نقول إن قولهم: " أن الأشكال موجودة فى ظاهر الجسم " قول البله المغفلين؛ فإن الأشكال المجسمة إنما وجودها، من حيث هى مجسمة، أن تكون سائرة فى الجسم كله؛ فإن الشكل؛ إن كان ما أحاط به حد أو حدود، فإننا نحيط الحدود بالسطوح والسطوح بالعمق.
ولنحقق ذلك أكثر فنقول: إن ههنا حدودا؛ وههنا شيئا ذا حدود له هيئة بسبب الحدود؛ وههنا تلك الهيئة؛ فأما الحدود فليست أشكالا؛ بل هى أطراف؛ ولا يجوز أن يقال لشىء منها إنها فى ظاهر الحدود حتى يقال مثلا: إن السطح فى ظاهر الجسم، أو الخط فى ظاهر السطح؛ وذلك لأن الظاهر غير الذى فى الظاهر، وليس السطح غير ظاهر الجسم؛ بل هو نفس ظاهر الجسم، والخط ليس فى ظاهر السطح بل هو نفس ظاهر السطح.
فإن اعتذر معتذر وقال: إن هذا الإنسان قد تجوز فى لفظه، وكان ينبغى أن يقول: " ظاهر " فقال " فى ظاهر " فلم يعذر أيضا، وذلك لأن القسم الآخر هو أنه فى العمق وليس معناه أنه عمق؛ وليس قوله " ظاهر " قسيمه هو أنه فى العمق؛ حتى يكون الشىء إما ظاهرا وإما فى العمق، بل نظير أنه فى العمق أنه فى ظاهر؛ ونظير الظاهر العمق، ثم مع ذلك فإن الذى هو الظاهر كم لا كيف؛ حتى لا يكون لطائفة منهم طريق إلى أن يقولوا: إنه أراد بقوله: " فى العمق " العمق نفسه، طلبا منهم لاستواء القسمة. فإنه إن كان هذا المذهب فى التأويل صحيحا كان كأنه قال: وإن بعض كيفيات الأجسام ظاهر وبعضها عمق؛ وهذا محال.
وأما إن عنوا الشىء المتحدد فهو مقدار لا كيفية. وإن عنوا الهيئة الحاصلة من التحدد،فإنما يكون فى الظاهر منها ما يكون موجودا فى السطح وحده من الهيئات، إما شكلا كالتربيع وإما هيئة غير الشكل كالتسطيح والتقبيب والتقعير. وأما المجسمات من الأشكال فليست هيئات توجد فى الحدود، بل هى هيئات توجد فى جملة المحدود بالحدود؛ وفى الحدود وجود أنيتها بالشركة ليست نسبتها إلى الحدود أولى من نسبتها إلى المحدود. فلو كانت الكرية فى نفس السطح لكانت تقبيبا أو تقعيرا لا كرية؛ كما لو كانت الدائرة فى نفس الخط لكانت استدارة وتقويسا لا دائرة. وكما أن شكل الدائرة موضوعة السطح لا نفس الخط، كذلك شكل الكرة موضوعة الجسم لا ظاهرة الذى هو السطح، وإن كان شكل الدائرة لا يتم إلا بانعطاف الخط؛ وكان شكل الكرة لا يتم إلا بتقبيب السطح.
وهذه الأشكال، وإن كانت تحدث للمحدودات بالحدود، فليست هى فى الحدود وإن كانت الحدود عللا لها فليست عللا لها فى أنفسها؛ بل فى شىء آخر يتحدد بها.
واعلم أن الحدود أنفسها لا يقال إنها موجودة إلا فى المحدود نفسه جملة. فإن الخط نهاية للسطح الذى هو خطة على أنه نهاية لجملته؛ فهو موجود بأنه نهاية فى جملته وجود الصفة فى الموصوف؛ وليس موجودا فى طرف منه ولا فى جزء منه دون سائر أجزائه بالقوة. فكذلك الشكل المجسم هو صفة للجسم كله ليست موجودة فى السطح الذى هو الطرف فقط. ومع هذا فإنهم جعلوا هذا النوع شكلا وخلقة فقط، كما تسمع، إذ كان المعلم الأول إنما أورد من الأمثلة فى أول الأمر لذينك فقط؛ وليس كذلك؛ بل التقبيب من جملة هذا الباب وليس شكلا؛ إذ ليس له حد الشكل.
Страница 114