يمر كل هذا بخاطر أبي الطيب والجواد يقطع به المفاوز بين الرملة ومصر، فيئن أنين المكلوم، ويزفر زفير المحموم، ولكنه يعود فيمني نفسه بالأوهام، ويهدي من ثائرتها بأضغاث الأحلام، ويتجه نحو زاوية أخرى من زوايا التفكير فيقول: إن الحزن على ما فات من صفات النساء، والرجل الحق من يتخذ من هفواته سلما إلى الفوز، والدنيا فيها الخير وفيها الشر، ولكن العاقل الحكيم من يقلب الشر خيرا، ويبسم للأيام لتخضع له الأيام، ولم لا أصل إلى العبد الأسود إذا كانت آمالي في قبضته السوداء؟ ولم لا أمدحه إذا كان في مدحه ما يحقق الرجاء؟ الولاية! الولاية هي خاتمة آمالي، ونهاية مطافي، ولن أبالي في طريق نيلها ببذل ماء المحيا والحياة، وتعفير الوجه بتراب أدنى الأدنياء، ولو قيل لي: لن تكون ملكا إلا إذا مدحت الكلب، وغازلت القرد، لفعلت راضيا مغتبطا. نعم، إني أبغض الأسود وأشمئز من لقياه، وألعن الزمن الأغبر الذي ألجأني إليه، وأحن إلى سيف الدولة، وأبكي على عهده الوارف الظلال، ولكن ما حيلتي؟ وليس إلى مآربي من وسيلة إلا أن أقصد هذا الكافور؟
ومرت بالمتنبي أيام حتى بلغ بلبيس، وهذا أول أملاك مصر في هذا العهد، ولشد ما كانت دهشته حينما رأى الزعيم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي يترقب مروره في طائفة كبيرة من عشيرته. فلما قرب منه المتنبي تقدم فقبض على عنان جواده باشا مرحبا، وطلب إليه النزول ليستريح عنده فقبل المتنبي، ورأى في ضيافة عبد العزيز من الكرم ورحابة الصدر ما فرج عن نفسه، وأزاح بعض أحزانها.
وجرى الحديث في أثناء الليل عن مصر وأحوالها، وعن كافور ووزرائه وبطانته، ثم مال إلى ذكر حلب، وإلى أخبار سيف الدولة، فقال الخزاعي: أشهد إنه بطل، وأشهد إنه من العار على ملوك العرب جميعا، أن يدعوه يناضل الروم وحده، مع ما لهم من عدد وعدة. - الغيرة والحسد يا ابن يوسف هما اللذان أذهابا ريح الإسلام، وأضعفا أمراءه، ومن عجائب القدر أن كثيرا ممن يقدرون في هذه الأيام لا يملكون! - ولكن سيف الدولة من القليلين الذين يقدرون ويملكون. لقد كنا نتلقف ما يحمله إلينا البريد من قصائدك في وصف مواقعه، ولقد كانت والله عجبا من العجب، وسحرا من السحر. لم تركته يا أبا الطيب؟ - ذلك حديث طويل يا ابن يوسف، ومن الخير أن يترك الجرح حتى يندمل.
ففطن عبد العزيز إلى أن المتنبي يتألم لهذه الذكرى، فانصرف عن هذا الحديث فيها.
وبزغت الشمس، ورحل المتنبي بعد أن توثقت الصداقة بينه وبين عبد العزيز، وعاهده على أن يكثر من زيارته بالفسطاط، ومضى يوم وبعض يوم، بلغ فيه أبو الطيب باب مصر الشرقي المسمى: باب الصفاء.
كانت مدينة الفسطاط في ذلك الحين مستبحرة العمران، وافرة الثروة، كثيرة السكان، تشرف على النيل رياضها الباسمة، وقصورها العالية التي قد يصل ارتفاع بعضها إلى سبع طباق. حكى بعض المؤرخين: أن ستة عشر ألف دلو كانت تتدلى من طاقات بيوتها المطلة على النيل، وكانت رائجة التجارة، كثيرة الأسواق والحمامات والخانات والمساجد، التي أشهرها الجامع العتيق، الذي بناه عمرو بن العاص بعد الفتح.
وكان أهلها في بسطة من العيش، ورغد من النعيم؛ لكثرة الأموال، واتساع الخصب، وقد كثر بها الأدباء والشعراء، ورحل إليها كثير من أقطاب العلم والأدب في الشرق، فوجدوا في كنفها الرغد وطيب الحياة، وكان الجامع العتيق يزخر بالعلماء وطلاب العلم، الذين وفدوا عليها من أقطار الأرض؛ لتلقي علوم العربية، وفنون الأدب، وكان بها إلى جانب ذلك مجالس أنس ولهو، ومجانة وشراب، تهوى إليها أفئدة الشباب، وتختلف إليها جماعات الأدباء - لا تقل عما كانت تزهى به بغداد في ذلك الحين، إسرافا وجنونا.
وكان قصر كافور بخطة سوق العسكر، بالقرب من بركة تجري فيها الزوارق، وتلتف حولها بساتين ناضرة تعرف بجنان بني مسكين، وكان القصر شامخ البنيان، ضخم الأركان، كأنه الحصن العظيم، وقد انتثرت حوله الحدائق الخضر، وانهمرت الجداول المتدفقة. أما أبهاؤه ودهاليزه وقاعاته: فقل ما شئت في جماله وبهائها، وزينتها، وما أنفق في بنائها من أموال يكاد يخطئها العد، وكانت قاعة الملك كأنها قطعة من ذهب: فسقوفها وحيطانها ونقوشها وتصاويرها كلها من الذهب الإبريز، الذي يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
جلس كافور الإخشيدي في اليوم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة - على عرش ملكه، ورجال قصره وجيشه وقوف يحيطون بسريره في رهبة وخشية، كأنهم يحرسون سرا سماويا مقدسا، وجلس إلى يمينه نقيب الطالبيين عبد الله بن طباطبا، فالشريف إبراهيم بن محمد العلوي، ثم صالح بن رشدين الكاتب، ثم الذين يلونهم في المرتبة من العلماء ورجال الدين، وجلس إلى يساره وزيراه: جعفر بن الفرات، وأبو بكر بن صالح، وقائد عسكره سمول الإخشيدي، ثم من يتلوهم في المرتبة من رجال الدولة.
وكان كافور أسود اللون، فاحم السواد براقه، قصير القامة مترهل اللحم، طويل الذراعين، منتفخ البطن، ضخم الجمجمة، أفطس الأنف، مثقوب الشفة السفلى، واسع العينين، صافي بياضهما. تنبعث منهما ومضات فيها دهاء ، وفيهما مكر وخداع.
Неизвестная страница