وكان يحمل فوق رأسه عمامة كبيرة من الحرير الأبيض، المطرز بالذهب، ويلبس ثوبا من الخز التنيسي الثمين، فوقه جبة من الحرير الأخضر فضفاضة واسعة الكمين.
وكان على الرغم من دمامته وخسة منشئه وجهله، ذكيا متوقد الذكاء، شجاعا حازما داهية في ميدان السياسة. فإنه حينما مات سيده الإخشيد اضطربت أحوال مصر، وحجلت الفتنة، وتطلعت رؤوس كبار القواد إلى الحكم. فخرج كافور بولدي الإخشيد: أنوجور، وعلي، إلى بغداد فأقر الخليفة الراضي أنوجور على ملك أبيه، واهتبل سيف الدولة فرصة موت الإخشيد فوثب على دمشق، واستولى عليها، فسار إليه كافور في جيش لجب فهزمه وأجلاه عن المدينة.
وقد حال حزم كافور وعمق سياسته دون زحف المعز لدين الله على مصر، حتى كتب إليه بعض شيعته في مصر ... إذا زال الحجر الأسود، ملك مولانا المعز الدنيا كلها ... ولا يريدون بالحجر الأسود إلا كافورا.
وكان محبا للأدباء والعلماء، يصلهم ويقربهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة سير الأنبياء، وأخبار الأمويين والعباسيين.
هذا إلى كرمه وتواضعه، وشدة تمسكه بالدين. فقد كان أبو جعفر بن طاهر العلوي يقول: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يوما في موكب خفيف وهو يريد التنزه، وبين يديه عدة جنائب بسروج من ذهب وفضة، وخلفه بغال يمتطيها الخدم والعبيد، فسقطت مقرعته من يده ولم يرها خدمه فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض ورفعتها إليه، فذعر لما فعلت وقال: «أعوذ بالله من بلوغ الغاية. ما ظننت أن الزمان يرفعني حتى تفعل بي أنت هذا؟» وكاد يبكي. فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ باب داره ودعني، فلما سرت التفت فإذا النجائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل موكبه كله إليك. فأدخلته داري، وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار.
اتجه كافور إلى وزيره ابن الفرات، وقال في صوت خافت: أظن الشاعر الجديد قد وصل إلى المدينة. - نعم يا مولانا، لقد علمت من بعض الجند أنه وصل الآن. - هل أعددت له كل شيء؟ - نعم يا مولانا، لقد أعددت له دار أبي بكر القريبة من باب الساحل، فرشت بأحسن الأثاث، ووضع بها من يكفي لخدمته. - هذا حسن. لعله لا يفر منا كما فر من ابن حمدان! - إن للشعراء يا مولانا ميزانا للأخلاق غير الميزان الذي تواضع عليه الناس. فقد قال هذا الشاعر لابن حمدان:
وقيدت نفسي في ذراك محبة
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
ولكننا رأيناه يفر منه كما يفر الزئبق من البنان. - ماذا يقصد الشاعر يا جعفر من هذا الشعر الذي ذكرته؟ - يقول يا مولانا، إنه قيد رجليه عند ابن حمدان، وإنه لا يرحل عنه لأنه يحبه. - ها ها. فهمت فهمت، وبعد أن قيد رجليه فك قيدهما وفر؛ لأنه هو الذي قيد نفسه. أما إذا قيده غير يا جعفر، فإنه يصعب عليه أن يفر. - لا شك في أنه سينسى عند مولانا كل ملوك الأرض.
وبينما هما في الحديث، إذ دخل كبير الحجاب وهو يقول: إن الشاعر المتنبي يلتمس أن ينال شرف المثول أمام مولانا. فرفع كافور رأسه، وقال: ليدخل.
Неизвестная страница